وحدة الإحياءحوارات

الأمة في حاجة إلى تفسير يعيد صياغتها من جديد!

في حوار مع الدكتور عبد العزيز برغوث

يرى د. عبد العزيز برغوث، (الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا)، أن العقل المسلم المعاصر عاجز على إنتاج تفاسير تغطي حاجات ومتطلبات الإنسان والاجتماع البشري الجديد.. كما أشار إلى أن المشكلة لا تكمن في إنتاج تفسير جديد، ولكن في نوعية التفسير المطلوب في لحظة المشكلات العالمية. وهذا لا يتم، في نظره، إلا بإعادة النظر في مناهج التفسير القائمة، وبالتطبيق الفعال لمناهج التفسير القديمة والمفيدة بما يحافظ على أصالتها الإسلامية، ويجدد في أدائها لكي تستفيد من المناهج المعاصرة في دراسة النصوص والتأويل والسياق دون أن يؤدي ذلك إلى التصادم مع أبجديات الوعي الإسلامي وأساسيات الرؤية الكونية الإسلامية.

ـ هل يمكن القول بأن ضعف نتاجات المسلمين المعاصرين في مجال التفسير من مؤشرات التراجع في مجال التأمل في الكتاب العزيز؟

الحركة التفسيرية بمفهومها المنهجي العلمي التي عادة ما تنتهي بإنتاج تفاسير معينة لم تتوقف في تاريخ الأمة منذ أيام ما كان يُعرف بالتفسير بالرواية والتفسير بالدراية أو الرأي أو الجمع بينهما أو البحث في ما كان يُعرف منهجيا بعلم التناسب، وهو نوع من المنهج المتكامل في النظر إلى النص القرآني في وحدته الكلية المتناسقة، ومرورا بذلك الكم الهائل من التفاسير التي تعكس لنا قدرة العقل المسلم على التعاطي مع النص القرآني وفق مناهج تفسيرية وتأويلية لها قواعدها وضوابطها ومناهجها وأدواتها سواء على مستوى ما عُرف بالتفسير الجزئي أو التفسير الموضوعي، وتعريجا على مناهج التفسير البياني والبلاغي والعلمي والاجتماعي… وغيرها كثير، وانتهاء بالمحاولات الحديثة منذ أيام “تفسير المنار”، وما قبله، و”تفسير المراغي”، و”تفهيم القرآن” لأبي الأعلى المودودي، و”تفسير ابن باديس”، وتفسير “في ظلال القرآن” لسيد قطب، وتفسير “التحرير” والتنوير للطاهر ابن عاشور، و”التفسير الحديث” لمحمد عزة دروزة، و”صفوة التفاسير” لمحمد علي الصابوني، و”التفسير الواضح” لمحمد محمود حجازي… وغيرها من التفاسير في مختلف أصقاع العالم الإسلامي حتى إلى الفترة المتأخرة من القرن الماضي. فلا شك أن الحركة التفسيرية لم تتوقف بالمعنى العملي، ولكن قد تخفت هنا وتظهر في مكان آخر، ولكن هناك نوع من التناقص في الأعمال التفسيرية النوعية التي تستجيب لمعطيات الواقع وحال الزمان وأهله (على حد تعبير الإمام الشاطبي في موافقاته).

ـ لكن ما ذكرته من تفاسير قليل، كما ونوعا، وذلك بالنظر إلى الإشكالات الكثيرة التي تواجه العقل الإسلامي المعاصر.

ليست المسألة مسألة وفرة أو قلة التفاسير، إنما المشكلة الأساسية تكمن في تأخر ظهور التفاسير التي تستطيع فعلا تنزيل القرآن الكريم على واقع الناس وتفعيل معانيه ودلالته في قضايا العمران والحضارة والسياسة والاقتصاد والإدارة والتربية والفن والأدب والقيم والأخلاق والسلوك… فالقضية ليست في إضافة تفسير جديد إلى التفاسير الكثيرة والمفيدة والتي تعالج قسما مهما من حياة المسلمين العادية اليوم، ولكن أصل المشكلة يكمن في عجز العقل المسلم المعاصر على إنتاج تفاسير تغطي حاجات ومتطلبات الإنسان والاجتماع البشري الجديد، إلا في النادر، تلك الحاجات التي يفرضها منطق العيش تحت ظل إملاءات العولمة وعصر مجتمعات المعرفة والتقنية، ومجتمعات العالمية والعلمية، ومجتمعات السرعة والإتقان والفعالية، ومجتمعات المخاطر والأمراض ذات التأثيرات العالمية الفتاكة، ومجتمعات التصادم الخلاق، ومجتمعات الأزمات البيئية والأخلاقية ذات التأثير العالمي، ومجتمعات التحرر من القيم وعدم الشعور بضرورتها، ومجتمعات اللذة والمتعة الجسدية والمادية، ومجتمعات الآفاق الفضائية الجديدة…

ـ لكن ما المطلوب من علماء المسلمين؛ خاصة المتخصصين في الدرس القرآني، حتى يكون تعاملهم مع القرآن تعاملا فيه قدر كبير من الفعالية؟

المطلوب أولا من علماء التفسير المسلمين في الوقت الحالي ليس هو إنتاج تفاسير على غرار الموجود معنا، وهي غنية وثرية وتؤدي دورها إلى حد كبير في تحقيق بعض أهداف حماية الأمة اليوم، كما أعتقد جازما أن تفاسيرا جديدة ستظهر في حينها؛ (لأن عملية التفاسير تأخذ وقتا وتحتاج إلى صبر)، إن المطلوب منهم هو إعادة النظر في مناهج التفسير القائمة بما يصلح لتطوير مناهج أصيلة، ولكنها تكون متفاعلة مع لحظتنا التاريخية الحضارية العالمية الفاصلة في تاريخ الإنسان كله؛ أعني لحظة الانتقال من العيش في عصر الحضارة إلى عصر الحضارة العالمية…

ـ ما الذي تقصده بالضبط بهذا الانتقال؟

أقصد تفاعل الحضارات كلها في اللحظة ذاتها وبشكل متسارع ومتكاثف، وهو انتقال عسير حتما، وسيغير الكثير من تصوراتنا، ومفاهيمنا القديمة حول العالم والاجتماع الإنساني والمستقبل الحضاري للبشرية. والذي لا شك فيه أننا سنتغير سواء بمحض إرادتنا أو تخطيطنا، وهو الأولى، أو بمحض إرادة تفاعلات أحداث الواقع العالمي الجديد وقوانينه الصارمة التي نشاهد أثارها في كل مكان، وعلى وجه كل ثقافة تعاصر عصر العولمة والعالمية وهما يٌفككان وعي العالم القديم، ويعيدان تركيبه خلقا جديدا وفق رؤى كونية وحضارية كثيرا ما تكون مغايرة تماما لنسق الوعي الإسلامي، ومقولاته المعرفية والثقافية والحضارية. فهل يكون للمسلمين دور في الخلق الجديد أم يصبحون، كالمعتاد ومنذ عصر الانحطاط، أداة من أدواته تديره قوى الوعي العالمي ذات الخبرة بقوانين التحول العالمي، وتُنظر له مراكز الوعي والخبرة ومخابر الفكر العالمي؟

ـ إذن المسألة، في رأيك، تتعلق بمدى قدرة العقل المسلم الحالي على إنتاج تفاسير للقرآن ترقى إلى لحظة استيعاب قوانين التحول العالمي الحالي ومساراته.

طبعا. القضية ليست في إنتاج تفسير جديد، ولكن في نوعية التفسير المطلوب في لحظة المشكلات العالمية هذه، وفي لحظة تفاعل الأمة مع العالم وأحداثه، وفي نقطة الانتقال بالإنسانية ووعيها إلى عالم العالمية بكل مشكلاتها وتدافعتها وسُننها وآلياتها وأثارها السلبية المدمرة، وفرصها الإيجابية الرائعة لمن يفهمها ويستوعب قوانينها وآلياتها. إن الأمة في أمس الحاجة اليوم إلى تفسير يعيد صياغتها من جديد، ويعيد ضبط موازين الأصالة والفعالية فيها، ويخرجها من التفكك الذاتي، ويحرر طاقتها الكامنة من آسر الجمود والتخلف والتآكل والتصادم، ويجدد فيها روح الرسالية الاستخلافية، وينتقل بالعقل المسلم من الجزئية والتبعيضية إلى الكلية والتكاملية. فالتفسير المطلوب هو ذلك التفسير الذي يتمكن من فصل الأمة عن واقع التخلف ويلحقها بآفاق التنمية الحضارية ذات العمق الاستخلافي، والأصالة الإسلامية الصافية، والذي يستطيع أن يساعد الإنسان المعاصر وخاصة في الغرب الجديد وفي أوروبا من أن يفهم طبائع العيش في أرض، وفي كون متداخل مترابط متفاعل يتحول رويدا رويدا إلى سفينة واحدة تقل البشر جميعا بشكل متقارب وحساس للغاية.

ـ يفهم ضمنا من كلامك أن الجهود التفسيرية المعاصرة لم ترق بعدُ إلى مستوى التفاعل مع اللحظة الراهنة. في رأيك أين يكمن الخلل؟

أولا؛ الضعف الواضح في المناهج المعرفية التي نتعاطى بها مع القرآن، وعدم قدرة الكثيرين على تجاوز سقف الموروث ومدارسه في بعض الجوانب التي لم تعد تستجيب لمتطلبات العصر والمرحلة من جهة، وضعف القدرة على التطبيق الفعال لمناهج التفسير القديمة والمفيدة بما يحافظ على أصالتها الإسلامية، ويجدد في أدائها لكي تستفيد من المناهج المعاصرة في دراسة النصوص والتأويل والسياق دون أن يؤدي ذلك إلى التصادم مع أبجديات الوعي الإسلامي وأساسيات الرؤية الكونية الإسلامية؛ كما هو الحال عند الكثيرين من أصحاب القراءات المعاصرة للقرآن والذين يؤسسون قراءاتهم في الغالب على طروحات مفكرين لا صلة لهم بالواقع الإسلامي ويفكرون في نسق مغاير من أمثال: ميشيل فوكو ودريدا وشترواس وهايدغر وريكور وغيرهم كثير.
ثانيا؛ الظروف والأوضاع التي حُصر فيها الكثير من المسلمين الذين يخوضون الصراع من أجل حماية المشروع الإسلامي…
ثالثا؛ استمرار موجات تبديد واستنزاف الطاقة الإسلامية في معارك الكثير منها في غير صالح مشروعها الحضاري، بل على العكس تحريف لها عن مساراتها، وزج بها، سواء بقصد أو بدون قصد، في أتون صراعات جزئية ومواجهات، في كثير من الأحيان، لا تخدم أهدافها.
رابعا؛ طبيعة النفسية والثقافة التي كانت سائدة -ومازالت عند البعض-  وهي نفسية وثقافة رد الفعل، والانعزال أو المواجهة الفوضوية، ومحاولة عدم السماح بالمساس بتراث الأمة بحجة عدم الأهلية للاجتهاد، وأن التراث غني وفيه الإجابات المطلوبة على أسئلة العصر، والرؤية الجزئية لمسائل الصراع، وفرض الأولويات دون وعي…
خامسا؛ غياب المخابر الموجهة ذات التأسيس العلمي الصحيح والمشاريع الاستراتيجية والخطط المبرمجة لإنتاج الفكر أو التفسير على مراحل…
سادسا؛ غياب أجواء الحرية الفكرية والإبداع في بعض الأماكن له كذلك دوره في هذا الضعف…

ـ ألا يمكن اعتبار هذه القراءات المعاصرة نوعا من التفسير الذي ينشد التفاعل مع اللحظة العالمية الراهنة؟

هذه القراءات غالبا ما تقع في إسقاطات مذهلة، وإشكالات منهجية ومعرفية وثقافية خطيرة عندما ينظر بعض الباحثين إلى واقع الإنسان أو الثقافة أو الحكم أو الأسرة أو المرأة في بلاد المسلمين الأخرى بنظرتهم المتأثرة بالمناهج الغربية وبروح الثقافة التي يعيشون فيها بقيمها ومفاهيمها للحرية، والديمقراطية، ودور الدين في الحياة، وحقيقة الإسلام ووضعه في حياة المسلم العربي ومعادلته الحضارية والتراثية والثقافية. وبطبيعة الحال سيكون مآل هذه القراءة وثمرتها ما قال به سلمان رشدي أو إرشاد منجي من أن الخلل في الإسلام، وهذا فيه (في رأيي) جهل بالإسلام، وينم عن خلل في المناهج الموظفة في دراسته.

ـ لكن ما ذكرته لا يمنعنا من القول بأن هذه القراءات تسترشد بمنهج معين ولها سمات محددة وجد دقيقة. ما رأيك؟

هذا صحيح.

ـ إذن ما هي في رأيك، وبشكل مركز، أبرز سمات هذه القراءات؟

من سمات هذه القراءات الأساسية تجزيء الوحدة التكاملية للنص القرآني، واختزاله إلى قضايا جزئية وقتية، وتثويره من أجل تفكيكه، وليس تأويله أو ترتيله منهجيا، وبعبارة أخرى هناك خلل في النسق المعرفي الذي يتعاطى من خلاله بعض هؤلاء مع النص القرآني، ومن ثم توظيف أدوات التفكيك، والتاريخانية، والسياق، والحفر الألسني، والرمزية، والأسطرة، ومناهج دراسة تطور المفردات والمفاهيم، ومعطيات بعض العلوم الإنسانية والاجتماعية وأدواتها الحالية… في دراسة النص القرآني مجزءا مقطوعا مبيئا معزولا تماما عن خصائصه المعرفية والمنهجية، وطبائعه التي تجمع بين الغيب والشهادة، وبين الكلي والجزئي وبين أسباب النزول ومطلقات النصوص، وتفرق بين ما هو مطلق وبين ما هو تاريخي ليس على طريقة محمد أركون الذي يقول أنه ينبغي لنا “أن نعيد القرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيئية والعرقية، اللغوية والاجتماعية والسياسية، الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي”. ولكن على طريقة تراعي هذا المعطى ولكن تتجاوزه لاستحلاب الامتدادات والآفاق الدلالية للقرآن الكريم على مستوى الغيب والتاريخ والمستقبل والحضارة، وفهم طبائع العمران الإنساني في مراحله العالمية والكونية المقبلة، إن مقولات أركون تنتهي بنا إلى قراءة القرآن كنص بشري أو كنص إلهي تتحكم فيه الجغرافيا والتاريخ والثقافة، وبالتالي يفقد إطلاقه، وبيانيته، وإعجازيته، وقصديته، وفعاليته الحضارية والاستخلافية، ويتحول إلى نص محنط في مقولات تاريخانية ممجوجة…

ـ هل هناك سمات أخرى تتميز بها هذه القراءات؟

من بين هذه السمات كذلك: التحكم في النص القرآني ومحاكمته وتأويله وفق مناهج وأدوات تحليلية ومنهجية وألسنية غربية أو لنقل مغايرة للنسق الثقافي العربي الإسلامي، ولروح تراثه وقيمه العليا، وقد تكون فعالة ومنتجة في بيئتها أو في الأنساق التي تولدت من أجلها، وقد تكون ذات فائدة لو تمكنا من توظيفها بطريقة سليمة مراعين خصائص النص القرآني، وخصائص العقلية الإسلامية التي تتعاطى معه، وظروفها عبر تاريخها الطويل إلى اليوم.

ـ ألا ترى أن الأحكام المسبقة على مثل هذه الجهود الفكرية تحول دون فهمها فهما صحيحا واستيعابها قصد تجاوزها؟ وما هو في رأيك أنجع السبل للتعاطي مع هذه القراءات التي بدأت تتناسل يوما بعد يوم؟

في تصوري ينبغي أن نفهم وبشكل عميق الوضع الحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمعرفي والعقلي الراهن للمسلمين عموما، وللنخب الفكرية خصوصا، ولعلماء التفسير بصورة أخص، وللباحثين المشتغلين بالقراءات المعاصرة بشكل أكثر خصوصية، ونبحث في صلتها بالقرآن الكريم بوصفه “المرجعية العليا”؛ أعني البحث المنهجي في الشرائط المعرفية والنفسية لتعاطينا مع هذا النص الموحى والمطلق في إطار تجاربنا البشرية النسبية والمحددة زمانا ومكانا وتاريخا وثقافة ووعيا، وفي سياق تجاربنا الفردية والجماعية مع الواقع ومع القرآن. ذلك لأن التعاطي مع القرآن محكوم في الغالب بالتجربة والخبرة والرؤية الخاصة والوعي المتشكل لدى المفسر أو القارئ كفرد أولا، وبالواقع والظروف التي تحيط به ثانيا، وبالأوضاع والحوادث التي يعاصرها ثالثا، وبالأدوات والمناهج والمعطيات المتوفرة لديه في لحظة التعاطي أو التفسير أو القراءة للقرآن رابعا…

ـ مما يعاب على بعض الذين يتخذون موقفا نقديا أو نقضيا من القراءات الجديدة أو المتجددة للقرآن الكريم نزوعهم إلى الحكم على القراءة من خلال الشخص “صاحب القراءة” وتوجهه الفكري والمعرفي، ثم الحكم عليه بعدم أحقيته بتصدر مثل هذه الأعمال… في الوقت الذي كان من المفروض تحليل بنية ونسق هذه القراءة… ما تقييمك لهذه المسألة؟

عملية التعاطي سواء تفسيرا أو قراءة أو تأويلا مع القرآن عملية مركبة بطبيعتها، مما يستدعي منا التعامل مع أصحابها ليس فقط من خلال اجتهاد أو موقف أو رأي في آية أو سورة أو حكم أو نص قرآني معين. وفي الغالب هذه الآراء والمواقف والتوجهات تتحكم فيها عوامل كثيرة… ومن هنا أريد أن أؤكد منذ البداية أن محاولات تفسير القرآن أو تقديم قراءات معاصرة له ليس هو المشكلة في حد ذاتها، بل قد تكون أمرا ضروريا ومطلوبا لتفعيل وعي الأمة بالقرآن وعليه، ولكن الإشكالات التي ينبغي تحريرها هي: هل هذا التفسير أو هذه القراءات المعاصرة للقرآن تنسجم مع طبيعته المطلقة وخصائصه المعرفية، ومع منهجيته، ومع نظامه اللغوي الدلالي أم لا؟ وهل هذه القراءات توفر شروط هذه العملية المركبة؟ وهل هذه القراءات تحدد أهدافها بطريقة منهجية ومنطقية وموضوعية واضحة؟ وهل هذه القراءات تستوعب مبادئ مناهج النظر في القرآن التي أسهب فيها العلماء القدماء ومازالت ذات فائدة؟ وهل القراءات المعاصرة للقرآن واعية بخصائص الزمان والمكان وبالتغيرات النوعية التي أخذت حيزها في طبيعة المجتمع الإنساني المعاصر وبنيته ووظائفه وتركيبه ذي الأبعاد العالمية؟ وهل هذه القراءات المعاصرة تريد أن تُثور النص القرآني لحل مشكلات المسلم أولا والعالم ثانيا، أم أنها من أجل فتح جبهات جديد متجددة لاستنزاف الطاقة الإسلامية، وتبديد القدرات الفكرية في معارك لا صلة لها بالأهداف الصحيحة للقراءة؟

ومن هنا فقبل تفسير ظاهرة “القراءات المعاصرة للقرآن” ينبغي لنا القيام بدراسات منهجية لتفسير بنية العقليتين التفسيريتين المبكرة والمعاصرة حتى نفهم أسباب القوة والحيوية والضعف والقصور في كليهما، إذ المطلوب الملح هو أن نفهم طبيعة العقلية التفسيرية وخصائص العقل والوعي الذي تنطلق منه لتفهم القرآن واستيعاب مقاصده وأدواته في الإعجاز والبيان والبلاغ والتغيير للإنسان والمجتمع باتجاه تشكيل ما أسميه “العقل الاستخلافي” الذي ينتج النسق الاستخلافي الذي يحتاجه المسلم لبناء المعرفة الاستخلافية والشخصية الاستخلافية والوعي الاستخلافي والثقافة الاستخلافية والاجتماع الاستخلافي والنظام السياسي والعمراني الاستخلافي.

ـ بعيدا عن الأسباب الثقافية والمعرفية التي تقف وراء بروز ما يسمى بالقراءات المعاصرة للقرآن الكريم… هل هناك أسباب أخرى ساهمت في ولادة هذا النوع من القراءات؟

ظاهرة القراءات المعاصرة للقرآن وبالشكل الذي نلاحظه اليوم تظهر وكأنها رد فعل عنيف على الأوضاع والظروف والشروط القائمة في الكثير من المجتمعات العربية الإسلامية القائمة ومن هذه الأوضاع:
أولا؛ طبيعة تكوين بعض هذه النخبة وصلتها بالمناهج الألسنية والتأويلية الغربية المعاصرة.
ثانيا؛ الفراغ الذي تركه غياب التفاسير الإسلامية التي تستطيع فعلا تقديم الأجوبة لقضايا العصر الحاسمة.
ثالثا؛ ضعف العلاقات والصلات وغياب الحوار المتواصل بين النخبة الإسلامية القادرة على الإقناع وهذه النخب التي تثقفت ثقافة غربية أو تأثرت بمناهج التحليل الغربية المعاصرة.
رابعا؛ موقف هذه النخب من الإسلاميين ومشاريعهم على أنها مشاريع تخلف ورجعية وماضوية وتلفيقية وبعيدة عن الواقع وجامدة ومتزمتة، وتسلب الإنسان حريته، وتحكم الماضي على الحاضر وغير مستوعبة لتحولات العالم المعاصر، وعليه فلابد من التجديد في الفقه والتفسير والأصول وهدمها، بحكم أن الإسلاميين بوضعهم الحالي لن يبدعوا شيئا في هذا المجال.
خامسا؛ موقف الكثير من الإسلاميين بمختلف توجهاتهم ورؤاهم من هذه النخبة واعتبار الكثير منها نخبا متغربة وموجهة، وتخدم مشاريع لا تمت بالصلة لوضع الأمة وحالها، وأنها متنفذة وتستخدم علاقاتها في تحطيم المشروع الإسلامي، وتستقوي بالخارج والداخل على الإسلاميين، وتريد أن تفسد حال الأمة، وتخرب قيمها باسم الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان، وتقادم الشريعة وعدم صلاحيتها لهذا العصر، وارتباط نصوص القرآن بواقعها وأسباب النزول (تاريخانية النص)، وأن الإسلاميين يسعون إلى الحكم والسلطة من أجل قهر الحريات، وربط أعمال الإسلاميين، بالتعميم، بالإرهاب وغيرها من الآراء..
هذا الوضع أنتج ما أسماه الأستاذ الطيب برغوث ظاهرة “التلاوم والاعتذار”، فكل طرف يلوم الآخر ويعتذر لنفسه دون إيجاد مداخل للتعارف أكثر، وللتحاور أكثر ولتمييز المواقف على أسس علمية.

د. عبدالعزيز برغوث

مفكر جزائري، وباحث مختص في دراسات العولمة والقضايا المتعلقة بالإنسان المسلم المعاصر، وفي الدراسات الحضارية الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

 نائب مدير الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق