مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

الأم العازبة: مقاربة سوسيودينية

الدكتور محمد إكيج*

 

 

اختارت الأستاذة الباحثة مليكة نايت لشقر أن تلج عالم التأليف من خلال موضوع مجتمعي حساس، ومثير للجدل، ومستفز للشعور الجمعي، إنه موضوع “الأم العازبة”، وقد اختارت لكتابها عنوان: “الأم العازبة: مقاربة سوسيودينية”.. ويقع الكتاب في 135 صفحة من الحجم المتوسط.

والكتاب حسب المؤلفة، هو تتويج لرحلتها مع الموضوع منذ حوالي عشر سنوات حين أسست جمعية بمدينة القنيطرة تعنى بالإرشاد الأسري ودعم حقوق المرأة والطفل، وكانت تتوارد عليها حالات أمهات عازبات ممن يبحثن عن إيواء أو دعم نفسي أو اجتماعي أو توجيه قانوني، وكانت مناسبة للتعرف عن قرب عن حقيقة هؤلاء “الأمهات” ومعاناتهن بمعية أطفالهن داخل المجتمع، ولذا تقول الكاتبة: “قررت أن أخوض في غمار هذا الموضوع من بوابة البحث العلمي، وتحديدا من زاوية لا يرى فيها البعض إلا “الجمود” و”الانغلاق” و”الرفض المطلق” لمقاربة مثل هذه الظواهر، إنها زاوية موقف عالم الدين من الظاهرة” (ص11).

وقد حظي هذا الكتاب بتقديم عالم وازن ومفكر رصين إنه الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الذي شدد في تقديمه على أن موضوع الكتاب حين “يُفصل عن السياق الوارد فيه، ويستعمل خارج الإطار العام الذي يَنتَظم فيه باعتباره مكونا من مكوناته، يضحى هذا المفهوم شبيها ببيدق نكرة خارج رقعة الشطرنج”، إلا أن الأمر لا يكون كذلك حينما يُنظر إلى مسألة “الأم العازبة” (ص7) باعتبارها ظاهرة سوسيواقتصادية تتداخل فيها عدة عناصر اجتماعية وفكرية وثقافية.. وهو المنهج الذي اختارته الأستاذة مليكة نايت لشقر في دراستها، حيث حاولت – كما يقول الدكتور عبادي – ” أن ترسم أبعادا لهذه الظاهرة الاجتماعية من منظور مختلف داخل بنية العلوم الإنسانية، محكِّمة في ذلك المنظور الشرعي” (ص9)، وبذلك فإن “القيمة المضافة لهذه الدراسة الجادة” – على حد تعبير الأمين العام للرابطة المحمدية – تأتي ” من كونها بالإضافة إلى تجلية جملة من الحقائق تفتح باب تحليل ظاهرة “الأم العازبة”  تحليلا علميا، يبرز المسببات، ويكشف عن العلل، بتمهيدها عمليا لدراسات أخرى في شكل عمل تعاوني من تخصصات متعددة” (ص9)..

ويقع الكتاب في ثلاثة فصول، خصصت المؤلفة فصلها التمهيدي لمقاربة ظاهرة “الأم العازبة” من الزاوية الكمية وما يتناسل عنها من أطفال، وهكذا تشير إلى أن المعطيات الرقمية تؤكد وجود حوالي 30 ألف أم عازبة بالمغرب، وأنه يولد حوالي 153 طفلا يوميا خارج مؤسسة الزواج، وأنه يكون مصير 24 منهم الإهمال والتخلي في ظروف غير اجتماعية ولا إنسانية.

بينما تناولت الكاتبة في الفصل الأول “المقاربة النظرية” للظاهرة، حيث توقفت في البداية عند الأسباب الكامنة وراء تزايد أعداد الأمهات العازبات بالمغرب، وحددتها في: التفكك الأسري، الذي يوقع عددا من الفتيات – حسب الباحثة – من الحرمان من “الدفء العائلي”، “والتعلق بأول شخص يمنحها العطف والحب والاهتمام” إلا أنها في الغالب “تنساق لمطالبه الجنسية” (ص44). ومنها أيضا ضمور الوازع الديني، بسبب تحديات العولمة وضعف التوعية الدينية المؤسساتية التي تنمي الأمن الروحي والأخلاقي داخل المجتمع.  ومنها الانفتاح على العالم عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة والأفلام المدبلجة “دون أن يسبق هذا الانفتاح وعي اجتماعي وحصانة فكرية تحمي جوانب الخصوصية في المنظومة الثقافية والتربوية”. هذا فضلا عن التحولات على مستوى منظومة القيم، التي أدت بالخصوص إلى “استحداث أشكال علائقية بين الجنسين كالمساكنة والمؤانسة والعلاقات الجنسية العابرة والمؤقتة بسبب تأخر سن الزواج، وعدم القدرة على تحمل أعباء مؤسسة الزواج” (ص45).

كما أرجعت المؤلفة أسباب هذه الظاهرة إلى عدة عوامل سيوسيواقتصادية وثقافية، مثل الفقر والأمية، وغياب الثقافة الجنسية السليمة على مستوى الأسرة والمؤسسات التعليمية والمجتمع، واعتماد المجتمع المدني على المقاربة العلاجية بدل المقاربة الوقائية لهذه الظاهرة، واعتماد سياسة التكتم والتستر على الظاهرة “مما يزيد من استفحالها وتفاقم أضرارها”، بالإضافة إلى “غياب مقاربة قانونية منصفة لظاهرة الأم العازبة الضحية والمستكرهة من خلال إعادة إدماجها في المجتمع كي لا تكون عرضة للدعارة والاستغلال الجنسي” (ص47). ولم يفت الباحثة أن تتوقف عند ظواهر مجتمعية أخرى تشكل “سببا مباشرا في ارتفاع نسب الأمهات العازبات”، وخاصة ظاهرتي “الاغتصاب”، و”زنا المحارم”.

  وفي أزيد من عشر صفحات من كتابها (ص 49 إلى ص62)، تعرضت المؤلفة لدور جمعيات المجتمع المدني في مقاربة ظاهرة الأم العازبة، حيث عرفت بجهود بعض الجمعيات العاملة في هذا المجال، وخاصة جمعية “التضامن النسوي”، وجمعية “إنصاف” “المؤسسة الوطنية للتضامن مع النساء في وضعية صعبة”، ولاحظت الكاتبة أن هذه الجمعيات تعتمد في تعاطيها مع هذه الظاهرة على المقاربة العلاجية “وذلك من خلال محاولة احتضانها وتأهيلها وإدماجها في المجتمع، وتقديم خدمات عامة تتعلق بالاستماع والدعم القانونية والاجتماعي والنفسي”.

واستثمارا لتخصصها في العلوم الشرعية، عمدت المؤلفة إلى مقاربة الموضوع من الزاوية الشرعية، فأشارت ابتداء إلى أنه “على الرغم من أن هذه الظاهرة لم تكن نازلة من نوازل مجتمعات المسلمين في الحقب الماضية، إلا أن الفقهاء عرضوا قديما لبعض الوقائع التي يمكن الاستئناس بها لتملس بعض الأجوبة التي قد تلائم بعض أحكامها” (ص64). وفي هذا السياق توقفت الباحثة عند “قصة الغامدية” التي زنت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأقرت بذلك في مجلسه أمام الملأ، كما أوردت قصة الصحابية التي اغتصب فجرا وهي في طريقها إلى المسجد، وكذا قصة المرأة التي أقرت في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها أكرهت على الزنا، وأراد أن يقيم عليها الحد، فعارضه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}.

وقد انتهت المؤلفة من خلال الوقائع التي أوردتها إلى تسجيل ما يأتي:

–          إن مجتمع النبوة على قدسيته  وطهارته عرف وقوع حوادث ماسة بالأخلاق العامة للمجتمع، سواء بشكل طوعي (حالة الغامدية)، أو بكيفية قسرية (حالة المرأة المغتصبة في سواد الصبح)؛ ومن ثم لا ينبغي أن نستغرب وقوع مثل هذه الوقائع في مجتمعات المسلمين الراهنة، لبعد المسافة الزمنية بينها وبين زمن مجتمع القدوة، وأيضا لخضوعها لمؤثرات محيطية ضاغطة (ص 67).

–          إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينظر في قضية الغامدية وكذا قضية المغتصبة، لم ينظر إليهما بصفته التشريعية الملزمة، وإنما بصفته قاضيا له سلطة تقديرية في إعمال الحكم الشرعي أو عدم إعماله، وذلك بالنظر إلى ما يحف بكل قضية من القرائن والأحوال.

–          أن النبي صلى الله عليه وسلم وظف لاحتواء “أزمة الغامدية” منهجين متكاملين وفعالين إزاء مثل هذه النوازل؛ أما الأول فهو منهج الحكمة والتبصر، فلم ينفعل صلى الله عليه وسلم أو يشتط غضبا في وجهها حينما أبلغته الخبر في مجلسه، وإنما حاول كما جاء في رواية مسلم أن يردها بلطف قائلا: “ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه”.. وأما المنهج الثاني، فهو منهج الرحمة الإنسانية التي غمر بها النبي صلى الله عليه وسلم هذه المذنبة وكذا حَمْلُها الذي في أحشائها؛ فلم يقم عليها الحد بمجرد العلم بالجريمة، وإنما أمهلها إلى أن وضعت حملها وفطمت رضيعها أي حوالي ثلاث سنوات، وبلغة الأيام ما يناهز 1100 يوم، وأمر بالإحسان إليها، فقد جاء في إحدى الروايات قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَلِيِّ الْغَامِدِيَّةِ: “أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا”. (ص70-71).

–          إن مبادرة الرجل الأنصاري إلى التكفل بالغامدية طيلة فترة حملها، ثم بعد أن وضعت وليدها، تدل على أن المجتمع الإسلامي الأول كان سباقا لفكرة تأسيس مراكز لإيواء مثل هؤلاء النساء (الأمهات) واحتضان أبنائهن.. وبالتالي فإنه ليس من العدل ولا من الشريعة استهجان تأسيس بعض المراكز لإيواء أمثال هؤلاء النسوة في زماننا هذا، أو النظر إليه على أنه ضرب من “تشجيع الرذيلة” و”إشاعة الفاحشة” في مجتمع المسلمين. (ص71)

–          لقد تضمنت قصة الغامدية إقرارا واضحا بحق الجنين في الحياة ولو كان من ماء زنا؛ فقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على الأم إلى أن وضعت حملها وذلك دفاعا عن”الحق الذي أعطاه الله تعالى للجنين في الحياة، بقطع النظر عن جريمة أبويه” (ص 72).

وبعد هذه المقاربة النظرية لموضوع “الأم العازبة” من الزاويتين السوسيولوجية أو الدينية، خصصت المؤلفة الفصل الثاني من كتابها، للتعرف على رأي الفاعل الديني في المجتمع وموقفه من هذه الظاهرة، وذلك من خلال دراسة استطلاعية لآراء عينة من علماء الدين بالمغرب مكونة من بعض رؤساء المجالس العلمية وأعضائه، وبعض أعضاء رابطة علماء المغرب، وعينة من أساتذة جامعيين وباحثين في الدراسات الإسلامية، وعينة من خطباء المساجد الممارسين، وبعض الوعاظ والواعظات والمرشدين والمرشدات الدينيين.

وقد تمحورت الأسئلة الموجهة لهذه العينة المختارة حول دلالات مصطلح “الأم العازبة”، وإيحاءاته لدى هذه الفئة، ثم حول مدى معرفتهم بالأسباب المفرزة لهذه الظاهرة، وكذا طبيعة الحلول التي يقترحونها لمعالجتها أو الحد من آثارها الاجتماعية، ثم عن طبيعة المقاربة الدينية التي يرونها ملاءمة لمثل هذه الظواهر.

وبعد عرض مجمل المعطيات الإحصائيات الخاصة بكل محور، وتحليلها، خلصت الباحثة إلى أن مجتمع دراستها، يسجل ما يلي:

–          التحفظ المبدئي حول مصطلح “الأم العازبة”، لأنه مصطلح صيغ في سياق منظومة فكرية غربية، و”الإقرار به أو السليم به وفق ثقافة صائغي المصطلح – في المجتمع الإسلامي – من شأنه أن يشرعن العلاقات غير الشرعية بين الجنسين وأن يؤدي إلى إلغاء مؤسسة الزواج” (ص 109)؛ إلا أن هذا الموقف المتحفظ لا ينفي وجود قبول واقعي لهذه الظاهرة، وتَفَهم لوضعها الاجتماعي، حيث اعتبرها 20,00% من مجتمع الدراسة بأنها “ضحية”، ووصفها 18,66% من نفس المجتمع بـأنها “مغرر بها”، وهذا يدل على أن جزءا من هذا المجتمع ليست له نظرة أحادية أو إقصائية لظاهرة الأمهات العازبات في المجتمع المغربي.

–          تطور وعي وإدراك عالم الدين المغربي بالظاهرة، ويظهر ذلك – حسب المؤلفة –  في الوعي بالأسباب المباشرة لهذه الظاهرة والمتمثلة في “غياب التوعية الدينية والتربوية” وأسباب بنيوية أخرى ذات طبيعة سوسيواقتصادية. كما يتجلى ذلك على مستوى الحلول العلاجية المقترحة من لدن عينة الدراسة، حيث أكدت أنه لا يمكن أن تتم المعالجة وفق المقاربة الدينية والتربوية وحدها، بل لابد من تعزيز هذه المقاربة بمقاربات أخرى لصيقة بالواقع خاصة ما يتعلق بمحاربة الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، واعتماد التأهيل النفسي لهذه الفئات، وضرورة وضع إطار تشريعي يحمي حقوق الأمهات العازبات وأطفالهن… (ص111). كما رصدت الباحثة تطور وعي عالم الدين الإسلامي بالظاهرة، من خلال النسبة المرتفعة (87,81%) من المبحوثين المقتنعة بضرورة إثارة هذا الموضوع في الخطاب الديني بالمسجد والتحسيس بخطورته وانعكاساته السلبية على المجتمع أفرادا وجماعات. وكشفت الدراسة أيضا عن موقف إيجابي من التنسيق بين المؤسسات الدينية والمجتمع المدني المنشغل بالظاهرة، إذ عبر 95.3 % من المبحوثين عن ضرورة التعاون بين جميع الفاعلين في المجتمع قصد احتواء الظاهرة.

–          تبني مواقف مرنة لمعالجة ظاهرة الأم العازبة، حيث أكد علماء وفقهاء الدين الإسلامي المبحوثين على ضرورة احتضان من وقعن في هذا المشكل بسبب التغرير أو الاغتصاب أو الإكراه، والعمل على مساعدتهن للحفاظ على كرامتهن وتحقيق حياة كريمة. كما أكدوا على ضرورة احتفاظ الأم العازبة بجنينها وعدم اللجوء إلى الإجهاض، أو التخلي عن مولودها بعد الوضع، وهو موقف يتماشى مع الرؤية الشرعية التي تؤكد على أحقية الطفل في الحياة بغض النظر عن كونه ابنا ناتجا من علاقة شرعية أو غير شرعية.

وفي الأخير خلصت المؤلفة – في خاتمة كتابها – إلى تحديد أهم الضوابط التي ينبغي أن تؤطر هذه الظاهرة، وأجملتها فيما يلي:  

–           التمييز الموضوعي بين  حالات الأمهات العازبات وتغيير الصورة النمطية تجاههن، وعدم الحكم عليهن بمعيار واحد هو معيار التخطئة والاتهام.

–          استيعاب واحتواء الأم العازبة بالتوجيه والرعاية وإعادة التأهيل من أجل تسهيل اندماجها في المجتمع.

–          تحمل الدولة ومؤسساتها مسؤوليتها الكاملة في معالجة الظاهرة من خلال إرادة سياسة جريئة تضمن حق هذه الفئة في الحياة الكريمة.

–          إشراك المؤسسات الدينية ( المجلس العلمي الأعلى أو المجالس العلمية المحلية أو مندوبيات الشؤون الإسلامية أو الرابطة المحمدية لعلماء المغرب) في التحسيس والتوعية.

–          الاعتناء بالطفولة التي تنتج عن هذه الظاهرة والرحمة بها و ذلك بتمكينها من كافة حقوقها المادية والمعنوية.

–          نشر ثقافة العفة في أوساط الشباب والشابات، سواء في البادية أو المدن، باعتبارها مقاربة وقائية قد تحول دون استفحال مثل هذه الظاهرة في المجتمع المسلم. 

 

باحث في قضايا الأسرة 

 

نشر بتاريخ: 05 / 05 / 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق