وحدة الإحياءحوارات

الأمة والدولة.. الوعي التاريخي وسؤال المرجعية والإصلاح

حاوره: د. عبد السلام طويل

في هذا الحوار الفكري الشامل يجول بنا فضيلة الأستاذ الدكتور محمد العلمي المشيشي في مجالات التاريخ وفلسفته، والقانون ومؤسساته ونظمه، والفقه فروعه وأصوله، والقضاء وولاياته، والفكر ومذاهبه، والنظام الدولي وتحولاته.. كما يرتاد بنا عوالم تأملاته ونظراته وملاحظاته واستنتاجاته النافذة، مسلحا بخلفيته العلمية والمعرفية الرصينة، وخبرته الحياتية الواسعة؛ أستاذا جامعيا، وخبيرا دوليا، وفقيها قانونيا، ورجل دولة من الطراز الأصيل..

ما أن تقترب منه، وتتعرف عليه حتى تحترمه احتراما صميما، بفضل صدقيته العلمية وتجرده، ونبله الأخلاقي، ووطنية الفطرية المنفتحة، وتواضعه الإنساني الآسر..
أثقلنا عليه بأسئلتنا وردودنا، فجاد علينا بأجوبة مكثفة تختزن خبرة تجارب معتّقة لعمر مبارك مديد في قضايا: تشكل الأمة والدولة، وشروط النهضة، ومقومات الإصلاح، وصلة كل ذلك بسؤال الهوية والمرجعية الحضارية سعيا لتحقيق أكبر درجة من درجات الفاعلية التاريخة..

خلصنا معه، من ضمن ما خلصنا، إلى أن المغرب يعد من أكثر الدول التي حققت قدرا كبيرا من الاستمرارية التاريخية، ومن المطابقة مع مرجعية الجماعة التي صدرت عنها. كما خلصنا إلى المكانة المحورية التي تحتلها المؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين في تشكيل بنيان وهوية هذه الدولة عبر التاريخ..وأن الحفاظ على هذه الاستمرارية يستوجب التحلي بأعلى درجات الوعي والفعل التاريخيين..

في صلة بموضوع المرجعية هناك اتجاه في الفكر السياسي العربي المعاصر يذهب إلى أن نشأة الدولة العربية الحديثة كانت، في عمومها، نشأة مفارقة للجماعة؛ أقصد الجماعة الوطنية أو الأمة.. مفارقة لها من حيث المرجعية. ووجه المفارقة، هنا، هو أن هذه الدولة وإن كانت حديثة كجهاز، إلا أن هذا الجهاز، في سياق نشأته الأصلية في المجتمعات الغربية، تبلور، من وجهة نظر هذا الاتجاه، بفضل جملة من التراكمات التاريخية النوعية، على المستوى الثقافي وعلى مستوى منظومة القيم التي أنتجتها الثورة السياسية في الغرب، الشيء الذي لم يتوفر للدولة العربية الحديثة.. إلى أي حد يمكن تعميم هذا الحكم؟

صحيح.. فحتى لو كان الإنسان غير ضليع في حقول القانون العام والقانون الدولي العام، وكان له إلمام، ولو بسيط، بالتطور التاريخي للدول الغربية قبل الثورات الحديثة، ابتداء من القرن الثامن عشر، لأمكنه التأكد من ذلك..
فمع أن هذه الدول كانت تمثل “مجالات سياسية” شبه مستقلة من حيث المؤثرات الروحية والاجتماعية التي كانت تخضع لها، إلا أنها كانت تندرج ضمن سيادة مطاطة، الأمر الذي جعلها تمثل في عمومها مجالا بشريا موحدا لدرجة أن سكان أوروبا كادوا يشكلون شعبا واحدا.

بالمعنى الحضاري؟

نعم بالمعنى الحضاري، فرغم التمييز الذي كان سائدا بين الجرمانيين وبين اللاتينيين، بين الشماليين وبين الجنوبيين.. إلا أن هذا النوع من التمييز كان يعود إلى حقب تاريخية أقدم ترتكز على التركيبة القبلية للشعوب الأوروبية القديمة. لكن مع بداية انتهاء ما يسمى بالعصور الوسطى، بدأت تظهر تباشير وعلامات بروز ملامح تيارات وطنية متمايزة، وشرعت معالم الفصل بين الجنسيات تظهر تدريجيا وبوتيرة متسارعة.. ليأتي ظهور وتبلور الدولة الحديثة بالمعنى الغربي الحديث بمثابة نضج لهذه التيارات؛ وعلى إثر ذلك رسخت معالم الدولة الفرنسية والدولة الألمانية والدولة الإيطالية والدولة الإنجليزية..

وعند ظهور هذه الدول التي كانت ثمرة نضج لهذه التيارات، كان من أسسها القوية، بصرف النظر عن مقومات الشعب والأرض، أفكار ومعتقدات ترجع في عمومها إلى الاعتراف للشعوب بحقها، وللمواطن بحقوقه. الأمر الذي أفرز ما يعرف بمفهوم حقوق الإنسان والشعوب في الثورة الفرنسية سنة 1789.
وكانت هذه هي الانطلاقة؛ فمنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا يكاد الأمر يقتصر على تدقيق وتحديد هذه المعطيات في إطار هذه الفلسفة؛ فلسفة حقوق الإنسان والشعوب.. غير أن الدولة لم تستقر بمعناها الحديث في أوروبا إلا في نهاية القرن التاسع عشر. نسوق كل هذا المهاد التاريخي لتوضيح خلفية الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه؛ لنخلص إلى أن التطور الذي أفضى إلى هذا المفهوم وهذا التصور، لم يكن له ما يقابله في التجربة التاريخية والحضارية للعالم الإسلامي بصفة عامة..

لقد كانت المرجعية في العالم العربي الإسلامي تتمحور حول الدين الموحد؛ بحيث لم تكن هناك حدود بالمعنى السياسي الذي نتعارف عليه اليوم، كان الرجل يسافر من مراكش إلى بغداد دونما جواز للسفر، ودون أن يسأل من أي بلد ينحدر. ربما يسأل عن موطنه وعن قومه وعشيرته، ولكن لا يشار بهذا إلى الانتماء السياسي..

أكثر من ذلك، نجد أن ابن خلدون، على سبيل المثال، يذهب من المغرب ليحتل منصب قاضي القضاة في مصر؟

نعم، ولذلك نجد بالمقابل أن من أعظم العلماء الذين أشاعوا نور العلم بالمغرب الونشريسي من الجزائر، ابن طفيل وابن رشد، والشاطبي والقرافي من الأندلس.. كما نجد عددا من العلماء حلوا بالمغرب ومنه انتقلوا إلى المشرق.. وغيرهم أتى من المشرق ليحل بالمغرب..

 لم يكن هناك وجود لمفهوم الحدود السياسية، بحيث كان الانتماء إلى دين الإسلام هو الموحد. ولذلك لم يكن يطلب من الشخص، وهو يجوب ربوع العالم الإسلامي، أن يفصح عن هويته المذهبية؛ هل هو مسلم مالكي أم هو مسلم خارجي أو مسلم حنفي أو غير ذلك، يكفي أن يكون مسلما، وبعد ذلك تتم المناقشة إذا لزم الأمر.

وجاءت عصور الانحطاط ولم تمح العامل الديني الموحد، بل بقي فاعلا، بعد الاستعمار.. وأثناء الاستعمار أدخلت العديد من المفاهيم الفكرية الغربية ومنها الثقافة السياسية. وهذا ليس معناه أن المسلمين والعرب كانوا يجهلون ما يجري في الغرب، أبدا، بل كان لدى النخبة منهم اطلاع على ما يجري في الغرب. كانوا دائما يسافرون سواء للتجارة أو للسياحة أو للسفارات، أو للرحلات الاستكشافية الدراسية.. ولا شك أن ابن بطوطة يمثل سائحا نموذجيا.. والمغرب معروف بعدد من الشخصيات مند سقوط غرناطة.. شخصيات مغربية تبعث إلى أوروبا على الخصوص، ليس على وجه السفارة بالمعنى الدقيق؛ عدد منها على وجه السفارة والعدد الآخر على وجه الاطلاع على ما يجري، من هنا جاء أدب الرحلات، بحيث لابد أن نعترف بأن النخبة في الدول العربية كانت مطلعة على ما يجري في الغرب، وكذا على النظم السياسية والعادات الاجتماعية والثقافة، وعلى اطلاع على سائر جوانب الحياة في أوروبا؛ بمعنى أن مفهوم الدولة الحديثة كان موجودا عند العديد من العلماء والمثقفين بالمعنى الواسع من الدول العربية الذين زاروا الغرب أو اطلعوا على كتابات الشخصيات التي زارت الغرب. فجاء الاستعمار وربما وسع وعمق هذه المفاهيم..

وجسدها في مؤسسات؟

قبل ذلك أشاعها من خلال المدارس ومن خلال المنابر المختلفة، ثم حاول تجسيدها، إن لم يكن تجسيدا مباشرا في حالة الاستعمار المباشر، فقد كان تجسيدا غير مباشر في حالة الاستعمار غير المباشر أو المقنع من قبيل نظام الحماية في كل من المغرب وتونس، بل وكانت هذه المرجعيات من المبررات التي تم الاتفاق عليها لقبول نظام الحماية في المغرب؛ إدخال الإصلاحات من خلال اتفاقية الحماية لسنة (1912)، حيث كان إدخال الإصلاحات السياسية والإدارية والعسكرية والثقافية منصوصا عليه في هذه الاتفاقية، ويعد التزاما على كاهل الدولة الحامية.

لكن هل كانت النخبة تدرك الأبعاد الفلسفية والحضارية لهذه المؤسسات؟ ألا ترون أن الفكرة الطاغية في تمثلها للغرب ارتبطت، أول ما ارتبطت، بقوته العسكرية كجهاز؛ ولذلك فقد جرى اختزال هذه القوة في المؤسسة العسكرية باعتبارها النواة الصلبة لجهاز الدولة كما تم تصوره، ولذلك فقد تمت المبالغة في الرهان عليه. وبصيغة مكثفة ألا ترون أن هذه النخب قد تمثلت الدولة تمثلا أداتيا ولم تتمثلها كفكرة وكنظرية؟

أنا، بكل تواضع، لا أقزم الفكر العربي والمثقفين العرب في هذه الفترة؛ لقد كانوا واعين بالأبعاد القائمة في عهدهم. هذا شيء لابد من أن نعترف به.. والدليل على ذلك أن جل التجارب والمحاولات الإصلاحية التي انطلقت من داخل الأمة العربية الإسلامية كانت تأخذ بأحسن ما تراه في النظم والمفاهيم والمرجعيات الغربية وتحاول جاهدة تنغيمه مع المرجعيات المحلية والمرجعية الإسلامية الجامعة..
لو أخذنا، على سبيل المثال، نموذج المغرب، لألفينا أن مشروع أو مسودة دستور 1908م، قد تم إنجازها من طرف مجموعة من المثقفين المغاربة، اقتبست من النظم الغربية شكلها ومضمونها، ولم تترك جوهر الفكر السياسي الإسلامي المتمركز على نظرية الإمامة والشورى..

هناك من يذهب إلى خلاف ذلك؟

أبدا، بل شخصيات مغربية قحة هي التي قامت بصياغة هذا المشروع.. ربما كانت متأثرة بالمثقفين العثمانيين بفعل الفضاء الحضاري المفتوح وقتئذ على امتداد العالمين العربي والإسلامي.. هذا شيء وارد، ولكنه لا يعني أن المبادرة كانت مستوردة أو بفضل شخصيات أجنبية.

إذا قرأنا تلك المسودة ماذا نجد؟ نجد فيها اعتماد المبادئ السامية التي لا يختلف فيها شخصان: من مساواة وعدل بين البشر، واعتراف بالآخر، وعدم التمييز والتفرقة بين الناس، ومن ضرورة تنظيم لشكل الشورى بالرجوع إلى أصحاب القرار الحقيقيين وعلى رأسهم الإمام الذي كان يجسده السلطان.. ماذا يعني كل هذا؟

إنه يعني أنهم كانوا واعين، وكانوا شديدي الإلحاح على إرساء أسس الدولة الإسلامية في انفتاح على شتى مظاهر التحديث أو الحداثة التي كانوا يلاحظونها في الأنظمة الغربية دون أن يتخلوا عن هويتهم وأصالتهم..
فعلا، بعد الحصول على الاستقلال، تم الأخذ بالتصور الغربي بشكل ابتعد في العمق وفي الجوهر، عن المرجعية الإسلامية.. ووجه المفارقة، هاهنا، أنه بينما جرى الأخذ الشكلي بنظام فصل السلطات، ونظام القضاء الحديث، ونظام المساواة الحرفية أمام القانون.. نلاحظ هوة سحيقة بين الواقع الفعلي وبين مغزى هذه النصوص.

لكن، ألا ترون أن هذه المفارقة ناتجة، بشكل أساسي، عن كون منظومة القيم التي جاءت بها الحداثة السياسية، من خلال نموذج الدولة الوطنية لم تتغلغل في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية بشكل يمكن من تمثلها تمثلا تاريخيا وثقافيا من خلال مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية والسياسية، لتغدو جزءًا لا يتجزأ من ثقافتها؛ ليس كنظرية في المعرفة فحسب وإنما كنظرية في السلوك؟

هذا شيء لا يجادل فيه اثنان؛ لأن “الطبع يغلب التطبع”. شرائح عريضة، سواء من المواطنين العاديين أو من النخب، كانت لها ثقافة محلية صرفة.. تربية محلية صرفة.. حياة اجتماعية محلية صرفة. بل حتى وسائل الإعلام الحالية كانت غير موجودة أو تكاد. وبالتالي لم يكن لها اطلاع، لا من قريب ولا من بعيد، على ما أريد منها. وحتى لو تم هذا الاطلاع بسرعة وبكثافة وفي حيز زمني قياسي، كانت ستكون مثل شخص اعتاد ارتداء لباس معين، وفرض عليه لباس يختلف جذريا، من حيث شكله، على اللباس الأول؛ بحيث إذا ارتداه فلن يشعر فيه براحة ولا انسجام، سوف يبقى فيه دائما منزعجا وقلقا إن لم نقل متوترا، بحيث بقي الناس كما كانوا ولو حاولوا إظهار غير ذلك..

هل هذا يعزز القول بأن نشأة الدولة العربية الحديثة كانت مفارقة؟

أكيد أكيد.. لأنه، كما قلنا في البداية، لم تنشأ نتيجة تطور طبيعي ثقافي واجتماعي وسياسي مشابه أو مواز للتطور الذي عرفه الغرب وأصبغ عليه الطابع الحديث.

الآن، وقد مر على نشأة دولة الاستقلال؛ (أي الدولة العربية الحديثة) عقود من الزمن، إلى أي مدى نجحت هذه التجربة في خلق شكل من أشكال القطيعة مع نموذج الدولة القديم من جهة، وإلى أي حد نجحت، من جهة أخرى، في تمثل منظومة القيم الحديثة من خلال شتى عمليات التأصيل والتبيئة والاستيعاب؟

إلى أين وصلنا؟ ألا ترون أن منطق التاريخ كان يقتضي من دول الاستقلال إما أن تعمل على جعل مواطنيها يتمثلون منظومة القيم الحداثية انسجاما مع مرجعيتها الأصلية؛ لنحصل، بعد كل هذه المدة، على مجتمعات عربية حديثة بالمعنى الأقرب إلى النموذج الغربي؟ وإما أن تعمل على تبيئة وتأصيل هذه القيم الحديثة وتبحث لها عن سند أصيل ينسجم مع تجربتها الحضارية، خاصة بالنسبة للدول العريقة التي تتمتع باستمرارية تاريخية وحضارية كالمغرب ومصر، الأمر الذي يجعل مواطنيها ونخبها يتفاعلون بشكل طبيعي وتلقائي مع مختلف الأنظمة والمعايير والقيم التي تمثلها الدولة الحديثة؟

موضوعيا، لا يمكن أن نجيب بشكل موحد؛ فالعالم الإسلامي والعربي يعيش فورانا.. ومع أن هذا الفوران يبدو اليوم أكثر حدة، إلا أنه كان قائما وموجودا منذ منتصف القرن الماضي..

شروطه الموضوعية كانت قائمة؟

لا، بل هذا الفوران كان قائما؛ يكبت تارة ويثور أخرى.. المهم هنا؛ أن من الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي من اختار بوضوح اعتماد النظام الغربي بالقوة أو بشبه القوة. إذا استحضرنا النموذجين التركي والتونسي فإنا نلاحظ هذا التوجه بجلاء.
فمع أن تركيا تميزت في اعتمادها للنموذج العلماني الغربي بقدر غير يسير من الحزم والقوة أكثر من غيرها، إلا أن الحكام في تركيا، بصرف النظر عن تسمية النظام الحاكم، لم يستطيعوا بتاتا محو الموروث الإسلامي ولو عمدوا إلى إسقاط نظام الخلافة الإسلامية، وتخلوا عن كتابة اللغة التركية بالحروف العربية.. فالثقافة الإسلامية ظلت راسخة، والمفكرون المرتبطون بالمرجعية الإسلامية ظلوا أقوياء في تركيا، ولذلك، فإن التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي الذي وصلت إليه تركيا حاليا يعد نتيجة لهذا التوجه وهذا العمل الدءوب الذي لم يترك أية فرصة لأي كان أن يتسلل ويراجع توجهه وخطه..

لا يمكن أن نجزم بالقول بأن تونس سارت على نفس النهج، وذلك بفعل ما اتسمت به تجربتها من ليونة، فضلا عن أن تاريخها، سواء في علاقاتها العربية الإسلامية أو الإفريقية أو الأوروبية، أعطاها نوعا من قبول الرأي الآخر. فمع أن التوجه العام لمسارها التحديثي ظل يستلهم النموذج الغربي للدولة/الأمة، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز وتجاهل البعد الإسلامي على مستوى المرجعية والأطر المعرفية.. حتى لو أطلق على المؤسسات أسماء غربية..
أما لبنان فقد ظل يعبر عن خصوصية طائفية وجغرافية وتاريخية وثقافية وسياسية، دفعت بالاستعمار للتركيز واستتباعه كدولة غربية. بحيث يعد لبنان أقرب الدول العربية إلى الغرب.
في حين تميزت تجربة سوريا والعراق بسياق خاص؛ فقد كان الأخذ بفكر حزب البعث يفرض عليهما الأخذ بالمفاهيم الغربية الحديثة في شق مركزي منها هو شق العلمانية؛ بحيث كان التوجه واضحا في هذا الاتجاه، بالرغم من أن النظامين معا لم يستطيعا إطلاقا القضاء على الثقافة والمرجعية الإسلامية، حيث أن المبادئ والتقاليد والأعراف الإسلامية ظلت راسخة وقوية في هاتين الدولتين إلى الآن، ولو في ثوب غربي تتسم به المؤسسات والتنظيمات.

بل نجد هذه المرجعية حاضرة بقوة حتى في أدبيات هذه الأحزاب وبوجه خاص بتأثير من ميشال عفلق؟

وهو ما يعبر عن مفارقة حقيقية؛ تتمثل في التجاور هناك بين مرجعيتين متنافرتين؛ الأولى علمانية/حداثية، والثانية إسلامية/تقليدية وكأن الدولة في جهة، والمجتمع في جهة أخرى..

هل هذا يؤكد أن المفارقة ظلت قائمة؟

 نعم بجميع الأوجه. ففي هذين النموذجين معا ظلت المفارقة حادة..
وبالنسبة لدول مثل المغرب ومصر فالأمر يختلف؛ فمصر تتمتع بثقل حضاري وثقافي وجيوسياسي لا حد له في قلب العالم العربي الإسلامي.. لقد كانت محظوظة، بصرف النظر عن الضربات الاستعمارية الغادرة التي تلقتها، في أن تأخذ من الغرب أحسن ما عنده. ولو لم تتكالب عليها القوى الأجنبية لكانت في مصاف الدول المتقدمة الأولى الآن. وهو ما تؤكده التجربة التحديثية لمحمد علي التي أجهضت.. ومع ذلك، فقد عرفت في النصف الأول من القرن العشرين ازدهارا فكريا وثقافيا شاملا في الأدب والفلسفة، والفنون، والعلوم الإسلامية..
وهو ما أهلها للتوفيق والمواءمة والمطابقة بشكل مقاصدي بين مكتسبات الحداثة الغربية وبين المرجعية الإسلامية على مستوى الرؤية والمنهج.. من خلال السعي لأخذ ما هو جميل ومعقول وقوي في الفكر الإسلامي، والبحث عن ما هو جميل ومعقول وقوي في الفكر الغربي، ومحاولة تزويجهما والخروج من ذلك بشيء جديد..

لكن إلى أي حد نجحت مصر في كسب هذا الرهان التاريخي؟

نجحت أو لم تنجح هذا أمر آخر. لكن لابد أن نعترف أن الفقه، والأدب، والفلسفة، بل حتى الفكر السياسي في مصر لم يكن جامدا..

وماذا عن المغرب؟

أما بالنسبة للمغرب فإنه يشبه مصر إلى حد كبير، لكن مع فارق أساسي يتمثل في كون بلدنا قد عاش في ظل نظام ملكي على امتداد اثني عشر قرنا متواصلة، وهو ما لم يتوافر لمصر التي عانت، رغم تجربتها الحضارية الغنية، من العديد من القطائع في مسيرتها التاريخية..

هل الفارق بينهما يكمن في كون عنصر الاستمرارية في المغرب أبرز وأعمق منه في مصر؟

نعم..

وهو ما يعني أن الدولة في المغرب كانت، في الغالب الأعم، انبثاقا وتعبيرا عن الجماعة الوطنية أو الأمة المغربية؟

أكيد أكيد.. كانت الأسر الحاكمة في المغرب، كما تفضلتم، تنبع دوما من الجماعة.. وهو ما يشرف أبناءه، ابتداء من إدريس الأول؛ فإدريس الأول، كما هو معلوم تاريخيا، لم يفرض نفسه على المغاربة بمنطق العصبية والشوكة، كيف ما كانت الروايات حول سبب دخوله إلى المغرب، وإنما المغاربة هم الذين أمّروه عليهم ونصّبوه ملكا في أعلى هرم السلطة.. وبوجه خاص قبائل أوربة والائتلافات التي سارت معها..
نفس الشيء ينطبق على المرابطين، بغض النظر عن اختلاف المنهج والسياق، فالمهم أننا بصدد شخص يسافر ويعاين ما وصل إليه الشرق ثم يعود بعد أن يقف على الأسباب الحقيقية لما يعانيه المغرب من معضلات تبين له أنها ترجع، في معظمها، إلى الاختلاف. كما تبين له أن أنجع عامل لتوحيد المغاربة يتمثل في الدين الإسلامي، فأتى بعبد الله بن ياسين، دفين ناحية الرباط، الذي كان لقبيلته لسانا.
فإذا كانت الحروب تربح اليوم بوسائل الإعلام والفضائيات والشبكة العنكبوتية، وفي الجاهلية كانت الحروب تربح بشاعر القبيلة، ففي عهد المرابطين ربحت الحرب ببلاغة فقيه، بورعه وتقواه، ثم باندراجه ضمن من اقتنعوا برأيه وجاهدوا..
نفس المنطق نجده، مرة أخرى، لدى الموحدين؛ من خلال رحلة ابن تومرت الذي شد الرحال للإطلاع على ثقافة الشرق وبوجه خاص فكر الغزالي، ليعود بعد ذلك، عبر الجزائر، رفقة عبد المومن ليبث فكره ويشيع تجربته في الأمة..
أما طريقة المرينيين في الدعوة وبناء الدولة فقد كانت جماعية، من قبائل مغربية.. ونفس الأمر يكاد ينطبق على السعديين والعلويين..

ولعل الأمر أبرز عند الشرفاء العلويين؛ لأن الله تكرم عليهم بنموذج إنساني فريد؛ هو مولاي علي الشريف، الذي كان يجسد العلم، ويجسد الورع والتقوى، ويجسد التواضع ونكران الذات. كان يجاهد بهذه الصفات لنجدة الأندلسيين في أواخر حكمهم، وعرضوا عليه الإمارة فرفض. غير أن المكانة التي كان يتمتع بها هو وأسرته جعلت الأمة تبايع أحفاده وتجعلهم يعتلون سدة الحكم.. وهكذا كان للأمة دور حاسم في اختيار حكامها. وحينما كان يظهر شيء من الخلاف وعدم الالتزام باختيارات الجماعة كانت هاته الأخيرة لا تتردد في تقويم الاعوجاج بالسيف إذا اقتضى الأمر..
غير أن هذا الأمر لم يكن دائما ومضطردا؛ لأن المغرب كان معروفا بكثرة “الثورات”. غير أن هذه الثورات لم تكن تعبر دائما عن ظاهرة “السيبة”. لقد كانت غالبا ما تصدر عن دواعي إصلاحية لنظام الحكم.. وهو ما يفسر انتقال الحكم من أسرة حاكمة إلى أخرى..
غير أن هذه الظاهرة قد خف مفعولها إلى حد بعيد مع وصول العلويين إلى سدة الحكم؛ وذلك بفضل نجاح دولتهم في استيعاب هذا النزوع التاريخي لدى المغاربة؛ وهو ما يفسر نجاحها في حكم المغرب لأزيد من أربعة قرون لحد الآن..
لاشك أن هذه الاستمرارية ليست اعتباطية، والدليل القطعي على هذا؛ أننا لا نجد دولة أخرى سبقتها في المغرب استمرت في الحكم لأكثر من قرنين. ورغم تضافر العديد من الظروف والعوامل السياسية الداخلية والخارجية المعاكسة إلا أنها رسخت استمراريتها. وهي الاستمرارية التي إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى تشبث المغاربة بها؛ بفضل ما تحلى به ملوكها من حكمة وحنكة وكفاءة.
ذلك أن معظم ملوك العلويين كانوا من العلماء، بالمعنى الكامل للكلمة؛ العالم الذي يعترف بالفرق ويعترف بالخلاف..العالم الذي يقرن علمه بعبارة “الله أعلم”، وهي عبارة لا تفيد الجهل وإنما تفيد أنه على يقين بأن المرء مهما أوتي من علم فإن غيره قد أوتي مثله أو أحسن منه..

هؤلاء الملوك، كانوا يتمتعون بحدس وحس سياسي مرهف.. بحيث كانوا عادة ما يعملون بالحكمة المأثورة في أدبيات الحكم الإسلامي؛ “لا أستعمل سوطي حيث ينفعني لساني ولا أستعمل سيفي حيث يكفيني سوطي” ولهذا فقد ظلوا ولا زالوا دائما في تناغم مع الأمة التي أوصلتهم إلى الحكم.. حتى وإن ظهر نوع من الحزم أو من الشّدة في فترات معينة.. ينبغي ألا ننسى بأن الظروف تقتضي الحزم والشّدة أحيانا.

لقد سبق لابن خلدون، في هذا الإطار، أن خلص إلى أنه لا دولة بدون شوكة ولا عصبية، كما أن من محددات الدولة بالمفهوم الحديث أنها تحوز على حق احتكار استعمال العنف المشروع؟

تماما تماما؛ لأن من المفروض أن تستند إلى أحزاب أو تيارات تمثل الأغلبية فيها ويجوز لها أن تفرض رأيها دون تعسف ولا ظلم للأقلية..

لقد خلصنا إلى أن المغرب يعد من أكثر الدول التي حققت قدرا كبيرا من الاستمرارية التاريخية، ومن المطابقة مع مرجعية الجماعة التي صدرت عنها. كما خلصنا إلى المكانة المحورية التي تحتلها المؤسسة الملكية وإمارة المؤمنين في تشكيل بنيان وهوية هذه الدولة عبر التاريخ؛ بحيث إذا صح القول إن الدولة هي مؤسسة المؤسسات، والمؤسسة الملكية هي مؤسسة المؤسسات داخل الدولة المغربية.. ألا ترون أن ضمان هذه الاستمرارية رهين بتحقيق أمرين: أولهما: العمل على ضمان أكبر قدر من المطابقة بين مرجعية الدولة وبين هوية الأمة ومرجعيتها من الناحية القانونية والقيمية والثقافية.. وثانيهما: التأكيد على استقلالية المؤسسة الملكية وتجردها ووقوفها على المسافة نفسها من مختلف القوى السياسية والاجتماعية والدينية؛ لأنها ببساطة مؤسسة كل المغاربة.. والدليل على ذلك أن إجماعهم عليها قد ازداد بشكل ملفت في عز مناخ ثورة جل الشعوب العربية وتبرمها من حكامها..؟ ثم ألا يتوقف تحقيق ذلك، في جزء كبير منه، على صدقية وجرأة نخبنا الفكرية وعلمائنا؟

فعلا، هاتان نقطتان محوريتان، لم تتقدم أي أمة بدون جرأة نخبتها فكريا، وهذا الأمر بالذات ليس غريبا على المغرب بتاتا؛ ولربما كانت أول أسرة ملكية استفادت من جرأة النخب وقتها هي أسرة الموحدين. يجب ألا ننسى بأن أسرة الموحدين نظمت الولايات الشرعية، تنظيما يكاد يكون غير مسبوق في العالم الإسلامي، بل ومتقدم حتى بالمقاييس الحديثة؛ هنا مجلس العشرة وهنا مجلس الخمسين.. من أين أتت هذه الفكرة؟ للتمييز بين بروز الفكرة أو الرأي، والتنفيذ والحوار، والمناقشة..
ولربما كان التخلي عن المبادئ المتطرفة التي ارتبطت بحكم ابن تومرت فور وفاته انطلاقا من هاته المعطيات. جرأة النخب ظلت قائمة بعد الموحدين، فالواقع لا يرتفع؛ إذا أخدنا ابن خلدون وأخذنا ابن الخطيب؛ فمن المستحيل أن نتصور مرور ابن خلدون لسنوات من المغرب وجلوسه إلى ملوكه المرينيين دون نوع من الجرأة؛ ليس من لدن ابن خلدون فحسب، وإنما من طرف الدائرة الملكية وقتئذ، حيث وصل الأمر إلى أن يجلس أبو عنان المريني إلى الاستماع إلى دروس ابن خلدون وأن يجلس ابن خلدون للاستماع لدروس أبي عنان رغم  شبابه،  ذلك أن أبا عنان قد مات ولم يتجاوز الثلاثين من عمره، ومع ذلك فقد حكم عشر سنين، وقد كان عالما وأديبا وذا شخصية قوية.

لقد كانت الجرأة شائعة على جميع الأصعدة؛ على مستوى القاعدة وعلى مستوى النخبة وعلى مستوى الملوك.. ورغم تراجعها في فترات الركود والتراجع إلا أنها ظلت قائمة. أنا أخشى أن أقول أن من حظنا أنه لم يكن عندنا ابن تيمية. ولكن إذا لم يكن لدينا ابن تيمية فقد كانت عندنا شخصيات أخرى ربما أقل حدة وأقل إشعاعا ولكنها كانت ذات نفوذ واسع في أوساط المغرب..
لكن لم يكن يتصور في بداية القرن التاسع عشر أن يكون للنخبة جرأة بهذا المعنى.. لأن المغرب دخل في “جحيم سياسي واجتماعي” كان من الصعب على الناس بموجبه أن يتوقفوا؛ لأن هذا النوع يتطلب توقفا وتأملا، وأخذا للمسافة اللازمة بين الذات والموضوع حتى ينضج الفكر وينتج. لكن الأمر بدأ يتغير في عهد الحماية من خلال أجواء الحمية والحماسة التي كانت قائمة في جامعة القرويين التي يعود لها الفضل في تخريج أسماء كبيرة؛ من قبيل الشيخ محمد بن العربي العلوي، وأبي شعيب الدكالي الذي أتم تكوينه بمصر حيث بدأ إشعاعه ووصل إلى المملكة العربية السعودية قبل أن يستقر في بلده المغرب.

المختار السوسي؟

هؤلاء يتميزون بالحدة، أما المختار السوسي، رحمه الله، فيتميز بالليونة، والمرونة، وبالنزعة الإنسية.. أبو شعيب الدكالي، رحمه الله، لم يقتصر إشعاعه على المغرب؛ فقد بدأ إشعاعه في الأزهر، ثم استمر ونضج وتعاظم في الحجاز، حيث درّس وعلّم وكوّن. وهو من الأوائل الذين يرجع لهم الفضل في ترسيخ الفكر العلمي في الحجاز، وبعد أن أقام وتزوج وولد أولاده عاد إلى المغرب بطلب من ملكه المولى يوسف. واشتهر بالصرامة في محاربة الجهل والخرافات والبدع، في حين اشتهر الشيخ محمد بين العربي العلوي بالشدة في محاربة الظلم والاستعمار، فكأنهما تقاسما الأدوار.

على أي، فقد كانت الجرأة كبيرة جدا في عهد الحماية، ليس من خلال الثورة ضد المستعمر فحسب، وإنما من خلال الثورة ضد مختلف مظاهر الانحراف الفكري؛ وفي هذا السياق نجد كيف أن الشيخ أبا شعيب الدكالي قد ثار ضد الجمود الفكري وشتى مظاهر الخرافات والشعوذة المرتبطة ببعض المسلكيات الطرقية المنحرفة عن مقاصد وقيم الإسلام الحقة.. والأمر نفسه ينطبق على الشيخ محمد بن العربي العلوي، رحمه الله..

ولو أن تلامذة هذا الأخير، وبوجه خاص علال الفاسي، وكذلك محمد بن الحسن الوزاني، ومعهم محمد الحجوي رغم تناسيه السائد، قد ذهبوا إلى صُلب الفكر السياسي الغربي وأخذوا منه ما يليق وينفع. وكانت لهم الجرأة للدفاع عنه وتفسير ذلك أنهم يميزون جيدا بين الوجه الاستعماري والوجه المعرفي والحضاري للغرب المستعمر؛ ولذلك؛ فقد حاربوا الاستعمار بسلاحه كاشفين زعمه بأنه منبع لحقوق الإنسان ومهد للدولة الحديثة. ومع ذلك، فقد ظلوا أوفياء لمرجعيتهم الحضارية؛ لأنهم إنما أتوا من الجماعة الأصيلة المتأصلة..

 ـ لقد أجدتم اختيار نموذج كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني، وبالأخص الوزاني، لماذا؟ لأن تكوينه العلمي الأكاديمي سواء في العلوم السياسية أو في الصحافة والإعلام كان غربيا وعصريا بامتياز، فقد حصل على شواهده العلمية، كما هو معلوم، من كل من فرنسا وسويسرا..
أكيد أكيد..

ولكن رغم ذلك، فإن حضور المرجعية الإسلامية  لديه قوي بشكل عميق جدا؟

شكلا وجوهرا.. صحيح.. بمعنى أن الجرأة، التي أشرتم إليها، كانت تتبلور في أروع مظاهرها وتتعزز بالمعطيات الموضوعية العلمية التي لا يمكن أن يجادل في شرعيتها اثنان؛ لم نسمع أبدا عمن يطعن في مواقف أبي شعيب الدكالي أو محمد بالعربي العلوي أو علال الفاسي أو محمد بن الحسن الوزاني من الناحية العقائدية. لم يكفرهم أحد.. لأنهم كانوا منغرسين في جذور الفكر الإسلامي ويخصبون الفكر الغربي بتربة الفكر الإسلامي..
الآن هل هذه الجرأة موجودة أو غير موجودة؟ الواقع أنها موجودة وغير موجودة في نفس الآن! لقد طغت الماديات وارتفع سقف الطموحات يجب أن نعترف بهذا. فكل من له كفاءات علمية إلا ويشعر، بدرجات متفاوتة، بنوع من الحيف، إلا من أخذ الله بيده، ولذلك فهو بينما يقدر ويثمن ما لديه، ينتابه شعور بعدم تقدير الآخرين له، يترتب عليه إحساس بالمرارة وخيبة الأمل، ونزوع للانكماش والتقوقع على الذات.. لكن هذه النخبة موجودة وقادرة، وعدد كبير منها برهن عن جرأة رائعة، سآخذ مثالا لمفكر مغربي قد لا يعجب العديد من الناس أما أنا فأقدره كثيرا؛ يتعلق الأمر بمحمد عابد الجابري، رحمه الله، هذا رجل ينبغي أن لا ننسى مساره الفكري والتاريخي وبماذا ختم حياته، وكيف قام ضده المشرق والمغرب.. إذا كانت هناك مصادر وأمهات كتب مرجعية كونية على غرار “الجمهورية” لأفلاطون، و”السياسة” لأرسطو، و”المقدمة” لابن خلدون، و”إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي، و”روح القوانين” لمونتسكيو، وكتاب “رأس المال” لكارل ماركس.. فإن سلسلة كتب نقد العقل العربي تندرج بقوة وجدارة ضمن هذا التراث الفكري الإنساني..

لكن المشكلة أن هناك من يجرؤ على إصدار أحكامه جاهزة دونما قراءة ولا تبين؟

بالضبط، فتسعة وتسعون بالمائة ممن يحيلون على مثل هذه الكتب أو يعززون أفكارهم بها لم يقرؤوها.. والبرهنة على ذلك بسيطة؛ إذ ما علينا إلا أن نعود إلى الهوامش والإحالات ونطابقها مع الأصول لنجد هول الإدعاء..ولا شك أن الضجة التي قامت ضد الجرأة الفكرية لمحمد عابد الجابري، رحمه الله، جاءت في قسم كبير منها عن جهل..

الواقع أن أغلب من اتخذوا موقفا سلبيا متحاملا من فكر محمد عابد الجابري إنما قاموا بذلك إما لجهلهم أو لعقدة من المكانة العلمية المرموقة التي أدركها عن جدارة واستحقاق، وأنا أعرف شخصيا مجموعة من المفكرين من المشرق ممن كانوا يعانون من هذه العقدة، بل منهم من أفصح عنها بعد وفاته؟

لاشك أن المغرب كانت له معاناة مع بعض إخوانه من المشرق وهذا أمر معروف تاريخيا فقد أبى بعض المفكرين من إخواننا المشارقة الإقرار بنبوغ المغاربة، وبدلا من ذلك كانوا يقولون حينما يصلهم أي نتاج علمي مغربي ذو قيمة: هذه بضاعتنا ردت إلينا! وما ينطبق على الموقف من الجابري يكاد ينطبق على الموقف من الشاطبي وابن خلدون، وابن حزم، وابن رشد..
ومن الأمثلة الحديثة التي تؤكد هذا أن المرحوم أحمد لخضر غزال وهو يعمل على تنميط الحروف العربية بناء على مستلزمات الآلات الراقنة، ومن بعد الحاسوب، كانوا يسخرون منه في المشرق، في حين أن أمريكا اعتمدت بحثه منذ بدايته.. ووجه المفارقة أنهم عابوا عليه تضحيته بجمالية الحرف العربي، وكأنه خطاط وليس رقّاناً؟
على أي، فهذه الظاهرة كانت موجودة، وأنا هنا لا أنتقدها بقدر ما ألاحظها واعتبرها عادية. وهي عين الظاهرة التي نجدها في أوروبا بين الألمانيين والفرنسيين.. فهي مسألة إنسانية طبيعية، حتى أن الزملاء في نفس الفصل إذا وجد أحد أحسن من الآخر، وحتى إذا كان الاثنان في مستوى جيد يجب أن يغار أحدهما من الآخر، وإلا ستنعدم المنافسة.

عموما فإن المنافسة والجرأة أمران طبيعيان، بل ومطلوبان للتحفيز والتطور، ومع أن الجرأة العلمية كانت موجودة إلا أنها باتت تتطلب من يشجعها أكثر؛ إذ لابد إذا ما أردنا أن نتقدم ونحقق التراكم المطلوب في ذلك من أن نشجع هذه الجرأة.. دون أن نقع ضحية خطر ظاهر وقائم سواء في المغرب أو خارج المغرب، وهو الخطر المتمثل في اجتراء وتسلط الجهلاء.

أدعياء المعرفة وأنصاف أو أشباه العلماء؟

تماما، ونلاحظ مع الأسف أن العديد من الناس، لا أقول يدعي لأنه تجاوز الادعاء ليتكلم، فعليا، في أي شيء بصيغة الجزم والإفتاء..

وكأنه مصدر المعرفة والحكمة، وصاحب سلطة معرفية؟

نعم سلطة معرفية، مع الأسف نلاحظ هذه الظاهرة وهذا هو الخطر، ولكن لابد أن يكون هذا إلى جانب هذا، والبقاء للأصلح، فأما الزبد فيذهب جفاء.

رغم عناية الفقه الإسلامي بتكوين المؤسسات التنظيمية، إلا أن هذا البعد المؤسسي في التجربة الفقهية التشريعية الإسلامية ظل يعاني من بعض الضعف. كيف يمكن البناء على تراثنا الفقهي في ظل هذا المعطى خصوصا وأن الممارسة القانونية والسياسية والإدارية والقضائية الحديثة لا يمكن تصورها إلا من خلال المؤسسات؟

منذ أربعة أو خمسة قرون كانت لأجدادنا وسائلهم، ربما لم يكونوا في حاجة إلى هذا النوع من الشكلية، إذا استثنينا ولاية القضاء، وولاية الحسبة وولاية المظالم، وولاية الشرطة، فإن الحقول الأخرى لم تكن مُمَأسَسَة، لقد كانت فطرية.

 أنا لا أدخل هنا في جزئيات التصور التي كانت عليها هذه الولايات قبل خمسة أو ستة قرون، وإنما ألاحظ وأسجل وجود هذه الولايات بأسمائها وبشخصياتها وبمساطرها. الآن، ماذا نلاحظ؟ أولا: لابد من أن ننطلق من الجوهر ثم ننظر إلى الشكل، نلاحظ أن المغرب اختار مند فجر القرن العشرين إدخال القوانين بمفهومها الغربي إلى المغرب، القانون المدني، القانون التجاري، القانون الاجتماعي إلى غير ذلك. ولو كان الأمر في بدايته، أي إلى حدود الحصول على الاستقلال موجها بالأساس إلى الأجانب ولكنه كان قانونا مغربيا، قانون العقود والالتزامات، القانون التجاري، قوانين الشركات، حتى القانون الجنائي، ولو كان منصوصا فيها حرفيا على أنها تطبق على الفرنسيين والأجانب بالمغرب، فإنها كانت تصدر كظهائر شريفة مغربية تطبق في المغرب، بمعنى أنه إذا رحل هؤلاء الأجانب إلى بلدانهم فرنسا أو ألمانيا، لم يطبق عليهم ظهير قانون العقود والالتزامات أو القانون التجاري في المغرب، وإنما سيطبقون عليهم قوانينهم في بلدانهم..

يعني أن الأمر يتعلق بمسألة سيادية؟

تماما، أي مرة أخرى أن هذه القوانين، ولو كانت موجهة إلى الأجانب، فإنها كانت قوانين مغربية وتبين اختيار المغرب. صدور هذه القوانين لم يلغ العمل بالفقه الإسلامي أو الشريعة الإسلامية، لا بل بقي معمولا بذلك بظروف الوقت، في الشريعة لا أحد يكفر أحدا، الناس كلهم مسلمون وكلهم يعرفون الأركان الخمسة المفروضة وكلهم يسلّمون للقرآن والسّنة، المسائل كلها كانت محسومة.. الذي بقي هو المعاملات فقط، وبخصوص المعاملات خارج هذه القوانين الجديدة، ما هي الجهة التي كان يُرجع إليها؟ جهتان: القضاء والحسبة. وفي فترات الركود والتخلف، أضيفت السلطة المحلية؛ يعني القائد والباشا. أضيفت هاتان السلطتان في المعاملات التجارية والمعاملات الجنائية.

ألا ترون أن هذا الأمر يمكن تفسيره بطبيعة العقلية المقاصدية للعلماء المغاربة؟

طبعا؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، هذه من الأصول المقررة، لما تنعدم العلة أو تفتقد العلة لا يمكن تطبيق الحكم، ليس بمجرد أن الله تبارك وتعالى قال لنا في القرآن بصيغة الأمر: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله”؛ فإننا سنغمض أعيننا، وأينما ضبطنا حالة سرقة قمنا بقطع يد صاحبها..
فلابد من شروط، وهذه الشروط وضحها العلماء بكثير من التفصيل، بحيث إذا لم يتوافر أي من هذه الشروط أصبح تطبيق الحد حراما وأصبح ظلما. ولذلك فقد بقي المجال، خارج هذه القوانين، يرجع فيه للقضاء الشرعي والحسبة.. كما كان يتم اللجوء، في بعض المخالفات أو بعض المسائل الجنائية أو الجراحات كما يسميها الفقهاء، إلى السلطة المحلية من خلال القائد والباشا. وفي النزاعات ذات الطبيعة الاقتصادية بالمعنى الواسع كان يرجع إلى المحتسب الذي كان يتمتع بسلطة توقيع العقاب..

يعاقب حتى القاضي؟

 يعاقب أي شخص، هذه هي البدايات التي كانت عندنا، الآن قلت ننطلق من الجوهر. إذا أردنا أن ننطلق من الجوهر ينبغي أن ننطلق من القوانين الموضوعية، وفي هذا الإطار هناك نقاش، بحيث هناك من يدعي أن قانون العقود والالتزامات، على سبيل المثال، ليس قانونا إسلاميا. والواقع أنك إذا ما اكتفيت بقراءته قراءة شكلية من خلال تسميته، فإن لك أن تصدر مثل هذا الحكم، الأمر الذي يدل على غياب الاطلاع على مضمون هذا القانون وكيفية وضعه. وللعلم، فإن هذا القانون قد وضع أولا في تونس وليس في المغرب، واعتمد في بلدنا مع تغيير طفيف. وقد وضع من طرف مجموعة من خيرة علماء الزيتونة إلى جانب مجموعة من خيرة فقهاء فرنسا حينذاك.

ولما نقرأ، على الأقل، الطبعات الأصلية نجد تحت كل فصل من فصول هذا القانون مراجعه، وهذه المراجع نادرا أو قليلا ما يكون من بينها مدونات (جوستنيان)  في روما، وقانون (نابليون) في فرنسا، بينما في الأغلبية الساحقة من الأحيان، المراجع هي تحفة ابن عاصم، هي الخرشي، هي الزرقاني، هي ابن جُزَيّ، يعني مراجع فقهية إسلامية مائة بالمائة. غير أن ما يتم تجاهله في هذا المقام هو أن الإحالة إلى مدونة جوستنيان أو مدونة نابليون، لا يعني بالضرورة أننا بصدد حالة استيراد كما يزعم البعض؛ ذلك أن الفكر الإنساني مبني على حسن النية بمعنى الطيبوبة أو الفطرة، وهي عامة ومشتركة لدى الإنسانية جمعاء؛ الظلم مكروه في كل المجتمعات، وهو ما يفسر  توافق أو تطابق رأي فقهاء الإسلام، وفقهاء روما، وفقهاء فرنسا، في عدد كبير جدا من المسائل والنوازل..
وبالمقابل هناك من يعتبر أن القانون الجنائي لسنة 1962، قانونٌ إسلاميٌّ لمجرد أنه يعاقب على الإفطار في رمضان جهرا، ويعاقب الزنا، وما شابه ذلك، بينما هو في حقيقة الأمر لا يعد قانونا إسلاميا دينيا, ولا غربيا وضعيا وإنما هو قانون اجتماعي؛ هناك حالات أو وضعيات يتقزز منها المجتمع، يثور ضدها الضمير المجتمعي، كيفما كان اللون الذي يعطى لها دينيا أو فلسفيا أو غير ذلك.

تجرم؟

تجرم وتعاقب.. والميزة الكبيرة لهذا القانون تتمثل في أنه يجرم السرقة ويعاقب عليها فإنه ينظر إليها من خلال أركان لا تتطابق مع شروط الحد التي وضعها فقهاء الإسلام في السرقة؛ فحينما يعاقب على الفساد أو الزنا أو غير ذلك، فهو لا يشترط شروط الحد نفسها التي اتفق عليها فقهاء الإسلام. والمهم أن المجتمع المغربي كان ولا يزال يثور ضد هذه التصرفات المنافية للدين كالسرقة والزنا.. والآن يعاقب عليها بما يراه مناسبا. ولنسمّه تعزيراً؛ ذلك أن العقوبات في الإسلام على ثلاث: الحدود التي هي حق الله، يقررها الله تبارك وتعالى والرسول، صلى الله عليه وسلم، القصاص الذي يعد حقا للعباد، والتعزير الذي هو حق للحاكم.
لذلك لابد هنا  من إظهار الطبيعة ليس بالضرورة الإسلامية وإنما الطبيعة المتناغمة أو قل القريبة من أصول الفقه الإسلامي ومن أركان الفقه الإسلامي، ومن ضرورات ومصالح الفكر الإسلامي، هذه أول خطوة يتعين اتخاذها. وفي هذا الإطار يتعين أن يتمكن الباحث من الثقافتين؛ الإسلامية والغربية.. أن يهتم ويستوعب المفاهيم والمصطلحات والمراكز القانونية في الفقه الوضعي وقدماه راسختان في التراث الفقهي الإسلامي..

وهذا ليس بالأمر المستحيل، فبالإمكان أن نقف على نموذجين في الفقه الإسلامي المعاصر، وعلى محاولتين كبيرتين في هذا الاتجاه؛ السنهوري في مصر، ولو أنه لم يوجه دراسته وفكره بالضبط في هذا الاتجاه.. ومصطفى الزرقاء في سوريا، فيما يتعلق بالقانون المدني في كتابه: “الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد” ولو كانت المحاولة متواضعة بالمقارنة مع السنهوري، ولكنها كانت محاولة جادة ومثمرة وذات فائدة عظيمة. هذا التوجه يجب أن يبقى. وللأسف أن الحوار الذي كان يفترض أن يقوم بين مؤسسات الإشعاع الفكري، المتمثلة في الجامعات كجامعة القرويين، وجامعة  ابن يوسف وغيرها لم يتم كما كان منشودا..
لقد كان يتعين تأسيس لجان بحث أو مجموعات بحث علمية مشتركة تجمع بين أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق، وأستاذ الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي وأصول الدين، أو غيرها، يجلسون..

وينفتحوا على بعضهم؟

هذا العمل لم يتم وهو ضروري، كلبنة أولى وكمنطلق. بعد هذا يأتي الشكل، ليس فقط بالنسبة للقانون الخاص وإنما كذلك القانون العام، علما أن القانون العام يعد الآن أطغى بكثير من القانون الخاص؛ إذ أن كل ما يتعلق بالشأن العام، علاوة على نظم الحكم، الصحة العامة، النقل العمومي، البيئة، الماء، التعمير، كل هذه المجالات تعد حقولا جديدة وورشات حية يجتهد فيها المشرع وتجتهد فيها السلطة، وهي تحتاج، أولا وقبل كل شيء، إلى منظور علمي. وهذا المنظور العلمي لابد وأن يكون له شقان أو وجهان: وجه تقني علمي صرف يحدد، على سبيل المثال، ماهية التلوث، وبعد ذلك يجري التعبير عنه بالاصطلاح القانوني ليعاقب من يجب أن يعاقب ويكافأ من يجب أن يكافأ. هذا عمل أول، بعد هذا يأتي الشكل، يعني المؤسسات المحتضنة والمؤطرة، المؤسسات المواكبة المؤسسات المراقبة، المؤسسات الملاحظة الساهرة التي تبحث عن المستقبل، كيف سيكون الأمر بعد خمسين سنة أو بعد مائة سنة.

الاستشراف؟

نعم الاستشراف.. هذه هي الولايات. الآن توجد ولاية المظالم، التي تم تعويضها مؤخرا بالوسيط، ولو أنها بخلاف ما كانت عليه في الفقه الإسلامي، يجب ألا ننسى هذا. ولاية المظالم في الفقه الإسلامي كانت بمثابة قضاء، وهو قضاء يقترب جدا من القضاء الإداري الآن في بلدنا، لدرجة أننا يمكن أن نقول بأن القضاء الإداري العصري الموجود الآن في المغرب، يكاد يطابق مائة بالمائة ولاية المظالم في التراث الفقهي والقانوني الإسلامي؛ لأن القضاة فيه، كانوا يخضعون مباشرة لمراقبة وإشراف أمير المؤمنين أو الملك، هذا إن لم يكن أمير المؤمنين أو الملك نفسه يتولى المظالم؛ أي ينظر في المظالم، بمعية القضاة أو العلماء أو غير ذلك.. إلى آخره؛ بمعنى أنه يجلس شخصيا إلى الناس ويستمع إليهم ويبت في القضايا بمعية المستشارين والقضاة. ولكن، نظرا لتعدد المسؤوليات كان يكلف، في غالب الأحيان، من يثق به. وقد جرى العمل في المغرب أن يتم اختيار أهم الشخصيات علما وخلقا لشغل هذا المنصب؛ لأن والي المظالم يتعين عليه أن يتحلى بشخصية قوية وجرأة تفوق جرأة القضاة وتضاهي جرأة الحكام، لأن من مقتضى وظيفته أن يخضع لولايته القضائية القضاة والحكام أنفسهم. ولذلك فقد ظل والي المظالم على امتداد تاريخ المغرب يمتاز بغزارة علمه ودماثة خلقه وقوة شخصيته وشجاعة قوله للحق، أما الآن فإن والي المظالم (الوسيط)، أصبحت ولايته متناغمة مع المؤسسات والولايات الأخرى؛ فهي مكملة أو مجملة أو محسنة لولاية القضاء.. ولذلك فقد تحتاج إلى بعض المراجعة.. دون أن يعني ذلك بتاتا أن فيها ما يخالف المرجعية الدينية، كل ما هنالك أن اسمها عصري، وتكوينها عصري وإدارتها عصرية..

ومقاصدها؟

مقصدها وجوهر رسالتها هو العدل..

وماذا عن باقي الولايات؟

بقيت هناك ولايات كثيرة أخرى؛ فبالنسبة للحسبة بالإمكان القول في سياقنا المغربي الراهن أنها سوف توزع بين ولايتين، وهنا سوف يستغرب مما سأقول: الأولى: هي ولاية مجلس المنافسة (الذي يخضع بدوره إلى مراجعة قانونية الآن)، الذي تتمثل وظيفته في التسديد، والتصحيح، والتقويم، والتوجيه، والفصل بين الفاعلين الاقتصاديين، وهي بهذا تتقاطع، إلى حد كبير، مع ولاية المحتسب. ذلك أن مجلس المنافسة حينما يتبين له أن الفاعل الاقتصادي لم يحترم القواعد فإنه يحيل ملفه إلى القضاء الجنائي. الأمر الذي يعني أن شق العقاب موجود ولو بكيفية غير مباشرة..
وسوف تكتمل هذه الولاية بولاية أنتظرها وأتوقع إحداثها قريبا، وهي ولاية حماية المستهلك؛ ذلك الضعيف الذي كان يلجأ إلى المحتسب ليشكو صاحب الفران الذي أحرق له خبزه، أو يشكو الخياط الذي أفسد جلبابه، سيذهب عند مجلس حماية المستهلك.. إلى جانب هذه الولايات هناك ولايات أخرى متعددة يمكن أن تنبثق من عبقرية الفكر المغربي من خلال تأمل الواقع والوقوف على متطلبات وحاجيات الناس..

حديثكم عن القضاء يحيلنا إلى إشكالية الإصلاح، خاصة وأن المغرب قد استأنف عملية إصلاحات قانونية وسياسية واسعة. كيف تنظرون إلى إمكانية إصلاح المؤسسة القضائية كي تواكب المسيرة الإصلاحية الشاملة في بلدنا؟  خاصة ونحن نعلم المكانة المحورية التي يضطلع بها العدل في بنيان الدولة الحديثة، وكذا مكانته المعيارية في التراث العربي الإسلامي وهي المكانة التي يؤشر عليها القول بأن “العدل أساس الحكم”؟

خلال أزيد من عشر سنوات، ومنذ خروجي من المسؤولية رفضت الكلام في هذا الموضوع رغم أنني كتبت فيه، سواء ما نشر أو ما لم ينشر، بجرأة كبيرة، ولكن بعد ما أصبحت أطالب من الجهات المسؤولة بإبداء رأيي، أبديته، إصلاح القضاء شيء غير مستحيل، لكن لاشك أنه بمرور الوقت يزداد الأمر صعوبة وتعقيدا.. ثانيا: لا يمكن أن يتم إصلاح القضاء بين عشية وضحاها؛ فما أفسده الدهر خلال خمسين أو سبعين سنة لا يمكن تداركه خلال سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات؛ لأن عملية الإفساد أو التلويث بطبيعتها أسرع من عملية البناء. ثالثا: لابد لإصلاح القضاء من كلفة كبيرة جدا من الوجهتين المادية والمعنوية؛ فالقضاء الجيد يحتاج إلى كلفة اقتصادية ومالية باهظة؛ من أجور القضاة وباقي الأطر والموظفين المساعدين وكذا مختلف وسائل العمل.. وعلى غرار سائر البضائع والخدمات فإن الإنسان يكون مستعدا لدفع أعلى الأثمان إذا كان يؤمن بأن الخدمة أو الشيء المشترى نفيس وله قيمة عالية حقيقية. هل للمغرب إمكانيات وموارد لدفع هذا الثمن؟ يجب أن ننطلق من هذا، نفس الأمر ينطبق على التعليم، فهما معا إذا ما صلحا صلح حال البلاد، وأصبح المغرب في مصاف الدول المتقدمة. وكما هو معلوم، فإن إصلاح القضاء يندمج في جملة من المقومات والمبادئ، من قبيل استقلال القضاء.. هل القضاء في الإسلام كان غير مستقل؟ ألم يأمر القاضي شريح الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، بالجلوس إلى جانب خصمه اليهودي؟ هل شريح الذي كان خاضعا لعلي وهو أمير المؤمنين لم يكن مستقلا عنه في ممارسة القضاء؟ الأمثلة على هذه الاستقلالية كثيرة حتى في المغرب، بحيث كان استقلال القضاء، كمؤسسة فكرية وكوظيفة اجتماعية، قائما بغض النظر عن تراوح واقع هذه المؤسسة تاريخيا بين القوة والضعف.

لكن ما يعاب علينا حاليا أن قضاءنا لم يعد مستقلا، على الأقل، كما كان في الماضي. إن غياب هذا الاستقلال، يعود أول ما يعود إلى خضوعه لوصاية وزارة العدل وتداخل نظام أعوانه مع صلاحيات وزارة الداخلية. وقد قلت بأن هذا الانحراف قائم بالفعل، وهو خطأ ربما غير مقصود في المنظومة التشريعية المغربية؛ لأن الدستور ينص بصريح العبارة على أن القضاء مستقل اتجاه السلطتين التنفيذية والتشريعية. هذا صريح، وينظم هذه المسألة بتفصيل. ولكن نلاحظ، بالمقابل كيف أن كل الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ الاستقلال تشتمل على وزارة للعدل.. ووجه المفارقة هاهنا أننا من جهة نؤكد في الدستور على مبدأ استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، ومن جهة أخرى، ندرج القضاء تحت وصاية السلطة التنفيذية، وهو أمر غير مستساغ. وهذا أمر لا يقتصر على المغرب فحسب، وإنما على فرنسا كذلك.

ووجه الإشكال؛ هو أين يتعين وضع المؤسسة القضائية ضمن البنية المؤسسية للدولة؟ هل يتعين أن نضعه وحده؟ هذا ما لم يقبل به أو يستسغه الفكر السياسي والدستوري الغربي منذ مونتسكيو الذي يعد أب نظرية فصل السلطات، معتبرا بأن القضاء يمثل أضعف سلطات الدولة؛ لأنه معلق. لكن هل الدولة لا تقوم إلا على رجلين؟ لا بل إنها تقوم على ثلاثة أرجل، التشريع والحكم والقضاء.

ومن المكن أن تقوم على أربع؟

أنا لا أقول سوى برجلين، وحتى في نظرية مونتسكيو ستقوم فقط على رجلين، رِجل الحكم، الحكم تشمل الوجهين التشريعي والتنفيذي ولو حصل الفصل شكلا..

إجرائيا؟

نعم، بين من يكلف بالتشريع وبين من يكلف بالتنفيذ. أما العمود الثاني أو الرجل الثانية فهي القضاء، فالسلطة الدستورية الحقيقية الثانية إلى جانب سلطة الحكم، هي سلطة القضاء. لكن نظرا للعيوب والاختلالات التاريخية الطويلة جدا التي عرفها جهاز القضاء سواء في المغرب وغيره من الدول، كان من الصعب الاعتراف للقضاء بهذا النوع من الاستقلال، حتى في فرنسا، بحيث تعين عليهم أن يلحقوه بجهة ما، فما كان منهم إلا أن ربطوه بالسلطة التنفيذية، ونحن، سيرا على خطاهم، ربطناه بالسلطة التنفيذية. في حين أن لدينا منفذا فكريا فقهيا وفلسفيا جيدا.. من أروع ما أنتجه الفكر الإنساني في الثقافة السياسية والقانونية؛ يتعلق الأمر بإمارة المؤمنين التي تتمتع بأعلى مستوى للشرعية يسمح لها بالتصرف والتقرير باسم الأمة.
وفي هذا الإطار، يمكن أن نتصور البناء الشكلي للهيكل، ما دامت قمة الهرم موجودة ومنصوص عليها في الدستور متمثلة في الملك الذي يعد رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، بحيث يمكن أن نسميه ولاية القضاء وانتهى..

على غرار ولاية المظالم؟

ولاية القضاء فيها شق مكلف بممارسة مهمة القضاء، والفصل بين الناس، هم القضاة.. وشق إداري مكلف بتلبية مستلزمات وحاجيات القضاء..

هكذا أتصور، تصورا مبدئيا الجهاز ككل. بعد هذا، يأتي الإصلاح من القاعدة، لا أقصد القضاة، القضاة لابد من أن يشاركوا؛ إذ يستحيل استثناؤهم أو إقصاؤهم؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها، المقصود عندي بالأرضية شيئان: الشيء الأول هو الحاجة، حاجة الناس، حاجة المواطنين، كم من محكمة نحتاج إليها؟ ومع أن هذا الأمر يبدو أمرا سهلا، إلا أن العديد من العوامل السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، تتدخل فيه.. بحيث يجري التساؤل: لماذا توجد في هذه الجهة محكمة ولا ترفع فيها إلا ثلاث قضايا في السنة؟ أما الدار البيضاء ففيها ثلاثة ملايين قضية، ولا يوجد فيها العدد الكافي من المحاكم؟

ثم لابد من دراسة حالات النازلة لكي نعرف مكامن الخلل؛ بحيث حينما نسجل دعوى أمام المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء (أ)، فلابد وأن نتتبعها علميا، أولا من حيث الزمن، كم بقي الملف في مكتب كتابة الضبط؟ ومتى خرج منه وتم إيصاله إلى المعنيين؟ ومتى خرج ووصل إلى يدي رئاسة المحكمة؟ ومتى بتت المحكمة في توزيعه أو توجيهه؟ ونتتبع الملف منذ تسجيل القضية إلى حين صدور الحكم لنعرف الحيز الزمني؛ هل هو طبيعي أم فيه خلل؟ وبهذا ستنكشف النقط السوداء ومكامن الخلل وطبيعة المشاكل والمعضلات.. وبناء على كل ذلك يتم تشخيص الداء وتعيين الدواء. هذا هو الجانب القاعدي الأول الذي أشرت إليه.

أما الجانب القاعدي الثاني الذي يهم بدوره المتقاضين؛ فيتمثل في المسطرة المتبعة أمام القضاء؛ من قبيل مدى ضرورة توكيل المحامي من عدمه؟ وهل هناك آجالٌ لابد من احترامها بين وضع الشكاية الأولى أو المقال والتوصل بالجواب؟ إلى جانب التساؤل عن أجل الحكم، وأجل المداولات، ومسطرة المناقشة، والمرافعات، والتبادل، والتبليغ، وصولا إلى التنفيذ. هذا هو الجانب القاعدي الثاني؛ بحيث إذا لم نصلح هذين الجانبين اللذين يعيشهما الناس..

ويتحكمان في وثيرة العمل القضائي؟

في كل العمل القضائي، إن لم نصلحهما فلن نصل إلى شيء أبدا.. أبدا. حسب رأيي المتواضع فإنني أعتقد أن إمارة المؤمنين، كمؤسسة روحية وسياسية ودستورية أعلى، تعد أولى من يتعين إلحاق السلطة القضائية بها.. إذا كان لابد من إسناد السلطة القضائية إلى جهة معينة فينبغي أن تسند لمن هو أولى..
ثم بعد ذلك، يأتي ما هو وظيفي وإجرائي ملموس على صعيد المساطر والأجهزة.. ثم يأتي عدد القضاة، وتكوين القضاة، وكذا تكوين الأطر المساعدة للقضاة..

وماذا عن تخليق القضاء؟

تخليق العمل القضائي يتعين أن يكون ذاتيا وتلقائيا، حتى يتمتع الجسم القضائي بالمناعة الكافية ليصبح في غنى عن أي تدخل خارجي. وهذا يتطلب وقتا وإعدادا تربويا ومهنيا ومناخا معنويا متشبثا بالقيم السامية.

ويتطلب استشعارا وتمثلا لقيمة القضاء بالنسبة للفاعلين في هذا المجال..

الواقع أن الحديث عن تخليق القضاء لا يعبر إلا عن بعد قطاعي واحد لإشكالية كبرى تتعلق بسؤال الأخلاق ونظام القيم في عالمنا المعاصر؛ بحيث أمسى الحديث يجري في الغرب كما في الشرق، في الشمال كما في الجنوب؛ عن إشكالية العلاقة بين القانون والأخلاق؟ والسياسة والأخلاق؟ والاقتصاد والأخلاق؟ والطب والأخلاق؟ والعلم والأخلاق؟ والبيئة والأخلاق؟… كيف تنظرون كقانوني وأكاديمي ووزير عدل أسبق للعلاقة بين الأخلاق والقانون؟ ثم كيف يمكن أن نستثمر تراث الحضارة الإسلامية، والإسلام كمنظومة قيمية كونية تتميز برصيد أخلاقي غني جدا؟ وماذا يمكن أن نقدم للإنسانية في مواجهتها لهذه الأزمة القيمية شبه الشاملة؟
كانت للقيم دوما مكانة محورية في النظام الاجتماعي الإسلامي، وكانت لها مكانة متميزة في الفكر الإنساني ولدى الفلاسفة بوجه خاص؛ يتحدثون عنها مباشرة بهذه الصيغة Ethique-Ethics-Morale، عند الذين يستعملون اللاتينية، الأخلاق عند الفلاسفة العرب، من الشيخ ابن سينا إلى الفارابي، إلى ابن رشد، إلى الغزالي..

إلى ابن مسكويه؟

إلى ابن مسكويه، والغزالي أعطاها مكانة كبيرة جدا. لكن مرة أخرى، هناك نوع من الفتور بين الشعلة الروحية والفكرية الثقافية عند الإنسان وانغماسه في الماديات والمشاكل اليومية إلى آخره، جعله يؤمن بأسبقية القانون؛ أي قاعدة القانون وقاعدة السلوك؛ أي قاعدة التصرف..
الفرق بين القاعدة القانونية وبين القيمة هو أن القيمة منبثقة عن ضمير الإنسان، بينما القاعدة القانونية مفروضة على الإنسان، القيمة الأخلاقية لا “يعاقب” على مخالفتها إلا الضمير (من خلال ما جرى التعبير عنه بـ “وخز الضمير”)، بينما القاعدة القانونية يعاقب على مخالفتها القضاء، كما تعاقب عليها الإدارة. وما أن اقتنع الناس في العالم بأسره بأسبقية وأولوية القاعدة القانونية؛ لأنها أكثر نجاعة، وأكثر فعالية.. حتى تبين، في النصف الثاني من القرن العشرين، بأن القاعدة القانونية بدون قاعدة أخلاقية لا قيمة لها. لماذا؟ لأن الإنسان بطبعه يبحث دائما عن الحيل وعن الثغرات إمعانا منه في خرق القانون. ليجد القضاء نفسه، سواء في أمريكا أو في أوروبا أو عندنا في المغرب، أمام نوازل كاملة التطابق مع القواعد القانونية، غير أنها مفخخة تستبطن وتمرر، بشكل جلي، الكثير من مظاهر الظلم وخرق القانون؛ بحيث يتعذر علينا، من الوجهة الشكلية، أن نضع الأصبع على أي خلل قانوني واحد؛ فمن الناحية الشكلية الصورية نجد أن هناك احتراما واحتراما مطلقا للقانون، أما من حيث الجوهر فهناك كذب واختراق وظلم.
ولمواجهة هذا الوضع لم يجدوا إلا مخرجا واحدا يتمثل في الرجوع إلى الأخلاق.. الرجوع إلى القيم؛ بمعنى أن القاضي وهو يدرس ويكيف وقائع ومعطيات النازلة في ضوء النص القانوني، يؤكد في حكمه سلامة النازلة من الناحية القانونية الشكلية، غير أنه يتدارك كاشفا، من خلال العديد من القرائن، وجود تحايل على القانون ليقرر، تبعا لذلك، رد الدعوى. ومع أن عدد الأحكام التي نحت هذا المنحى قليل، إلا أنها موجودة، فقد حدث أن صدرت أحكام بهذه الصدد ببلدنا.

وحتى لا نجحف حق قضائنا، أكرر أنه قد حدث في إحدى محاكم الدار البيضاء البت في نازلة من أشهر النوازل الاقتصادية لم يَحُلْ الاحترام الشكلي للقانون فيها دون كشف القضاة أن من وراء هذا الاحترام يكمن تحايل، وبناء على ذلك ردوا الأمور إلى نصابها.

هذا النقاش كان حادا في نهاية القرن العشرين لوعي الغربيين، على الخصوص، بضرورة الرجوع إلى القيم وتحدثوا عن تخليق القانونla Moralisation du droit  فمع أن القانون يستمد أصوله من الأخلاق، إلا أن جهنمية الفكر الإنساني تمكن من التحايل عليه وإفراغه من محتواه الأخلاقي.. وقد نبهت بكل تواضع لهذا الأمر، وأبرزت كيف أنه بمجرد ما سمع عدد كبير من المعنيين بالتخليق والنقاش حول القيم، والرجوع إلى القيم، والعمل بالقيم.. إلى آخره، حتى بادروا إلى إصدار مدونة تلو الأخرى؛ مدونة أخلاقيات مهنة كذا، مدونة أخلاقيات مهنة كذا، بل أبعد من هذا، فقد ذهبت بعض المقاولات إلى وضع مدونات أخلاقيات العمل، لدرجة أن مقاولة لا يتعدى موظفوها مائتي موظف أو مائة وخمسين مستخدم تعد لهم مدونة. هذا شيء جميل من حيث المبدأ، ولكن الذي اتضح، فيما بعد، أن اعتماد مدونات أخلاقية أصبح يتم لاعتبارات تجارية وتسويقية marketing، حيث أصبح استعمال الأخلاق والأخلاقيات عنصرا من عناصر التنمية التجارية في المقاولة سعيا لرفع حجم المبيعات. وهذه هي مأساة جهنمية الفكر الإنساني..

ستقول لي ما العمل؟ رغم حساسياتي ضد الفلسفة المادية، إلا أني أحبذ ما عبر عنه كارل ماركس، بوجود سباق مستمر بين المجرم والقانون؛ القانون يضع حدا لجريمة معينة والمجرم يجتهد لتجاوز القانون، والقانون يسترجع زمام المبادرة ويجتهد.. وهكذا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، لابد وأن يستمر هذا النوع من التسابق مابين الحق والباطل سواء باسم القيم أو باسم القانون أو باسم الأخلاق أو بأي اسم آخر.

ألا ترون من موقعكم كأكاديمي، أن قطاع التعليم بوجه عام، والتعليم العالي في صلته العضوية بتكوين الأطر والبحث العلمي بوجه أخص، يعد على غرار قطاع العدالة من القطاعات التي لا يمكن تصور نهضة أي مجتمع وتقدمه دون أن تكون مهيكلة وفاعلة وناجعة من الوجهة العلمية والأخلاقية؟

الفساد قد يكون “مربحا” للفاسد أو المفسد في كل المجالات ماعدا التعليم؛ بمعنى أن من يرشو موظفا للحصول على إذن بإنشاء مشروع اقتصادي، فإنه “يجني ربح” المشروع الاقتصادي، من يرشو قاضيا للحصول على حكم، فإنه يجني ثمرة هذا الإرشاء بالاستفادة من ظلم الآخرين، يعني عنده فائدة مادية، من يرشو أستاذا لا يجني شيئا؛ لأن الأستاذ لا يعطيه شيئا؛ أقصد أنه لا يعطيه علما، ماذا يعطيه؟ يعطيه كذبا، يوقع على دبلوم أو شهادة. واليوم حيثما توجه حامل الشهادة، فإنه لا يسأل عن شهادته، بل يسأل عن معرفته وخبرته، يسأل عما يحسن ويتقن؛ بحيث قد يكون حاملا لركام من الشهادات وهو لا يفقه شيئا. هذه هي المأساة في نظامنا التعليمي..

والخطير في الأمر، أن هذا النوع من الفساد إذا ما استفحل فسوف يدمر المغرب، وهو الوضع الذي يتعين أن نعي ونستشعر جسامته، وندرك بأنه يجري بخطى كبيرة جدا ومتسارعة.. الاستثناء نعرفه ولا نجهله، هناك استثناء، لكن الآن يمكن أن نقول أن الاستثناء صار هو الأصل، والمبدأ يعني الصلاح أصبح هو الاستثناء، وهذا هو الغول!
سوف يحتاج المغرب إلى الأطباء والأساتذة والمهندسين والقضاة وكل الأطر،حينها ستحل الأزمة؛ وستكون القلة القليلة التي تشكل الاستثناء، عاجزة عن مواجهة الوضع، بل ستجد نفسها، في الغالب، واقعة فريسة سهلة للفساد؛ لأنه سوف يشعر بقوته، وإذا منحته الدولة مائة عرض عليه الفاسدون ثلاث آلاف وسوف يذهب حتما عند الفاسدين ويعرض عن الدولة، وهذه هي الطامة الكبرى..

كيف تفسرون نجاح التجربة الحضارية العربية الإسلامية فيما يتصل بتدبير الاختلاف بين مختلف مكونات الأمة، في خضم التفاعلات الاجتماعية التي كان يشهدها المجتمع الأهلي بكل طوائفه وبكل ملله ونحله؟

أعتقد أن تفسير ذلك ليس بالأمر العسير؛ مادامت أنظمة الحكم في العالم الإسلامي كانت تعتمد، في عمومها وفي عصر ازدهارها، هامشا كبيرا من حرية الرأي والتعبير. وهو ما جعل تدبير الاختلاف أمرا سهلا جدا. وبالمقابل فقد كان يلاحظ كيف أن تدخل السلطة لمساندة موقف أو رأي من الآراء كان غالبا ما يفضي إلى فتن كبرى.. في حين أن ازدهار الفكر الإسلامي يرجع أول ما يرجع إلى الاتساع النسبي لهامش الحرية التي تصل إلى مستوى النقد والازدراء والسخرية “العقلانية” من الإسلام نفسه، من لدن أعداء الإسلام.

وقد سخر الله لهذه الأمة علماء أحراراً، بصرف النظر على ما قد يعاب عليهم؛ إذ لولاهم لما وصل الفكر الإسلامي إلى ما وصل إليه. لماذا؟ لأنهم كانوا يتمتعون بحرية كبيرة جدا، عندما يأتي شخص ما ويوجه طعنا علميا أو اعتراضا جذريا وجيها ضد الإسلام.. ضد ركن من أركانه.. أو ثابت من ثوابته، كانوا يجلسون معه، ويشرعون في تسجيل طرحه بكل أمانة ويبدؤون في تحليله حرفا حرفا حتى ينتقدوه علميا بشكل صارم.

فمع أن المجتمع الإسلامي كان يعج كما قلتم بالملل والنحل؛ القدرية والجبرية والمرجئة… إلى آخره، فقد كان الأمير منفتحا ومتسامحا، بل وكان يجد متعة وفائدة في ما نسميه الآن بالدروس الحسنية؛ كان يجمعهم ويقيم لهم المناظرات، كان يستمتع بذلك؛ يحضر قمة من هنا وقمة من هناك، ويطرح عليهما موضوعا شائكا ثم يجلس متابعا مع أصحابه. مادام الأمر على هذا الحال، والفكر يزدهر، فهذا هو التدبير، والبقاء للأصلح. بطبيعة الحال، الذي وصل إلى حد الإلحاد أو الكفر أو الزندقة يعاقب، هذا شيء آخر، ولكن لا يعاقب على فكره.

إلا إذا جاهر به وحرض عليه خارقا إجماع الأمة؟

نعم، خاصة إذا توافر الإجماع على أنه يخالف الإسلام ويعاديه.. من الذي أثار الفتنة؟ إنه المأمون، الذي يعد قمة الحكم في الإسلام من ناحية الفكر، حينما تدخل في الخلاف، وقال بخلق القرآن فاندلعت الفتنة. منذ تلك اللحظة جل  الذين جاءوا من بعده نصبوا أنفسهم خصما وحكما.. حرية التعبير ليست للرئيس، بل يتعين على الرئيس أن يمنحها لي أنا لأقول ما أريد..

وهو يستفيد منها؟

نعم هو يستفيد منها، وإذا رأى أني خرجت على الحدود..

هناك ضوابط؟

نعم.. هذا، بكل بساطة، هو المشكل؛ مادام الأمراء محايدين وحكام (جمع حَكَم) تاركين المجال لحرية الرأي والتعبير. ليست هناك دولة في العالم عرفت ما عرفته بغداد من تجاور وتعايش مع الزنادقة والشعوبيين..

لذلك كانت أكثر ليبرالية من جل الأنظمة العربية الراهنة؟

نعم، حتى مقارنة بالغرب؛ فحتى السكارى والمتسكعون كانوا يتمتعون بالحماية.. لولا ذلك ما وجد شخص يسمى أبا نواس وأبا العتاهية.. وهل تلك الخلاعة الموجودة في ألف ليلة وليلة غريبة؟ ألم يكن في المجتمع شيء من ذلك؟
الكل يرجع إلى الحرية، أول ما كانت له العبقرية في احترام حرية الرأي وحرية التعبير هو معاوية ابن أبي سفيان؛ هناك مقولتان تنسبان إليه، قد أشرت للأولى وسوف أورد الثانية، الأولى: “حيث ينفعني لساني لا أستعمل سوطي، وحيث يكفيني سوطي لا أستعمل سيفي”. وبصدد الثانية: يجب أن لا ننسى أن أهل المدينة رفضوا أن يبايعوه..
فبعد وفاة الحسن رفضوا بيعته، فأرسل إليهم رسولا.. ولم يتجاوز أن هددهم، وأعطى تعليماته لمبعوثه إليهم أنه إذا اقتصر اعتراضهم واحتجاجهم على اللسان فلا بأس في ذلك ولا مجال لمعاقبتهم وتعنيفهم..

ما لم يسلوا سيوفهم؟

نعم، تماما.. معنى هذا؛ أنك إذا لم تقم بعصيان مدني أو تمرد عسكري،  فأنت حر حتى ولو كنت ضد النظام.. أما إذا تحول اعتراضك إلى تمرد وتحريض وشغب وفتنة.. ستصبح حينها ممنوعا.. علما أن هذا السلوك مجرم ومعاقب عليه في كل قوانين الدنيا الوضعية بما في ذلك تشريعات الدول المتقدمة.. الأكثر تمسكا بالديمقراطية والحرية.
أينما ذهبت، المسلمون كانوا هكذا، حينما كانت عندهم حرية الرأي وحرية التعبير محترمة ازدهروا، وحينما أغفلوها وبدءوا يحسبون كل كلمة عليهم، وأصبحوا خصما وحكما تأخروا. هذا في السياسة، أما ابن خلدون فقد برهن عليها في الاقتصاد كذلك؛ بحيث إذا تدخل أهل السلطة والمسؤولون في الاقتصاد وأصبحوا يزاحمون الناس في التجارة والصناعة، فإنهم بصنيعهم ذلك يعملون على تخريب بلدانهم والإجهاز على حكمهم؛ إذ من يقدر على منافستهم في السوق دون الخوف من نفوذهم أو الطمع في بذلهم؟

د. محمد الإدريس العلمي المشيشي

ـ من فقهاء القانون المغاربة المبرزين، وخبير دولي متمرس، صدرت له العديد من الدراسات القانونية، وشغل العديد من المناصب العلمية والإدارية.

ـ حصل على دكتوراه الدولة في الحقوق من جامعة باريس بانطيون سوربون سنة 1971.

ـ عمل أستاذا للتعليم العالي منذ سنة 1969 في مواد القانون الجنائي، والمسطرة الجنائية، والقانون التجاري، وقانون الإعلام، والفقه الإسلامي، حيث درس وحاضر في العديد من الكليات والمعاهد بالمغرب وإفريقيا والعالم العربي، وأوروبا.

ـ شارك في تأسيس شعبة قانون الأعمال بالمعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات، وشعبة القانون الخاص بكلية الحقوق بالرباط، وفرع شبكة الجامعات الناطقة بالفرنسية الخاص بحقوق الإنسان. كما سبق له أن ترأس شعبة قانون الأعمال بالمعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات، وشعبة القانون الخاص بكلية الحقوق بالرباط. ويرأس حاليا مركز دراسات الدكتوراه بكلية الحقوق بالرباط آكدال.

شغل العديد من المناصب والمهام الإدارية منها:

ـ وزير للعدل.

ـ مستشار مساعد وزير الدولة في الإعلام.

ـ ومدير المعهد العالي للصحافة.

ـ عضو بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

ـ عمل خبيرا مستشارا مع مجموعة من المنظمات الدولية خاصة منها البنك الدولي واليونسكو وأليكسو.

ـ يرأس حاليا الهيئة المستقلة لأخلاقيات الصحافة.

ـ ترأس وشارك في عدة لجن وطنية لإعداد مشروع مدونة القانون التجاري سنة 1989، ومشروع مدونة التأمين سنة 2000، ومشروع قانون الاتصال السمعي البصري سنة 2002، ومشروع الظهير المنشئ للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري سنة 2002 وقانون التواصل.

صدر له باللغة الفرنسية:

ـ محاضرات في القانون التجاري، محاضرات في القانون الجنائي، القانون الجنائي العام، العقارات والقانون التجاري، المسطرة الجنائية، المنافسة حقوق والتزامات المقاولات بالمغرب، القانون التجاري الأساسي بالمغرب، وأخيرا قانون الأدوات التجارية.

وباللغة العربية:

ـ مؤسسات القضاء الجنائي، القانون المبني للمجهول، فلسفة الإعلام.

ـ كما نشرت له العديد من الدراسات المنشورة بكتب جماعية، وبمجلات متخصصة مغربية وأجنبية..

ـ حصل على وسام العرش من درجة قائد.

ـ  يحمل عدة شهادات تقدير من شخصيات ومؤسسات مغربية وأجنبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق