مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

الإرادة عند الأشاعرة

الإرادة لغة وإصطلاحا
 

1- الإرادة لغة: «َمن أرَدْتُه بكلِ ريدَة أَي بكل نوع من أَنواع الإِرادة وأَراده على الشـيء كأَداره …. والإِرادة المشيئة وأَصله الواو كقولك راوده أَي أَراده على أَن يفعل كذا إِلا أَن الواو سكنت فنقلت حركتها إِلى ما قبلها فانقلبت في الماضي أَلفاً وفي المستقبل ياء وسقطت في المصدر لمجاورتها الأَلف الساكنة وعوّض منها الهاء في آخره.»[1]
و«الإرادة: المشيئة… وراودته على كذا مراودة وروادا، أي أردته. وراد الكلا يروده رودا، وريادا، وارتاده ارتيادا، بمعنى، أي طلبه.»[2]وقال الجوهري : «المشيئة : الإرادة ومثله في المصباح والمحكم وأكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في الأصل مختلفتين فإن المشيئة في اللغة : الإيجاد والإرادة : طلب»[3]والإرادة : المشيئة وأراد الشيء : شاءه . وراودته على كذا مراودة وروادا أي أردته قال ثعلب : الإرادة تكون محبة وغير محبة وأراده على الشيء كأداره . وأردته بكل ريدة وهو اسم يوضع موضع الارتياد والإرادة أي بكل نوع من أنواع الإرادة»[4]والفرق بين الارادة والمشيئة: قيل: «الارادة هي العزم على الفعل، أو الترك بعد تصور الغاية، المترتبة عليه من خير، أو نفع، أو لذة ونحو ذلك.وهي أخص من المشيئة، لان المشيئة ابتداء العزم على الفعل، فنسبتها إلى الارادة نسبة الضعف إلى القوة، والظن إلى الجزم، فإنك ربما شئت شيئا ولا تريده، لمانع عقلي أو شرعي.وأما الارادة فمتى حصلت صدر الفعل لا محالة.وقد يطلق كل منهما على الآخر توسعا..»[5]
والفرق بين الطلب والإرادة : «أن الإرادة قد تكون مضمرة لا ظاهرة والطلب لا يكون إلا !  لما بدا بفعل أو قول كما في شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري . وهل محل الإرادة الرأس أو القلب ؟ فيه خلاف وهل مَحلّ الإِرادة الرأْسُ أَو القلبُ ؟ فيه خِلافٌ.»[6]
2– الإرادة إصطلاحا: جاء في كتاب التعريفات: «الإرادة صفة توجب للحي حالا يقع منه الفعل على وجه دون وجه، وفي الحقيقة هي ما لا يتعلق دائما إلا بالمعدوم، فإنها صفة تخصص أمرا ما لحصوله ووجوده، كما قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}[ يس: 82 ]»[7]وقيل: «إنها اعتقاد النفع أو ظنه، وقيل ميل يتبع ذلك، فإنا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر ميلا إليه، وهو مغاير للعلم، وأما عند الأشاعرة فصفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، والميل الذي يقولونه فنحن لا ننكره لكن ليس إرادة فإن الإرادة بالاتفاق صفة مخصصة لأحد المقدورين وسنبين أنها غير الميل ثم حصول الميل في الشاهد لا يوجب حصوله في الغائب.»[8]وعرف الامام السنوسي الإرادة بأنها: «صفة يترجح بها وقوع أحد طرفي الممكن على مقابله». وقد ساق هذا الحد في معرض الرد على المعتزلة، حيث قرر نفوذ إرادته تعالى في كل ما تعلقت به، طاعة كانت أو معصية، صلاحا كان للعبد أو فسادا، لأن الكائنات كلها هو المنفرد تعالى بايجادها بلا واسطة، فوجب أن يكون وجودها على وفق إرادته.»[9]وعرفها في حقائقه بقوله: «حقيقة الإرادة: هي صفة يتأتى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، والذي يجوز على الممكن سمة تقابلها سمة الوجود والأزمنة والأمكنة والمقادير والجهات والصفات».[10] وعرفها برهان الدين ابراهيم اللقاني بقوله: «وهي صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وهو الممكنات المتقابلات الستة المنظومة في قول بعضهم:
الممكنات المتقابلات           وجودنا والعدم الصفات
أزمنة أمكنة جهـــات        كذا المقادير روى الثقاث»[11]

صفة الارادة عند الأشاعرة  

قال أبو الحسن الأشعري) تـ324هـ): «مسألة: ويقال لهم: إذا كان الله مريدا فله إرادة ؟ فإن قالوا : لا قيل لهم : فإذا أثبتم مريدا لا إرادة له فأثبتوا أن قائلا لا قول له وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم : فإذا كان المريد لا يكون مريدا إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالما إلا بعلم وأن يكون لله علم كما أثبتم له الإرادة»[12].
وقال في الباب الثامن في الكلام في الإرادة والرد على المعتزلة في ذلك:»يقال لهم: ألستم تزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما ؟ فمن قولهم : نعم.
 قيل لهم : فلم لا قلتم إن ما لم يزل عالما أنه يكون في وقت من الأوقات لم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت وما لم يزل عالما أنه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون وأنه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم ؟
 فإن قالوا : لا نقول إن الله لم يزل مريدا لأن الله تعالى مريد بإرادة مخلوقة .
قيل لهم : فلم زعمتم أن الله عز و جل مريد بإرادة مخلوقة وما الفصل بينكم وبين الجهمية في زعمهم أن الله عالم بعلم مخلوق وإذا لم يجز أن يكون علم الله مخلوقا فما أنكرتم أن لا تكون إرادة الله مخلوقة ؟
 فإن قالوا : لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن ذلك يقضي أن يكون حدث بعلم آخر كذلك لا إلى غاية
 قيل لهم : ما أنكرتم أن لا تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن ذلك يقتضي أن تكون حدثت عن إرادة أخرى ثم كذلك لا إلى غاية
 فإن قالوا : لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان .
 قيل لهم : ولا يجوز أن تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه النقصان وكما لا يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه محدثا مخلوقا.»[13]    وقال القاضي أبو بكر الباقلاني(تـ403هـ): «ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلها راجع إلى إرادته، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، لا على ما يقوله القدرية، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده، وما يجعله منه كسباً لعباده، من خير، وشر، ونفع، وضر، وهدى، وضلال، وطاعة، وعصيان، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.»[14]وقال أيضا في : «مسألة الإرادة: ويجب أن يعلم: أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث، والمرادات، والدليل عليه قوله تعالى: { فعال لما يريد } . وقوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسـر ولا يريد بكم العـسر ولتكملوا العدة ولتكبروا اللّه على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وقوله تعالى: {واللّه يريد الآخرة}. وقوله تعالى: { يريد اللّه أن يخفف عنكم } وقد قيل في بعض الآثار: أنه تعالى يقول:( يا ابن آدم؛ تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد.)
ويدل على أنه مريد من جهة العقل: ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان؛ وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا، وهذا بعد هذا، وهذا على صفة، والآخر على صفة غيرها، وهذا من مكان، وهذا من مكان آخر، إلى غير ذلك.»[15]وقال في الفرق بين الإرادة والمشيئة: «واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة على ما قدمنا. واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضياً عنه، لا يسخط عليه أبداً، وإن كان في الحال عاصياً. ومن سخط عليه فلا يزال ساخطاً عليه ولا يرضى عنه أبداً، وإن كان في الحال مطيعاً.
ومثال ذلك: أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضياً عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل؛ بان بأنه تعالى لم يزل راضياً عنهم، وكذلك الصديق، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضياً عنهما في حال عبادة الأصنام، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصـر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك لم يزل ساخطاً على إبليس، وبلعم، وبرصيص، في حال عبادتهم؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية.»[16]وقال في تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل في باب في أنه مريد:« فإن قال قائل فما الدليل على أنه مريد قيل له وجود الأفعال منه وتقدم بعضها على بعض في الوجود وتأخر بعضها عن بعض في الوجود فلولا أنه قصد إلى إيجاد ما أوجد منها لما وجد ولا تقدم من ذلك ما تقدم ولا تأخر منه ما تأخر مع صحة تقدمه بدلا من تأخره وتأخره بدلا من تقدمه…»[17]ويقول أبو حامد الغزالي(تـ505هـ): «ندعي أن الله تعالى مريد لأفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض إلا بمرجح، ولا تكفي ذاته للترجيح، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذي خصص أحد الضدين بالوقوع في حال دون حال ؟ وكذلك القدرة لا تكفي فيه، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة، وكذلك العلم لا يكفي خلافاً للكعبي حيث اكتفى بالعلم عن الإرادة لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ولا يغيره.
فإن كان الشيء ممكناً في نفسه مساوياً للممكن الآخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به على ما هو عليه ولا يجعل أحد الممكنين مرجحاً على الآخر، بل نعقل الممكنين ويعقل تساويهما، والله سبحانه وتعالى يعلم أن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكناً، وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساوياً له في الإمكان لأن هذه الامكانات متساوية، فحق العلم أن يتعلق بها كما هو عليه فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لعلة تعلق الارادة به فتكون الإرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقاً به تابعاً له غير مؤثر فيه، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الارادة لاكتفي به عن القدرة، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به وكل ذلك محال.
….وأما أهل الحق فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها، وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها في الامكان، هذا سؤال خطأ فإن الإرادة ليست إلا عبارة عن صفة شأنها تمييز الشيء على مثله.
فقول القائل لم ميزت الإرادة الشيء عن مثله، كقول القائل لم أوجب العلم انكشاف المعلوم، فيقال: لا معنى للعلم إلا ما أوجب انكشاف المعلوم، فقول القائل لم أوجب الانكشاف كقوله لم كان العلم علماً، ولم كان الممكن ممكناً، والواجب واجباً، وهذا محال؛ لأن العلم علم لذاته وكذا الممكن والواجب وسائر الذوات، فكذلك الإرادة وحقيقتها تمييز الشيء عن مثله.
فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم كانت الإرادة إرادة والقدرة قدرة، وهو محال، وكل فريق مضطر إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة، فكان أقوم الفرق قيلاً وأهداهم سبيلاً من أثبت هذه الصفة ولم يجعلها حادثة، بل قال هي قديمة متعلقة بالأحداث في وقت مخصوص، فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك، وهذا ما لا يستغني عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لزوم هذا السؤال.
والآن فكما تمهد القول في أصل الإرادة فاعلم انها متعلقة بجميع الحادثات عندنا من حيث إنه ظهر أن كل حادث فمخترع بقدرته، وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى ارادة تصـرف القدرة إلى المقدور وتخصصها به، فكل مقدور مراد، وكل حادث مقدور، فكل حادث مراد والشر والكفر والمعصية حوادث، فهي إذاً لا محالة مرادة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا مذهب السلف الصالحين ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين.»[19]وقال في المقصد الأسنى : «ولم يبق إلا الإرادة والقدرة ومعنى إرادته عندهم أنه تعالى وتقدس يعلم وجه الخير ونظامه فيوجده كما يعلمه ويكون علمه بالشـيء سببا لوجود ذلك الشـيء وإذا علم وجه الخير في شيء فيحصل ولم يكن فيه كراهة كان راضيا والراضي قد يسمى مريدا فكانت الإرادة ترجع إلى العلم مع عدم الكراهة وأما القدرة فمعناها أنه يفعل إذا شاء ولا يفعل إذا شاء وفعله معلوم ومشيئته ترجع إلى علمه بوجه الخير ومعناه أن ما علم أن الخير في وجوده فيوجد منه وما علم أن الخير في أن لا يوجد فلا يوجد منه ولا يحتاج وجود نظام الخير إلا إلى علمه بوجه الخير ولا يحتاج ما لا يوجد في أن لا يوجد إلا عدم العلم بكون الخير فيه فالنظام المعقول هو سبب النظام الموجود والنظام الموجود تبع النظام المعقول»[20]ويقول أبو عبد الله فخر الدين الرازي (تـ 606هـ): عند تفسير قوله تعالى: {ماذا أراد الله بهذا مثلا}في المسألة الثانية عشرة :«الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته . وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجا إلى التعريف ، وقال المتكلمون إنها صفة تقتضـي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة ، واختلفوا في كونه تعالى مريدا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره ، ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري : معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف ، وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وهو قول الأشعرية أو محدثا وذلك المحدث إما أن يكون قائما بالله تعالى ، وهو قول الكرامية ، أو قائما بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد ، أو يكون موجودا لا في محل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.»[21]ويقول سيف الدين الآمدي (تـ631هـ): «مذهب أهل الحق أن البارى تعالى مريد على الحقيقة وليس معنى كونه مريدا إلا قيام الإرادة بذاته، وذهب الفلاسفة والمعتزلة والشيعة إلى كونه غير مريد على الحقيقة، وإذا قيل إنه مريد فمعناه عند الفلاسفة لا يرجع إلى الا سلب او إضافة ووافقهم على ذلك النجار من المعتزلة حيث أنه فسر كونه مريدا بسلب الكراهية والعلية عنه. وأما النظام والكعبى فإنهما قالا إن وصف بالارادة شرعا فليس معناه إن أضيف ذلك إلى افعاله إلا أنه خالقها وإن أضيف إلى افعال العباد فالمراد به أنه امر بها وزاد الجاحظ على هؤلاء بإنكار وجود الإرادة شاهدا وقال مهما كان الإنسان غير غافل ولا ساه عما يفعله بل كان عالما به فهو معنى كونه مريدا وذهب البصريون من المعتزلة إلى أنه مريد بإرادة قائمة لا في محل وذهب الكرامية إلى أنه مريد بإرادة حادثة في ذاته تعالى الله عن قول الزائغين…»[22]
ويقول ابن جزي الغرناطي: «( وأما الإرادة ) فإنه سبحانه المريد لجميع الكائنات المدبر للحادثات المقدر المقدورات الفعال لما يريد فكل نفع وضر وحلو ومر وكفر وإيمان وطاعة وعصيان وزيادة ونقصان وربح وخسران فبإرادته القديمة وقضائه وقدره ومشيئته الحكيمة لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ولا اعتراض عليه في فعله ( ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ) كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل اقتضى ذلك ملكه وحكمته فالمالك يفعل ما يشاء في ملكه والملك يحكم بما أراد على مماليكه والحكيم أعلم بما تقتضيه حكمته ( ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ) قدر أرزاق الخلق وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم ( ( كل في كتاب مبين ) ) خلق قوما للجنة فيسرهم لليسرى وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق قوما للنار فيسرهم للعسرى وبعمل أهل النار يعملون ( ( وما ربك بظلام للعبيد ) )» [23]

 

 

 

الهوامش:

[1] لسان العرب مادة ( رود ) (ج: 3 / ص: 187)
[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، دار العلم للملايين، مادة ( رود) (ج: 2 / ص: 478)
[3] تاج العروس، مادة ( رود )   (ج: 1 / ص: 1997)
[4] نفسه (ج: 1 / ص: 1997)
[5] معجم الفروق اللغوية للعسكري، مادة ( رود )   (ج: 1 / ص: 23)
[6] تاج العروس ، مادة ( رود )  (ج: 1 / ص: 1998)
[7] التعريفات (إرادة) (ج: 1 / ص: 30)
[8] كتاب المواقف عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي دار الجيل – بيروت الطبعة الأولى ، 1997م، (ج: 2 / ص: 102)
[9] المنهج السديد في شرح كفاية المريد، لأبي عبد الله السنوسي، تحقيق مصطفى مرزوقي، دار الهدى عين مليلة الجزائر، (ص: 235/237(
[10] الحقائق في تَعريفات مصطلحات عــلماء الكَلام، اعتنى بها أبو عبد الرحمن المالكي المازري عن نسخة من مقتنيات الحرم المدني (ص: 7).
[11] تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد برهان الدين ابراهيم اللقاني، دار الرشاد الدار البيضاء 2009م )ص:98/99 (
[12]  الإبانة عن أصول الديانة، علي بن إسماعيل بن أبي بشر أبو الحسن الأشعري دار الأنصار – القاهرة الطبعة الأولى ، 1397 تحقيق : د. فوقية حسين محمود (ج: 1 / ص: 145)
[13] الإبانة عن أصول الديانة – الأشعري – (ج: 1 / ص: 161)
[14] الإنصاف للقاضي أبي بكرللباقلاني، المكتبة الأزهرية للتراث، ط 2000م، (ص: 6)
[15] نفسه،  (ص: 10)
[16] نفسه،  (ص: 13)
[17] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، للقاضي أبي بكرللباقلاني ، مؤسسة الكتاب الثقافية بيروت،
(ص: 47)
[18] الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين الجويني/مكتبة الثقافة الدينية،(ص:99)
[19]  الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية/ط 2004م  (ص: 30)
[20] المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، محمد بن محمد الغزالي، نشر الجفان والجابي – قبرص الطبعة الأولى ، 1407هـ – 1987م. (ص: 161)
[21] مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية-بيروت- الطبعة الأولى 1421هـ – 2000م، (ج 1 / ص 412).
[22] غاية المرام في علم الكلام، علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة ، 1391 تحقيق : حسن محمود عبد اللطيف (ج 1 / ص 52)
[23] القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية، محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي تحقيق عبد الكريم الفضيلي دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية، 1422هـ/2011م. – (ص: 10)

الإرادة لغة وإصطلاحا.

1-    الإرادة لغة«َمن أرَدْتُه بكلِ ريدَة أَي بكل نوع من أَنواع الإِرادة وأَراده على الشـيء كأَداره …. والإِرادة المشيئة وأَصله الواو كقولك راوده أَي أَراده على أَن يفعل كذا إِلا أَن الواو سكنت فنقلت حركتها إِلى ما قبلها فانقلبت في الماضي أَلفاً وفي المستقبل ياء وسقطت في المصدر لمجاورتها الأَلف الساكنة وعوّض منها الهاء في آخره.»[1]
و»الإرادة: المشيئة… وراودته على كذا مراودة وروادا، أي أردته. وراد الكلا يروده رودا، وريادا، وارتاده ارتيادا، بمعنى، أي طلبه.»[2]وقال الجوهري : «المشيئة : الإرادة ومثله في المصباح والمحكم وأكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في الأصل مختلفتين فإن المشيئة في اللغة : الإيجاد والإرادة : طلب»[3]والإرادة : المشيئة وأراد الشيء : شاءه . وراودته على كذا مراودة وروادا أي أردته قال ثعلب : الإرادة تكون محبة وغير محبة وأراده على الشيء كأداره . وأردته بكل ريدة وهو اسم يوضع موضع الارتياد والإرادة أي بكل نوع من أنواع الإرادة»[4]والفرق بين الارادة والمشيئة: قيل: «الارادة هي العزم على الفعل، أو الترك بعد تصور الغاية، المترتبة عليه من خير، أو نفع، أو لذة ونحو ذلك.وهي أخص من المشيئة، لان المشيئة ابتداء العزم على الفعل، فنسبتها إلى الارادة نسبة الضعف إلى القوة، والظن إلى الجزم، فإنك ربما شئت شيئا ولا تريده، لمانع عقلي أو شرعي.وأما الارادة فمتى حصلت صدر الفعل لا محالة.وقد يطلق كل منهما على الآخر توسعا..»[5]
والفرق بين الطلب والإرادة : «أن الإرادة قد تكون مضمرة لا ظاهرة والطلب لا يكون إلا !  لما بدا بفعل أو قول كما في شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري . وهل محل الإرادة الرأس أو القلب ؟ فيه خلاف وهل مَحلّ الإِرادة الرأْسُ أَو القلبُ ؟ فيه خِلافٌ.»[6]

2-    الإرادة إصطلاحا: جاء في كتاب التعريفات: «الإرادة صفة توجب للحي حالا يقع منه الفعل على وجه دون وجه، وفي الحقيقة هي ما لا يتعلق دائما إلا بالمعدوم، فإنها صفة تخصص أمرا ما لحصوله ووجوده، كما قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}[ يس: 82 ]»[7]

وقيل: «إنها اعتقاد النفع أو ظنه، وقيل ميل يتبع ذلك، فإنا نجد من أنفسنا بعد اعتقاد أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع أو دفع ضر ميلا إليه، وهو مغاير للعلم، وأما عند الأشاعرة فصفة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، والميل الذي يقولونه فنحن لا ننكره لكن ليس إرادة فإن الإرادة بالاتفاق صفة مخصصة لأحد المقدورين وسنبين أنها غير الميل ثم حصول الميل في الشاهد لا يوجب حصوله في الغائب.»[8]وعرف الامام السنوسي الإرادة بأنها: «صفة يترجح بها وقوع أحد طرفي الممكن على مقابله». وقد ساق هذا الحد في معرض الرد على المعتزلة، حيث قرر نفوذ إرادته تعالى في كل ما تعلقت به، طاعة كانت أو معصية، صلاحا كان للعبد أو فسادا، لأن الكائنات كلها هو المنفرد تعالى بايجادها بلا واسطة، فوجب أن يكون وجودها على وفق إرادته.»[9]وعرفها في حقائقه بقوله: «حقيقة الإرادة: هي صفة يتأتى بها تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه، والذي يجوز على الممكن سمة تقابلها سمة الوجود والأزمنة والأمكنة والمقادير والجهات والصفات».[10] وعرفها برهان الدين ابراهيم اللقاني بقوله: «وهي صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، وهو الممكنات المتقابلات الستة المنظومة في قول بعضهم:
الممكنات المتقابلات
        وجودنا والعدم الصفات

أزمنة أمكنة جهات
        كذا المقادير روى الثقاث»[11]

صفة الارادة عند الأشاعرة
     قال أبو الحسن الأشعري) تـ324هـ): «مسألة: ويقال لهم: إذا كان الله مريدا فله إرادة ؟ فإن قالوا : لا قيل لهم : فإذا أثبتم مريدا لا إرادة له فأثبتوا أن قائلا لا قول له وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم : فإذا كان المريد لا يكون مريدا إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالما إلا بعلم وأن يكون لله علم كما أثبتم له الإرادة»[12].
وقال في الباب الثامن في الكلام في الإرادة والرد على المعتزلة في ذلك:»يقال لهم: ألستم تزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما ؟ فمن قولهم : نعم.
 قيل لهم : فلم لا قلتم إن ما لم يزل عالما أنه يكون في وقت من الأوقات لم يزل مريدا أن يكون في ذلك الوقت وما لم يزل عالما أنه لا يكون فلم يزل مريدا أن لا يكون وأنه لم يزل مريدا أن يكون ما علم كما علم ؟
 فإن قالوا : لا نقول إن الله لم يزل مريدا لأن الله تعالى مريد بإرادة مخلوقة .
قيل لهم : فلم زعمتم أن الله عز و جل مريد بإرادة مخلوقة وما الفصل بينكم وبين الجهمية في زعمهم أن الله عالم بعلم مخلوق وإذا لم يجز أن يكون علم الله مخلوقا فما أنكرتم أن لا تكون إرادة الله مخلوقة ؟
 فإن قالوا : لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن ذلك يقضي أن يكون حدث بعلم آخر كذلك لا إلى غاية
 قيل لهم : ما أنكرتم أن لا تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن ذلك يقتضي أن تكون حدثت عن إرادة أخرى ثم كذلك لا إلى غاية
 فإن قالوا : لا يجوز أن يكون علم الله محدثا لأن من لم يكن عالما ثم علم لحقه النقصان .
 قيل لهم : ولا يجوز أن تكون إرادة الله محدثة مخلوقة لأن من لم يكن مريدا ثم أراد لحقه النقصان وكما لا يجوز أن تكون إرادته تعالى محدثة مخلوقة كذلك لا يجوز أن يكون كلامه محدثا مخلوقا.»[13]    وقال القاضي أبو بكر الباقلاني(تـ403هـ): «ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته كلها راجع إلى إرادته، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، لا على ما يقوله القدرية، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده، وما يجعله منه كسباً لعباده، من خير، وشر، ونفع، وضر، وهدى، وضلال، وطاعة، وعصيان، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.»[14]وقال أيضا في : «مسألة الإرادة: ويجب أن يعلم: أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث، والمرادات، والدليل عليه قوله تعالى: { فعال لما يريد } . وقوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسـر ولا يريد بكم العـسر ولتكملوا العدة ولتكبروا اللّه على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وقوله تعالى: {واللّه يريد الآخرة}. وقوله تعالى: { يريد اللّه أن يخفف عنكم } وقد قيل في بعض الآثار: أنه تعالى يقول:( يا ابن آدم؛ تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد.)
ويدل على أنه مريد من جهة العقل: ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت، ومكان دون مكان، وزمان دون زمان؛ وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا، وهذا بعد هذا، وهذا على صفة، والآخر على صفة غيرها، وهذا من مكان، وهذا من مكان آخر، إلى غير ذلك.»[15]وقال في الفرق بين الإرادة والمشيئة: «واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة على ما قدمنا. واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضياً عنه، لا يسخط عليه أبداً، وإن كان في الحال عاصياً. ومن سخط عليه فلا يزال ساخطاً عليه ولا يرضى عنه أبداً، وإن كان في الحال مطيعاً.
ومثال ذلك: أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضياً عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل؛ بان بأنه تعالى لم يزل راضياً عنهم، وكذلك الصديق، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضياً عنهما في حال عبادة الأصنام، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصـر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك لم يزل ساخطاً على إبليس، وبلعم، وبرصيص، في حال عبادتهم؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية.»[16]

وقال في تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل في باب في أنه مريد:« فإن قال قائل فما الدليل على أنه مريد قيل له وجود الأفعال منه وتقدم بعضها على بعض في الوجود وتأخر بعضها عن بعض في الوجود فلولا أنه قصد إلى إيجاد ما أوجد منها لما وجد ولا تقدم من ذلك ما تقدم ولا تأخر منه ما تأخر مع صحة تقدمه بدلا من تأخره وتأخره بدلا من تقدمه…»[17]

ويقول أبو حامد الغزالي(تـ505هـ): «ندعي أن الله تعالى مريد لأفعاله وبرهانه أن الفعل الصادر منه مختص بضروب من الجواز لا يتميز بعضها من البعض إلا بمرجح، ولا تكفي ذاته للترجيح، لأن نسبة الذات إلى الضدين واحدة فما الذي خصص أحد الضدين بالوقوع في حال دون حال ؟ وكذلك القدرة لا تكفي فيه، إذ نسبة القدرة إلى الضدين واحدة، وكذلك العلم لا يكفي خلافاً للكعبي حيث اكتفى بالعلم عن الإرادة لأن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ولا يغيره.
فإن كان الشيء ممكناً في نفسه مساوياً للممكن الآخر الذي في مقابلته فالعلم يتعلق به على ما هو عليه ولا يجعل أحد الممكنين مرجحاً على الآخر، بل نعقل الممكنين ويعقل تساويهما، والله سبحانه وتعالى يعلم أن وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه كان ممكناً، وأن وجوده بعد ذلك وقبل ذلك كان مساوياً له في الإمكان لأن هذه الامكانات متساوية، فحق العلم أن يتعلق بها كما هو عليه فإن اقتضت صفة الإرادة وقوعه في وقت معين تعلق العلم بتعيين وجوده في ذلك الوقت لعلة تعلق الارادة به فتكون الإرادة للتعيين علة ويكون العلم متعلقاً به تابعاً له غير مؤثر فيه، ولو جاز أن يكتفى بالعلم عن الارادة لاكتفي به عن القدرة، بل كان ذلك يكفي في وجود أفعالنا حتى لا نحتاج إلى الإرادة، إذ يترجح أحد الجانبين بتعلق علم الله تعالى به وكل ذلك محال.
….وأما أهل الحق فإنهم قالوا إن الحادثات تحدث بإرادة قديمة تعلقت بها فميزتها عن أضدادها المماثلة لها، وقول القائل إنه لم تعلقت بها وأضدادها مثلها في الامكان، هذا سؤال خطأ فإن الإرادة ليست إلا عبارة عن صفة شأنها تمييز الشيء على مثله.
فقول القائل لم ميزت الإرادة الشيء عن مثله، كقول القائل لم أوجب العلم انكشاف المعلوم، فيقال: لا معنى للعلم إلا ما أوجب انكشاف المعلوم، فقول القائل لم أوجب الانكشاف كقوله لم كان العلم علماً، ولم كان الممكن ممكناً، والواجب واجباً، وهذا محال؛ لأن العلم علم لذاته وكذا الممكن والواجب وسائر الذوات، فكذلك الإرادة وحقيقتها تمييز الشيء عن مثله.
فقول القائل لم ميزت الشيء عن مثله كقوله لم كانت الإرادة إرادة والقدرة قدرة، وهو محال، وكل فريق مضطر إلى اثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله وليس ذلك إلا الإرادة، فكان أقوم الفرق قيلاً وأهداهم سبيلاً من أثبت هذه الصفة ولم يجعلها حادثة، بل قال هي قديمة متعلقة بالأحداث في وقت مخصوص، فكان الحدوث في ذلك الوقت لذلك، وهذا ما لا يستغني عنه فريق من الفرق وبه ينقطع التسلسل في لزوم هذا السؤال.
والآن فكما تمهد القول في أصل الإرادة فاعلم انها متعلقة بجميع الحادثات عندنا من حيث إنه ظهر أن كل حادث فمخترع بقدرته، وكل مخترع بالقدرة محتاج إلى ارادة تصـرف القدرة إلى المقدور وتخصصها به، فكل مقدور مراد، وكل حادث مقدور، فكل حادث مراد والشر والكفر والمعصية حوادث، فهي إذاً لا محالة مرادة. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهذا مذهب السلف الصالحين ومعتقد أهل السنة أجمعين وقد قامت عليه البراهين.»[19]وقال في المقصد الأسنى : «ولم يبق إلا الإرادة والقدرة ومعنى إرادته عندهم أنه تعالى وتقدس يعلم وجه الخير ونظامه فيوجده كما يعلمه ويكون علمه بالشـيء سببا لوجود ذلك الشـيء وإذا علم وجه الخير في شيء فيحصل ولم يكن فيه كراهة كان راضيا والراضي قد يسمى مريدا فكانت الإرادة ترجع إلى العلم مع عدم الكراهة وأما القدرة فمعناها أنه يفعل إذا شاء ولا يفعل إذا شاء وفعله معلوم ومشيئته ترجع إلى علمه بوجه الخير ومعناه أن ما علم أن الخير في وجوده فيوجد منه وما علم أن الخير في أن لا يوجد فلا يوجد منه ولا يحتاج وجود نظام الخير إلا إلى علمه بوجه الخير ولا يحتاج ما لا يوجد في أن لا يوجد إلا عدم العلم بكون الخير فيه فالنظام المعقول هو سبب النظام الموجود والنظام الموجود تبع النظام المعقول»[20]

ويقول أبو عبد الله فخر الدين الرازي (تـ 606هـ):عند تفسير قوله تعالى: {ماذا أراد الله بهذا مثلا}في المسألة الثانية عشرة :«الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته . وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجا إلى التعريف ، وقال المتكلمون إنها صفة تقتضـي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا في الوقوع بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة ، واختلفوا في كونه تعالى مريدا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى فقال النجارية إنه معنى سلبي ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره ، ومنهم من قال إنه أمر ثبوتي وهؤلاء اختلفوا فقال الجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري : معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف ، وقال أصحابنا وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة إما أن تكون ذاتية وهو القول الثاني للنجارية ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وهو قول الأشعرية أو محدثا وذلك المحدث إما أن يكون قائما بالله تعالى ، وهو قول الكرامية ، أو قائما بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد ، أو يكون موجودا لا في محل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.»[21]ويقول سيف الدين الآمدي (تـ631هـ): «مذهب أهل الحق أن البارى تعالى مريد على الحقيقة وليس معنى كونه مريدا إلا قيام الإرادة بذاته، وذهب الفلاسفة والمعتزلة والشيعة إلى كونه غير مريد على الحقيقة، وإذا قيل إنه مريد فمعناه عند الفلاسفة لا يرجع إلى الا سلب او إضافة ووافقهم على ذلك النجار من المعتزلة حيث أنه فسر كونه مريدا بسلب الكراهية والعلية عنه. وأما النظام والكعبى فإنهما قالا إن وصف بالارادة شرعا فليس معناه إن أضيف ذلك إلى افعاله إلا أنه خالقها وإن أضيف إلى افعال العباد فالمراد به أنه امر بها وزاد الجاحظ على هؤلاء بإنكار وجود الإرادة شاهدا وقال مهما كان الإنسان غير غافل ولا ساه عما يفعله بل كان عالما به فهو معنى كونه مريدا وذهب البصريون من المعتزلة إلى أنه مريد بإرادة قائمة لا في محل وذهب الكرامية إلى أنه مريد بإرادة حادثة في ذاته تعالى الله عن قول الزائغين…»[22]

ويقول ابن جزي الغرناطي: «( وأما الإرادة ) فإنه سبحانه المريد لجميع الكائنات المدبر للحادثات المقدر المقدورات الفعال لما يريد فكل نفع وضر وحلو ومر وكفر وإيمان وطاعة وعصيان وزيادة ونقصان وربح وخسران فبإرادته القديمة وقضائه وقدره ومشيئته الحكيمة لا راد لأمره ولا معقب لحكمه ولا اعتراض عليه في فعله ( ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ) كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل اقتضى ذلك ملكه وحكمته فالمالك يفعل ما يشاء في ملكه والملك يحكم بما أراد على مماليكه والحكيم أعلم بما تقتضيه حكمته ( ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ) قدر أرزاق الخلق وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم ( ( كل في كتاب مبين ) ) خلق قوما للجنة فيسرهم لليسرى وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق قوما للنار فيسرهم للعسرى وبعمل أهل النار يعملون ( ( وما ربك بظلام للعبيد ) )» [23]

الهوامش:
[ ] لسان العرب مادة ( رود ) (ج: 3 / ص: 187)
[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ، دار العلم للملايين، مادة ( رود) (ج: 2 / ص: 478)
[3] تاج العروس، مادة ( رود )   (ج: 1 / ص: 1997)
[4] نفسه (ج: 1 / ص: 1997)
[5] معجم الفروق اللغوية للعسكري، مادة ( رود )   (ج: 1 / ص: 23)
[6] تاج العروس ، مادة ( رود )  (ج: 1 / ص: 1998)
[7] التعريفات (إرادة) (ج: 1 / ص: 30)
[8] كتاب المواقف عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي دار الجيل – بيروت الطبعة الأولى ، 1997م، (ج: 2 / ص: 102)
[9] المنهج السديد في شرح كفاية المريد، لأبي عبد الله السنوسي، تحقيق مصطفى مرزوقي، دار الهدى عين مليلة الجزائر، (ص: 235/237(
[10] الحقائق في تَعريفات مصطلحات عــلماء الكَلام، اعتنى بها أبو عبد الرحمن المالكي المازري عن نسخة من مقتنيات الحرم المدني (ص: 7).
[11] تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد برهان الدين ابراهيم اللقاني، دار الرشاد الدار البيضاء 2009م )ص:98/99 (
[12]  الإبانة عن أصول الديانة، علي بن إسماعيل بن أبي بشر أبو الحسن الأشعري دار الأنصار – القاهرة الطبعة الأولى ، 1397 تحقيق : د. فوقية حسين محمود (ج: 1 / ص: 145)
[13] الإبانة عن أصول الديانة – الأشعري – (ج: 1 / ص: 161)
[14] الإنصاف للقاضي أبي بكرللباقلاني، المكتبة الأزهرية للتراث، ط 2000م، (ص: 6)
[15] نفسه،  (ص: 10)
[16] نفسه،  (ص: 13)
[17] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، للقاضي أبي بكرللباقلاني ، مؤسسة الكتاب الثقافية بيروت،
(ص: 47)
[18] الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين الجويني/مكتبة الثقافة الدينية،(ص:99)
         [19]  الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية/ط 2004م  (ص: 30)
[20] المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، محمد بن محمد الغزالي، نشر الجفان والجابي – قبرص الطبعة الأولى ، 1407هـ – 1987م. (ص: 161)
[21] مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية-بيروت- الطبعة الأولى 1421هـ – 2000م، (ج 1 / ص 412).
[22] غاية المرام في علم الكلام، علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة ، 1391 تحقيق : حسن محمود عبد اللطيف (ج 1 / ص 52)
[23] القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية، محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي تحقيق عبد الكريم الفضيلي دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية، 1422هـ/2011م. – (ص: 10)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق