وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

الاجتهاد المعاصر واستعادة الوعي بالسياق

لا يختلف اثنان اليوم أن من أبرز سمات عالمنا الراهن التركيب والتداخل والسرعة وفداحة وكبر الآثار التي تترتب عن التصرفات بسبب ذلك، ومن هنا فإن من مقتضيات العيش في العصر الراهن القدرة على استيعاب هذه السمات من جهة، ثم القدرة على التجاوب معها بفعالية وإيجابية من جهة ثانية.

ومن أكبر الإكراهات التي يحياها إنسان القرن الحادي والعشرين، عدم التماهي الكلي بين مظاهر الحياة المعاصرة والمبادئ التي يعتقدها ويكنها في جنانه.. بسبب أن الاقتصاد والتدبير قد سارا في اتجاهات لم يكن يُقام فيها اعتبار للقيم وللأخلاقيات؛ بيد أن هذه الأخلاقيات وهذا القيم وهذه المبادئ بقيت كامنة وأحيانا نابضة، في أنفس الناس وفي أذهانهم. وقد استحرَّ النقاش منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حول وجوب إعادة إدخال القيم (ethics) إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية من أجل رأب هذا الصدع. والسؤال هنا هو: كيف يمكن أن تُدخل القيم، وكيف يمكن أن تُدخل المبادئ والأخلاقيات مرة أخرى إلى الجوانب الاقتصادية والتدبيرية التي تغطي أكثر ساحات النشاط الإنساني الفكر والعملي؟

وفقهاء الشريعة الإسلامية ليسوا في معزل عن هذه الإشكالات، وعن تأثرهم بهذه السمات الحضارية المشتركة والعامة.

ومن هنا فإن ثلاث مشاكل رئيسة تعترضهم اليوم:

المشكلة الأولى؛ هي كيف يُفقه النص، وما هي آليات وضوابط فقه دينامي متجدد ووظيفي للنص؟ وكيف يمكن التمييز بين الثابت في اجتهادات السابقين وبين ما هو قابل للتحول والتغير؟ وقد سبق أن قال ابن القيم، رحمه الله، في كتابه “إعلام الموقعين”: فصل في تغير الفتيا بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف.. قال: وهو فصلٌ عظيمٌ النفع جدا قد دخل على الناس من فرط الجهل به ضررٌ عظيم. فما هي آليات وضوابط التمييز بين الجوانب الثابتة والجوانب القابلة للتجدد في الفقه الإسلامي؟ وكيف يمكن لفقيه الشريعة الإسلامية أن يطور آليات ومنهجيات التعامل مع هذه الجوانب كلها بنفس مقاصدي يروم جلب المصالح ودرء المفاسد باتزان؟

المشكلة الثانية؛ هي كيف يُفقه الواقع بكل سماته وبكل تمظهراته بالغة التعقيد والتركيب والتشابك، دون أن يكون هناك جور على أي سمة من السمات، احتذاء بقول من قال: ينبغي أن نجعل كل شيء أبسط ما يمكن وليس أبسط مما يمكن، وبأية مناهج وبأية آليات؟ وما هي التكوينات التي يقتضيها كل ذلك؟

المشكلة الثالثة؛ في كيفية تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوز المهيمن، بطريقة متوازنة، على هذا الواقع المتقلب المتغير العيني المشخَّص؛ موازنةً بين الأفعال، وترجيحا بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب؛ حتى لا تُجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تُفوَّت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى.

وهو ما يستنبط من قول رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الحديث الذي رواه إمامنا مالك من طريق عائشة، رضي الله عنها، والذي فيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم”. ففوَّت، عليه الصلاة والسلام، هذه المصلحة (إعادة إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم) حتى لا يجلب مفسدة هي أرجح من هذه المصلحة؛ أي افتتان الناس. لأنهم لا يزالون مرتبطين بعالم الأشياء، على حد تعبير مالك بن نبي.

غير أن التعامل مع هذه المشاكل الثلاث في أفق حلها لابد له من مقتضيين منهاجيين:

المقتضى الأول؛ هو المنطلقات التي ينطلق منها الفقيه المسلم؛ أي الباراديغمات (Paradigmes) والنماذج المعرفية. فينبغي أن يكون من الواضح أن الفقيه المسلم يريد تحقيق مرضاة الله، وتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة للجنس البشري، ويريد إشاعة التكامل بين أفراد المجموعة البشرية؛ هذه الأسرة الإنسانية الممتدة. لأنه قد سادت في أزمنة معينة نماذج أخرى فيها من الانسحاق أو الانغلاق ما فيها.

وإن من الباراديغمات والنماذج المعرفية التي يحق للمسلمين أن يفخروا بها: النموذج التعارفي المنطلق من قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات: 13). وهو نموذج يسعى بوازعه الإنسان المسلم؛ ذكرًا كان أو أنثى، إلى تحقيق التعاون والتكامل بين أفراد الأسرة الإنسانية الممتدة.. إنه نموذج يتجاوز النموذج المعرفي القائم على مجرد التسامح. فالتسامح يستدمج بين طياته أن هذا الآخر في درجة أدنى ولكن أنا أتسامح معه! أو أخطأ وأنا أتسامح معه! بيد أن التعارف فيه الحاجة المتبادلة والاحتياج المتبادل؛ مما يفسح المجال أمام التكميل والإثراء المتبادلين بين العالمين عوض التنافي والصراع.

المقتضى المنهاجي الثاني؛ هو تحديد آليات التعاطي مع هذه المشاكل الثلاث، وتبيّن العلاقة الجدلية بين النماذج المعرفية التي تُشكل المنطلقات وبين الآليات المستعملة من أجل تحقيق الغايات المستهدفة أو الأهداف المتغياة.

فالآليات، رغم ما قد يتبادر إلى الذهن من أنها محايدة، ليست كذلك. فلا يجوز الوقوف فقط مع شرط الفعالية في الآليات، وإنما وجب أيضا أن يتم التأكد من تماهيها وتناغمها مع المنطلقات، ومع النماذج المعرفية التي تشكل المنطلقات، والمبادئ والقيم التي تحملها حضارة معينة ودين معين.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق