مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

الأسرة في مقاصد الشريعة قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا (الجزء الأول)

مونية الطراز

 

 

 

كتاب “الأسرة في مقاصد الشريعة قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا” للدكتورة زينب العلواني، إضافة نوعية في مجال الدراسات الأسرية، تكمن ميزتها في استقصاء الدرس المقاصدي عند معالجة النصوص المتعلقة بالأسرة والاستهداء بالرؤية الشمولية للوحي، والتي تنظر إلى الأسرة من حيث هي لبنة من لبنات الأمة المستخلفة. فمن خلال التوجيه المقاصدي للأحكام المتعلقة بالأسرة، عالجت العلواني في هذا الكتاب كثيرا من القضايا الاجتماعية والمسائل الشرعية والفتاوى الفقهية ذات الصلة بالموضوع، بما يناسب المستجدات المعاصرة، وينسجم أيضا مع واقع الأقلية المسلمة في أمريكا التي جعلتها مجالا تطبيقيا لنظرها المقاصدي.

ويمكن القول، إن الكتاب تحفة علمية ذات طابع موسوعي، يثير القارئ ويشدّه إلى فقراته، وهو إلى جانب جودة مادته، جيّد الإخراج أيضا، وحقيق بناشره المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي قدّمه في حلّة أنيقة وحجم متوسط لا يزيد عن 383 صفحة، حيث طبع سنة 2013 الطبعة الأولى التي نعتمدها في هذه القراءة.

ويتوزع هذا الكتاب على أربعة فصول تشكل أركان الدراسة، إضافة إلى المقدمة والخاتمة، وزانه تصدير مركّز للدكتور طه جابر العلواني، أشاد فيه بالبحث وبصاحبته، كما أشاد بالإضافات النوعية التي قدّمتها الدراسة في موضوعها والسياق العام الذي وقعت فيه.

الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للمقاصد:

في مدخلها إلى عناصر هذا الفصل، انطلقت الكاتبة من الحاجة الماسة إلى إعادة تأسيس علم المقاصد تأسيسا يخرجه من دائرة الظنية إلى القطعية، ويسمو به من القراءة التجزيئية إلى الكلية؛ بحيث يصير أداة منهجية عملية منضبطة، قادرة على تقييم عملية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص.[1] فالدراسات المقاصدية، كما قالت، كفيلة “بتطوير العقل التعليلي القادر على ربط ما يخص الوحي بسنن الكون وقوانين الخلق وسنن المجتمعات وغايات الوجود دون إفراط أو تفريط.”[2]

المفهوم العام للمقاصد:

 وعلى سبيل التفصيل، قدّمت الكاتبة عرضا مفاهيميا حول المقاصد، وقالت إن المعنى اللغوي للمقاصد الشرعية –فضلا عن اهتمامه بالقصد والنية- يساعد بمفهومه ومنهجه على استنباط مقاصد الشارع ومراده،[3] وهذه الاعتبارات صاغها الفقهاء في قواعد تفيد في وصل الإنسان بقصد الشارع الأول عند النظر إلى الأحكام.[4]

ومع أن القدماء لم يهتموا بتقديم تعريف للمقاصد -كما قالت الكاتبة- إلا أنهم اهتموا بمباحث ذات صلة بموضوعها، كالعلة والقياس والمصلحة، وغير ذلك من المباحث التي ذكرتها في معرض حديثها عن المقاصد عند الأصوليين القدماء. وهذه الجهود ساهم اللاحقون في إثرائها، حيث طوروا الرؤية المنهجية لعلم المقاصد ووظائفه، وقدّموه في إطار فكري وعلمي عمراني، من شأنه إذا استثمر أن يساعد على بناء العقلية الإنسانية المبدعة، الراعية للقيم القرآنية العليا.[5]

المقاصد بين مصطلحي التعليل والتعبد:

وبما أن الفكر المقاصدي اليوم في مرحلة إعادة البناء، فإن الحاجة ماسة إلى إعادة تحليل المصطلحات التي ارتبطت به تاريخيا وأثّرت على سيرورته وتطوره الدلالي، وهذا ما أكّدته العلواني تمهيدا لمناقشة مفهوم التعليل ومفهوم التعبد اللذان يتصلان بموضوع المقاصد، ويحتاجان في نظرها إلى قراءة وتحليل جديدين، يرفع ما أصاب دلالتهما من تضييق.[6] وقد حاولت ربط موارد المفهومين عند الفقهاء والأصوليين بموضوع المقاصد لتبيّن ما بين المجالين من اتصال. وذيّلت حديثها بخلاصة في المنهج، شدّدت فيها على ضرورة تحديد المفاهيم والمصطلحات لما في ذلك من فائدة في تجاوز الخلافات العقيمة التي طبعت مناقشات السابقين وضيّقتها في الجانب اللفظي.

هذه مجمل القضايا التي تناولتها الكاتبة بالدرس في الفصل الأول، وكان جهدها فيه ظاهر الثمرات، دقيق البيانات والخلاصات، وافي الربط بصميم الدرس المقاصدي؛ إلا أن كثيرا من التفصيلات التي تخللت حديثها زادت عن الحاجة في هذا الكتاب.[7]

الفصل الثاني: تطور العمل بالمقاصد الأسرية:

في هذا الفصل ولجت العلواني بكل ثقة إلى موضوع المقاصد الأسرية بعد المقاربة النظرية التي خصّت بها الفصل الأول، وقد أحسنت في الوصل بين الفصلين، كما أحسنت بعرضها التمهيدي المفاهيمي في مطلع الفصل الجديد.

مفهوم الأسرة في القرآن الكريم وقيم بنائها:

مفهوم الأسرة حسب الكاتبة لا يمكن عزله في القرآن الكريم عن سمو المنظور الإسلامي للأسرة ووظيفتها، ولا عن رفعة رؤيته للعلاقة الزوجية ووظيفتها الوجودية؛ فهو يستمد معناه من هذه الحقيقة، ومنها يكتسب فرادته وأهميته، ولكنه لا يحيل على نمط محدد بمواصفات دقيقة، بقدر ما يحرص على تحديد القيم المتعلقة بالنموذج المطلوب، وهذه القيم التي تربط العلاقات الأسرية تتحدّد –كما قالت- بمجموعة من العناصر، منها التوحيد والاستخلاف والولاية والزوجية، وهي عناصر نظمتها بسبك جيّد، وعرضتها فيما يشبه التمهيد لمباحث تطبيقية، رصدت فيها العمل بالمقاصد الأسرية منذ عصر الرسالة.

المقاصد الأسرية في عصر الرسالة وتطبيقاتها:

هذا المبحث “التطبيقي” تطرّقت فيه العلواني إلى خمسة مقاصد:

أولا: مقصد الزواج الشرعي، وبيّنت فيه الرفعة التي حظيت بها المرأة في الإسلام، حتى صارت تتكامل وظيفيا مع الرجل، إلى الدرجة التي أصبح يعبّر مفهوم الأسرة فيها عن وحدة المجتمع الصغرى، والمؤسسة الاجتماعية الشرعية لعملية التكاثر المدرج ضمن مقصد حفظ النسل.

ثانيا: مقصد السكن والاستقرار الأسري، وعالجت فيه عددا من المفاهيم القرآنية كاللباس والحرث، وربطتها بمقاصد السكن وبالوظيفة العمرانية للإنسان، وقالت إن هناك منظومة مفاهيمية قرآنية تنتظم في إطار مقاصدي كلي يضم جزئيات عديدة، فمن خلال هذا الإطار يتحقق السكن النفسي. كما أن هناك تشريعات مختلفة تحمي العلاقة من الصراع والتفكك المحتمل، وتحقق بدورها نفس الغرض.

ثالثا: ضبط العلاقة بين الرجل والمرأة وفق الرؤية الكلية، وهو مقصد وضع له التشريع أحكاما للردع كتلك التي تتعلق بالزنا، وأحكاما للحماية من التفكك، كتلك التي تتعلق بقذف المحصنات، وأحكاما عاصمة كتلك التي تتعلق بغض البصر وحفظ الفروج وستر العورات، وما إلى ذلك مما يتعلق بالآداب؛ فكل تلك الأحكام وسائل لحفظ حقوق الزوجين، بل أساسات لرصّ العلاقة الزوجية وتمتين الروابط الأسرية.

بيد أن هناك وسائل أخرى رأتها الكاتبة ذات أهمية في ضبط العلاقة بين الزوجين ومنها: “القوامة”؛ وهي تحتاج في نظرها إلى تصحيح يرفع عن مفهومها شُبه التسلط والتعالي، ويشدّها إلى القيم القرآنية الكلية وإلى معنى التشاور والتناصح. وقد بنت الكاتبة رأيها على ما استجمعته من أقوال الفقهاء في الموضوع.

 ومما ذكرته من الوسائل أيضا “إحكام علاقة النسب والصهر” الذي تظهر قيمته فيما سمّته نظام المحارم والمحرمات المبيّن في النصوص،[8] فهذا النظام -كما أوضحت- يُلبس القرابة لبوس القداسة، ويرفعها عن مقام الشهوة واللهو،كما أنه يجمع من أوشكوا على الابتعاد عن الأسرة الأم مرّة بالمصاهرة ومرّة بالرضاع، ومرة أخرى بإعادة الإدماج، كما هو الحال بالنسبة لابن الزنا واليتيم. وقد رتّبت الكاتبة على هذا التقرير قناعة، مفادها أن الأسرة في الإسلام ذات طبيعة ممتدة، تسمو عن النظام الغربي الذي تسود فيه الفردية المطلقة وتغشاه المعايب من كل جهة.

ومن الوسائل المهمة أيضا في ضبط العلاقة بين الزوجين “ضبط تشريع تعدّد الزوجات”، والذي اعتبرته العلواني غاية في الحكمة، لما يحتوي عليه من مقاصد الحفظ الأسري، سواء من جهة ما يقدّمه من حلول لعوارض الحروب والكوارث، أو من جهة ما يتضمنه من مقاصد تحفظ لليتيمة حقها في الإنسانية الكاملة لئلا تكون عرضة للتضييع.

والملاحظ أن التفصيل في قضية القوامة ضمن هذا المبحث، لم يكن مستحبا ولا محتملا في سياق حديث شرعي داخل مبحث فرعي. كما أن معالجة موضوع تعدد الزوجات، افتقر بدوره إلى “التحيين الفقهي” فقد ناقشته الكاتبة بطريقة اقتصرت فيها على المقاصد التي ذكرها المتقدمون بناء على معطيات واقعهم. وأجد لهذا الموضوع ظروفا مستجدة لابد أن ينظر في إطارها؛ فالعنوسة مثلا، إنما وجدت اليوم بسبب تفشي قيم التحرر وضعف الوازع الديني، وليس بسبب موت الرجال نتيجة الحروب، وأما وضع اليتيمة والتي قد تكون متعلمة أو تستكمل تعليمها وتحيطها القوانين بالحماية فليس كوضعها أيضا في العهود الأولى للإسلام. وحتى إن قُصد باليتيمة تلك الصغيرة، فحكمها لابد له من نظر جديد، يربطه بحكم القاصر قصور الأهلية المدنية، وليس القصور في أهلية التعبد.[9] وقد تكون هذه الاعتبارات وغيرها من معطيات العصر الحديث من أسباب تفرد النظر المقاصدي لعلال الفاسي في الموضوع، فقد رأى بأن المصلحة الإسلامية والاجتماعية تقضي بمنع التعدد في الوقت الحاضر “لأن القرآن صريح في المنع من التعدد كلما خيف الجور، والظلمُ اليوم للعائلة ولغيرها بسبب التعدد أصبح محققا لا يمكن لأحد إنكاره.”[10] وما يهم هنا هو استحضار علال الفاسي للمعطيات الواقعية.

 

 


[1]  زينب العلواني. الأسرة في مقاصد الشريعة قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا، مرجع سابق، ص 34.

[2]   المرجع السابق، ص 63.

[3]  المرجع السابق، ص37.

[4]  المرجع السابق، ص 38.

[5]  المرجع السابق، ص46-48.

[6]  المرجع السابق، ص49.

[7]  أخص بالذكر هنا مبحث التعبد والتعليل الذي وجدته نال قسطا من الجهد لا حاجة إليه.

[8]  انظر الآيات 22-24 من سورة النساء، والآية 31 من سورة النور.

[9]  ناقشت هذه المسألة في دراسة قدّمتها للطبع ضمن منشورات الرابطة المحمدية للعلماء تحت عنوان “زواج القاصر مقاربة واقعية ورؤية مقاصدية” وميّزت فيها بين زواج الصغيرة وزواج القاصر، وربطت حكم الأولى بالثانية لنقصان الأهلية في كليهما في هذا العصر.

[10]  الفاسي علال ، النقد الذاتي، الدار البيضاء، دار الثقافة، ط 7/2002، ص 242.

 

 

نشر بتاريخ: 07 / 10 / 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق