وحدة الإحياءدراسات عامة

الأخلاق بين العقل والدين

يطرح ثالوث “الأخلاق، العقل، الدين” إشكالية جوهرية لا تتمثل في العلاقة التي تجمع وتؤلف ما بين عناصر هذا الثالوث فحسب، وإنما أيضا فيما تثيره من أسئلة تتعلق بالوضعية الإنسانية بوصفها مرتبطة بقيمة وجود الإنسان في العالم.

وإذا ما انطلقنا من اعتبار أن هذه الوضعية الإنسانية، أوضعيات الوجود الإنساني بمثابة تعبير عن تحولات الحاضر الزمني، فإننا سنفهم بالتأكيد دور هذه الوضعيات في توليد رؤى ما تفتأ تتجدد حول المفاهيم التي ترتبط بالأخلاق والعقل والدين.

ومن ثمة فإن التلازم الذي تقتضيه علاقة التضايف ما بين الأخلاق والعقل من جهة أولى، وما بين الأخلاق والدين من جهة ثانية، وما بين العقل والدين من جهة ثالثة، يكشف عن حقيقة الكائن الإنساني باعتباره موجودا إشكاليا، تقترن تجربته داخل الوجود بما تطرحه من إشكاليات ليست أنطولوجية فحسب، بل هي أيضا إيطيقية، ومن ثمة فإذا كان الكائن الإنساني لا يغدو عقلانيا إلا من خلال التأسيس الأنطولوجي لتجربته في العالم، فإن هذا التأسيس يظل مرتهنا بغايات تكشف عن استقلال إرادته الإنسانية الحرة، بل وتكشف كونه كائنا أخلاقيا وليس مجرد كائن طبيعي، مادام يسعى بحق نحو تلك الغايات فيما يمكن أن يسمى بالسعي نحو الكماليات الأخلاقية.

يفرض علينا ثالوث “الأخلاق، العقل، والدين” ضمن هذه المقاربة أن نستعيد الإشكال الفلسفي الكانطي، ليس من أجل الوقوف عند أصل الإشكال فحسب، وإنما بقصد تحيينه والبحث عن أفق مغاير لفهم وجودنا المعاصر الذي يتموقع ويتحدد داخل العولمة باعتبارها تؤسس لنمط جديد في العيش، يقوم على فك الحدود وتقويض الفواصل، ولكنه في ذات الآن يغذي النزوعات المحلية، ويقوي الخلافات، وليس الاختلافات، والتي تصل أحيانا إلى تكريس نوع من العداء الذي يهدد سلامة وأمن الوجود البشري على الأرض.

يندرج سؤال الأخلاق كما حدده كانط ضمن إشكال أعم هو: من هو الإنسان؟ فالأخلاق تجيب عن سؤال: ماذا يجب علي أن أفعله؟ في حين فإن الدين يجيب عن سؤال: ما الذي أستطيع أن آمله؟ في حين فإن العقل يجيب عن سؤال: ما الذي أستطيع أن أعرفه؟ وهذا هو السؤال الأول الذي يختص بالعقل المحض. وما يهمنا هنا هو أن الإشكال الأساسي الذي يطرحه علينا ثالوث “الأخلاق، العقل، والدين” يظل إشكالا أنثربولوجيا يرتهن بالإنسان ذاته من حيث هو رغبة بالأساس ومن حيث أن هذه الرغبة هي ما يصنع التاريخ والقيم. وعلى الرغم من التمييز الذي يقيمه كانط قبل مرحلته النقدية ما بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية، فإنه يربط بشكل واضح ما بين الفلسفة العملية بوصفها علما يهتم بوصف الكيفية التي يجب أن يتصرف وفقها الإنسان، وما بين الأنثربولوجيا بوصفها علما يصف كيف يتصرف الإنسان في الواقع، فلا يمكن أن تقوم الأولى بمعزل عن الأخرى. ومن ثمة اهتمامه بالكائن الذي يملك الإرادة الحرة. فالفلسفة العملية تتضمن القواعد الموضوعية للفعل الحر، وهي قاعدة موضوعية تدل على ما يجب أن يحصل، حتى ولو تعذر حصوله تماما، في حين فإن الأنثربولوجيا تهتم بالقواعد العملية الذاتية آخذة في الاعتبار تصرف الإنسان في الواقع. إذن، فالفلسفة العملية هي التي تهدف وحدها لصياغة القواعد الموضوعية للسلوك الحسن واصفة ما يجب أن يكون[1].

وهذا الربط ما بين الأخلاق والأنثربولوجيا ضروري، على الرغم من كون كانط بالذات ينفي أن تشتق الأخلاق، من المعاينة التجريبية للطبيعة الإنسانية، ومن ثم فهو ينفي عنها الحساسية مادامت غير مشروطة أي غير خاضعة لشروط العالم الحسي، ومادامت سوى انكشاف لمبدأ الإرادة المستقلة بكليتها عن القانون الطبيعي للظواهر، وهو ما قد يعني نوعا من الثنائية النقيضة التي يتطلب حلها في نظرنا العودة من جديد إلى الرغبة المشروطة أنثربولوجيا وليس إلى إرادة مستقلة صورية غير خاضعة للعالم الحسي، ومادام أن هذا العالم الحسي بالنسبة للإنسان ليس سوى جسده، فإن استعادة الأخلاق على أساس الرغبة هو أساس فهم السلوك البشري.

“كل شيء في الطبيعة، حسب كانط، يخضع لقوانين، والكائن العاقل وحده هو الذي يملك القدرة على السلوك؛ أي بحسب مبادئ، وبعبارة أخرى هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك، ولما كان العقل مطلوبا لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة، سوى عقل عملي، وإذا كان العقل بغير نزاع هو الذي يعين الإرادة، فإن الأفعال التي تصدر عن مثل هذا الكائن، والتي تعرف من الناحية الذاتية أفعال ضرورية؛ أي أن الإرادة ملكة اختيار ذلك الفعل وحده الذي يعرف العقل، مستقلا عن الميول والنوازع، أنه ضروري من الناحية العملية؛ أي أنه خير. فإذا لم يتمكن العقل وحده من تعيين الإرادة تعيينا كافيا، فمعنى هذا أن الإرادة ما تزال تخضع لشروط ذاتية (أو لبعض الدوافع) التي لا تتفق دائما مع الشروط الموضوعية، وبالجملة فإنه إذا كانت الإرادة في ذاتها لا تتفق مع العقل اتفاقا تاما (كما هو الحال مع بني الإنسان)، فإن الأفعال التي تعرف من الناحية الموضوعية بأنها أفعال ضرورية تكون عندئذ من الناحية الذاتية أفعالا عارضة، ويسمى تعيين مثل هذه الإرادة بمقتضى قوانين موضوعية إلزاما… إن تمثل مبدأ موضوعي، من حيث أنه ملزم للإرادة، يدعى أمرا (عقليا) والصورة التي يصاغ فيها هذا الأمر يطلق عليها الأمر المطلق[2].”

ما يمكننا أن نستنتجه من نص كانط هو أن “الأخلاق” ليست على علاقة فحسب بالعقل، ولكنها تتأسس بـ وفي “العقل”. فميثافزيقيا الأخلاق تستمد قوانينها الأخلاقية من العقل ذاته مباشرة، وليس من الطبيعة البشرية ولا من عادات الناس وأحوالهم، فالعقل حسب كانط هو الذي يعين الإرادة لإنسان يملك الإرادة، فبالعقل تستنبط الأفعال من القوانين، ومن ثمة لن تكون الإرادة سوى عقل عملي، وهذه الإرادة بوصفها ملكة هي التي تختار الفعل الذي يعرف العقل أنه ضروري عمليا. فالعقل ضروري بالنسبة للأخلاق، والأخلاق من غير الاستناد إلى العقل تغدو من غير أساس؛ أي أنها تغدو شيئا آخر غير الأخلاق ذاتها.

وقد دفع كانط إلى اتخاذ هذا الموقف أمران:

 الأول: نظري وهو أن حقيقة الأخلاق، شأنها شأن حقيقة العلم، لا يمكن أن تستخلص إلا من الشكل المحض للعقل، لا من المضمون المادي للتجربة.

 والثاني: عملي وهو أنه إذا استندت الأخلاق إلى اعتبارات تجريبية، فإنها ستقدم إلى الإرادة بواعث حسية من شأنها أن تفسدها، وذلك إما بصرفها عن الواجب، أو بدعوتها إياها إلى البحث في الواجب عن شيء آخر غير الواجب ذاته، أما إذا حرصت الأخلاق على عدم إصدار قوانين للإرادة، غير تلك المنبثقة عن العقل المحض، فإن في وسعها حينئذ أن تؤثر في النفوس[3]. ليس هناك مجال للشك لدى كانط من كون العقل وحده هو الذي يعين الإرادة مباشرة في قانون أخلاقي، وأن العقل المحض يمكنه أن يكون عمليا، وهذا هو ما يمكنه من أن يكون مشرعا.واللازمة التي يؤكد عليها كانط هي كالتالي:

“العقل المحض هو وحده عملي من تلقاء نفسه، ويعطي الإنسان قانونا عاما نسميه القانون الأخلاقي[4].”

والشعور بهذا القانون واقعة من وقائع العقل، لا واقعة تجريبية، بل واقعة عقلية نسيج وحدها، وهذه الواقعة تتجلى بوضوح إذا حللنا الأحكام التي يطلقها الناس على قيمة أفعالهم، فهذه الأحكام تتضمن دائما أنه مهما تكن قوة الميول والنوازع الطبيعية، فإن العقل يظل دائما طاهرا مستقيما في حكمه[5].

لعل المعضلة الأساسية التي يطرحها هذا التصور، إنما تكمن في الفصل ما بين الإرادة وما بين الرغبة، فإذا كان القانون الأخلاقي هو الذي يعين الإرادة مباشرة، فإن الإرادة تعد أخلاقية، في حين فإن الرغبة بوصفها أساس الدوافع والميول ليس منبعها قانون أخلاقي لا مشروط، وإنما ترتهن بالتجربة، وتبعا لذلك لا يمكن أن تكتسب القيمة الأخلاقية، وبالتالي فإن وصف هذا التصور بالتجريدية المحضة يعد صائبا، ما دام يعيدنا إلى ثنائية المحسوس واللامحسوس، المشروط واللامشروط، وهو ما يتعذر أن يحصل لسبب بسيط هو كون الإنسان جسدا؛ أي رغبة يخضع فيها كل قانون أخلاقي إلى تجربة إيطيقية تعد بمثابة تمرين روحي لممارسة حياة أفضل، ومن ثمة فإن فصل الرغبة عن الإرادة هو بمثابة تجزيء لوحدة الإنسان ونفي لماهيته التي تؤكدها الرغبة بوصفها المحرك الأساس للعقل العملي، ومن ثمة فهذا الفصل هو الذي دفع كانط إلى اعتبار “كل المبادئ العملية التي تفترض موضوعا (مادة) لملكة الرغبة كونها سببا لتعيين الإرادة، هي بمجملها تجريبية ولا يمكن أن تصلح لأن تكون قوانين عملية” (القضية1، الباب الأول)[6].

يعترف كانط في هذه القضية بالمبادئ العملية التي تعين الإرادة انطلاقا من الرغبة، لكنه ينفي عنها صفة القوانين العملية مادامت هذه القوانين غير مشروطة، ولا تجريبية، في حين فإن المبادئ العملية تجريبية مشروطة”؛ لأن سبب تعيين التحكم حسب كانط هو عندئذ تصور موضوع وعلاقة هذا التصور بالذات التي بها يتم تعيين ملكة الرغبة بهدف تحقيق الموضوع. لكن علاقة كهذه مع الذات، إنما تدعى لذة (مسببة) بموضوع ما. ومن هنا لابد من افتراضها كشرط لإمكانية تعيين التحكم. غير أنه لا يمكن أن تتم قبليا معرفة أي تصور لموضوع، أيا كان، فهل سيكون مقترنا بلذة أو بألم أو لا بهذا ولا ذاك. إذا يجب في حالة كهذه أن يكون المبدأ العملي المادي الذي يفترضه شرطا[7].” وهذا هو الاعتراض الأول، الذي يقدمه كانط، أما اعتراضه الثاني فيعتبر أن القانون الذي يقوم على الشرط الذاتي للقدرة على الشعور بلذة أو بألم، يمكن أن يؤخذ فعلا بمثابة مسلمة للذات التي تملك هذه القدرة، إنما ليس بمثابة قانون حتى بالسبة إليها؛ (إذ تنقصها الضرورة الموضوعية التي يجب أن تعرف قبليا) وهكذا لا يمكن أبدا أن يصلح مبدأ مثل هذا لأن يكون قانونا أخلاقيا[8].

بيد أننا نواجه مع كانط مشكلة أخرى بالإضافة إلى تجريده لمبدأ الإرادة وفصله عن الرغبة، وتتمثل في مطابقته بين المبدأ الأخلاقي وبين القانون العملي ليجعل منه قانونا موضوعيا ولا مشروطا، بحيث يغدو بمثابة أمر مطلق.

يبدو أن هذا التطابق المطلق بين مبدأ الإرادة المفصول عن الرغبة وبين القانون العملي هو المعضلة الأساس؛ لأنه يزعم بلوغ الموضوعية الكلية اللامشروطة، وبالتالي فإنه قانونا لا تبرهن عليه التجربة الأخلاقية بما هي تحكم في الرغبة، هو مجرد قانون صوري، لا يعني الواقعة الإنسانية مادام ينآى عن الأهداف والغايات التي تستهدف إرضاء الرغبة الأخلاقية؛ أي الإرادة المشروطة وليست المستقلة عن الحساسية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المبدأ الأخلاقي يظل مبدأ ذاتيا محايثا للتجربة الإنسانية. ولا يمكن أن يغدو قانونا موضوعيا كليا، ما دام يرتهن بتجربة الرغبة التي تستهدف إرضاء ميولات الفرد، وحقه في السعادة، ومن ثمة فلن تغدو، الأخلاقية سوى تجربة شخصية تتمثل في القدرة على التحكم في الميولات من خلال الرغبة، فالرغبة هنا هي الوعي بالدوافع والنزوعات، وليست مجرد شهوة عمياء، وعلى أساس الرغبة ينبعث التمييز الجوهري ما بين مطلق الشهوات، وما بين الرغبات التي ترضي نزوع الفرد الأخلاقي، فبدون رغبة لن تغدو التجربة الأخلاقية ممكنة، وبدون تجربة أخلاقية لن يغدو المبدأ الأخلاقي ممكنا أيضا، وبالتالي يتعذر إمكان القانون الأخلاقي اللامشروط. ومن ثمة فإن قانونا كهذا يظل مجردا؛ أي صوريا فقط. “إن هذا القانون الأخلاقي يؤكد كانط، هو المبدأ الوحيد المعين للإرادة المحض، ولكن بما أن هذا القانون هو صوري بحث… فهو إذا يجرد (فعل) الإرادة من كل مادة، وبالنتيجة من كل موضوع، بصفته مبدأ تعيين…[9].”

يبدو أن رغبة كانط في جعل المبادئ الأخلاقية بمثابة قوانين موضوعية تؤسس للعالم اللاحسي، متميزة عن قوانين الطبيعة، التي تنطبق على التجربة، هي أساس نزوعه نحو تجريدية تكاد تفرغ الأخلاق من مضمونها، وتفصلها بالتالي عن التجربة الإنسانية، فإذا كان بالإمكان إثبات قوانين للطبيعة تنطبق على التجربة بشكل موضوعي، فإنه يتعذر إثبات قوانين أخلاقية موضوعية محضة مستقلة عن التجربة الإنسانية؛ أي عن تجربة الرغبة ذاتها؛ لأنها تقوم على الحرية، وليس على الضرورة. ومن شأن مبادئ كهذه أن تكون نسبية وليست كلية بالضرورة، ما دامت تجيب عن السؤال الكانطي ذاته: ما الذي يجب علي فعله؟ أي أنها تجيب عن رغبة الذات في واجب أخلاقي يكون بمثابة إرضاء لميل أخلاقي لا ينفصل عن الرغبة، وليس مجرد إرادة مستقلة عن المادة المرغوبة، بمعنى أن هذه الرغبة تستهدف تجربة أخلاقية تكون تعبيرا عن فكرة العيش على نحو أفضل، وكتمرين على الحياة يستهدف لا أن يكون المرء جديرا بالسعادة فقط، بل أن يختبر تجربة السعادة بوصفها تجربة إيطيقية بامتياز تمنح القيمة للحاضر ولأية لحظة يختبر فيها الإنسان قدرته على الفعل وعلى تقدير الوجود، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فبإمكان المبادئ الأخلاقية أن تغدو موضوعية وكلية بشرط أن تغدو لا مجرد مبادئ أخلاقية فحسب، بل قوانين إلزامية تصدر عن الدولة بوصفها مشرعا قانونيا يسهر على احترام القوانين التي قاعدتها أخلاقية. فاحترامي لإشارة المرور ينبع عن الرغبة في الامتثال لمبدأ أخلاقي  يتحكم في سلوكي، وهذا الامتثال هو ما يجعلني أعيش تجربة الانسجام مع رغبتي في الاحترام النابع من تقدير الذات والآخر. أما اضطراري لاحترام إشارة المرور لعلمي بالنتائج المترتبة عن خرقي للقانون، فهو أيضا ينبع عن رغبة ولكنها ليست رغبة أخلاقية، وإنما هي رغبة للوقاية من الأضرار التي تمس منفعتي الشخصية في حال عدم الامتثال للقانون، وهو ما يعني أن مبدأ الاحترام في الحالة الأولى يظل مبدأ ذاتيا يلزم الفرد الممتثل لرغبته الأخلاقية، في حين فإن الاحترام في الحالة الثانية يكتسب موضوعية قانونية، ما دامت مستندة إلى سلطة خارجية تحرص على احترام القانون، بل وعلى طاعته.

إن ما يكشفه هذا التحليل هو أن المبدأ الأخلاقي لا يستعيد قيمته الجوهرية إلا من حيث أنه رغبة، ومن دون هذه الرغبة بما هي ماهية الإنسان ذاته لن يغدو المبدأ الأخلاقي سوى شكل فارغ مجرد عن القيمة. والقيمة تنبع من الأساس الذي يختبر إمكانية التجربة الإنسانية بوصفها تجربة أخلاقية بالمعنى الابتكاري للذات والوجود.

الإنسان رغبة؛ لأن ماهيته الإنسانية وأساس وجوده يكمن في رغبته أن يصير ما ليس هو، أن يصير كينونة مغايرة لوجوده المعطى، فالوجود الإنساني من غير رغبة ليس كينونة بالفعل، وإنما هو وجود لم يمتلك وعيه بتناهيه بما هو مستقل عن المعطى وبما هو منفصل عن غفلية الوجود، ففي التناهي يتحدد الوجود الإنساني ككينونة، أو كوجود مختلف؛ أي كموجود بالرغبة ومن أجل الرغبة. ليس الإنسان، إذن، هو ما هو، هوية مطابقة لذاتها لوجودها الذي لا يتمايز عن كليتة الوجود، بل الإنسان هو ما ليس هو؛ أي هو هذه الرغبة ذاتها التي تحرره من ذاتية عمياء، ومن هوية ساكنة أو ثابتة في عتمه الوجود الكلي، وما دام أن الإنسان هو الرغبة ذاتها، فإنه هو عين الصيرورة وبصيرتها، فالصيرورة تنقال من خلال الإنسان الصائر ذاته، ومعنى ذلك أن الصيرورة من غير إنسان صائر وراغب وواع بذاته وبمصيره، ليست ذات معنى، هي صيرورة من غير عَنْي يمنحها قيمتها داخل العالم، فهي حتى وإن كانت معطى أساسي لكلية الوجود اللامتناهي إلا أنها كالعدم المحض، ما دامت لم تنبثق كوعي بتصيرها، من خلال كائن متناه قادر على أن ينكشف لذاته كصائر، وان يكشف صيرورة الوجود الذي يعيش فيه، وفي هذا الانكشاف يتجلى الكائن الإنساني بوصفه كائنا تاريخيا، زمنيا، وبما أنه تاريخي فهو من يزمن الصيرورة ويصيرها تاريخا، فالصيرورة تصير الإنسان، والإنسان يمنح هذه الصيرورة تاريخها. والصيرورة من غير الإنسان بلا تاريخ، بلا زمن يكشف حقيقتها في الوجود، فالوجود لا يفكر في الصيرورة وإنما يمنحها، أما الوجود الإنساني المتناهي فهو من يفكر في الصيرورة ويعلي من شأنها ومن شأن ذاته أيضا، مادام أنه من خلال صيرورته يحقق تعاليه الخاص. يكشف هذا التحليل أن ماهية الإنسان تتأسس في الرغبة، وأن الرغبة ذاتها تتأسس في الصيرورة، فأنا أرغب؛ لأني أصير، فماهيتي الحقة هي الصيرورة التي تجعلني منتميا لوجود كلي، ما أفتأ أنفصل عنه، لا أحقق وجودي بالفعل فلا يكفي أن أسأل عن ما هي الرغبة؟ ولكني أتساءل عن “من هي الرغبة؟”. إن أساس وجودي، إذن، يتحدد بالبحث عن إرضاء وإشباع هذه الرغبة التي هي أناي، من خلال الفعل. وليس الإرضاء أو الإشباع مجرد امتلاء لوجود مفرغ متلهف إلى سد فراغه فحسب، بل هو أيضا حدث مؤسس لهذا الوجود الذي يصير آخر بفعل إرضاء الرغبة، وهذا الحدث هو الذي يجعله لا يستقر عند أي إشباع، وهو الذي يكشف بنيته الصائرة، بنية منفلتة غير قابلة للإخضاع أو للاختزال، مادام أن كل إشباع هو إمكانية تسمح بانبثاق رغبات أخرى، بما هي قوة دينامية تؤسس الوجود المتناهي للإنسان على نحو الانفلات، والانفلات ليس مجرد انفصال عن الوجود المعطى، ولكنه انفلات عن الذات نفسها، انفلات عن رغبة تحققت سلفا، لكنها غدت متجاوزة، وإلا فإن الاستكانة إلى رغبة متحققة، هو عجز عن الانخراط في مستقبل الكينونة، إن الانفلات يفسر واقعة الكائن الإنساني، بوصفها مقاومة تحد من سلطة تدخل العوامل الطبيعية الخارجية، والعوامل الاجتماعية والثقافية التاريخية المهيمنة، والعوامل الذاتية أيضا المتمثلة في الرضا بما هو منجز للذات.

إذن، فإن وعي الرغبة بذاتها هو المحرك الفعال لتجربة الوجود الإنساني التي نسميها هنا “تجربة الرغبة” وهذه التجربة هي أساس تعين الكائن الإنساني بوصفه علة تأسيسية، مؤسسة لذاتها وللعالم الذي تعيشه. إذن، فإن الإنسان، من خلال وبتجربة الرغبة، يصير علة تأسيسية. ومادام أنه صار كذلك فهو والعالم المؤسس برغبته يغدوان متصايرين في ذات الآن، ففي هذه الحالة لا يتشكل العالم إلا كأفق لتجربته الخاصة في تصريف إرادته، إنه عالم الإرادة المتحرر من ضرورة الوجود، من كليته الطبيعية. والعالم من هذه الوجهة هو انكشاف لبرانية الرغبة، لموضوعيتها التي تتجلى كأثر لحدث مؤسس بالرغبة.

العالم، إذن، هو موطن العلة التأسيسية الذي يحتضن الانفصال بما هو تعبير أصيل عن تجربة الرغبة في هذا الوجود اللامتناهي، وبقدر ما يحدث الانفصال، بقدر ما تنبثق إمكانيات التأسيس التي تسمح بأن يظهر الكائن المنفصل كعلة مؤسسة لذاته وللعالم الذي يصايره في الآن ذاته، فهي مؤسسة لذات الكائن بجعل هذه الذات متحررة من كمون نفسها وانطوائها على هويتها؛ أي باكتشافها لخارجيتها وقابليتها على أن تصير غير ما كانتة سلفا، وهذا هو أساس وعيها بغيريتها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي مؤسسة للعالم باعتباره وجودا بالغير ومع الغير؛ أي وجودا بيجسدانيا يشكل هوية الجسد الإنساني بالجمع أو المجتمع عامة، وليس مجرد جسد الكائن الفرد. إذن، فعن “تجربة الرغبة” ينبثق داخل الإنسان ذلك المبدأ الذي سميناه المبدأ الإيطيقي المحايث الذي يجيب عن السؤال الكانطي: ما الذي يجب علي فعله؟ يتأسس داخل الإنسان كرغبة: أي من خلال “تجربة الرغبة” ذاتها، فأنا باعتباري إنسانا لا تتحدد رغبتي كتجربة إلا على أساس فعل ملزم لذاتي أولا، قبل أن يكون ملزما للغير، بل إن هذا الغير ذاته هو رغبة، وبما هو كذلك فإني لا ألزمه بما يجب عليه فعله، فلكي يكون الفعل إيطيقيا حقا لابد أن يكون منبعثا من رغبته الخاصة، وليس صادرا عن رغبة برانية عنه.اللهم إلا بالنسبة لأخلاق الطاعة التي يكون مصدرها سلطة وصاية تحرص على إلزام الكائن الإنسان بالواجب الأخلاقي حتى ولو كان متعارضا مع رغباتهم الخاصة وميولاتهم. ونحن في هذه الحالة لا نتحدث عن الأخلاق بوصفها إيطيقا مؤسسة داخل الرغبة؛ أي بما هي تعبير الإرادة وعن الحرية، وبما هي فن لتدبير الوجود الفردي ضمن الوجود الجمعي العام، وإنما نتحدث عن الأخلاق بوصفها أوامر ونواهي تتخذ طابعا قسريا وتتجلى كظاهرة اجتماعية تخضع للشروط الثقافية الموروثة سلفا، وهذا النوع من الأخلاق يندرج ضمن أخلاق الوصاية.

يؤسس المبدأ الأخلاقي المحايث للذات باعتبارها ذاتا راغبة ترغب في أن تسمو من خلال الفعل بذاتها؛ أي في أن تتحقق وتنكشف لذاتها وللغير كحرية، وفعلها يغدو إيطيقيا بقدر ما يلزم ذاته بما يجب أن يقوم به من تلقاء ذاته دون إكراه أو خضوع وبما لا يقود في الآن ذاته إلى المس بحرية الغير، فالمبدأ الإيطيقي المحايث هو الضامن لغيرية الموجود الإنساني، وليست الغيرية هنا سوى الإلزام الذي يفرضه المبدأ الإيطيقي على الكائن الإنساني والذي ينكشف كاحترام كوني، لكنه مشروط بالرغبة التي تمنح قيمة كونية للمرغوب فيه؛ أي للغير الذي يتعذر احتواءه واختزاله من قبل الأنا. فانبعاث المبدأ الإيطيقي المحايث مشروط بهذا الغير، فهذه العلاقة هي التي تؤسسه كمبدأ محايث، وهي التي تصيره عمليا؛ أي تمنحه صيغة الفعل الذي يستجيب للأمر أو الواجب وهذا يعني بأن “البعد الإيطيقي للوجود هو واجب الكينونةLe devoir-etre  الذي يتعرف فيه على نمط الكينونة الأصيل الذي يؤسس وفقه ذاته، وهذا الواجب هو مبدأ تشكل مشروع تأسيس العقل. وهو يأخذ خصوصيته داخل سياق هذا المشروع كعلاقة بغايات العقل المؤسس (بفتح السين). فحقيقية الإيطيقا تكمن في الأفعال بقدر ما تصير موضوعية داخل المؤسسة. إن الصفة الإيطيقية للفعل تتحدد من خلال الطريقة التي تصلها بالغاية. وما تطرحه هو بالضرورة تحديد خاص؛ لأن تدخلها يرتبط دوما بوضعية عرضية ومحددة.غير أن بإمكانها أن ترسم صورة ما هو دائما مندور للمستقبل، داخل المضمون المحدد الذي فرضه الفعل، ففضلية الفعل هي بالذات قدرته على أن يحين في الحاضر داخل فعاليته، ما هو معطى كاستشراف، وأن يحقق سلفا في صيغة محددة تركيب الملموس والكوني، مستضيفا دخل تجريد مضمونه المحدد فضيلة الكلي المتحقق الغامضة، فالفعل هو حدث المبادرة الفردية، إنه أثر حي لحركة وجود عميقة، فهو بالضرورة تفاعل، ومهما كان نوع الموضوعية التي يؤسسها فهو دائما موجه نحو الغير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، غير أنه يمكن أن يتوجه نحو الغير الشخصي، أو نحو الغير العمومي، من خلال توسط المؤسسة[10].”

في المبدأ الإيطيقي المحايث يغدو التركيب ما بين الكوني والخصوصي ممكنا، وهذا التركيب ليس مجرد تعبير عن تفاعلية أو علاقة اجتماعية فقط، بل هو أيضا شرط ضروري للغيرية بما هي تجربة إيطيقية، تقتضي بطريقة مغايرة ومن دون استقلال عن التجربة استعادة الكانطي المتمثل في اعتبار الإنسان غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة، المعبر عنه في الصيغة التالية:

“افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما، وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة[11]“.

وهذه الاستعادة لا تتم إلا على أساس الرغبة، من حيث هي منبع الفعل، ومن حيث كونها رغبة في الغير، رغبة في الآخر من غير إخضاع أو تملك، فالمرغوب فيه يظل مستعصيا عن رغبة الاستحواذ التي تصيره وسيلة، ولكنه لا يستعصى عن الرغبة في الاحترام. فالرغبة هي التي تجعل التجربة الأخلاقية ممكنة، ومن ثمة فإن أية مبادئ لن تغدو مجرد شكل مفرغ من مضمونها، بل تغدو متعينة بالقدر الذي تكون فيه اختبارا لتجربة التفاعل الإنساني، أو الغيرية التي هي أفق هذا الوجود البيجسداني الذي لا تنفصل فيه الحساسية عن البعد الميثافزيقي.

للدين علاقة بالأخلاق، وهي علاقة تكاملية وليست مباشرة بالضرورة، مما يعني أن الإيطيقا كفلسفة أولى كما يتصورها لفناس، إنما تنبع عن العلاقة مع الغير؛ أي أنها تصدر عن العلاقة الاجتماعية، وبالتالي فالأخلاق في مبدئها الكوني ليست مستمدة من الدين مباشرة، ولكن هذا لا يمنع من أن يغدو الدين مكملا للأخلاق، وهو ما يؤكد عليه كانط ذلك؛ لأن الفلسفة الأخلاقية المحضة هي بذاتها مستقلة، بالمعنى الذي تمسك فيه بذاتها على مبدأ كل الواجبات الأخلاقية دون الاستعانة بالدين. فليس الدين هو الذي يؤدي إلى الأخلاق وإنما العكس. فالأخلاق وهي تفكر في موضوعها الكلي؛ أي الخير الأسمى فهي بالضرورة تقود إلى تصور حكيم مبدع للعالم يضمن الانسجام والتوافق ما بين مبادئ الفضيلة والسعادة التي تظل في هذا الوجود المتناهي تتصارع دوما. والأخلاق تمهد الطريق نحو إيمان عقلاني أصيل من خلال مبدئها (القانون الأخلاقي) بقصد ضمان إمكانية موضوعها العملي الكلي والذي هو في نفس الآن الهدف النهائي للعقل. إذن، فإن الصلة ما بين الأخلاقية والتيولوجيا هي التي تؤسس الدين. وأي دين ليس ممكنا من غير أخلاقية[12].

يقود القانون الأخلاقي حسب كانط إلى افتراض وجود علة أعلى لها سببية وفقا للنية الأخلاقية؛ أي المطالبة بوجود الله بصفته مرتبطا ارتباطا ضروريا بإمكانية الخير الأسمى، وهذا يعني أنه من الضروري أخلاقيا أن نقر بوجود الله. وبهذه “الطريقة يقودنا القانون الأخلاقي عبر مفهوم الخير الأسمى، بوصفه موضوع العقل المحض العملي وغايته النهائية إلى الدين؛ أي إلى معرفة كل الواجبات على أنها أوامر إلهية، لا على أنها عقوبات؛ أي أنها قد تم اختيارها بوصفها أحكاما متوقفة بحد ذاتها على إرادة غريبة، بل بوصفها قوانين جوهرية لكل إرادة حرة من أجل ذاتها، ولكن أن ينظر إليها مع ذلك على أنها أوامر الكائن الأسمى؛ لأنه لا يمكننا أن نعقد الأمل إلا على إرادة كاملة أخلاقيا، وفي ذات الحين كلية القدرة أيضا، وهكذا بالانسجام مع هذه الإرادة، يمكننا أن نأمل في الوصول إلى الخير الأسمى الذي يقيمه القانون الأخلاقي واجبا علينا يجب أن نجعله موضوع جهودنا[13].” ومعنى هذا أن القانون الأخلاقي هو الآمر الذي يجعل الخير الأسمى الممكن في العالم الموضوع النهائي لسلوك الإنسان بأكمله، لكن الإنسان لا يستطيع أن يأمل في تحقيق ذلك إلا بتوافق إرادته مع إرادة صانع للعالم، مع العلم أن سعادة الإنسان متضمنة في مفهوم الخير الأسمى إلا أن هذه السعادة ليست هي بالفعل سبب تعيين الإرادة الموجه نحو تحقيق الخير الأسمى، بل هو القانون الأخلاقي. “ولهذا السبب فليست الأخلاق بالمعنى الصحيح هي العلم الذي يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، بل كيف علينا أن نجعل أنفسنا جديرين بالسعادة، وعندئذ إذا أضيف الدين إلى ذلك يدخل أيضا الأمل في أن نحظى ذات يوم بالسعادة بالقدر الذي كنا حريصين فيه على ألا نكون غير جديرين بها[14].”

وهذا هو التعليل الذي يجيب عن السؤال الكانطي الثالث: ما الذي يمكنني أن آمله؟

إن كل أمل يستهدف الجدارة في السعادة، إنما يتوقف على القانون الأخلاقي، فالأخلاق بحد ذاتها ليست علما للسعادة، لكن حين تتخذ خطوتها نحو الدين من أجل مواجهة رغبة الكائنات العاقلة في أن يكونوا جديرين بالسعادة، فإن علم الأخلاق بإمكانه أن يصبح علم السعادة أيضا؛ لأن الأمل في تحصيلها لا يبدأ إلا مع الدين[15]“.

فالخير الأسمى هو غاية الله النهائية في العالم، الذي يضيف إلى رغبة الكائنات نفسها شرطا هو أن يكونوا جديرين بالسعادة؛ أي شرط أخلاقية هذه الكائنات العاقلة التي تحتوي وحدها على معيار يمكنها من الأمل في أن تحظى بالسعادة على يد صانع حكيم للعالم.

وعلى هذا النحو يفكر كانط في التيولوجيا الأخلاقية، وهي غير الأخلاق التيولوجية بوصفها تمنح لنا فائدة عظمى تقودنا نحو الدين مادامت تربط بقوة فكر الله بأخلاقيتنا، وتجعل منا بهذه الطريقة بشرا فاضلين[16]؛ أي أنها تثير فينا الرغبة في العمل تحت قانونها الخاص المطلق من أجل  انتصار الخير الأسمى، وحينئذ تغدو مذهبا في السعادة يبرر الأمل المشروع.

وهكذا وعلى هذا النحو “تتم الأخلاق في الدين دون أن تتأسس عليه أبدا، وإذا كان عليها أن تتم في الدين فذلك؛ لأن الإنسان، وهو كائن عاقل وحساس معا، لا يمكنه أن يحصل وحده بنفسه القدرة على المحافظة إلى غير نهاية على نيته الحسنة ضد القواعد التي توحي إليه بها حساسيته، ولا خصوصا القدرة على أن تحصل بإنجاز الواجب على إشباع متطلبات هذه الحساسية نفسها، وقد صارت هذه المتطلبات حقوقا، ومع ذلك فإن الأخلاق لا تتأسس على الدين؛ لأنه في الاستعداد الراسخ للخضوع للقانون يوجد الأصل الباطن للحاجة التي يستجيب لها الدين، ولأنه تبعا لذلك التقرير الأولي لمذهب ديني من شأنه أن يحل برابطة منطقية خارجية، الرابطة العملية الباطنة التي تربط المبدأ الأخلاقي بتوكيد الخلود، وتوكيد وجود الله[17].”

 يعتبر الدين من خلال هذا المنظور استجابة للحاجة الكامنة في الاستعداد الراسخ للخضوع للقانون الأخلاقي، ومن ثمة فالحاجة إلى الله. تتأسس على الأمل، على الحق في السعادة، ومن ثمة فإن الله بتعبير سبونفيل هو سر أكثر من أن يغدو مفهوما قابلا للإدراك مادام العقل البشري عاجزا عن معرفة كنهه، وهو أمل أكثر من أن يكون فكرا، لذلك كان الأمل كالأيمان فضيلة إلهية ليس إلا، فالإيمان نقيض اليأس كما يقول كيركيجارد.

فهو الكائن الوحيد القادر على تلبية أمانينا، لكن ما الذي نأمله؟ أن يغدو الحب أقوى من نزوة الموت، وأن يصير أقوى من الحقد وأقوى من العنف؛ أي أن يغدو أعظم من كل شيء وهذا هو الله في الحقيقة: “الحب القادر على كل شيء، الحب المنقذ هو وحده الله؛ لأنه سيضحى كليا، وهذا هو الله بالنسبة إلى القديسين والمتصوفين “إن الله محبة وموضوع محبة حسب برغسون، فالحب الإلهي ليس شيئا منتسبا لله، وإنما هو الله نفسه[18].”

تدعونا هذه القراءات إلى استعادة الله، ومن ثمة الدين بصفة عامة، على أساس الأخلاق/الإيطيقا وليس على أساس الانطولوجيا أو حتى التيولوجيا، ومن ثمة استعادة الدين والله على أساس المسؤولية تجاه الغير. وهذه المسؤولية هي التي تمنح القيمة للوجود الإنساني، بوصفها نداء يستجيب للامتناهي، فنداء اللامتناهي يحمل وجه الآخر مادام أنه يرد في مدلولية الوجه حسب لفناس[19]؛ أي أنه يظهر في المعنى الإيطيقي ذاته الذي يتجسد في الواقعة التي تعني أن الإنسان هو الأكثر مسؤولية بما أنه الأكثر عدلا، وهو ليس بريء الذمة إزاء الغير، وهذا ما يمكن تسميته بلزوم الطهارة، ففي أية لحظة لا يستطيع أحد الادعاء بأنه أدى واجبه كاملا، إلا الخبيث، وبهذا المعنى هناك انفتاح وراء ما يتحدد، وذلك هو ظهور اللامتناهي، وهو ليس ظهورا بمعنى الانكشاف الأنطولوجي الذي يغدو تطابقا لمعطى معين، بل على العكس من ذلك فإن ميزة العلاقة باللامتناهي هي كونها ليست انكشافا، ففي حضور الغير أقول “ها أنذا” وهذه الجملة هي الرابط الذي ينفذ عبره اللامتناهي في الحديث، لكن دون أن يمنحنا رؤيته، فهو لا يظهر مادام غير متموضع أصلا في أية حالة من الحالات، فالله اللامرئي ليس مفهوما كإله مرئي للحواس، ولكن كإله لا يتموضع داخل الفكر، ومع ذلك فهو ليس غير متحيز ولا مبال بالفكر الذي ليس متموضعا[20].”

والذات التي تقول “ها أنذا” للاقتراب من الغير، تشهد باللامتناهي، وعبر هذه الشهادة التي لا تغدو تمثلا أو إدراكا (لا تدركه الأبصار: قرآن كريم) ينتج ويتولد وحي اللامتناهي، ومن خلال هذه الشهادة يتعاظم مجد اللامتناهي، وهي في ذاتها بدلالتها الأخلاقية شهادة عن الله اللامتناهي، حيث يعجز عنه أي حضور وأية فعلية، فليس هناك فيما يقول الفلاسفة لا متناه فعلي، فالذات تشهد في المطابق (الهوية المماثلة)، بقدر ما يكون المطابق من أجل الآخر، حيث يتلاشى الاختلاف بقدر ما تصبح القرابة أكثر قربا، وعبر هذا التلاشي ذاته يتم الإقرار بالذنب بطريقة ممجدة، كما يتم الاتهام بالقصور، حيث أن المطابق في حالته تلك أصبح ملزما أكثر بالمسؤولية تجاه الآخر إلى حد الإنابة عنه، إنه بمثابة تكفير عن الذنب يتوافق في النهاية مع القلب العجيب المتحول للهوية المماثلة إلى الآخر داخل الحياة النفسية[21].

والمقصود من ذلك أن طريقة ظهور الآخر المطلق أو اللامتناهي داخل الذاتية، إنما تعني ظاهرة الإلهام ذاتها، وبالتالي فهي تحدد العنصر النفسي والجوهري الروحي ذاته للحياة النفسية، ومن ثمة فمجد اللامتناهي يتجه نحو وجهة مغايرة، إنه ظهور شيء يتسامى على الحياة والموت يعتز بمجده من خلال التباين، يقول لفناس: “إن فكرة اللامتناهي التي تقيم في فكر يعجز عن تمثلها، تعبير عن تباين المجد والحاضر، وهذا التباين هو بحد ذاته إلهام فتحت القوة التي تتجاوز كفاءتي هناك قصور ذاتي أكثر حدة من أي قصور ملازم للأفعال، وقصوري الذاتي يعلن قائلا “ها أنذا”، فبرانية اللامتناهي تغدو بطريقة ما “جوانية” داخل صدق الشهادة[22]“. وبما أن الإيطيقا هي فلسفة أولى وليس الانطولوجيا بالنسبة للفناس، فإن الله ليس هو الوجود الأقوى بالنسبة للخليقة، وإنما هو إله الأخلاق، هو إله الأنبياء الذي يظل على الدوام في علاقة مع الإنسان، بحيث لا يعد اختلافهما لا مبالاة، ولهذا السبب فالتفكير في إله الأخلاق ينطلق من الرغبة التي يتعذر تحقيقها وإشباعها، فالإنسان لا يمكن أن يحقق اكتفاءه في علاقته بالله؛ لأنه يتجاوز حدوده دائما، ويظل متجاوزا لرغبته  باستمرار، فلا رغبة في الله لا متناهية؛ لأن الله يتجلى  كغياب أكثر من تجلية كحضور، وهذه الرغبة لا تنبعث عن أمل في أن تكون مشبعة تماما بواسطة الحصول  أو التملك أو بالاستمتاع بالمرغوب فيه، ولكنها مع ذلك رغبة مثيرة، دائمة التعاظم تثير في الإنسان الإحساس بالمهمة التي لم تستنفد بعد، وهي مهمة غير مختزلة في تجربة النقص التي يكشف عنها علم التجربة، بمعنى أن الإنسان لا يرتبط بالله بنفس الطريقة التي يرتبط بها بالخبز، فهو يستطيع أن يلبي رغبته في تبعيته وارتباطه بالعالم مرضيا جوعه وعطشه وعريه، لكن الرغبة في اللامتناهي بقدر ما تعكس استقلال الإنسان عن الله فهي تظل غير قابلة للإشباع أو التحقق، فاستجابة المرغوب فيه أو الله لا تقوم على إرضاء من يقترب منه والسماح له بالاستمتاع بالنظر إليه مليا وفي طمأنينة تامة، ولكنها تحفر داخله، رغم أفق الموت الحتمي، أثر أريحية تجاه الغير، أريحية تشهد عليها أفعال المسؤولية المنسوبة له، وهذا يعني أن نداء اللامتناهي يتمادى في المواجهة مع الآخر حيث يكمن الوجه، ومهما كان هشا قابلا للانجراح بواسطة العنف أو الموت، فإنه يدرك بقوة أن هشاشته لا تكذب أبدا الأمر بالنهي عن القتل أو بالأحرى عمل أي شيء من أجل أن يحيا[23].”

فالتعالي يستعاد دوما في العلاقة بالآخر؛ أي بواسطة وجه الآخر على نمط متسام يسكن في الضعف الشديد، وهو يثير الانتباه إلى المسؤولية التي تتجه صوب مسؤولية لا متناهية وواجبة على نحو مطلق، بمعنى أن اللامتناهي يتعالى إلى حد الغياب، فهو يظل مفارقا للرغبة فيه، لكنه قريب على نحو مختلف من خلال توجيه الأمر نحو اللامرغوب فيه، وهذا الأمر هو الموقظ للمسؤولية تجاه القريب إلى حد النيابة عنه[24]“، فالمسؤولية هي الجواب الذي يوقظ إنسانية الإنسان في مواجهة التوحش والعنف.

ينكشف من خلال هذه المقاربة أن الإشكالية التي يطرحها ثالوث “الأخلاق العقل والدين”، هي إشكالية تتعلق بنمط الوجود الإنساني في العالم، أي بالكيفية التي تصوغ تدبير فن العيش أو الوجود بالمعية بما هو وجود بيإنساني interhumain، ومن ثمة فإن تأسيس الأخلاق على العقل، هو إقرار بالمبادئ الكونية التي تضمن للوجود الإنساني حياة مشتركة قائمة على تبادل التقدير والاحترام، كما أن في استناد الدين على الأخلاق والعقل معا، انبثاق لمبدأ الخصوصية القائم على المسؤولية الذاتية التي توقظ الضمير الحي للكائن البشري، وهي نفسها المسؤولية التي يتحملها الإنسان من أجل حياة إيطيقية يغدو فيها الكائن الإنساني عامة غاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة، غاية تتأسس على القرابة، وليس على التملك والاحتياز، وبما أن هذه الحياة الإيطيقية هي الجواب عن مبدأ المسؤولية، فإن الوجود كله يغدو مسؤولية الكائن الإنساني بما أنه كائن عاقل، بمعنى أن ما يمكن أن يمس الطبيعة من خلال الاستغلال الطائش لمواردها بواسطة التقنية، هو من مسؤولية الإنسان عموما. وبالتالي فإن إيطيقا المسؤولية هي الجواب عن التحولات العميقة التي تمس نظام الطبيعة مما يشكل تهديدا للوجود البشري ذاته، ولكل كائن حي، جواب يقتضي تقويم وتعديل السلوك الإنساني بما ينسجم  والحفاظ على الحياة فإيطيقا المسؤولية شأن إنساني ينبعث من إرادة تستهدف تغيير الممارسة اللاأخلاقية، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما جاء في الذكر الحكيم.

الهوامش


1. Emmanuel Kant: leçon d’éthique. Traduction par Luc Langlois. Librairie générale Française 1997.P71.

2. إمانويل كانت، “تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق”، تحقيق: عبد الغفار مكاوي، كولونيا: منشورات الجمل-ألمانيا 2002 ص78.

3. عبد الرحمان بدوي: “الأخلاق عند كانط”، وكالة المطبوعات، الكويت 1979 ص34.

4. كانت، “نقد العقل العملي”، تحقيق: غانم مهنا، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008 ص84.

5. عبد الرحمان بدوي، “الأخلاق عند كانت”، ص116.

6. إمانويل كانت، “نقد العقل العملي”، ص68.

7. المرجع نفسه، ص69.

8. المرجع نفسه، ص70.

9. المرجع نفسه، ص196.

10. Jean Ladrière, L’éthique et la dynamique de laraison. In Rue Descartes. N° 7. Juin 1993.Albin Michel. L 67.

11. “أسس ميثافيزيقا الأخلاق”، ص109.

12. Emmanuel Kant: leçon d’éthique p177.

13. كانط، “نقد العقل العملي”، م، س، ص224.

14. المرجع نفسه، ص225.

15. المرجع نفسه، ص266.

16. Kant: leçons sur la théorie philosophique de la religion librairie générale française 1993 P159.

17. فكتور دلبوس، “فلسفة كنت العملية”، أورده عبد الرحمان بدوى في كتابه “الأخلاق عند كانط، ص156.

18. André compte spon ville, présentations de la philosophie éd. Albin Michel.s.a. 2000. P91.

19. Emmanuel levinas, Ethique et infini- librairie Fayard et France culture 1982, P102.

20. انظر كتابنا: “أخلاق الغير، نحو فلسفة غيرية”، مراكش: مركز الأبحاث الفلسفية، المغرب، 2005 ص99-100.

21. المرجع نفسه، ص100.

22. Emmanuel levinas: Autrement qu’être ou au-dela de l’essence ed Martinus Nijhoff paris 1978 P229.

23. Catherine Chalier: le désir de l’infini magazine littéraire N°419 Avril 2003-P43.

24. Levinas: Dieu, la mort et temps, éd Gasset et fas quelle, 1993 P257.

Science

ذ. عبد العزيز بومسهولي

أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة/ مراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق