مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الإمام أبو عبدالله ابن القصاب (ت في حدود 690ﻫ) رائد المدارس المغربية في علم القراءات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

ليس يخفى على دارسي تواريخ العلوم ما لعلماء الغرب الإسلامي من ريادة في العناية بعلوم القراءات وبراعة في تحرير مسائلها وتيسير تلقينها، ولا أدل على ذلك من أن أئمة المذاهب القرائية الثلاثة أئمة مغاربة، فأبو محمد مكي بن أبي طالب القيسـي(ت437ﻫ) بالقيروان قبل أن يستقر بقرطبة، وأبو عمرو الداني (ت444ﻫ) بقرطبة قبل أن يستقر بدانية شرق بلاد الأندلس، وأبو عبدالله ابن شريح (ت476ﻫ) بإشبيلية غرب الأندلس.

وواضح أن الإمامة القرائية ممثلة في هؤلاء الأئمة الثلاثة قد تركزت في بلاد الأندلس لما تهيأ لها من ثقل سياسي ونهضة علمية جعلتها مهوى أفئدة العلماء وطلبة العلم، واستمر هذا الحال إلى أن ظهر أن أمر الأندلس إلى زوال مع منتصف القرن السابع، فتحولت الريادة صوب بلاد المغرب الأقصى، لتتأسس مدرسة قرائية مغربية تقوم على أصول توفيقية بين المدارس الثلاث، عمادها الأخذ بمذهب الداني في باب الرواية مع استثمار  جهود مدرسة مذهبي الإمامين مكي وابن شريح؛ سيما في باب الدراية. مع عناية خاصة بالمقرإ النافعي الذي هو اختيار المغاربة في القراءة منذ الأزمنة الأولى.

فظهر أئمة أعلام كان لهم الفضل الكبير في تثبيت أركان مذهب الإمام أبي عمرو الداني، وحمل الكافة على القراءة من طريقه، وفي مقدمتهم: الشيخ الإمام أبو عبدالله محمد بن علي بن عبدالحق الأنصاري، المعروف بابن القصاب، الذي نشـرف بالحديث عنه والتعريف به من خلال مباحث أربعة:

  • الأول: في حياته وسيرته.
  • والثاني: في شيوخه وأسانيده.
  • والثالث: في تلاميذه ورجال مدرسته.
  • والرابع: في مصنفاته وآراءه.


المبحث الأول: في سيرة الإمام ابن القصاب وحياته

قصرت كتب التواريخ والتراجم في العناية بأخبار كثير من الأئمة المغاربة الذين عاشوا في المراحل الأولى لتأسيس المدرسة المغربية، فلا نقف إلا على سطور مقتضبة في تراجم ابن القصاب وابن آجروم وابن بري وأبي الحسن القرطبي وغيرهم.

ومترجمنا الإمام أبو عبدالله ابن القصاب محتفل به في المصنفات القرائية أيما احتفال، لكننا لا نجد له ذكراً مستفيضاً في كتب التراجم، فلا نقف على شيء من أخباره إلا في نقل وحيد عن أبي حيان، نقله عنه ابن مكتوم في تذييله على معرفة القراء الكبار للإمام الذهبي، حيث قال:

«محمد بن علي بن عبد الحق الأنصاري، شهر بابن القصاب، من أهل فاس، يقرئ القرآن بالقراءات السبع، ويقرئ العربية أيضاً.

وتوفي في حدود سنة تسعين وستمائة، أفادنيه شيخنا العلامة أبو حيان الأندلسـي، وكتبته من خطه»([1]).

ونقل هذه الترجمة ابن الجزري في غاية النهاية أيضاً، قال:

«محمد بن علي بن عبدالحق، أبو عبدالله الأنصاري الفاسي، يعرف بابن القصاب.

مقرئ مُصَدَرٌ كامل، قال أبو حيان: كان يقرئ القرآن بقراءات السبعة، ويقرئ العربية أيضاً، وتوفي في حدود سنة تسعين وستمائة»([2]).

ومن خلال هذه الترجمة المختصـرة بمكن تحديد العناصر التالية:

  • اسمه ونسبه

هو أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن علي بن أبي محمد عبد الحق الأنصاري الفاسي، وقد ورد هذا النسب أيضاً في ديباجة كتابه: «تقريب المنافع»([3]). مع تحلية لآبائه بـ:«الشيخ الأجل الأفضل المقدس» مما يدل على سمو منزلتهم في العلم، وعلى وراثته العلم عنهم.

  • لقبه وموطنه

اشتهر بابن القصاب، ونسبته: الأنصاري، وهو من أهل فاس، ويحتمل أن تكون أصوله آيلةً إلى بلاد الأندلس، إذ هي موطن الأنصار الأول في بلاد الغرب الإسلامي، قبل أن يتفرقوا في البلاد.

  • مكانته العلمية

ينبئ عنه قول أبي حيان:

مقرئ مُصَدَرٌ كامل، كان يقرئ القرآن بقراءات السبعة، ويقرئ العربية أيضاً.

  • عصره وبيئته

يغلب الظن أن ابن القصاب عاصر نشأة دولة بني مرين، بدءاً من ظهورهم الأول سنة ثلاث عشرة وستمائة، إلى أن استتب لهم الأمر وكمل لهم الفتح بدخول حاضرة الموحدين مراكش سنة ثمان وستين وستمائة، وقد صاحبت هذه النشاءة الطويلة اهتزازات واضطرابات وتقلبات وفتن ومجاعات([4])، وما أعقب ذلك من حروب ونزاعات بين بني مرين وبني عبد الواد بتلمسان، ولربما كانت هذه الأحداث سبباً في ضياع أخبار هذا الإمام العالم العلم، وبخاصة أن الأوضاع لم تستقر إلا بعد السبعمائة، في زمن السلطان أبي سعيد يوسف بن يعقوب بن عبدالحق، حيث ظهرت عناية بني مرين بالعلم والعلماء، وشيدت المدارس ورتبت الجرايات على طلبة العلم والمعلمين بها([5]).

  • وفاته

 يرجح أنها في حدود سنة تسعين وستمائة حسب إفادة أبي حيان.

هذا ما يمكن استنتاجه من ترجمة أبي حيان الوجيزة، لكننا نقف في المصنفات القرائية على احتفال ظاهر به وباختياراته، ونجد عند تلاميذه لهجاً بنقل آرائه وتحريراته، ومن خلالها نقف على إمامة ابن القصاب وعلو قدره، وعلى أسانيده ومشيخته، وتلاميذه ورجال مدرسته.

المبحث الثاني: في شيوخه وأسانيده

وأما أول شيوخه فنأخذه من كتاب تلميذه ـ فرائد المعاني بشرح حرز الأماني ـ أبي عبد الله ابن آجروم، في نص ثمين عند شرحه لقول الإمام الشَّاطبي:

وللدَّالِ كِلمٌ تُربُ سَهلٍ ذَكَا شَذاً               ضَفَا ثَمَّ زُهـــدٌ صدقُهُ ظاهرٌ جَلا([6]).

وفي هذا البيت جمع الإمام الشاطبي الحروف التي تدغم الدال عندها في أوائل الكلمات العشر في هذا البيت، من قوله: « تُربُ سَهلٍ ذَكَا شَذاً ضَفَا ثَمَّ زُهـــدٌ صدقُهُ ظاهرٌ جَلا».

ومعنى هذه الكلمات: أن تراب قبر سهل بن عبدالله التستري الصوفي الزاهد (ت283ﻫ) «ذكا شذا ضفا»، أي: فاحت رائحة طيبه وانتشرت، ثم قال: «ثم زهد صدقه ظاهر جلا»، أي: في هذا التراب دفن زهد ظاهر الصدق بيّن.   

قال ابن آجروم رحمه الله:

«سمعت شيخَنَا أبا عبد الله محمَّدَ بنَ القَصَّاب حين قراءتها عليه يقول: سألتُ أبا يعقوب المحسَّاني حين قراءتها عليه، عن هذا الذي قالَه النَّاظِمُ في تُربِ سَهلِ بنِ عبدالله، أهو حقيقةٌ أم مجازٌ على عادة الشعراءِ؟

فقال أبو يعقوبَ: سألتُ أبا الحسن السَّخاويِّ حين قراءتها عليه كما سألْتَنِي فقال: حقيقةٌ.

قال أبو يعقوبُ: ثم لما فرَغَ المجلسُ، قال لبعض الطلبة: سِرْ معَه إلى قبر سهلِ بنِ عبد الله، قال: فسَارَ بي إلى موضع قبره، فشمَمْتُ تُربَهُ، فإذا هو أعطَرُ من المسك، فأخذتُ منه -على كراهيةٍ فيه- وجعلتُهُ في طَرَفِ عِمَامَتي، فما دخلتُ موضعاً إلا وأهلُهُ يقولون: ما هذا الطيبُ الزائدُ الذي نشمُّ عليك؟ فنقول: ما هو إلا تُربُ سَهلِ بنِ عبد الله التُّستريِّ.

قلتُ: ولمَ لا يكونُ كذلك، وقد كان يقول ـ t ـ : أصولُنَا سبعةُ أشياءُ: التَّمسُّكُ بكتابِ الله، والاقتداءُ بسنَّة رسولِ اللهﷺ، وأكلُ الحلالِ، وكفُّ الأذى، واجتنابُ الآثام، والتوبةُ، وأداءُ الحقوق»([7]). ثم ساق جملاً من أخبار سهل وكراماته، وذكر نظائر أخرى لأولياء صالحين فاحت تربتهم شذا وقرنفلا.

 والشاهد في النص هو هذا السند الذهبي في أخذ الشاطبية قراءة وشرحاً، فأبو عبدالله ابن القصاب تلقى الشاطبية قراءة وشرحاً على أبي يعقوب المحساني، وتلقاها المحساني عن تلميذ الشاطبي أبي الحسن السخاوي، وبهذا يتبين أن بين ابن القصاب وولي الله الشاطبي شيخان اثنان.

والسند يحيلنا على شيخ ابن القصاب:

1.أبو يعقوب المَحَسّاني: (ت:أواخر المائة السابعة) ([8]وهو الفقيه الحافظ: أبويعقوب يوسف بن موسى بن أبي عيسى، النالي المَحَسّاني الغماري السبتي، ـ بميم وحاء غفل مفتوحتين، وسين غفل مشدد، وألف ونون وياء النسب ـ النالي بالنون؛ وبنو محسان بطن من غمارة، وبنو نال فخذ من بني محسان»([9]).

روى صحيح البخاري عن أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزَّبيدي(ت631ﻫ)([10])، وقرأ الشاطبية سماعاً وشرحاً على الشيخ علم الدين السخاوي(ت643ﻫ) ([11]).ولقي أبا عمرو بن الصلاح (ت643ﻫ) وأخذ عنه كتابه: علوم الحديث([12])

صنف كتابين على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، سماهما: بالإفادة الكبرى، والصغرى، مال فيهما إلى سرد الأثر، وذكر فيهما غرائب من الفقه، وكان يقرئ في جامع باب السلسلة من داخل فاس المحروسة([13]).

ومن تلامذته:

– محمد بن عبد الرحيم أبو القاسم الضرير(ت701هـ)([14]).

– أبو جعفر أحمد بن إبراهيم ابن الزبير الغرناطي. (ت708هـ)

– إبراهيم بن أحمد الغافقي، شيخ سبتة وإمام القراءات والعربية بها. (ت716هـ)([15]).

– قاسم بن عبد الله بن الشاط السبتي (ت723هـ)([16]).

– محمد بن عمر بن محمد الأنصار التلمساني، أبو عبدالله، يعرف بابن الدراج(ت693هـ)([17]).

وقد ذكر صاحب كتاب:«المقصد الوريف والمنزع اللطيف في صلحاء الريف» خبر نفي السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني لجملة من علماء وطلبة البربر بفاس ومنهم: أبو يعقوب المحساني بعد وشاية تتهمهم بالقيام عليه، فقيل له: «إن طلبة البربر يريدون المخالفة على السلطان لكثرة عنادهم واستطالة ألسنتهم، فأمر السلطان يعقوب بن عبدالحق بنفي الفقهاء، وفيهم: إسحاق [بن مطهر] وأبو يعقوب المحساني وأبو عبدالله بن عمران، فتناول الشرطي إخراجهم فأرى الله فيهم البرهان، وكان الذي تولى كبره منهم صاحب الشرطة، ويعرف بأبي العطور، فصار يأكل من لحم أجنابه حتى مات، فبلغ الخبر إلى السلطان فأمر بردهم، وصار السلطان بعد ذلك يعظمهم»([18]).

توفي في آخر المائة السابعة، وكتب خطه بالإجازة سنة ست وثمانين وستمائة، رحمه الله بمنه([19]).

أما ثاني أسانيده فنقف عليه في الإسناد العام المغربي للقراءات، ومعلوم أن أمر القراءة يتلقى بالتواتر أمة عن أمة، لكن الأسانيد التي يكتب لها القبول والاستمرار قليلة، وسر بقائها اصطفاء الله عز وجل لرجالاتها الذين خلدت أسماؤهم في سجل ورثة الكتاب ونقلته. 

ففي إجازة([20]) أبي عبد الله البوعناني (ت1063ﻫ) لتلميذه أبي عبدالله المجاطي، نجده يسند القراءات السبع من طريق أبي عمران موسى بن محمد الشهير بابن حدادة([21])، «عن الشيخ الفقيه الإمام النحوي الحافل   أبي عبد الله محمد بن أبي الحسن علي بن عبد الحق الأنصاري، عُرف بابن القصاب(ت690ﻫ)، عن شيخه الأستاذ المقرئ أبي الحجاج يوسف ابن الشيخ المقرئ أبي الحسن علي بن أبي العيش الأنصاري([22])، عن الشيخين الأستاذين العالمين أبي البقاء يعيش بن القديم الأنصاري(ت624ﻫ)، وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بابن الفتوت(ت614ﻫ) رحمه الله تعالى ورضي عنه.

أما أبو البقاء يعيش فتحمل عن الشيخ الفقيه القاضي محمد بن زرقون(ت586ﻫ)، وأبي الحسن علي اللواتي(ت537ﻫ)، كلاهما عن أبي العباس الخولاني(ت508ﻫ)، عن الحافظ أبي عمرو الداني(ت444ﻫ).

وتحمل ـ يعيش ـ أيضا عن الشيخ الحافل الأستاذ المقرئ أبي الحسن علي بن قاسم بن زكرياء، عن شيخه المقرئ أبي عبد الله محمد بن سهل الأموي المعروف بابن النقاش، عن أشياخه الجلة الحفاظ الذين منهم الإمام المقرئ الفاضل أبو عبد الله محمد بن عيسى المعروف بالمغامي(ت485ﻫ)، عن الإمامين الحافظين أبي عمرو الداني وأبي محمد مكي.

وتحمل أيضا أبو البقاء يعيش المذكور عن الشيخ الفقيه الأستاذ أبي الحسن علي اللواتي، عن الأستاذ المقرئ أبي داود سليمان بن يحيى المعافري(ت بعد 540ﻫ)، عن أبي داود سليمان بن أبي القاسم، عن الحافظ أبي عمرو الداني، وعن شيوخ غير هؤلاء المذكورين».

قال الأستاذ الدكتور عبدالهادي حميتو:«فسنده كما نرى أندلسي يتصل بالحافظ أبي عمرو الداني من طريق أستاذه أبي الحجاج يوسف بن علي بن أبي العيش الأنصاري، عن الإمامين يعيش بن القديم .. وأبي عبد الله بن الفتوت الفاسي.. ومعنى ذلك أنه تخرج في القراءات على أكابر القراء بفاس، وإن كنا لا نعرف من مشيخته غير أبي الحجاج المذكور. مما يتجلى معه مقدار تقصير علمائنا في العناية بتاريخ الرجال وسير العلماء، إلا في النادر اليسير»([23]).

وبذلك نكون قد وُفِقنا للوقوف على سند ثان لابن القصاب، وعلى شيخ ثان من شيوخه، وهو:

2. أبو الحجاج يوسف بن علي بن أبي العيش الأنصاري.

ولم نقف له على ترجمة، وكل ما نعلمه عنه أنه تلقى عن الشيخين الأستاذين العالمين:

– أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن مسعود ابن القديم الأنصاري.(ت624ﻫ). نزيل فاس، إمام كبير معمر مقرئ ناقل، وهو صاحب كتاب:«الشمس المنيرة في القراءات السبع الشهيرة»([24]).

ـ وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بابن الفتوت(ت614ﻫ)، قال ابن الجزري:«إمام محقق كامل، انتهت إليه رئاسة الإقراء ببلده»([25]).

من أقرانه:

 ومن خلال هذين الإسنادين نستطيع التعرف على طبقة ابن القصاب وأقرانه، كأبي جعفر ابن الزبير الغرناطي (ت708ﻫ) وأبي القاسم الضـرير محمد بن عبدالرحيم (ت701ﻫ) فقد شاركا ابن القصاب في الأخذ عن أبي يعقوب المحساني، واشترك في الأخذ عن الثلاثة (ابن القصاب وابن الزبير والضـرير) تلميذهم أبو عمران موسى بن حدادة.

المبحث الثالث: في تلاميذه ورجال مدرسته

يعتبر ابن القصاب «رائد المدارس المغربية في أصول الأداء الخاصة بقراءة نافع، وصاحب أول «مدرسة فنية» اهتمت بهذه القراءة، ودرست أحكامها الخاصة، ووضعت معالم البحث والتأليف فيها»([26]).

لكن لم تحفظ لنا المدونات في السير والتراجم من تلاميذه ورجال مدرسته إلا ثلاثة أعلام، كانت لهم صلة وثقى به، تجلت في مصنفاتهم التي كثرت فيها أقواله واختياراته، وظهرت فيها قواعد مذهبه، ومعالم مدرسته التي استمدوا منها، وساروا على نهجها، وهم:

  • أبو عبدالله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي، المشهور بابن آجروم.
  • أبو عبدالله الخراز: محمد بن محمد بن إبراهيم.
  • أبو عمران موسى بن محمد بن موسى بن أحمد الصلحي المرسي الشهير بابن حدادة.
  • أبو عبدالله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي، المشهور بابن آجروم(ت723ﻫ)([27]).

ولد سنة (672ﻫ)، وتوفي بفاس سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وقد بلغ من العمر إحدى وخمسين سنة.

قال عنه ابن مكتوم: «نحويٌّ مقرئ، وله معلومات من فرائض وحساب وأدب بارع، وله مصنفاتٌ وأراجيزُ في القراءات وغيرها، وهو مقيم بفاس يُفيدُ أهلها من معلوماته المذكورة. والغالب عليه معرفةُ النحو والقراءات»([28]).

وهو أجل تلامذة ابن القصاب، صاحب المقدمة النحوية المشهورة بالآجرومية، وصاحب نظم: البارع في قراءة نافع، وله رجز سماه: التبصير في نظم التيسير، وله كتاب: روض المنافع في قراءة نافع.

وأجل مصنفاته: فرائد المعاني في شرح حرز الاماني،  وقد أكثر من النقل فيه عن ابن القصاب، ومن خلال فرائد المعاني عرفنا سنده القرائي، واشتغاله بتدريس الشاطبية وشرحها، وقد نقل لنا ابن آجروم كثيراً من آراءه وتعقباتها، فمن ذلك قول ابن آجروم عند شرحه لقول الناظم:

وَفي عَشْرها والطَّاءِ تُدْغَمُ تَاؤُهَا       وَفي أَحْـرُفٍ وَجْهَانِ عَنهُ تَهَلَّلاَ([29])

«قال شيخُنَا أبو عبد الله محمَّدُ بنُ القصَّاب ـ رحمه الله ـ : خَلَطَ في هذا البيت بأن جمَعَ فيه إدغامَ المثلين وإدغامَ المتقاربين؛ لأنَّ العَشرةَ التي تُدْغَمُ فيها الدالُ من بَعْضِهَا التَّاءُ، ولما قال: إنَّ التاءَ تُدغَمُ في العشرة / وفي الطاءِ، أعطَى بذلك أن التاءَ تُدغَمُ في مثِلها وفي مقارِبها، والبابُ بابُ المتقاربَيِن.

قال: فالأَولى أن يقول:  وفي تِسعِهَا والطَّاءِ تُدغَمُ تَاؤُهَا»([30]).

ويقول عند قول الناظم:

وَلاَ مَدَّ بَينَ الهمْزَتَينِ هُنَا وَلاَ      بحيثُ ثَلاثٌ يَتَّفِقْنَ تَنَزُّلاَ

«وكان شيخُنا أبو عبد الله محمَّدُ بنُ القَصَّاب رحمه الله تعالى يعترِضُ قَولَ النَّاظِمِ: «يتَّفِقْنَ»، ويقول: ليست الهَمَزَاتُ في âءامنتم بهá وبابِهِ متَّفِقَاتٍ، قال: والصَّوابُ أن يقولَ: بحيث ثلاثٌ يلتقين تَنَزُّلا»([31]).

وشرحه للشاطبية من أعظم الشروح وأنفعها، قال عنه شيخنا سيدي عبدالهادي حميتو: «وقد سد بهذا التأليف في زمنه بالنسبة للمغاربة فراغا كبيرا، إذ كانت شروحها المشرقية أو المغربية التي كتبت في المشرق ما تزال حتى هذا العهد محدودة الاستعمال وقليلة في الأيدي، وقد اعتمده الأئمة كثيراً، ونقل عنه أبو عبد الله الخراز (718ﻫ) في حياة مؤلفه كما نجد ذلك مبثوثا في شرحه على الدرر اللوامع لابن بري»([32]).

وكتابه فرائد المعاني من نتاج مدرسة ابن القصاب، إذ عنه تلقى الشاطبية سماعاً وشرحاً، ويكفي في حسنات ابن القصاب كون ابن آجروم تلميذاً له، ويكفيه شرفاً أن يكون فرائد المعاني من نتاج تلميذه.

وأما الرجل الثاني من رجال مدرسته، فهو الإمام:

  • أبو عبدالله الخراز: محمد بن محمد بن إبراهيم(ت718ﻫ)([33]).

قال الكتاني في سلوة الأنفاس:«أصله من شريش: مدينة بالعُدْوة الأندلسية، أعادها الله دار إسلام.

كان إماما في مقرإ نافع، مقدما فيه لا غير، إماما في الضبط، عارفا بعلله وأصوله، أدرك أشياخا جلة، أئمة في القراءة والضبط، وعلم القرآن، من العربية وغيرها، فقرأ عليهم، وعمدته: الشيخ المقرئ، المحقق المتقن؛ أبو عبد الله ابن القصاب، وممن أخذ عنه وانتفع به: ابن آجطا.

وله تآليف: من أجلها الرجز الموسوم بـ:«مورد الظمآن في رسم أحرف القرآن»، وله نظم آخر في الرسم سماه:«عمدة البيان»؛ نظمه قبل «مورد الظمآن»، وتآليف في الرسم ـ أيضا ـ مثل:«مورد الظمآن»؛ منثور لا منظوم، وشرح على «الحُصَـرِيَّة»، وشرح على «البرِّية» مشهور معروف عند الناس، وبه يقرءونها، وشرح على «العقيلة»، وكان قد فتح له في التأليف، وسهل عليه نظمه ونثره.

وكان يعلم الصبيان بمدينة فاس، وبها كان سكناه إلى أن توفي بها عام ثمانية عشـر وسبعمائة»([34]).

قال الأستاذ الدكتور عبدالهادي حميتو:«والظاهر أنه كان كصاحبه ورفيقه أبي عبدالله بن آجروم ممن نبغ في سن مبكرة، ثم مات في مقتبل العمر»([35]).

وقد احتفى الخراز بشيخه ابن القصاب، وأكثر من النقل عنه في مواطن عديدة خاصة من كتابه: تقريب المنافع.

ولأبي عبدالله الخراز أثر واسع وفضل كبير على المقرإ النافعي، فشرحه على الدرر من أجل الشروح المعتمدة المأخوذ بها، ونظمه في الرسم: مورد الظمآن كتب الله له القبول، فغدا العمدة في الباب، لما امتاز به من اختصاص بالضبط النافعي ولما توفر فيه من استفادة من الجهود الرسمية السابقة، مع سهولته ويسـر حفظه، وعليه بنيت جهود عظيمة، وأعمال كثيرة تكاد لا تنحصر.

وكل ذلك في سجل شيخه الإمام أبي عبد الله ابن القصاب.

  • أبو عمران موسى بن محمد بن موسى بن أحمد الصلحي المرسي الشهير بابن حدادة(كان حيا سنة:723ﻫ).

قال ابن الجزري:«مقرئ، قرأ على أبي جعفر ابن الزبير، روى عنه الشاطبية محمد بن محمد بن عمر اللخمي؛ مقرئ فاس»([36]).

وقال ابن القاضي في جذوة الاقتباس:«موسى بن حدادة المرسي، نزيل فاس المحروسة، كان حيا بفاس سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة»([37]).

قرأ على أبي عبدالله بن القصاب، حسب ما في إجازة البوعناني، وربما يكون روى عنه كتابه:«تقريب المنافع» لما في كتاب الزهر اليانع في مقرإ نافع لتلميذه أبي عبدالله الصفار، حيث قال:«قال الأستاذ أبو عبدالله بن علي، شهر بابن القصاب، فيما حدثني شيخنا أبو عمران بن حدادة ـ رحمه الله  ـ إجازة عنه ـ قراءة:«وزيادة قالون أنقص في المنفصل منها في المتصل»([38]).

وإنما اكتفينا بذكر هؤلاء الأعلام لشح المعلومات المتوفرة، وظاهر أن كل علم يعدل جبلاً، فليس فيهم مغمور ولا مجهول، ولا يبعد أن يكون أئمة آخرون ممن أدركوا ابن القصاب قد أخذوا عنه، وعلى رأسهم الإمام أبو الحسن ابن بري صاحب الدرر اللوامع، قال الشيخ العلامة الدكتور: عبدالهادي حميتو عن ابن بري: «وربما قرأ أيضاً أو سمع من أبي عبدالله ابن القصاب وأصحابه الكبار»([39]).

والناظر في منظومة الدرر يجدها متناسقة في اختياراتها مع اختيارات ابن القصاب، وما أثبته في كتابه تقريب المنافع.

المبحث الرابع: في مصنفاته وآرائه

الذي بلغنا من مصنفات هذا الإمام هو كتابه: تقريب المنافع في حروف نافع، وقد نشر بعنايتنا وتحقيقنا، وفي هذا الكتاب نجده يحيل على الكتاب الكبير، وهو كتاب له أيضاً توسع فيه في القرءات وعللها، وقد أحال عليه في سبعة عشر موضعاً، وقد وقفات على ورقات منه مخطوطة بأحد المكتبات بالجزائر.

وليس يبعد أن يكون لابن القصاب كتاب في شرح القصيدة الشاطبية، لما عرف عنه من تدريسها، أو تكون له إملاءات فيها، والله أعلم.

وكتابه: تقريب المنافع في حروف نافع مؤلف في تقريب وتعليل وتوجيه ما يتعلق بحروف الإمام نافع(ت169ﻫ) من روايتي: الإمام ورش(ت197ﻫ)من طريق أبي يعقوب الأزرق(ت240ﻫ)، والإمام قالون(ت220ﻫ)، من طريق أبي نشيط(ت258ﻫ)، وقد ينبه في بعض المواطن على خلاف بعض الرواة عن نافع، كإسماعيل بن جعفر، وإسحاق المسيبي، أو بعض الطرق؛ كطريق أبي الأزهر عبدالصمد عن ورش.

وهو كتاب جامع بين الرواية والدراية، اعتنى فيه ابن القصاب بتحرير المسائل وتفصيلها، وتوجيه مروي نافع، صنفه بناءً على طلبٍ طُلب منه،

ويعتبر أول كتاب نثري مغربي في قراءة الإمام نافع، وهو كتاب له أثر ظاهر في مصنفات الخالفين من بعده، خصوصاً في مصنفات تلميذه ابن آجروم في كتابه: فرائد المعاني في شرح حرز الأماني.

وقد اعتنى به جل شراح الدرر ونقلوا عنه، بدءا من تلميذه أبي عبدالله الخراز، إلى أبي الفضل المجراد، والمنتوري وابن القاضي وغيرهم.

وقد بني الكتاب على وفق منهج فريد قائم على تقسيم محكم، خال من التعقيد والتكلف، فجاء كل باب من أبوبته على عشر مسائل، قدم لها بعشـرة أسولة، يعرض في تسعة منها لتعريف وتقسيم وتعليل وتوجيه ما في حروف الباب من لغات وقراءات،  ثم يختم الباب بالمسألة العاشرة في مذهب نافع في الباب، وفق مسلك مطرد خال من التعقيد والتكلف.

واعتنى فيه ابن القصاب بالتوجيه والتعليل، مع حفاوة باللغة العربية، وعناية بالمفهوم والمصطلح، وانتقى فيه زبدة ما في أمهات مصادر فني الرواية والتعليل، فهو كتاب فهم وعلم ودراية ورواية، وقد سلك فيه مؤلفه مسلك الإمام أبي عمرو الداني، الذي جرى أمر القراءة على وفق مذهبه.

وقد حاكاه في التسمية جل من ألف بعده في قراءة نافع، قال الأستاذ الدكتور عبدالهادي حميتو:«فقد حاكاه في التسمية عدد كبير من الأئمة الذين ألفوا، أو نظموا فيها في زمنه أو بعده، فألف أبو الحسن القيجاطي «المقرب النافع»، وأبو القاسم بن جزي «النافع في قراءة نافع»، و«المختصر البارع في قراءة نافع»، وألف ابن آجروم «روض المنافع»، ونظم «البارع في قراءة نافع»، وألف أبو الحسن بن سليمان القرطبي «تهذيب المنافع»، وأبو الحسن بن بري «الدرر اللوامع»، وأبو وكيل ميمون الفخار «تحفة المنافع»، وأبو زيد الجادري «النافع في أصل حرف نافع»، وألف أبو عبد الله الرحماني «تكميل المنافع»، ونظم محمد شقرون بن أبي جمعة الوهراني قصيدته اللامية في الطرق العشـر عن نافع فضاهى بها في الاسم تأليف ابن القصاب فسماها «تقريب المنافع»، إلى غير ذلك من المؤلفات التي نسجت على منواله أو تواردت معه»([40]).

مذهب ابن القصاب القرائي ومصادره:

لم يخرج ابن القصاب في اختياراته عن مذهب الإمام أبي عمرو الداني، واقتصـر في شِقّ الرواية على مصنفات الحافظ أبي عمرو الداني، وتوسع في جانب الاحتجاج والتعليل، فنقل عن مصنفات مكي، والمهدوي، وأبي عمرو الداني، وقد كثر النقل عنده خصوصاً من المصادر الآتية:

  • الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي.
  • الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لأبي  محمد مكي بن أبي طالب القيسي.
  • الرعاية لتجويد القراءة، وتحقيق لفظ التلاوة، للإمام أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي.
  • شرح الهداية في توجيه القراءات لأبي العباس المهدوي.
  • التيسير في القراءات السبع للحافظ أبي عمرو الداني.
  • إيجاز البيان للإمام أبي عمرو الداني.
  • آراء ابن القصاب، واختياراته القرائية.

ولابن القصاب اختيارات وترجيحات قرائية اشتهر بها وعرف، نقلها عنه تلاميذه ومن جاء بعدهم، مما يدل على مكانته ومنزلته الرفيعة، فمن ذلك:

زيادة ثلاث صيغ من صيغ الاستعاذة، وهي التي نقلها عنه تلاميذه والأئمة من بعده، قال الإمام الخراز في القصد النافع(ص:75)، وابن آجروم في فرائد المعاني(ص300):«وزاد شيخنا أبو عبد الله بن القصاب ـ رحمه الله ـ ثلاثة ألفاظ لم أرها لغيره ، وهي :

  • أعوذ بالله المنان من الشيطان الفتان.
  • أعوذ بالله وكلماته من الشيطان وهمزاته.
  • أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم».

– ذهابه إلى تفاوت زيادة المد عند قالون بين المتصل والمنفصل، حيث قال:«واختلف عنه رحمه الله في المنفصل فروى عنه فيه الطبيعي وروى عنه فيه المزيدي، وزيادته أنقص من زيادته في المتصل».

قال ابن المجراد في إيضاح الأسرار: «فإذا قلنا بالمد، فهل يسوّى بينه وبين المتصل أم لا؟ في ذلك خلاف، فمذهب الشيخ أبي عبدالله بن القصاب رحمه الله أن زيادة قالون في المنفصل أنقص منها في المتصل، نص على ذلك في تقريب المنافع»([41]).

– أخذه بالفصل بين الهمزتين لقالون في قوله تعالى: âاَ.شهدواá

قال أبو عمرو في رواية أبي نشيط عن قالون: «قد اختلف علينا في قوله:﴿اَ.شهدوا خلقهم﴾ في الزخرف، فقرأته على أبي الفتح بالمد، طردا للقياس في سائر نظائره، وقرأته على أبي الحسن  بغير مد كورش سواء، نقضا لمذهبه في نظائره». و لم يرجح واحدا من الوجهين ، وتابعه الناظم على ذلك.

قال الإمام أبو عبدالله الخراز: «وكان شيخنا أبو عبد الله ــ رحمه الله ــ يأخذ له فيه بالفصل ويستحسنه، ويرى أنه أولى؛ ليجري الباب كله على سنن واحد»([42]).

وقال العلامة جموع الفاسي:«وبالإدخال شاع الأخذ عندنا بفاس في «الجمع الكبير»، وعليه العمل كما أخذ به أبو عبدالله الخراز وشيخه القصاب، وهو المشهور عن جماعة من شراح الدرر»([43]).

  • اختياره الأخذ بالفتح في ﴿التورية﴾

قال في «تقريب المنافع»:« وروي عن قالون فيها الفتح، والإمالة أشهر، والفتح أنسب»، وكان يأخذ على تلاميذه بالفتح، قال أبو عبدالله الخراز في القصد النافع:«وبالفتح كان يأخذ شيخنا أبو عبد الله رحمه الله . وبالإمالة اليسيرة أخذ علينا غيره»([44]).

– أخذه بالإبدال لقالون في الهمزتين المضمومتين والمكسورتين من كلمتين

قال في تقريب المنافع:« وروى أبو نشيط عن قالون عن نافع في المفتوحتين حذف الأولى وتحقيق الثانية، وفي الأخريين إبدال الأولى من المكسورتين ياء مكسورة، ومن المضمومتين واواً مضمومة، وتحقيق الثانية.

وروى عنه أيضاً فيهما التسهيل بين بين، فتسهل المكسورة بين الهمزة والياء، وتسهل المضمومة بين الهمزة والواو، وهذا القول أقيس من طريق العربية، والأول أصح من طريق الرواية»([45]).

وقد أورد اختياره تلميذه ابن آجروم وناقشه فيه ورد عليه في كتابه فرائد المعاني، قال رحمه الله: «وكان أيضاً شيخُنَا المذكورُ (أي: ابن القصاب) يأخُذُ في المكسُورتين والمضمُومَتين لقالونَ والبزِّي بإبدال الأُولى واواً مضمُومةً وياءً مكسُورةً، ويقولُ: هو أصحُّ في الروايةِ لاطِّرَادِهِ فيها.

قال: ألا ترى أنه يُسهَّلُ في المفتوحَتَين بالحذف لماَّ تعَذَّرَ البدلُ، وألا تَرَى أنه إذا كان قبلَهَا ياءٌ أو واوٌ أُبدِلَ ولا بدَّ اتفاقاً، وذلك في ﴿بالسوِّ إلا﴾ في روايتهما، و﴿للنبيِّ إن أراد﴾ في رواية قالون، ولو كانت الروايةُ بَيْنَ بَيْنَ لاطَّردَت في المفتوحتين، وفي التي قبلها وَاوٌ، أو ياءٌ، إنما الروايةُ في الباب كلِّهِ بالبدل، فحيث تعذَّرَ عُدِلَ عنه إلى الحذف، وذلك في المفتوحَتَين، وحيث لم يتعذَّرْ جَرَى عليه.

فإن كان قبلَ الحرف المبدَلِ من الهمزة ما يُدغَمُ فيه، أدغَمَه، وحيث لم يكن ما يُدغَمُ فيه، لم يُدغِم، وتعذُّرُ البدلِ في المفتوحتين بيِّنٌ؛ لأنَّهُ كان يُبدِلُهَا ألِفاً، إمَّا لأجل الفتحة، أو لأجل الألفِ قبلَها، ولا بدَّ من تحريكها، فكانت تصيرُ همزة.

قلتُ: هذا كلُّهُ باطلٌ؛ لأنَّ نُصُوصَ الأئمَّةِ في هذا الباب، إنما هي كلُّهَا بنصِّ التَّسهيل الذي هو القياسُ في التَّسهيل الذي لا يُعدَلُ عنه إلى غيره إلا إذا تعذَّر، ولم يتعذَّر في المكسُورتين والمضمُومَتَين؛ لأنَّ الهمزةَ فيه واقعةٌ بعد الألف، وكلُّ همزةٍ وقعَت بعد الألف، فحُكمُهَا أن تُسهَّلَ بين بين، وإن كانت تَقرُبُ  هنالك من السَّاكنِ، فيَجتَمِعُ سَاكنان؛ لأنَّ الألفَ تتحمَّلُ ذلك لقوَّةِ المدِّ فيها، ألا ترى أنها لا تكونُ إلا حرفَ مدٍّ، ولذلك اختصُّوهَا بالتَّأسيس وأفرَدُوهَا في الرِّدف.

وأمَّا مثلُ ﴿بالسوِّ إلا﴾ و﴿للنبيِّ إن أراد﴾ فمتعذَّرٌ فيه بينَ بينَ؛ لأنَّ الهمزةَ فيه واقعةٌ بعد الياء والواو، فلو سُهِّلَت لقَرُبَت من السَّاكنِ، فكان يَلتقي ساكنانِ، وليسَ في الياءِ من قوَّةِ المدِّ ما في الألفِ فَيَتَحَمَّل ذلك…»([46]).

بعض تعليلاته اللغوية:

يعد الإمام أبو عبدالله ابن القصاب من أئمة العربية، وكان يقرئ القرآن والعربية، وكتابه حافل بالتعليلات والتوجيهات اللغوية، نقتصـر على ذكر موضعين منها:

  1. تعليله لأخذ ورش بالإمالة بين بين، حيث يقول:«وحجته في ذلك أنه توسط الأمر، فلم يُمل لئلا يخرج الحرف عن أصله، ولم يفتح لقوة الموجب للإمالة، فتوسط في ذلك»([47]).
  2. تعليله لفتح ياء الإضافة، وحجة من فتحها، قال رحمه الله: «وحجة من حرك هذه الياء ولم يسكنها أنه استصحب التحريك، لأنه الأصل -كما تقدم-، ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه، وحظها من الحركات الفتح دون الضم والكسـر؛ لخفة الفتحة على الياء، ألا ترى أنها تثبت على الياء في الاسم الناقص كقولك:«رأيت قاضياً وغازياً»، وذلك لخفتها، ولا تثبت عليها الضمة ولا الكسرة، وذلك لثقلهما، والعلة في ذلك أن الخروج من كسر إلى ضم مستثقل مرفوض في كلام العرب، وكذلك الخروج من كسر إلى كسـر، لا سيما إذا كانت الضمة أو الكسرة على حرف العلة، وكانتا لازمتين، ولا يستثقل الخروج من كسر إلى فتح لخفة الفتحة، وإن كانت على حرف العلة.

فإن قلت: فما تقول في قول العرب: «مررت بجوارٍ وغواش» ولم يقولوا: «مررت بجواريَ وغواشيَ» لثقل الفتحة على الياء.

قلتُ: إنما استثقلت الفتحة على الياء هنا لأنها نابت مناب الكسـرة، والكسـرة ثقيلة، والنائب مناب الثقيل ثقيل»([48]).

خاتمة:

هذا بعض ما يسر الله الحديث عنه من معالم مدرسة ابن القصاب، وأثرها على المدارس القرائية المغربية، ولئن ضاعت بعض أخبار هذا الإمام وآثاره، فقد تجلت بركته وريادته في تلاميذه الآخذين عنه، فقد كتب الله لابن آجروم القبول لمقدمته الآجرومية، ويسر الله له وضع شرح من أعظم الشروح وأجمعها على نظم ولي الله الشاطبي، وكتب الله لأبي عبدالله الخراز القبول في نظمه مورد الظمآن وشرحه على الدرر اللوامع.

   والحمد لله رب العالمين.

فهرس المصادر والمراجع

  1. إجازة الشريف البوعناني لتميذه محمد الشرقي الدلائي المجاطي، حققها وقدم لها الدكتور: عبدالهادي حميتو، نسخة خطية بخط محققها ومصححها الأستاذ الدكتور: عبدالهادي حميتو.
  2. الإحاطة في أخبار غرناطة للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: محمد عبدالله عنان، نشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة. الطبعة الثانية: 1973م.
  3. الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى، لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954م.
  4. الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، تأليف: علي ابن أبي زرع الفاسي، راجعه: عبدالوهاب بنمنصور، الطبعة الثانية: 1990م.
  5. إيضاح الأسرار والبدائع وتهذيب الغرر والمنافع في شرح الدرر اللوامع، ابن المجراد، محمد بن محمد الفنزاري(ت778ﻫ)، نسخة مخطوطة.
  6. برنامج ابن جابر الوادي آشي، تقديم وتحقيق: الدكتور محمد الحبيب الهيلة، تونس، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى 1401ﻫ-1981م. 
  7. برنامج التجيبي، تحقيق وإعداد: عبدالحفيظ منصور، الدار العربية للكتاب.
  8. تقريب المنافع في حروف نافع، لابن القصاب، تحقيق وتقديم: محمد بن عبدالله البخاري، نشر: مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء، 2012م.
  9. التكملة لكتاب الصلة، لابن الأبار القضاعي، تحقيق: الدكتور عبدالسلام الهراس، نشر دار المعرفة، الدار البيضاء، المغرب.
  10. توضيح المشتبه لابن ناصر الدين الدمشقي، حققه وعلق عليه: محمد نعيم العرقسوس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1993م.
  11. جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، تأليف: أحمد ابن القاضي المكناسي، دار المنصور للطباعة والوراقة- الرباط. 1973م.
  12. حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، لأبي القاسم الشاطبي، ضبطه وصححه وراجعه: محمد تميم الزعبي، دار المطبوعات الحديثة: 1991م.
  13. درة الحجال في أسماء الرجال، لابن القاضي المكناسي، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، المكتبة العتيقة-تونس، دار التراث-القاهرة، الطبعة الأولى: 1971م.
  14. الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، لابن عبدالملك الانصاري الأوسي المراكشي، تحقيق: محمد بن شريفة، وإحسان عباس، دار الثقافة – بيروت – لبنان.
  15. سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس، بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس، لمحمد بن جعفر الكتاني، طبعة حجرية.
  16. سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: جماعة من العلماء، إشراف: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/4، 1986م.
  17. غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري، عني بنشره: ج.برجستراسر، دار الكتب العلمية، بيروت.
  18. الفجر الساطع والضياء اللامع في شرح الدرر اللوامع لأبي زيد ابن القاضي، دراسة وتحقيق: أحمد بن محمد البوشيخي، الطبعة الأولى: 2007م.
  19. فرائد المعاني في شرح حرز الأماني، للإمام ابن آجروم الصنهاجي، تحقيق الشيخ الدكتور: عبدالرحيم بن عبدالسلام نبولسي، نسخة مرقونة.
  20. فهرسة المنتوري، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد بن شريفة، منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث- الرابطة المحمدية للعلماء، الطبعة الأولى: 2011م.
  21. قراءة الإمام نافع عند المغاربة، تأليف: الدكتور عبدالهادي حميتو، منشورات وزارة الأوقاف بالمغرب، 2003م.
  22. القصد النافع لبغية الناشئ والبارع على الدرر اللوامع، للإمام محمد بن إبراهيم الشريشي، الشهير بالخراز، ت:718ﻫ، تحقيق: التلميدي محمد محمود، دار الفنون للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: 1993م.
  23. كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، تصنيف: العلامة أحمد بابا التنبكتي، ضبطه وعلق عليه: أبو يحيى عبدالله الكندري، دار ابن حزم، الطبعة الأولى: 2002م.
  24. معجم المؤلفين، تأليف: عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي.
  25. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، للإمام الذهبي، تحقيق: محمد سيد جاد الحق، نشر دار الكتب الحديثة، ط:1، مصر.
  26. معرفة القراء الكبار للذهبي، تحقيق: الدكتور طيار آلتي قولاج. ط:1، 1416ﻫ- 1995م. استانبول.
  27. المقصد الوريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق: سعيد أعراب، المطبعة الملكية.
  28. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد بابا التمبكتي، إشراف وتقديم: عبدالحميد عبدالله الهرامة، منشورات كلية الدعوة طرابلس. الطبعة الاولى: 1989م.
  29. الوافي بالوفيات للصفدي، تحقيق وإعتناء: أسعد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان. الطبعة الأولى: 2000م.
  30. ورقات عن الحضارة المرينية، لمحمد المنوني.

([1]) معرفة القراء الكبار، للذهبي، 2/612. ترجمة رقم: 6، تحقيق: محمد سيد جاد الحق.

([2]) غاية النهاية: 2/204.

([3]) تقريب المنافع: 65

([4]) راجع أحداث هذه الحقبة بتفصيل في: الأنيس المطرب لابن أبي زرع، (368ـ508)، والاستقصا للناصري: (3/3ـ89).

([5]) روض القرطاس، ص:411.

([6]) البيت 144 من حرز الاماني.

([7]) فرائد المعاني: أ/177

([8]) أفرد بالترجمة في:

درة الحجال 3/344-345. وجذوة الاقتباس ص:554، ترجمة:645. وكفاية المحتاج.ص500. و نيل الابتهاج. ص627. ومعجم المؤلفين.13/337. والأعلام 8/254. وتصحف اسمه في جلها إلى: الحساني والحسني والمحاسبي والغساني.

وورد ذكره في عداد شيوخ تلاميذه، أو في أسانيد المصنفات والمرويات، في المصادر التالية:

الإحاطة: 1/327. والذيل والتكملة:1/40 و6/370. وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين، 2/8. وبرنامج التجيبي، ص:141. وفرائد المعاني ، والوافي بالوفيات للصفدي، 24/102و 6/140. ودرة الحجال 2/17-18و 3/175 و 2/184 و2/259-260. وبرنامج الوادي آشي ص: 127. و116و170. وفهرسة المنتوري: ص353، ت:753. ونقل المنوني في كتابه ورقات عن الحضارة المرينية، (ص:424) نقلاً عنه  عن نوازل المجاصي. ص:91و112و125.

([9]) ذكره ابن عبدالملك في عداد شيوخ ابن الزبير في الذيل والتكملة(1/40) وضبط اسمه.

([10]) توضيح المشتبه لابن ناصر الدين، 2/8. درة الحجال 3/344، جذوة الاقتباس، ص554ـ ترجمة: 645.وانظر ترجمة ابن الزبيدي في سير أعلام النبلاء 22/357.

([11])فرائد المعاني: أ/177

([12]) درة الحجال 3/344. جذوة الاقتباس، ص554ـ ترجمة: 645.

([13]) درة الحجال، 3/344-345. جذوة الاقتباس ص:554. ترجمة: 645. ومعجم المؤلفين.13/337.

[14] – برنامج الوادي آشي ص: 127. ودرة الحجال 2/259-260. ون: الذيل والتكملة 6/370.

[15] – برنامج الوادي آشي ص: 116. الدرر الكامنة 1/13.

[16] – برنامج الوادي آشي ص:170.

[17] – درة الحجال 2/248. وانظر: الوافي بالوفيات: 2/100.

([18]) المقصد الوريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف: 111، وسلوة الأنفاس، 3/145

([19]) درة الحجال، 3/344-345. جذوة الاقتباس ص:554. ترجمة: 645.

([20]) حققها الباحث: نور الدين شوبد، ونشـرها في العدد الأول من مجلة: مرآة التراث، وأعاد تحقيقها وتصحيحها والتعريف برجالها الأستاذ الدكتور عبدالهادي حميتو. وهي التي اعتمدناها هنا.

([21]) كان حيا سنة 723هـ. جذوة الاقتباس، 1/347، ت:370.

([22]) سيأتي الكلام عليه.

([23]) قراءة الإمام نافع:2/340.

([24]) غاية النهاية:2/391-392. ت:3904. التكملة: رقم:2110. جذوة الاقتباس: 2/564-565.

([25]) غاية النهاية:3/1185، رقم: 914.

([26]) الدكتور عبد الهادي حميتو، قراءة الإمام نافع 2/337.

([27]) درة الحجال 2/109، وجذوة الاقتباس 1/221-222. سلوة الأنفاس 2/112

([28]) معرفة القراء الكبار

([29]) البيت: 146 من الحرز.

([30]) فرائد المعاني: أ/180.

([31]) فرائد المعاني: أ/254.

([32]) قراءة الإمام نافع: 2/194

([33]) غاية النهاية: 2/237. ت:3394. سلوة الأنفاس 2/114.

([34]) سلوة الأنفاس 2/114.

([35]) قراءة الإمام نافع، 2/386.

([36]) غاية النهاية، 2/322.

([37]) جذوة الاقتباس، 1/347، ت:370.

([38]) الزهر اليانع، بواسطة: قراءة الإمام نافع، 3/343.

([39]) قراءة الإمام نافع: 3/ 122

([40]) قراءة الإمام نافع، 2/345.

([41]) إيضاح الأسرار والبدائع، (ل: 87). والفجر الساطع:  2/129.

([42]) القصد النافع، ص:161

([43]) قراءة الإمام نافع 2/347.

([44]) القصد النافع، ص: 265.

([45]) تقريب المنافع، فقرة: 82.

([46]) فرائد المعاني: أ/269.

([47]) انظر فقرة: 150

([48]) انظر فقرة: 209

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق