وحدة الإحياءدراسات عامة

الأخلاقيات التطبيقية ومسألة القيم

“الأخلاقيات التطبيقية Les éthiques appliquées” ظاهرة ملفتة للنظر، فقد غزت هذه المباحث التي تندرج في إطار ما يعرف بـ “الفكر الأخلاقي الجديد” جل ميادين البحث والممارسة في الدول المتقدمة، وصاحبتها ظاهرة أخرى لا تقل عنها إثارة للاهتمام تتمثل في تزايد الطلب على الأخلاق والدعوة لتخليق كل ميادين المجتمع الحديث (تخليق المهن، تخليق السياسة، تخليق مؤسسات الدولة، تخليق التعليم والصحة، تخليق البنوك والمؤسسات المالية، تخليق الصحافة ووسائل الإعلام، تخليق الفضاء العمومي… الخ)، فما المقصود بالأخلاقيات التطبيقية؟ وما السر وراء تزايد الطلب على الأخلاق والدعوة لتخليق كل مناحي الحياة المعاصرة؟ وما مدى مواكبة الفكر العربي والإسلامي المعاصر لهذه الظاهرة؟ وما علاقة الفلسفة بهذا التطور وبهذه الحركية الذين يعرفهما الفكر الأخلاقي المعاصر؟ تلك بعض التساؤلات التي سنحاول أن نعالج بها هذا الموضوع الهام دون أن ندعي أننا نملك عنها إجابات وافية.

في العقود الأخيرة من القرن الماضي، بدأت المواضيع الكلاسيكية للفكر الفلسفي تتراجع تباعا بعد أن أوشكت على استنفاذ أغراضها، هناك أولا؛ تراجع التيارات الفلسفية التي هيمنت على الساحة الفكرية والثقافية منذ عقود خلت: العقلانية والتجريبية، الوضعية والماركسية، الوجودية والبنيوية؛ بل نلاحظ تراجعا حتى في تيارات أكثر حداثة كان من المنتظر أن تستمر مدة أطول في الساحة الفكرية والثقافية مثل التأويلية والتفكيكية والتحليلية وغيرها.

هناك ثانيا؛ انطفاء متتالي للرموز الفلسفية الكبرى التي تركت بصماتها الواضحة على الفكر الفلسفي خلال القرن الماضي، ومن أبرزهم في العالم الغربي بالتتابع: (لودفيج فدجنشتاين، وميرلوبونتي، وغاستون باشلار، وألكسندر كويري، وكارل ياسبرز، وتيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وحنّا آرنت، ومارتن هايدغر، وهربرت ماركيوز، وجان بول سارتر، وجاك لاكان، وميشيل فوكو، ولوي ألتوسير، وفيليكس جواتاري، وهانس يوناس، وجيل دولوز، وجان فرانسوا ليوتار، وميشيل هنري، وهانس جورج غادامير، وجون رولس، وجاك دريدا، وبول ريكور، وكلود ليفي ستروس…الخ). ومن أبرز الأسماء العربية التي غادرتنا مؤخرا إلى دار البقاء: محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد.

لم تتمكن أسماء أخرى من ملئ الفراغ الذي تركته تلك الرموز الفلسفية الوازنة، خاصة وأنها خلفت إرثا فلسفيا يتميز بالضخامة والغنى والتنوع، لذلك أصبحت الساحة الفلسفية تعرف ظاهرة أخرى هي الاشتغال على أعمال الفلاسفة السابقين. صحيح أن الفلاسفة كانوا دائما ينطلقون من أعمال ومشاريع سابقيهم، غير أنهم كانوا أيضا يشيدون انطلاقا منها أعمالا ومشاريع جديدة. ويبدو أن السابقين لم يتركوا للاحقين مجالا لبناء مشاريع جديدة، وبعبارة أخرى: لقد انتهى عصر الأنساق والرموز الفلسفية؛ أي أن المنتظر بعد ذلك الانطفاء لم يعد هو ظهور رموز جديدة، بل حقبة فلسفية جديدة تنسجم مع عصر المعلومات، الذي أفسح المجال لجماعات البحث والحوار، والتفكير الجماعي في ظل تكامل المعارف والتخصصات.

في مقابل تراجع الفكر الفلسفي النسقي، واصلت العلوم والتكنولوجيات مسيرتها المظفرة والكاسحة، وتطورها النوعي المتسارع، وأصبحت الاكتشافات العلمية والإنجازات التكنولوجية تستحوذ على اهتمام الفلاسفة والمفكرين بشكل عام، لدرجة أصبح يستحيل معها في الوقت الراهن على الفيلسوف أن يفكر بعيدا عن تلك الاكتشافات العلمية والإنجازات التكنولوجية.

هذا الوضع هو الذي جعل بعض المهتمين بمستقبل الفكر الفلسفي يعتقدون أن تجديد هذا الفكر سيتم في مجال “الأخلاقيات التطبيقية”، هذا المبحث الجديد الذي أصبح يثبت تدريجيا أن عصر الفيلسوف الموسوعي أو الباحث العصامي قد ولى وترك المجال للتفكير الجماعي والدراسات والبحوث التي يجريها باحثون ينتمون لتخصصات متعددة ومختلفة، وأن الفيلسوف الأكاديمي الذي يمارس التفكير النظري في قضايا المعرفة والوجود والقيم، وفي أمور اللغة والتواصل والتفكيك والتأويل، بل وفي مسائل السياسة والاجتماع والأخلاق والدين بعيدا عن اهتمامات الأجيال الجديدة، فيلسوف يحكم على نفسه وربما على الفلسفة معه بالتهميش.

أبطال السباق الفلسفي الجدد هم منشطو الفلسفة الشعبية والمقاهي الفلسفية وجماعات الحوار والنقاش. ومواضيع النقاش والحوار التي تسترعي الاهتمام وتشدّ الانتباه هي مواضيع الفلسفة العملية مثل: الفلسفة السياسية، والفلسفة النسوية، وفلسفة البيئة، وفلسفة حقوق الإنسان، وفلسفة التكنولوجيا، وفلسفة الطب والبيولوجيا، وفلسفة الجسد… الخ. ويبقى أبرز ميادين الفلسفة العملية في الوقت الراهن هو “الأخلاقيات التطبيقية”.

يركز بعض الباحثين والفلاسفة على ميدان معين من ميادين الأخلاقيات التطبيقية كميدان يتم فيع تجديد الفكر الفلسفي مثل الفيلسوف الإنجليزي ستيفن تولمين Stephen Toulmin الذي يرى أن ميدان الطب البيولوجي Biomédecine وما يرتبط به من “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” يشكل مناسبة هامة للتجديد الفلسفي حيث قال: “لقد أنقذ الطب البيولوجي الأخلاق والفلسفة2“،يقول غيره “لقد أبدع الطب فلسفة” مما يذكرنا بقول ألتوسير أيام ازدهار الدراسات الإبستمولوجية: “لقد أبدع العلم حقا فلسفة”.

أولا: الأخلاقيات التطبيقية

هي مجموعة من القواعد الأخلاقية العملية المجالية، تسعى لتنظيم الممارسة داخل مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا وما يرتبط بها من أنشطة اجتماعية واقتصادية ومهنية، كما تحاول أن تحل المشاكل الأخلاقية التي تطرحها تلك الميادين، لا انطلاقا من معايير أخلاقية جاهزة ومطلقة، بل اعتمادا على ما يتم التوصل إليه بواسطة التداول والتوافق، وعلى المعالجة الأخلاقية للحالات الخاصة والمعقدة أو المستعصية  casuistique. وفيما يلي أبرز مجالات الأخلاقيات التطبيقية:

1. “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” أو “البيوإتيقا La bioéthique: التي ترتبط بميدان علوم الحياة وما يطرحه، بعد تبلور ما يعرف بتكنولوجيا الحياة Biotechnologie، من تساؤلات تتعلق بـ”الإنجاب الاصطناعي Procréation artificielle” من شاكلة: هل يتم الإنجاب دون جنس مثلما يتم الجنس دون إنجاب (يتم الحديث عن تقنيات الإنجاب السلبية والإيجابية)؟ هل يمكن تعمد إنجاب اليتامى في حالة تخصيب الزوجة بمني زوجها بعد وفاته (إعادة النظر في عوائد ومفاهيم درج عليه البشر لآلاف السنين مثل مفهوم العائلة ومفهوم الأمومة ومفهوم البنوة ومفهوم الهوية البيولوجية) أو بـ”الموت الرحيم Euthanasie” من قبيل: هل يقبل الأطباء على انتزاع أجهزة التنفس والتغذية الاصطناعية عن المرضى الذين يعانون من غيبوبة طويلة الأمد رحمة بهم أم يواصلون إبقاءهم أحياء بشكل اصطناعي رغم عدم جدوى حياتهم؛ أي ما أصبح يعرف بـ”الإصرار على مواصلة العلاج Acharnement thérapeutique؟

2. أخلاقيات البيئة L’éthique environnementale: التي ترتبط بميدان البيئة وما يطرحه من تساؤلات أهمها: هل ستستمر موارد البيئة دون نفاذ كما تنم عن ذلك الطريقة التي نستغل بها تلك الموارد؟ وإذا علمنا ما ينتظر تلك الموارد من نضوب هل نعطي الأولوية للتنمية الاقتصادية فنستمر في استغلالها بشكل مكثف أم نعطي الأولوية للحفاظ على موارد البيئة وحمايتها من الاستغلال المفرط ولو على حساب التنمية الاقتصادية؟ وما هو الإنسان الجديد الذي تبشر به الفلسفة البيئية؟ وما هي أهم التيارات البيئية التي يجري بينها حوار حو المعضلات البيئية الأساسية؟

3. أخلاقيات الاقتصاد L’éthique économique: التي ترتبط بميدان الحياة الاقتصادية الذي يعتبر من ضمن الميادين الأساسية التي أصبحت تعرف في العقود الأخيرة تزايد الطلب على الأخلاق تحت عناوين متعددة مثل: “أخلاقيات التجارة والأعمال L’éthique des affaires” و”أخلاقيات المقاولة L’éthique de l’entreprise” و”أخلاقيات التسيير والتدبير الاقتصادي L’éthique de la gestion économique” الخ. ويطرح هذا الميدان بدوره عدة مشاكل أخلاقية إلى جانب مشاكله الكلاسيكية المرتبطة بالاقتصاد السياسي، مثل هيمنة الصبغة التجارية والبضاعية للأشياء والأشخاص في آن واحد؛ وسبل التوفيق بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على موارد البيئة وحماية هذه الأخيرة من التلوث؛ وما تطرحه المجالات الاقتصادية الجديدة من رهانات ومشاكل مثل “الاقتصاد البيئي” و”اقتصاد المشاركة” و”اقتصاد المعرفة”… الخ.

4. أخلاقيات المعلومات L’éthique de l’informatique: التي ترتبط بميدان التكنولوجيا المعلوماتية التي تشمل مختلف التقنيات التي تخص إنتاج وجمع وحفظ ونشر وبث واسترجاع المعلومات، إلى جانب ظهور مجموعة من المفاهيم التي تنم عن التحولات العميقة التي حصلت في المجتمعات المعاصرة، على رأسها مفهوم “إنتاج المعرفة” الذي هو حصيلة التفاعل بين التقنيات الجديدة والمعرفة الإنسانية؛ ومفهوم “اقتصاد المعرفة” الذي أدخل المعرفة إلى عالم الاقتصاد والتجارة، فتحولت بذلك هي الأخرى إلى سلع ومنتوجات تباع وتشترى مما أضفى عليها قيمة مادية وباعد بينها وبين قيمتها المعنوية العتيقة؛ والفرق بين مفهومين أساسيين هما: “مجتمع المعلومات” الذي يقوم على تعميم التقنيات المعلوماتية، و”مجتمع المعرفة” الذي يتجاوز ذلك لإنتاج المعلومات وما يرتبط بها من تقنيات. وتعالج “أخلاقيات المعلومات” مجموعة من الإشكاليات الراهنة المرتبطة في آن واحد بميدان الإعلاميات من جهة، وميادين أخرى كالفضاء والإعلام والهندسة الوراثية وغيرها من جهة ثانية، مثل الحرب المعلوماتية والواقع الافتراضي والتصرف في المعلومات الوراثية وغيرها.

5. أخلاقيات الإعلام والاتصال L’éthique des mass média: التي ترتبط بالثورة التكنولوجية الحاصلة في ميدان وسائل الإعلام في تقاطع مع الثورة المعلوماتية وخاصة في إطار الإنترنت، وما يتعلق بها من مسائل توجيه الرأي العام والتحكم في اختياراته، وما يرتبط أيضا بهيمنة ثقافة الصورة ودور وسائل الإعلام في قلب الحقائق وتشويه الأحداث والنيل من كرامة الأشخاص، أو قيامها،خلافا ذلك، بتنوير الرأي العام والدفاع عن القضايا العادلة ومواجهة الظلم والاستبداد… الخ.

6. أخلاقيات التكنولوجيا La technoéthique: تعتبر من ميادين “الأخلاقيات التطبيقية” الأساسية التي تلتقي في إطارها جملة من الميادين الفرعية. وهكذا يمكن أن نتكلم عن “أخلاقيات تكنولوجيا الإعلام” و”أخلاقيات تكنولوجيا المعلومات”، و”أخلاقيات تكنولوجيا الحياة”، و”أخلاقيات تكنولوجيا الفضاء” و”أخلاقيات التكنولوجيا العسكرية”… الخ، وكل ميدان من هذه الميادين يمكن أن ينقسم بدوره إلى ميادين فرعية أخرى، فميدان “أخلاقيات تكنولوجيا الحياة” يمكن أن تتفرع عنه على سبيل المثال: “أخلاقيات تكنولوجيا الإنجاب” و”أخلاقيات تكنولوجيا التصرف في الجهاز العصبي” و”أخلاقيات التقنية الوراثية” و”أخلاقيات تكنولوجيا الموت”… الخ.

    ويطرح كل ميدان من هذه الميادين التكنولوجية إشكاليات أخلاقية نوعية، إضافة إلى المشاكل الأخلاقية العامة التي تطرحها علاقة الإنسان بالتقنية، وخاصة بعد أن أصبحت التقنية هي الموجه الرئيسي لكثير من تعاملاتنا اليومية من أبسط الأمور إلى أشدها تعقيداً، وأضحت تشكل بديلاً عن الواقع الحقيقي، وتطرح، بذلك، مشاكل متعلقة بالهوية الإنسانية، وأخرى ترتبط بحرية الإنسان في علاقته بالتقنية ومدى إمكانية الحديث عن تبعية الإنسان للتقنية، ومدى قدرته على ضبط مساراتها والتحكم في أشكال انفلاتها، وكذا الحيلولة دون تسببها في تغيير طبيعة الإنسان الأخلاقية وبعده القيمي عموما. وعلى العموم تطرح، في هذا الإطار، قضية أساسية تتعلق بالتوتر الدائم والمستمر الذي يطبع العلاقة بين الزوج (علم/تقنية) الذي يتسم بالتقدم والتطور المستمر، والزوج (أخلاق/قيم) الذي يتسم على خلاف ذلك بالمحافظة والثبات أو على الأقل يسعى جاهدا لذلك.

7. أخلاقيات تكنولوجيا الفضاء L’éthique de la technologie spatiale: التي ترتبط بميدان الفضاء، فبعد تطور تكنولوجيا الفضاء وتزايد الاهتمام بالفضاء والدراسات الفضائية، طرحت مسألة القواعد الأخلاقية التي أصبحت تفرض نفسها في إطار التعامل مع هذا المجال الواسع الذي يرتبط بكثير مما يحدث في عالمنا المعاصر، وأصبح هو الآخر يطرح تساؤلات من شاكلة: إلى متى سيستمر استغلال الفضاء حكرا على دول معينة دون غيرها خاصة وأن احتكار تكنولوجيا الفضاء هو هيمنة على الإعلام وتوجيه للرأي العام العالمي؟ وهل سيأتي زمان يقسم فيه الفضاء إلى مناطق نفوذ ويسطر بالحدود كما حصل بالنسبة للبر والبحر؟ وهل يمكن أن نعثر على ظروف ملائمة للحياة خارج الغلاف الجوي؟ وهل بوسع للإنسان أن يعيش في كوكب آخر غير الأرض؟ هل يستطيع أن يحمل معه خارج الأرض العناصر الضرورية للحياة لآماد طويلة؟ وهل هناك كائنات حية أو عاقلة قد تفوقنا ذكاء خارج الأرض…؟ الخ.

ثانيا: نماذج من الأخلاقيات التطبيقية

لتحديد أبرز خصائص “الأخلاقيات التطبيقية”، سنركز على ثلاثة نماذج أساسية أوردتها الفيلسوفة الكندية المتخصصة في “الأخلاقيات التطبيقية” ماري إلين باريزوMarie-Hélène Parizeau في موسوعة “الأخلاقيات والفلسفة الأخلاقية” وهي “الأخلاقيات المهنية” و”أخلاقيات البيئة” و”أخلاقيات الطب والبيولوجيا3.”

1. “أخلاقيات الطب والبيولوجيا أو البيوإتيقا La bioéthique”

 ظهرت “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” في مستهل السبعينات من القرن الماضي كتخصص جديد يهتم بالمشاكل الأخلاقية التي تطرحها الممارسة العلمية والتكنولوجية في ميادين الطب والبيولوجيا والصحة، فقد عرفت هذه الميادين ثورة علمية وتكنولوجية منذ أواسط القرن الماضي، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي امتازت بالسبق العلمي والتكنولوجي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ونتجت عن تلك الثورة العلمية والتكنولوجية مشاكل أخلاقية غير مسبوقة اتضح أن الفكر الأخلاقي الكلاسيكي عاجز عن استيعابها وتقديم الحلول المناسبة لها.

تزامنت تلك الثورة العلمية والتكنولوجية مع ثورة اجتماعية وثقافية، تجلت داخل الولايات المتحدة الأمريكية في تبلور “حركات اجتماعية-ثقافية” تطالب بمجموعة من الحقوق المدنية كالمساواة بين الجنسين وحذف الطلاق من لائحة المحظورات وتمكين المرضى من حقهم في تقرير المصير، وما صاحب ذلك من مواجهة لمختلف المؤسسات التي كانت ترمز للسلطة الاجتماعية وخاصة منها سلطة الأطباء والباحثين التي بدأت تثير الكثير من الجدال والنقاش منذ أواسط القرن الماضي.

في إطار ربط الفكر بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي ظهر فيه، لابد من الوقوف عند هذه الحركة الاجتماعية التي عرفها المجتمع الأمريكي أواخر الستينات من القرن الماضي، والتي كان من مظاهرها البارزة مواجهة السلطة الطبية، خاصة بعد أن أصبح الأطباء وبعض المشتغلين بمهام البحث العلمي في مختلف ميادين الطب والصحة، يقومون بممارسات تتعارض مع المبادئ والقواعد التي تقوم عليها “أخلاقيات مهنة الطب”. إن البيوإتيقا بهذا تترجم في جانب من جوانبها موجة السخط والنقمة التي عبرت عنها فئات عريضة من المجتمع الأمريكي تجاه فئة من الباحثين في ميدان الطب، أجبرت فئات من الأطفال والزنوج والسجناء والعجزة على الخضوع لتجارب طبية خطيرة، دون أخذ موافقتهم أو إخبارهم بما قد ينجم عنها من انعكاسات سلبية على صحتهم وحياتهم، علما بأن هذه الفئات كان من المفروض أن تكون محط عنايتهم ورعايتهم الطبية. كان ذلك من أبرز العوامل التي دفعت للتفكير في تطوير الفكر الأخلاقي، وبالفعل تبلورت منذ ذلك الوقت طرق جديدة للتعامل مع المشاكل الأخلاقية التي تطرحها الممارسة الطبية، ولمواجهة ما تتعرض له الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان من انتهاك في إطار أبحاث وتجارب الطب والبيولوجيا .

تزامن التفكير في وضع قواعد أخلاقية جديدة توجه الممارسة الطبية والبيولوجية مع تبلور فكر أخلاقي تطبيقي طال عدة ميادين أهمها ميادين التجارة والبيئة والإعلام، وقد أدى كل ذلك إلى استبدال مصطلح “الأخلاق Moral” بمصطلح “الأخلاقيات: Ethics”، وإلى إدراج الفكر الأخلاقي الذي يرتبط بهذه الميادين وغيرها في إطار عبارة “الأخلاقيات التطبيقية” كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ وفي هذا السياق ظهر مصطلح جديد للتعبير عن المبحث الأخلاقي الجديد الذي يعالج المشاكل الأخلاقية التي تثيرها ثورة الطب والبيولوجيا، وهو مصطلح “Bioethics”.

ترجم هذا المصطلح الجديد الذي استعمله عالم السرطان الأمريكي “فان بوتر رينسلايرVan Potter Rensselayer” باللغة الإنجليزية سنة 1970 إلى الفرنسية بمصطلح “La bioéthique”، أما في اللغة العربية، فيمكن تقسيم محاولات ترجمة هذا المصطلح الجديد إلى ثلاثة أقسام: يحاول القسم الأول أن يبحث للمصطلح عن مقابل في اللغة العربية، وهي محاولة صعبة؛ لأن المصطلح مشتق في الأصل من كلمتين يونانيتين هما: Bios بمعنى الحياة، وEthos:Ethique؛ بمعنى الأخلاق أو الأخلاقيات، كما يحيل شقه الأول في اللغة الفرنسية “Bio” إلى علوم الحياة أو البيولوجيا..

لذلك نجد من يترجم المصطلح بـ”الأخلاق الطبية” أو “أخلاقيات الطب” أو “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” أو “أخلاقيات علوم الصحة والحياة” أو “أخلاقيات علوم الحياة”، بينما يحاول القسم الثاني الدمج بين جزء من المعنى العربي وجزء من المصطلح اللاتيني، وهذا ما نجده عند الذين ترجموا الكلمة بـ”البيو-أخلاق” أو “البيو-أخلاقيات”، وأخيرا تسعى المحاولة الثالثة إلى تجاوز فوضى الترجمة بالإبقاء على الكلمة اللاتينية، وهذا ما نجده عند الذين ترجموا الكلمة بـ”البيوإتيك”. ونحن من جهتنا، إلى جانب تفضيلنا لعبارة “أخلاقيات الطب والبيولوجيا”، نقترح الإبقاء على الأصل اللاتيني للكلمة مع إدخال تغيير طفيف عليه تسهيلا للاستعمال، وبالتالي استعمال كلمة “البيوإتيقا”، وذلك على غرار احتفاظ اللغة العربية بالكثير من الكلمات اللاتينية وحتى اليونانية لنفس الغرض، رغم وجود ترجمات دقيقة لها مثل: ابستمولوجيا، إيديولوجيا، ميتافيزيقا، انطولوجيا…الخ .

هناك تصوران يتنازعان “البيوإتيقا” على مستوى المجالات التي تغطيها: يمثل “أندري هيليغرز André Hellegers” تصورا أول يرى أن “البيوإتيقا” تشكل استمرارية لأخلاقيات الطب الكلاسيكية، وبالتالي فالمقابل المناسب لها هو “أخلاقيات الطب Éthique médicale”. بينما يمثل “بوتر” التصور الثاني الذي يرى بأن “البيوإتيقا” تشكل مقاربة جديدة لأخلاقيات الطب بشكل خاص، وللأخلاقيات التطبيقية بشكل عام.

 وبذلك فهي تتميز بطابع الشمولية بحيث تتضمن “أخلاقيات الطب” كفصل من فصولها وكمرحلة تاريخية ممهدة لها من جهة، كما تتضمن من جهة ثانية كل أشكال “الأخلاقيات التطبيقية” الأخرى وخاصة منها “أخلاقيات البيئة” مادامت تعالج قضايا ومشاكل أخلاقية ذات ارتباط بعالمي النبات والحيوان كما هو الشأن بالنسبة للنباتات والحيوانات المعدلة وراثيا والتجارب على الحيوانات بشكل عام، إضافة إلى الفيروسات التي يستعان بها لإجراء مختلف أشكال التعديل الوراثي والأسلحة البيولوجية…الخ.

يمكن أن نقول مع الفيلسوف الأمريكي “دانيال كالاهان Daniel Callahan” أن “البيوإتيقا” كانت بالفعل تعبيرا ثقافيا عن كل التغيرات التي عرفها المجتمع الأمريكي ما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل خاص، وتلك التي عرفها العالم المتقدم بشكل عام. فعلى مستوى السياق العام، استدعى ما بعد الحرب العالمية الثانية القيام بتجديد حقيقي على المستوى القيمي والإيديولوجي والفلسفي؛ أما على مستوى السياق الخاص، فقد كان للسبق الأمريكي في إطار التقدم العلمي والتكنولوجي في ميادين علوم الحياة، ولنفور المفكرين الأمريكيين من كل ما هو نظري وتشبعهم بالفلسفات العملية والبراغماتية، وما صاحب ذلك خلال ستينيات القرن الماضي من تجاوزات من طرف الأطباء والباحثين، مما أدى إلى مراجعة جذرية قام بها كل من “جوزيف فلتشر Joseph Fletcher” وهو أول من درّس “أخلاقيات الطب” في جامعة فرجينيا، ويعتبر رائدا في مجال البيوإتيقا من خلال كتابه “الأخلاق والطب Morals and Medicine” الذي صدر سنة 1954 وهو أول عمل بيوإتيقي حقيقي ظهر قبل استعمال “بوتر” لمصطلح “بيوإتيقا”، ففي هذا الكتاب أقام “فلتشر” فكره الأخلاقي لا انطلاقا من العقائد اللاهوتية المسيحية، ولا انطلاقا من مواقف الأطباء، بل انطلاقا ولأول مرة من مطالب المرضى وحقوقهم، وقد كان “استقلال المريض كشخص” هو النقطة المحورية في موقفه هذا، كما وضع “فلتشر” أيضا أسس نظرية أخلاقية جديدة في كتابه الذي صدر سنة 1966: “أخلاقيات الحالات الخاصة: التوجه الأخلاقي الجديد Situation Ethics: the new Morality”؛ و”هنري بيتشر Henry Beecher” الذي كان أستاذا متخصصا في التخدير يدرس في جامعة هارفارد، وقد نشر سنة 1966 أيضا مقالا ذا أهمية قصوى في جريدة “New England Journal of Medicine” تحت عنوان: “الأخلاق والبحث العلمي في مجال الطب Ethics and Medical Research”. كل ذلك انصهر مع دور رجال الدين المتحررين، إضافة إلى الفلاسفة ورجال السياسة والقانون لكي ينتج هذا المولود الفكري الجديد .

أما الجذور النظرية التي يرجع إليها الفكر الأخلاقي الجديد الذي تبلور في ميادين الطب والبيولوجيا، فيرجعها بعض الباحثين إلى المرحلة اليونانية: سواء تعلق الأمر بالثورة الطبية والبيولوجية أو بالثورة الأخلاقية المصاحبة لها. بالنسبة للمستوى الأول، يربط بعض الباحثين الثورة الطبية البيولوجية بالأساطير اليونانية التي تناول بعضها موضوع الإنسان القوي بفضل معارفه التي مكنته من إخضاع الطبيعة وتسخيرها لصالحه، والإشارة هنا بالخصوص إلى بطل أسطورة “النار المقدسة” بروميثيوس؛ وعالج بعضها الآخر موضوع تطور الإنسان وتشبهه بالآلهة على مستوى قدراته، والإحالة هنا إلى “أنصاف الآلهة” في الميثولوجيا الإغريقية، وإلى المسوخ والهجائن التي تناولتها تلك الميثولوجيا بشكل مسهب.

 كما يحيل بعض الباحثين، في إطار نظرية تحسين النسل، إلى أفلاطون واقتراحه في جمهوريته تزويج الأقوياء من الجنسين ببعضهم البعض وتعقيم الضعاف والتخلص من العجزة كإحدى سبل تحقيق المجتمع المثالي. أما المستوى الثاني، فتتم الإحالة بشأنه إلى أبوقراط وقسمه المشهور الذي ضمّنه بعض القواعد الأخلاقية الموجهة للأطباء أثناء مزاولتهم لمهنتهم والتي ما زال تأثيرها قائما إلى اليوم، وإلى أرسطو في إطار نظريته الأخلاقية التي تقوم على الحيطة والحذر، والحكمة والتعقل، والتي تعتبر موجها أخلاقيا أساسيا للممارسة في ميادين الطب والبيولوجيا.
نعثر على جذور أخرى للفكر الأخلاقي الجديد في عصر الأنوار وخاصة مع فرانسيس بيكون الذي كان يدعو إلى السيطرة على الطبيعة بواسطة العلم؛ وديكارت الذي كان يؤكد أنه بالعقل يمكن للإنسان أن ينفذ إلى أعماق كل العوالم والموجودات؛ ولوك الذي كان يدعو للحد من سلطة الحكام ورجال السياسة وضمنيا من كل سلطة تسيء للأفراد في الوقت الذي تدعي أنها تعمل لمصلحتهم؛ وكانط الذي انطلق من أخلاقيات الواجب ليؤكد أن “الكرامة” خاصية تميز البشر عن غيرهم من الكائنات. وفي إطار تشكل الفكر البيوإتيقي الذي يطبعه النقاش والحوار بين تخصصات متعددة، يجب أن ننظر لهذه المواقف في تعارضاتها أيضا.

هناك جذور أخرى ترجع إلى فكرة “حقوق الإنسان” وتتمحور حول الحرية والعدالة والمساواة. وسيتم استدعاء هذه الجذور في إطار “علاقة الطبيب بالمريض” حيث يدعو المهتمون بحقوق المرضى” إلى تجاوز مفهوم “السلطة الأبوية للطبيب Paternalisme” ومنح المرضى حق تقرير المصير واشتراط “مبدأ الموافقة الواعية” لعلاج المرضى؛ أو في إطار المطالبة “بالحق في الموت بكرامة”؛ أو في إطار المطالبة بتكافؤ الفرص فيما يتعلق بولوج العلاج الطبي وتخصيص الموارد الصحية؛ وفي إطار الدعوة المتزايدة إلى احترام حقوق الإنسان في مجال أبحاث الهندسة الوراثية والاستنساخ… الخ.
من جذور الفكر البيوإتيقي الهامة أيضا،”مبدأ المسؤولية” الذي نجد له أصولا فلسفية في فلسفة سارتر، وخاصة الأبعاد الجديدة التي أخذها مع “هانس يوناس”. ويتم استدعاء هذا المبدأ في إطار التأكيد على مسؤوليات الأطباء والباحثين المتعددة، مسئوليتهم ليس على المرضى الحاليين فحسب، ولكن على الأجيال القادمة أيضا، هذه المسؤولية التي أصبحت تتعاظم بعد ما أصبح يتوفر عليه هؤلاء الباحثون من قدرة على معرفة تفاصيل المخزون الوراثي للإنسان وإقدامهم على إحداث تغييرات في هذا المخزون الوراثي قد تتعدى آثارها الأجيال الحالية للأجيال القادمة.

يعتبر “قانون نورنبرغ” بدوره من أبرز الجذور التي ترجع إليها “أخلاقيات الطب والبيولوجيا”، ويتم استدعاؤه لحظر التجارب على البشر التي لا تتم بناء على موافقة واعية، ولإدانة كل ما يمكن أن يندرج في إطار “الجريمة ضد الإنسانية” من أبحاث وتجارب تجرى على الأجنة أو تستهدف استنساخ الإنسان. ويندرج في هذا السياق ما قام به بعض الباحثين الأمريكيين منهم “هنري بيتشر” خلال الستينات من القرن الماضي من فضح للتجارب اللامشروعة التي أجراها الباحثون داخل المستشفيات الأمريكية دون احترام أو تقدير لكرامة الأشخاص الذين أجريت عليهم، وما أثاره ذلك من سخط عارم وسط الرأي العام الأمريكي سيكون له دور في المبادرة إلى تأسيس لجان الأخلاقيات الأولى.
عدم التمييز بين جذور الفكر البيوإتيقي ونشأته الفعلية، وبين هذه النشأة ولحظات التطور، أدى إلى وجود خلط في بعض الكتابات التي تؤرخ له: فهناك من يرجعه إلى “قانون نورنبرغ”، وهناك من يرجعه إلى “مؤتمر أسيلومار”، وهناك (من الفرنسيين خاصة) من يربطه بلحظة تأسيس لجنة الأخلاقيات الفرنسية سنة 1983؛ والحقيقة أن للفكر البيوإتيقي جذورا متعددة، غير أن نشأته الرسمية كانت سنة 1970 حين أبدع “بوتر” المصطلح، وعرف منعرجا أساسيا بعد مؤتمر “أسيلومار” سنة 1974، وبدأ يأخذ صبغة عالمية منذ تأسيس لجنة الأخلاقيات الفرنسية سنة 1983.

مر الفكر البيوإتيقي بثلاثة مراحل أساسية ومرحلة تمهيدية ينعتها البعض بـ “مرحلة ما قبل البيوإتيقا”، وترجع إلى الفترة اليونانية مع “قسم أبوقراط” وما تلاه من حقب تاريخية تميزت بهيمنة “السلطة الأبوية للطبيب”، وقد عرفت الفترة الأخيرة من هذه المرحلة سعيا حقيقيا للتخلص من الخطاب الأخلاقي الكلاسيكي الذي يستند للسلطة الأبوية للأطباء. أما المرحلة البيوإتيقية الأولى المعروفة “بالمرحلة الأخلاقية واللاهوتية” فتتميز بتأسيس “مبحث البيوإتيقا” بطابعه البيئي الشمولي الذي أكد علية مبدع المصطلح “بوتر”، وبتأسيس لجان الأخلاقيات الأولى وإرساء خطاب أخلاقي جديد قادر على مسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي عرفته تلك الميادين؛ ورغم ذلك،عرفت هذه المرحلة صراعا قويا بين الفلاسفة ورجال القانون الذين حاولوا جاهدين إضفاء الصبغة العلمانية على الفكر البيوإتيقي، وبين رجال الدين المسيحي الذين نجحوا في بسط  هيمنة الخطاب الديني على الحركة البيوإتيقية في بداية نشأتها.

وتتميز المرحلة البيوإتيقية الثالثة المعروفة بـ”المرحلة القانونية والفلسفية” بتراجع تصور “بوتر” أمام تصور “هيليغرز” الذي ينازعه السبق في استعمال المصطلح، وهكذا سيتمحور اهتمام المفكرين في هذه المرحلة حول المواضيع والقضايا الطبية، وخاصة ما يتعلق بالتطور الذي عرفته العلاقة بين الطبيب والمريض والشكل الجديد للقرار الطبي الذي أصبح يشارك فيه أشخاص قادمون من خارج ميدان الطب وما يرتبط بهما من قضايا مثل “الاستقلال الذاتي للمريض” وعدم إفشاء أسراره واحترام حياته الخاصة. وفي المرحلة الأخيرة التي هيمن فيها الطابع التجاري والاقتصادي، سيتم الاهتمام بمشاكل الصحة العمومية وما يرتبط بها من قضايا توزيع الموارد وتحديد من سيستفيد أولا من العلاج الطبي وولوج المرافق الصحية المختلفة. بالموازاة مع ذلك، سترجع الاهتمامات الأخلاقية والدينية بقوة، وسيوجه اللوم والنقد للمقاربة القانونية التي يطبعها الجفاء وترجح كفة التعاقد في ميدان يحتاج أكثر إلى الإحسان والمواساة والعلاقة الإنسانية الحميمة.
على مستوى التيارات التي تتنازع في إطار البيوإتيقا، هناك أساسا التيار المبدئي Principisme الذي يهيمن على الفكر البيوإتيقي الأمريكي؛ والذي يؤسس الممارسة الطبية والبيولوجية على أربعة مبادئ أصبحت تعتبر كلاسيكية، وهي مبدأ الاستقلال الذاتي Autonomie ومبدأ الإحسان Bienfaisance ومبدأ عدم الإساءة Non malfaisance ومبدأ العدالة Justice. وإذا كان السياق الأمريكي قد عرف انتقادات وتعديلات موجهة لهذا النموذج الكلاسيكي، فإن المراجعة الأساسية التي عرفها حصلت في دول أوروبا اللاتينية وخاصة في فرنسا؛ ولم تكتف هذه الدول بانتقاد التيار المبدئي والمطالبة بإدخال تعديلات جوهرية عليه، بل قدمت نموذجا بديلا أصبح يعرف بالنموذج البيوإتيقي الأوروبي اللاتيني.

ويتجلى الجديد الذي قدمه هذا النموذج الأوروبي في التأكيد على مبادئ حقوق الإنسان وإعطاء الأولوية للنزعة الأخلاقية الكانطية التي تقوم على مبدأ “الكرامة الإنسانية” عوض النزعة النفعية وخاصة في وجهها البراغماتي. ولا يعني ذلك أن النموذج المبدئي قد تم إقصاؤه بصفة نهائية من هذه البلدان، بل يعني فقط أن المجال قد فتح سواء في أمريكا أو في أوروبا لنماذج جديدة ومقاربات بديلة أهمها: تلك التي تقوم على أساس تقدير مسؤولية الأطباء والباحثين، وتلك التي تعيد الاعتبار للنساء، وأخيرا تلك التي تراهن على التعاطف مع المرضى والتأكيد على حقوقهم…الخ .

إلى جانب اهتمامه بالمبادئ التي يلزم أن توجه الممارسة في ميادين الطب والبيولوجيا؛ يهتم الفكر البيوإتيقي بالمشاكل الأخلاقية التي تطرحها هذه الممارسة، وبالتالي بالحلول التي يجب البحث عنها لتجاوز تلك المشاكل، والتعارض الحاصل بين الأطراف المعنية بها، وتتوزع تلك المشاكل بين ميادين الطب والعلاج من جهة، وميادين البيولوجيا والهندسة الوراثية من جهة ثانية.
في ميادين الطب، تطرح أولا المشاكل المتعلقة بالتجارب الطبية والدوائية، وتتمحور حول مشكل “الموافقة الواعية”، وحول جملة من التعارضات أهمها: التعارض بين مبدأ “الموافقة الواعية” ومبدأ “احترام الأشخاص” من جهة، وبين مبدأي العدالة والإحسان من جهة ثانية. غير أن “التجارب على البشر” تحمل إضافة إلى ذلك دلالة متميزة، نظرا لكونها موضوعا رئيسيا لمحاكمات نورنبرغ من جهة، ولأنها من جهة ثانية، كانت منطلقا لانبعاث الفكر الأخلاقي في الولايات المتحدة الأمريكية أواخر الستينات من القرن الماضي في إطار الممارسة الطبية والبيولوجية. أما بالنسبة لقضية زرع الأعضاء، فتطرح المشاكل المتعلقة بالمانحين والمستفيدين، وخاصة منها ما يرتبط بندرة الأعضاء القابلة للزرع، مما يقود إلى مشكل الاتجار بالأعضاء وتعريض الإنسان للاستغلال والامتهان.

لذلك، هناك سعي عالمي لحماية المتبرعين بالأعضاء من الأحياء والأموات، من خلال سن مجموعة من القوانين تستند إلى مبادئ الموافقة الواعية وسرية المتبرعين ومجانية الأعضاء وبطاقة المتبرع. أما مشاكل “طب الاحتضار” فترتبط بالخصوص بمعاناة المتقدمين في السن مع أمراض الشيخوخة ونبذ المحيط؛ وبما يقاسيه ضحايا الحوادث الخطيرة من جراء إصرار الأطباء على مواصلة علاجهم مهما كلف الثمن؛ وأخيرا ما يرتبط في إطار “الموت الرحيم” بمطالب من يعانون من مخلفات المراحل النهائية لبعض الأمراض الخطيرة كالسيدا والسرطان، حيث يلحون على وضع حد لمعاناتهم واستفادتهم بالتالي مما أصبح يعرف بـ”الحق في الموت بكرامة”؛ وما يقابل هذا الحل من مطالبة البعض باستبدال الموت الرحيم الذي يعتبرونه قتلا مقنعا أو انتحارا طبيا، بمرافقة المحتضرين ومواساتهم وتسكين آلامهم.

بالنسبة للجهاز العصبي، أصبحت “علوم الجهاز العصبي”، بعدما فتحت باب الأمل لعلاج أمراضه، تطرح مشاكل أخلاقية ترتبط بمحاولات التحكم في الجهاز العصبي، وظهر بالخصوص تخوف من التحكم في عقل الإنسان وتفكيره سواء كفرد أو كجماعة؛ وتطرح محاولات التحكم في الجهاز العصبي بواسطة الجراحة وزرع الأنسجة والخلايا الجذعية، مشاكل أخلاقية ترتبط بتغيير شخصية الإنسان والنيل من كرامته وانتهاك حقوق الأجنة؛ أما التحكم في الجهاز العصبي بواسطة العقاقير، فيثير تخوفا خاصا من السعي لتغيير تفكير الأفراد أو إخضاع المجتمعات للتخدير وتحويلها إلى آلات بشرية منصاعة كليا.

ويطرح “موت الدماغ” مشكل التوافق حول قبوله كمعيار لوقوع الموت؛ وتحديد متى يحصل: هل بموت الدماغ ككل أم بموت الدماغ العلوي رغم استمرار جذع الدماغ في أداء وظائفه؛ ومشكل الحسم في ماهية الطبيعة الإنسانية وهل تتعلق بالجانب الجسمي أم بالجانب النفسي أم بهما معا؟ وأخيرا تطرح “الحالة النباتية” مشكل التمييز بين الغيبوبة القصيرة الأمد والطويلة الأمد التي وصلت إلى نقطة اللارجوع؛ ومشكل مدى مشروعية نزع الوسائل الاصطناعية الداعمة، وأخيرا مشكل قيمة الحياة وهل نقدر الحياة النوعية فقط أم أن الحياة في جميع أشكالها تتطلب منا التقدير والاحترام. وعموما، تستلزم قواعد الأخلاق الجديدة التصرف في الجهاز العصبي وفق مبدأ الموافقة الواعية، وتحقق الثقة اللازمة بين الطبيب والمريض؛ والامتناع عن كل ما يهدد بانتهاك الكرامة الإنسانية أو بإحداث التغيير في الطبيعة الإنسانية.

بالنسبة للمشاكل التي تطرحها محاولات التحكم في الإنجاب، مع التأكيد على النتائج الإيجابية الكثيرة التي تحققت في هذا الميدان، سواء على مستوى تنظيم النسل حيث نجح الكثيرون في المباعدة بين الولادات وما لذلك من انعكاسات إيجابية على صحة الأم وتربية الأبناء وتراجع نسبة النمو الديمغرافي، أو على مستوى الإنجاب الاصطناعي حيث تم التغلب بنسبة لا يستهان بها على معضلة العقم؛ سنكتفي بإشارة موجزة إلى أهم تلك المشاكل حسب القضايا التي ترتبط بها، فتنظيم النسل يطرح مشاكل ترتبط بحريات الأفراد وخاصة حين يندرج في إطار مشاريع الدولة، وما يمكن أن يرتبط بها من أهداف ذات علاقة “بتحسين النسل؛ أما الإجهاض فيطرح مشاكل تتعلق بوضعية الجنين ومتى يكتسب صفة “الشخص”، وتعارض حقوق الجنين مع حقوق الأم، وتعارض حقوقهما معا مع حقوق المجتمع؛ ويطرح الإجهاض الانتقائي مشاكل إضافية تتعلق بالميز الجنسي.

يطرح الإنجاب الاصطناعي مشاكل أخلاقية أخرى تتعلق بعدة مسائل منها مسألة التلقيح الاصطناعي وخاصة في حالة اللجوء إلى طرف ثالث متبرع بالمني، مما يطرح مشكل هوية الطفل وحقه في التعرف على والده البيولوجي؛ ومسألة الإخصاب خارج الرحم وما يطرحه من مشاكل تتعلق بانطلاق عملية “تصنيع الإنسان” والسعي لتغيير طرق الإنجاب الطبيعية؛ وبنوك المني وما تطرحه من مشاكل الاتجار في عناصر الجسم البشري وخاصة بعد الترويج لما عرف ببنوك مني العباقرة؛ ومسألة بنوك الأجنة وما تطرحه من مشاكل شروط حفظها، ومدى مشروعية التخلص من الأجنة الفائضة، ومشكل إنتاج أجنة بشرية خصيصا للبحث العلمي، وما يطرحه ذلك من تعارض مع مبدأ كرامة الإنسان؛ وأخيرا مسألة استئجار الأرحام وما تطرحه من مشاكل تتعلق بامتهان إحدى الوظائف الإنسانية الأساسية التي تؤديها المرأة وهي وظيفة الأمومة، إضافة إلى تشييء الأم الحاضنة والطفل معا والابتزاز المادي الذي يحتمل أن يتعرض له الزوجان من طرف الأم الحاضنة، وما يمكن أن يتعرض له الطفل سواء من طرف الأم الحاضنة أو من طرف الأم الاجتماعية من إهمال في حالة إصابته بتشوه أو مرض وراثي خطير.

تتميز المشاكل الأخلاقية التي تطرحها تقنيات وقضايا الهندسة الوراثية بشدة خطورتها وإثارتها للكثير من الجدال والخلاف: هناك أولا مسألة الجينوم البشري، فإلى جانب ما تعد به من آمال واسعة في إطار تحقيق معرفة أحسن بالإنسان، وبالأمراض الخطيرة التي تهدده والجينات المسؤولة عنها، مما سيسهل إعداد الأدوية الناجعة لها؛ هناك أيضا المشاكل التي يطرحها فك أسرار الوراثة البشرية والمخاوف التي يثيرها التصرف فيها، ومنها مشكل “التنبؤ الوراثي” وإمكانية أن يعرف الإنسان مستقبله الصحي سلفا، وما يمكن أن تسببه له تلك المعرفة من اضطراب في حياته خاصة إذا علم أنه سيصاب بمرض خطير في وقت محدد دون أن تتوفر إمكانية علاجه، إضافة إلى ما يمكن أن تتعرض له المعلومات الوراثية الخاصة بالأفراد من عمليات القرصنة والاستغلال من طرف شركات التأمين ومكاتب التشغيل التي يمكن أن تمارس بناء عليها عنصرية من نوع جديد وإقصاء للمهددين بالإصابة بالأمراض الوراثية الخطيرة من الاستفادة من التأمين والشغل والضمان الاجتماعي، ومن المشاكل المطروحة أيضا ما يتعلق بقراءة جينوم الأجنة من إمكانية تزايد إجهاض الأجنة ولو لأتفه الأسباب.

مع ما ينتظره منها البعض من توفير مخزون احتياطي للأعضاء والأنسجة والخلايا البديلة وعلاج للأمراض الوراثية وقضاء نهائي على العقم وفتح صفحة جديدة في إطار الوجود البشري تجعل الإنسان يتطلع إلى تحقيق حلمه القديم في الخلود، تطرح مسألة الاستنساخ البشري بدورها مشاكل متعددة غير مسبوقة تتمحور حول طبيعة الإنسان ومستقبل وجوده وما يمكن أن ينجم عن تحقيق ذلك من مضار وانعكاسات سلبية، سواء على الأفراد المستنسخين الذين سيعانون من مشكل الشيخوخة المبكرة الذي تسبب في موت “النعجة دوللي قبل الأوان”، ومن الحرمان من عائلة حقيقية وهوية مميزة، ومن الحيرة في تحديد نوع العلاقة التي تربطهم سواء بالأصول أو بالفروع أو بالأقارب، وعلى المجتمعات التي ستضطر في حالة تزايد أعداد المستنسخين إلى إعادة النظر فيما درجت عليه لقرون من أنظمة القرابة والإرث والزواج وغيرها، وعلى البشرية ككل حيث يرى بعض الباحثين أن تحقيق الاستنساخ البشري على نطاق واسع يهدد الأجيال القادمة بالفقر البيولوجي كما يهددها بالانقراض بناء على تشجيعه لفصل الإنجاب على الجنس وبالتالي للتحكم الكامل في الجينوم البشري وتحويل الإنسان إلى كائن مصنوع سيفقد الخصائص البشرية بالتدريج.

بعلاقة بكل القضايا والمشاكل السالفة الذكر، يطرح “تحسين السلالة البشرية Eugénisme” المشاكل المركزية للفكر الأخلاقي الجديد: فبالإضافة إلى ما يمارسه موضوع تحسين النسل من إغراء للإنسان العادي وإغواء للأطباء والباحثين، تعتبر كل تقنيات الطب والبيولوجيا والهندسة الوراثية أدوات محتملة لممارسة تحسين النسل، وإذا كانت أصول نزعة تحسين النسل ترجع إلى عهود سابقة وخاصة أواخر القرن التاسع عشر بتضافر عدة عوامل منها تدهور الحالة الاجتماعية والصحية لكثير من المدن الصناعية الأوروبية إضافة إلى تبلور النزعة العنصرية وعلم الوراثة والداروينية الاجتماعية، وارتبط بخطط وإجراءات عنصرية تشرف عليها أنظمة شمولية بمبررات التطهير العرقي أو أنظمة ديمقراطية بمبررات تحقيق الرفاه؛ فإن هذه النزعة انبعثت من جديد في غمار ثورة الطب والبيولوجيا متمثلة بالخصوص في تقنيات الهندسة الوراثية، ورفعت شعار التطهير الوراثي بدل شعار التطهير العرقي، وأصبحت حسب الباحث الفرنسي المتخصص في الإنجاب الاصطناعي “جاك تيستار Jacques Testart” تؤدي مهمتها بصمت واعتمادا على مبررات يقبلها الجميع أهمها السعي للقضاء على الأمراض الوراثية وتحقيق صحة جيدة للأفراد وتقدم وازدهار للمجتمعات.

 بسبب ذلك استقطب موضوع تحسين النسل عدة فعاليات علمية وفلسفية ودار حوله نقاش حاد بين نزعتين؛ تدافع إحداهما عن التقدم العلمي والتكنولوجي مؤكدة أن علوم الحياة لا يمكن فصلها عن تحسين النسل، وتدافع الأخرى عن حقوق الإنسان وكرامته وتؤكد أن الانسياق مع أهداف دعاة تحسين النسل وتعريض البشرية للمخاطر ليس مأمون العواقب.

الوعي بالمخاطر التي يمكن أن تنجم عن تكنولوجيا الحياة والنزاع بين من يؤكد على أولوية دعم تقدم العلوم والتقنيات في ميادين الطب والبيولوجيا، وبين من يدافع عن أولوية دعم الكرامة الإنسانية والحفاظ على طبيعة الإنسان وضمان استمراره في الوجود؛ هذا كله أدى إلى سعي حثيث لتقنين هذا الميدان وتنظيمه محليا ودوليا بناء على مبادئ حقوق الإنسان.

تطرح “أخلاقيات الطب والبيولوجيا” أو البيوإتيقا رهانات متعددة: أخلاقية وقانونية وحقوقية وفلسفية، سنحاول تسليط بعض الأضواء على الرهان الفلسفي وحده: فالفلاسفة يوجدون في طليعة المهتمين بالفكر البيوإتيقي؛ لأن البيوإتيقا تفكير فلسفي أيضا في المشاكل الأخلاقية الناجمة عن الأبحاث والدراسات المعاصرة في ميادين علوم الحياة؛ ولأن آراء الفلاسفة وطرقهم في التفكير ومفاهيمهم كانت من ضمن الأدوات التي استعان بها الفكر الأخلاقي الجديد لتحليل ومعالجة تلك المشاكل؛ كما أن ممارسات الأطباء والباحثين كثيرا ما تستدعي التأمل الفلسفي في مواضيع موت الإنسان وحياته ووجوده وطبيعته ومصيره…الخ.

ومن مهام الفكر الأخلاقي الجديد كما ترى دراسة حديثة حول الموضوع: توسيع مجال مفهوم حقوق الإنسان، وإعادة صياغة معاني مفاهيم الحرية والواجب والمسؤولية في ميادين البحث العلمي حتى لا تتيه العلوم عن منهج حماية الإنسان في كرامته ووجوده، وفي طبيعته وبيئته. وهناك أمارات واضحة على أن تلك المحاولات، بتساؤلاتها الجديدة حول معنى الحياة والمصير والإنسانية والقيم التي عاشت عليها حتى الآن، ستنعش الفكر الفلسفي المعاصر وتعمق أبعاده وتفتح أمامه آفاقا جديدة.

لم ينحصر دور الفلاسفة المعاصرين في إمداد الفكر الأخلاقي الجديد بأدوات اشتغاله وتأمله في المعضلات التي تطرحها الممارسة الطبية والبيولوجية، بل ساهموا في إغناء الحوار الذي يدور في ميادين علوم الحياة، بين تيارات ونزعات يمكن أن نقدم كنموذج لها الحوار الذي يدور بين النزعة العقلانية الإنسانية الجديدة أو “الكانطية الجديدة”، وبين النزعة العلموية أو البيكونية الجديدة: حوار يدور حول الطبيعة الإنسانية وما يمكن أن يلحقها من تغيير، ومصير الجنس البشري الذي ترى النزعة الأولى أنه مهدد بالانقراض، وعلينا لتلافي ذلك أن نخضع الأبحاث العلمية في ميادين الطب والبيولوجيا لقواعد أخلاقية وقانونية تقوم على أساس مبادئ حقوق الإنسان؛ وترى النزعة الثانية أننا لا نسير نحو الانقراض، بل نقترب بفضل ثورة الطب والبيولوجيا من مرحلة تطور نوعية هي مرحلة إنسان أعلى له قدرات بيولوجية وعقلية تتجاوز تلك التي يتوفر عليها حاليا.

تفضل النزعة العقلانية الإنسانية الحيطة والحذر، مؤكدة أننا إذا لم نتخذ الاحتياطات اللازمة، ولم نلجم العلم والتقنية بلجام القانون والأخلاق وحقوق الإنسان، وتركنا لعلماء الهندسة الوراثية حرية تعديل الخصائص الوراثية للجنس البشري كما يشاءون، فسنسير لا محالة نحو تطور الجنس البشري، غير أن هذا التطور قد يقودنا إلى مصير مجهول، ولكنه أسوأ على كل حال من وضعيتنا الحالية؛ لأنه سيفقدنا تلقائيتنا وحريتنا في الاختيار.

2. “أخلاقيات المهنة Ethique professionnelle”

تشكل “الأخلاقيات المهنية” حقلا واسعا للتساؤلات الأخلاقية نظرا لكون كل القطاعات المهنية في المجتمعات المعاصرة معنية بها مبدئيا: الطب، الهندسة، التجارة والأعمال، الاتصالات، الصحافة، التربية والتعليم، الإدارة والتسيير، المهن الحقوقية كالمحاماة والقضاء… الخ.
توجد “الأخلاقيات المهنية” في قلب التساؤلات التي تطرحها بنية المجتمعات الصناعية، ويلزم التذكير هنا أن هذه المجتمعات لها مجموعة من الخصائص التي تشرط التساؤلات الأخلاقية. فهذه المجتمعات تستند تاريخيا على ثلاثة قوى معيارية متداخلة ومتعارضة: أولاها: الاقتصاد الذي يفرز مجموعة من القيم الخاصة به كالفعالية والإنتاجية والتنافسية، إضافة إلى معقولية اقتصادية يتم وفقها تقويم كل شيء بناء على مفاهيم الكلفة والربح، والعرض والطلب، والإنتاج والاستهلاك؛ وثانيها: التقدم العلمي التكنولوجي الذي يعتمد معقولية من نوع آخر تقوم على أساس إجرائي اختباري وعملياتي، تمد الاقتصاد بالطرق والوسائل الضرورية؛ وثالثها: الحق والقانون الذي يحدد المعايير والممنوعات من خلال ضبط وتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

والحال أن التفاعل المحدود بين الاقتصاد والعلم التكنولوجي  technoscienceأدى إلى انزياح الوظائف نحو القطاع الاقتصادي الثالث (بعد قطاعي الفلاحة والصناعة) وهو قطاع الخدمات الذي أصبح يستقطب ما يقارب ثلثي الأعمال والوظائف. ويتطلب هذا القطاع كفاءات اختصاصية ملائمة للقيام بمهام غاية في الاختصاص تتميز بالمهنية والاحترافية. إن ظاهرة تزايد الطابع الاحترافي في دائرة الأشغال والمهن تستدعي أن تضع كل مهنة معايير وقواعد تنظيمية داخلية لضبط وتنظيم الممارسة الداخلية، وتتخذ عدة أشكال أهمها: “قواعد الممارسة الجيدة” وهي في الغالب قواعد تقنية وآداب مهنية ومدونات أخلاقية تحدد أبرز القيم الخاصة بكل مهنة على حدة؛ والالتزامات والحقوق والمسؤوليات المرتبطة بممارسة المهنة؛ ومدونة واجبات المهنة التي تتضمن مجموعة من المبادئ والإجراءات التنظيمية والتدابير القانونية المعدة لمواجهة الحالات التي يتم فيها الخروج عن قواعد المهنة أو التي تتم فيها مخالفة القانون.
إن النمو والتحول الحاصل في ممارسة مختلف الوظائف والمهن والذي يتجلى في تزايد عدد المهنيين وحصول أزمة ثقة تجاه أنماط الخبرة المهنية، إضافة إلى انتشار البيروقراطية التي تتجلى في تنظيم وتقسيم الشغل بناء على معايير معينة للمعقولية. كلها ظواهر تساهم في تعقيد البنيات الاجتماعية وتأزّم العلاقات داخل المجتمعات الصناعية. ونجد أنفسنا هنا أمام مفارقة تسبب الحيرة لكل مهتم بالفكر الأخلاقي المعاصر، بين نمو وتطور “الأخلاقيات المهنية” من جهة وتراجع الالتزام الأخلاقي داخل مختلف المهن من جهة ثانية مما يؤدي إل تناسل التساؤلات الأخلاقية داخل هذا الميدان.

غالبا ما تحيل التساؤلات الأخلاقية المطروحة في ميدان “أخلاقيات المهنة” إلى المشاكل العملية المهنية التي تعترض طريق العاملين داخل نفس المهنة، وذلك مثل المخاطر المرتبطة ببعض الآلات والتقنيات الجديدة، ومسألة المسؤولية الاجتماعية للمهنيين، ونزاهة العمال والحرفيين، وما يرتبط بحفظ السر المهني وعقوبة إفشاء سر المهنة، والمساواة وتكافؤ الفرص أمام مناصب الشغل والوظائف والحرف المختلفة. وتتجاوز “الأخلاقيات المهنية” هذا الإطار المهني الضيق، كي تتساءل  خارجه حول الدور الاجتماعي للمهنة وحول مسؤولياتها الاجتماعية ومواقفها من المخاطر المحتملة في إطار مجال ممارستها وعلاقتها بالبيئة ؛ مثلها مثل “أخلاقيات الطب والبيولوجيا”، تتميز “الأخلاقيات المهنية” بإثارة النقاش والحوار بين ممثلي تخصصات متعددة ومختلفة: فالأخلاق والقانون وحقوق الإنسان والأنثروبولوجيا على سبيل المثال، كلها تتيح توسيع دائرة مناقشة المشاكل المهنية المطروحة من منظور لا مركزي بحيث لا ينحصر النقاش في إطار معارف مرتبطة بتخصصات ضيقة، وتوسيع دائرة النقاش هو ما يبرر حضور الفكر الفلسفي فيها.

على المستوى المنهجي، يهتم التحليل والمعالجة الأخلاقية في هذا الميدان بدراسة حالات خاصة ملموسة مما يتطلب تزويده بعدة وثائقية سواء على المستوى التقني أو غيره من المستويات، ويهدف بذلك إلى تسليط الأضواء على المعضلات الأخلاقية لأجل تقديم سبل معيارية أو حلول فعلية. وتأخذ “الأخلاقيات المهنية” أيضا شكل خطابات تتجلى فيما يكتب حولها وأنشطة مرتبطة بالتكوين الأكاديمي والاختصاصي. ومع ذلك، لا ترقى هذه الأنشطة المتعددة الاختصاصات إلى مستوى ما يحصل في ميدان “أخلاقيات الطب والبيولوجيا”.

3. أخلاقيات البيئة Éthique environnementale

لم تكن المشاكل البيئية مطروحة، في يوم من الأيام، بنفس الحدة التي تطرح بها في الوقت الراهن، والسبب هو أن هناك تهديدا حقيقيا لوجود الإنسان على وجه الأرض، بل إن التدمير يطال الكرة الأرضية بجمادها ونباتها وحيوانها، في برّها وبحرها وجوّها، بسبب ما وفرته الثورة الصناعية والتكنولوجية من إمكانات هائلة للإنسان ضاعفت طاقاته آلاف المرات ومكنته في استغلاله للطبيعة من أن يضاعف تدميرها بالقدر نفسه أو أكثر.
لقد أدى التدمير المتزايد لعناصر البيئة إلى ظهور فعاليات مختلفة هدفها الدفاع عن البيئة والتصدي لأشكال الإضرار بها، وأدى من جهة أخرى إلى ظهور مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الجديدة التي بدأت تنتشر في الساحة الفكرية المعاصرة وتفرض نفسها على المهتمين بقضايا البيئة والتنمية والاقتصاد والصناعة والشأن العام: أخلاقيات البيئة، قوانين وحقوق البيئة، حقوق الحيوان، الفلسفة البيئية، السياسات البيئية، أحزاب الخضر، جمعيات حماية البيئة، الحركة البيئية… الخ، تندرج هذه المفاهيم وما تتضمنه من قضايا وتساؤلات في إطار الفكر البيئي المعاصر.

بناءً على ما سبق، لا ينحصر الفكر البيئي المعاصر في الدفاع عن قضايا البيئة والتصدي لمختلف التصرفات الإنسانية اللامسؤولة تجاه مواردها، ولا حتى في اتخاذ قرارات والقيام بإجراءات فردية وجماعية، أخلاقية وقانونية لأجل حماية البيئة والحيلولة دون استمرارها في التدهور، بل يتعدى ذلك للتعبير عن فلسفة جديدة تتصور الإنسان في إطار وضع اجتماعي وثقافي وبيئي متأزم، وتحاول أن تقدم رؤية جديدة للإنسان في علاقته بمحيطه البيئي.
تدمير البيئة: تعامل الإنسان البدائي مع الطبيعة بحب واحترام ممزوج بنوع من الانبهار والتوجس، (المتوحش الطيب حسب تعبير جان جاك روسو) لا يأخذ منها إلا ما تقتضيه الضرورة القصوى، واستطاع بذلك أن يعيش لآلاف السنين بطريقة لم تترك أية آثار بيئية سلبية، خاصة وأنه كان آنذاك يعيش في مجموعات صغيرة وبأعداد محدودة، ويعتمد في حياته على الصيد وجمع الغذاء والسكن في الكهوف والمغارات والأشجار. غير أنه بازدياد عدد البشر، أصبحت هذه الطريقة غير مقبولة، وغير منسجمة مع تطور الإنسان وطموحاته المتنامية.

حصل تغير هام في علاقة الإنسان بالطبيعة عندما انتقل منذ ما يقرب من عشرة آلاف سنة من القطف والصيد والترحال المستمر إلى الزراعة وتدجين الحيوانات والاستقرار. وستبلغ هذه المرحلة الثانية أوجها مع الحضارة اليونانية التي ستعرف تحوّلا هاما في علاقة الإنسان بالطبيعة، فإلى جانب ترسيخ الأساليب الزراعية وتحويل المعادن والاستقرار فيما سيعرف بالمدينة-الدولة؛ عرف اليونان أيضا البدايات الأولى للتفكير المنهجي مع الفلاسفة والمعرفة الجنينية لقوانين الطبيعة ولو بشكل نظري عام، وخاصة مع أرسطو وبطليموس وأوقليدس وأبوقراط. ما يهمنا من كل هذا هو ازدياد استغلال الإنسان لموارد الطبيعة وانطلاق عمليات الحفر والقطع والإحراق والتحويل (تحويل المعادن، تحويل الصخور والأتربة، تحويل مجاري المياه…الخ). لأول مرة في التاريخ أصبح بمقدور الإنسان، ليس فقط فهم الطبيعة، ولكن أيضا وأساسا القدرة على التأثير فيها بقوة وتطويعها بناء على تلك المعرفة.

فهم الطبيعة والاستعانة بقوانينها في استغلالها والتحكم فيها ليس إلا الخطوة الأولى في علاقة الإنسان السلبية مع بيئته، ستتلوها خطوة أخرى أكثر جرأة ستنقله من استغلال موارد الطبيعة إلى تدمير البيئة وإنهاكها واستنزاف خيراتها، خلال بحثه عن علم وتقنية يحقق بها حلمه الكبير في التخلص من كل أشكال المعاناة وتحقيق السعادة لبني جنسه. وستكون بداية هذه المرحلة حسب الباحث الفرنسي لوك بيجان Luc Bégin مع انطلاقة عصور الحداثة الأوروبية وخاصة في القرن السادس عشر قرن الثورة الميكانيكية التجريبية (فرانسيس بيكون وجاليليو ونيوتن) وما نجم عنها من ثورة صناعية في القرن الثامن عشر ستقود تدريجيا إلى سيطرة الإنسان وهيمنته على الطبيعة .

إنها سيطرة لن تكون بدون انعكاسات سلبية تتفاقم إلى أن تصل إلى درجة الكوارث التي تهدد بقاء الإنسانية مثلما تهدد الكرة الأرضية وكل من عليها، فقد خلفت الثورة الصناعية آثارا بيئية خطيرة بفعل تزايد الطلب على الطاقة والمواد الخام وتطورت وسائل النقل بشكل سريع، ونتج عن ذلك زيادة استغلال الموارد غير المتجددة وما ينتج عنها من تلوث الهواء والماء والتربة وتنامي حجم النفايات الكيماوية والنووية غير القابلة للتحلل، فظهرت أشكال جديدة من التلوث وأنواع جديدة من الأمراض، لقد طال تدمير الإنسان للبيئة أهم جوانبها البرية والبحرية والجوية، ولابد أن نشير هنا إلى الدور السلبي للحداثة باعتبارها قوة وسيطرة وهيمنة الإنسان على الطبيعة (لا يعني هذا بطبيعة الحال أننا نرفض الحداثة كتجاوز للفكر التقليدي، ولا كتدبير عقلاني لحياة الإنسان الاجتماعية والسياسية)، بل هي دعوة لمراجعة الحداثة في بعض جوانبها، مراجعة ستحدّ ولا شك من وقع ما تحدث عنه هايدغر من “شقاء وعي الموجود بذاته كتهديد للوجود في ذاته”. كان ذلك من أسباب مسارعة المهتمين بمستقبل الإنسان والبيئة التي يتقاسمها مع غيره من الكائنات الحية وغير الحية للبحث عن قيم جديدة أو أخلاقيات للبيئة أو أخلاقيات للأرض.

سينطلق الفلاسفة المهتمون بقضايا البيئة من طرح تساؤلات أساسية حول علاقة البشر بالطبيعة: هل البشر وحدهم من يملك قيمة أخلاقية أصلية في الكون أم يمكن أن نعتبر أن الطبيعة والنباتات والحيوانات تمتلك بدورها قيمتها الخاصة باستقلال عن نفعها للبشر؟ وهل مسؤولياتنا والتزاماتنا الأخلاقية هي التزامات نحو الآخرين من البشر فقط أم تتعداهم لمختلف الأنظمة البيئية الأخرى؟ وهل على البشر مسؤوليات تجاه الأجيال القادمة أيضا؟ وبناء على هذا، هل يجوز تدمير الأنظمة البيئية المختلفة بحجة التقدم التقني وتحقيق الرفاهية للإنسان؟
تعتقد أخلاقيات البيئة أنه من الممكن حل المشاكل البيئية وتجاوز الأزمات التي يعاني منها الإنسان بسبب تدهور الأنظمة البيئية بالاعتماد على أخلاقيات جديدة لا تنحصر آفاقها في الدفاع عن حق الإنسان في العيش والبقاء، بل تتجاوز ذلك إلى إدماج باقي الكائنات الأخرى والتشديد على منح هذه الكائنات حقوقا واعتبارات أخلاقية من خلال إسقاط تلك المعايير الأخلاقية المتمركزة حول البشر، وفي هذا الإطار يتم الحديث عن حقوق الحيوان وحقوق البيئة وحقوق الأرض. هكذا ينتقد المدافعون عن أخلاقيات البيئة المركزية البشرية بحدة نظرا لما لها من دور في انبثاق فكر ثنائي البشرية-الطبيعة ترجع أصوله للفلسفة الديكارتية التي قسمت الوجود إلى فكر وامتداد، وقد كرست الفلسفة الكانطية البعد الأخلاقي لتلك الثنائية من خلال حديثها عن عالم البشر باعتباره مملكة الغايات مقابل باقي الكائنات التي لا تعدو أن تكون وسائل لتلك الغايات. وقد منحت هذه الثنائية للبشر مجموعة من السلط تخولهم استعمال الكائنات الأخرى كوسائل لتحقيق مصالحهم وتصريف رغباتهم.

لقد سبق لبعض الفلاسفة أن نبهوا إلى مخاطر السعي للسيطرة على الطبيعة وإلى مخاطر الوحشية التي يتم بها التعامل مع بقية الأحياء (جون لوك، إيمانويل كانط، جيريمي بنتام) وإلى الانعكاسات السلبية للتقنية على البيئة وعلى الإنسان، على الوجود والموجود في آن واحد حسب تعبير هايدغر. إلا أن الانطلاقة الفعلية لأخلاقيات البيئة كانت مع المفكر الأمريكي المتخصص في الحياة البرية “ألدو ليوبولد” الذي لفت الانتباه إلى ضرورة أن يشمل الاعتبار الأخلاقي باقي مكونات المجال الحيوي وليس الإنسان وحده. إن ألدو ليوبولد بإدانته لموقف الاستخفاف الذي تتخذه المجتمعات الحديثة تجاه الطبيعة باعتبارها مجموعة من الأشياء للإنسان كامل الحرية في تملكها والتصرف فيها، يدعو إلى أخلاقيات جديدة تدمج باقي المكونات البيئية في الاعتبارات الأخلاقية للإنسان .

يرى المفكر الفرنسي في مجال البيئة “ميشيل سير ” أننا أصبحنا في حاجة لعقد جديد سماه “العقد الطبيعي” أو “العقد البيئي” نحدد فيه علاقتنا مع البيئة ومختلف أنظمتها على غرار “العقد الاجتماعي” الذي نادى به روسو في القرن الثامن عشر، عقد يأمل ميشيل سير أن يحدث تغييرا جذريا أو ثورة في علاقة البشر بالبيئة مثلما حصل في المجال الاجتماعي والسياسي بتأثير من روسو وباقي أصحاب فكرة العقد الاجتماعي.

في نفس السياق، تعتبر الفيلسوفة الفرنسية “جاكلين روس” أن الأخلاقيات الإيكولوجية العميقة التي نادى بها الفيلسوف الألماني هانس يوناس في كتابه “مبدأ المسؤولية” من شأنها أن تساهم في التراجع عن “مركزية الإنسان” وتأسيس قانون طبيعي تحتل فيه الطبيعة مكان الصدارة ويتم الإعلان عن سقوط كل ذاتية متسلطة مدعية لامتلاك القيم المطلقة، وقانون أخلاقي يذيب كل الذوات ويدمجها في إطار بيئي واحد يعترف بحقوق كل العناصر الإيكولوجية على قدم المساواة.

 إن الحركة الإيكولوجية بشكل عام تقتضي حصول توفق بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين، والحال أن هذا التوافق غير حاصل على مستوى المبادئ؛ لأن التعارض في الرؤى يحصل بالضبط في إطار هذه المبادئ المرتبطة بالبيئة، وهناك بالخصوص تعارض بين مواقف نزعتين أساسيتين: النزعة المتمركزة حول الإنسان Anthropocentrisme والتي تعطي للطبيعة دورا ثانويا إن لم نقل هامشيا في الوجود في مقابل دور الإنسان الذي تعتبره محوريا، ما دام هذا الأخير في اعتقادها هو سيد الوجود وله كامل الحرية في التصرف فيه كما يريد؛ والنزعة المتمركزة حول البيئة Ecocentrisme والتي تعطي دورا أساسيا للطبيعة في الوجود، دور مساو لدور الإنسان، إن لم يكن دورا أهم منه .

ثالثا: العلاقة بين “الأخلاقيات التطبيقية” و”الفلسفة الأخلاقية”

يعتبر التمييز بين “الأخلاقيات التطبيقية” و”الفلسفة الأخلاقية” قضية معاصرة ما دامت عبارة “الأخلاقيات التطبيقية” ذاتها لم تظهر إلا أواخر الستينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية مع انبثاق حقول معرفية جديدة تطرح تساؤلات أخلاقية غير مسبوقة، وقد أوردت الفيلسوفة الفرنسية “جاكلين روس” في كتابها الهام في هذا المجال “الفكر الأخلاقي المعاصر” خمسة ميادين بارزة  للأخلاقيات التطبيقية، ركزت بشكل كبير على ميدان “أخلاقيات الطب والبيولوجيا”، وأوردت الميادين الأربعة المتبقية بالتتابع حسب درجة أهميتها من منظورها الخاص: “أخلاقيات البيئة” و”أخلاقيات الأعمال” و”أخلاقيات وسائل الإعلام” و”أخلاقيات الممارسة السياسية .”

ما هي أولا الشروط التي أدت إلى تطور هذه الميادين وإلى ظهور هذه التساؤلات الأخلاقية الجديدة؟ لقد كانت الفلسفة الأخلاقية الأمريكية والأنجلوساكسونية عموما خلال النصف الأول من القرن الماضي، تهيمن عليها قضايا ما وراء الأخلاق Méta Éthique بتأثير من الفلسفة الوضعية والتحليلية، فقد تمحورت الأبحاث والاهتمامات آنذاك حول التحليل المنطقي واللغوي لمضمون العبارات الأخلاقية، وذلك من خلال التساؤل على سبيل المثال، حول طبيعة ودلالة ودوافع استعمال المفاهيم الأخلاقية مثل “الخير” و”العدل” و”الفضيلة” و”الواجب”… الخ. وتطرح عملية التحليل ذاتها باعتبارها عملية محايدة من الناحية القيمية أو الأكسيولوجية.

خلال هذه المرحلة التي سادت فيها الدراسات التحليلية والماورائية للعبارات الأخلاقية، تمت معالجة مسألة المضمون الأخلاقي من منظورات اختصاصية تدافع إما عن مواقف دوغمائية (انطلاقا من نسق ديني معين) أو عن مواقف نسبانية (تحاول إضفاء الطابع السيكولوجي أو الأنثروبولوجي على الأخلاق). وهكذا نجد في ميدان الطب على سبيل المثال، أن بعض اللاهوتيين الكاثوليك كانوا، ابتداء من خمسينات القرن الماضي، يدافعون عن الأخلاق انطلاقا من نصوص بابوية خلال مناقشتهم لقضايا طبية جديدة تتعلق بالإخصاب الاصطناعي والتجارب على البشر وزرع الأعضاء… الخ. أما النسبانيون فكانوا، خلال نفس المرحلة، يستندون إلى علم النفس والتحليل النفسي اللذين يؤكدان على دور العواطف والانفعالات والرغبات اللاشعورية في توجيه القناعات الأخلاقية؛ أو إلى الأنثربولوجيا التي تبرز اختلاف الجماعات البشرية حول الأخلاق والعادات. وتبدو الأخلاق في هذا المنظور كأنها مسألة ذوق أكثر مما هي موضوع للعقل.

في مستهل الستينات من القرن الماضي، تدخلت مجموعة من العوامل لتغيير هذا الوضع: فمن جهة الفلسفة الأخلاقية، عرفت الاهتمامات المرتبطة بما وراء الأخلاق تراجعا تجلى في التخلي عن تحليل قواعد استعمال المضامين الأخلاقية لصالح جوانب أخرى من الخطاب الأخلاقي منها عالمية هذا الخطاب، ومدى ارتباطه بحاجات ومصالح الأفراد والجماعات، وأخيرا الاعتبارات التي توجه الممارسة. وهكذا اتجه الفلاسفة من جديد نحو الأخلاق الماهوية، وإن بمنظور جديد؛ أي اعتماد نظريات أخلاقية تحدد في نفس الوقت مفهوم الخير المرتبط بالنسق الأخلاقي، وشروط التداول التي تتيح تبرير الفعل الأخلاقي وإجراءات اتخاذ القرار الأخلاقي العقلاني.

من أسباب رجوع الاهتمام بالأخلاق الماهوية: التحولات الاجتماعية الكبيرة التي لا تتوقف وانعكاساتها سواء على مستوى حياة الأفراد الخاصة (التحرّر الجنسي، ترسّخ القيمة المادية للأشياء، تزايد الاحتجاج على كل أشكال السلطة التسلط… الخ) أو على مستوى الحياة العمومية (التأكيد على حقوق الأفراد والجماعات، التخلص من مختلف أشكال الاستغلال والاستعمار، تنامي دولة الرعاية… الخ). من جهة أخرى، ارتبط هذا الاهتمام الأخلاقي خصوصا بتطور العلوم والتقنيات، سواء من جهة ما تحققه من مصالح وخدمات على رأسها تحسّن شروط العيش من صحة وتغذية وسكن ومواصلات، أو من جهة ما تحمله من مخاطر تهدد الأمن والحياة البشريين. هكذا تمحور الحوار المرتبط بفلسفة الأخلاق حول قضايا العدالة والإنصاف والأشكال العقلانية للدولة، إلى جانب قضايا الحياة السعيدة والعيش الرغيد، وعلاقة ذلك بمضمون الحياة الأخلاقية للأفراد داخل مجتمعات تتميز بالتعدد الفكري والتنوع الثقافي، مجتمعات لم تعد فيها المرجعيات الأخلاقية مرجعيات مشتركة بالضرورة، ولكنها إلى جانب ذلك رسخت أخلاقيات الحوار واحترام الاختلاف والتناوب الفعلي والتعايش الإيديولوجي.

ارتبط جانب من هذا الحوار الأخلاقي الجديد بحالات محدّدة من الحياة اليومية المعاصرة، حيث تمحورت أبرز الإشكاليات الأخلاقية حول تحليل ومعالجة حالات واقعية ملموسة وغير مسبوقة تحصل داخل المستشفيات ومختبرات تجارب الطب والبيولوجيا، أو المقاولات في علاقتها باستغلال الموارد الطبيعية وتلويث البيئة، أو الهيئات الحكومية وعلاقتها بالفضائح السياسية والأخلاقية، وقضايا الرأي العام التي تثيرها مختلف وسائل الإعلام… الخ. ومثل هذه القضايا والمشاكل تتطلب معالجة متعددة التخصصات، وفي هذا الإطار تم اجتذاب خبراء الأخلاقيات والفلاسفة وعلماء الدين كي يقدموا آراءهم وتحليلاتهم وتوضيحاتهم حول الرهانات المطروحة. إن هذه المقاربة الأخلاقية المرتبطة أساسا بمعالجة الحالات الخاصة المستعصية Etude de cas داخل مختلف ميادين البحث والممارسة، هي التي أصبحت تعرف ب”الأخلاقيات التطبيقية”. فبارتباطها بالمعالجة الأخلاقية للحالات الخاصة، تركز هذه الأخلاقيات على الحلول العملية، وتعطى الأولوية في هذا الإطار لسياق الفعل وتحليل النتائج واتخاذ القرار، ويعتمد هذا المنظور الأخلاقي الذي تترجح في إطاره الأجرأة والعمل على التأمل والنظر، في مختلف ميادين الممارسة الاجتماعية والمهنية . وهو نظر وتأمل يتغيّى البحث عن حلول عملية ترضي الأطراف والمنظورات المختلفة داخل المجتمع لأجل التوصل إلى حلول ناجعة للمشاكل المستعصية.

 قبل التعرض لهذه النماذج، سأحاول أن ألخص أهم خصائص الأخلاقيات التطبيقية:
1. هي أولا واقع عملي وثقافي جديد تعيشه المجتمعات الغربية، أما نحن في العالم العربي فبالكاد تصلنا أصداؤه.
2. كما تمثل آخر صيحة للفلسفة العملية، وتشكل قواعد جديدة لتوجيه الممارسة داخل مختلف الميادين العلمية والعملية في المجتمعات المعاصرة. وصحيح أنها قواعد أخلاقية، غير أنها قابلة أن تتحول إلى سياسات تشريعية وقوانين في إطار ما أصبح يعرف في البلدان ما بعد الصناعية بـ”الانتقال من الأخلاقيات إلى القوانين”.
3. هي بناء على ما سبق، قواعد عملية وليست نظرية، ورغم ذلك فهي تقوم على مفاهيم أخلاقية كلاسيكية مثل مفهوم الحق ومفهوم المسؤولية ومفهوم الواجب ومفهوم الكرامة… الخ، ولكنها تجدد مضامينها وتعطيها أبعادا جديدة ترتبط بما يطرحه العلم التكنولوجي من معضلات، وذلك مثل الأبعاد الجديدة لمفهوم الواجب في ميدان أخلاقيات الطب والبيولوجيا، والأبعاد الجديدة لمفهوم المسؤولية في ميدان أخلاقيات البيئة… الخ.
4. هي أيضا قواعد براغماتية، لا يراعى فيها الصدق والكذب أو الخطأ والصواب أو حتى الخير والشر، بل تراعى فيها الصلاحية.
5. كما أنها قواعد علمانية، فهي لا تستمد من الدين، بل غرضها تنظيم الحياة العملية، وإن كان علماء الدين يساهمون أحيانا في بلورتها، ولذلك ليست قارة وثابتة، بل هي قابلة للتغيير والتعديل بناء على الحاجات العملية وعلى عملية التداول.
6. هي أخيرا قواعد تداولية توافقية، لا تستحدثها جهة معينة، بل تأتي نتيجة التشاور والتداول بين العاملين داخل ميدان معين أو مهنة معينة، بالتعاون مع ممثلي تخصصات أخرى في الوقت الذي يتعلق فيه الأمر بقضايا أو معضلات تهم جميع مكونات المجتمع، وقد تتخذ طابعا عالميا تهم جميع الناس في بعض الحالات مثل قضايا البيئة وقضايا الطب والبيولوجيا.

7. غالبا ما يتم تداول مثل هذه القضايا التي تهم جميع فعاليات المجتمعات المعاصرة داخل ما يعرف بـ”لجان الأخلاقيات Comités d’éthique”، وهي هيئات جديدة أفرزتها المعضلات والمشاكل التي خلفتها نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي ميادين متعددة ومختلفة، ويتكون أعضاؤها من ممثلي التخصصات المعنية مباشرة بتلك المشاكل، بالإضافة إلى مختلف فعاليات المجتمعات الحديثة من محامين ورجال القضاء والقانون ورجال الاقتصاد والسياسة والمهتمين بالبيئة وحقوق الإنسان والمتخصصين في العلوم الإنسانية والفلاسفة… .

بهذا أفرزت “الأخلاقيات التطبيقية” فكرا يتميز بتعدد وتفاعل مختلف المعارف والاختصاصات، وقد أسهم هذا الفكر الأخلاقي الجديد بشكل خاص في تطوير القانون وحقوق الإنسان، والمأمول بالنسبة لنا أن يكون له دور أساسي في تطوير وتجديد الفكر الفلسفي والديني معا.
بعد التعريف بميادين “الأخلاقيات التطبيقية” الأساسية، والوقوف عند نماذجها الأكثر استقطابا للاهتمام وإثارة للجدل، نرجع للتأكيد أن ما يثيره هذا الموضوع من ضرورة إعادة النظر في القيم الإنسانية ومراجعة طابعها المطلق، والدعوة، بناء على ذلك، إلى تنسيب القيم وإضفاء الطابع العملي، بل والبراغماتي النفعي على الأخلاق؛ أقول: لا يمكن لذلك أن يترك المفكرين العرب والمسلمين دون أن يبذلوا قصارى جهدهم، وخاصة على مستويين:
8. يتمثل المستوى الأول في ضرورة الاطلاع على كل ما استجد في الفكر الغربي في إطار “الأخلاقيات التطبيقية”، بالموازاة مع مراجعة الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي القديم، وإبراز جوانبه التي يمكن أن تمت بصلة لمستجدات الفكر الغربي المعاصر.
9. أما المستوى الثاني، فيتمثل في ضرورة تقويم الفكر الأخلاقي والقيمي عموما، لأجل التمييز بين الجوانب التي يمكن أن تخضع للنسبية والتطور، والجوانب التي يمكن أن نسمها بالإطلاقية والكونية، وذلك جانب آخر من هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة.

الهوامش

———————————————————-

1. دراسة منشورة ضمن أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء، أيام 21-22-23 جمادى الثانية 1432ﻫ الموافق لـ25-26-27 ماي 2011م، الدار البيضاء، حول موضوع: “سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر”، ص109-137.

2. يراجع الكتاب الذي ألفه سنة 1988 بالاشتراك مع الباحث الأمريكي المتخصص في البيوإتيقا أو أخلاقيات الطب والبيولوجيا Albert R. Jonsen: The Abuse of Casuistry: A History of Moral Reasoning: Les abus de la casuistique: une histoire du raisonnement moral (الترجمة المقترحة لعنوان الكتاب: تجاوزات مقاربة دراسة الحالات المستعصية: تاريخ للتعقّل الأخلاقي).

3. Marie-Hélène Parizeau, Ethique appliquée, in «Dictionnaire d’éthique et de philosophie
Morale», puf, paris, 1996, P: 535 – 536.

4. Hubert Doucet, Au pays de la bioéthique, Labor et Fides, 1996, P: 18-19.

5.  تراجع في هذا الإطار المراجع التالية:
ـ عمر بوفتاس، أثر فلسفة الحق الكانطية في تأسيس البيوإتيقا، ضمن أعمال المائدة المستديرة: فلسفة الحق: كانط والفلسفة المعاصرة، تنسيق: محمد المصباحي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2007، ص232-233.
ـ عبد الرزاق الدواي، حوار العلم والفلسفة والأخلاق في مطالع الألفية الثالثة، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2004، ص48-49.
ـ محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر الغربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،، 1997، ص65.

6. Au Pays de la bioéthique, op.cit, p: 21-23.

7. Ibid.

8. Hubert Doucet, «La théologie et le développement de la bioéthique américaine», in Revue des sciences religieuses, faculté de théologie catholique, Palais universitaire, Strasbourg, N° 1, Janvier 2000, p: 9-13 (بتصرف).

9. «Dictionnaire d’éthique et de philosophie Morale», op.cit, p: 536.

10. Gilbert Hottois et Marie-Hélène Parizeau, Les mots de la bioéthique, Terme: Ethique environnementale, De  oeck université, 1995, p: 192.

11. ibid., p: 193.

12. Jacqueline Russ, La pensée éthique contemporaine, op.cit, p: 111.

13. يراجع في هذا الإطار كتابه الهام: “Le contrat naturel”.

14. نستحضر هنا موقف جيمس لوفلوكJames Loveloock  في كتابه “جايا Gayâ” حيث يعتبر انطلاقا من الميثولوجيا اليونانية أن جايا هي روح الأرض، وأن الطبيعة أو البيئة تشكل كلا ونسقا مكونا من مجموعة من العناصر المتكاملة فيما بينها، والتي تسعى لهدف أساسي هو الحفاظ على الحياة في كوكب الأرض، والعنصر الذي قد يهدد هذا الكل سرعان ما تتخلص منه الطبيعة وتستبدله بعنصر أكثر خدمة للأهداف الكل.

15. Jacqueline Russ, La pensée éthique contemporaine, que sais-je? Puf, 1995, P: 190-121.

16. Marie-Hélène Parizeau, Ethique appliquée, in «Dictionnaire d’éthique et de philosophie
Morale», puf, paris, 1996, P: 535.

17. للتوسع في إطار موضوع “لجان الأخلاقيات”، يمكن الرجوع للمرجع التالي:

Claire Ambroselli, Le comité d’éthique, Que sais-je? puf, 1991.

Science

د. عمر بوفتاس

كلية الآداب بنمسيك/الدار البيضاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق