مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةمفاهيم

الأحرف السبعة ليست القراءات السبع

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريلُ على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»(1). وقد خاض علماء القراءات وغيرهم في بيان المقصود بالأحرف السبعة، «وقد أتعبت ذوي المعرفة بالأصول وممارسيها قديما وحديثا على كثرة أقاويلهم وخوضهم فيها، من غير أن تسلم كلُّ مقالة منها على حدتها من معارضة، أو تخلص من مناقضة»(2).

وقد كان من بين هذه المقالات، قول من قال: إن المقصود بالأحرف السبعة القراءاتُ التي ذكرها المسبِّع الأول أبو بكر ابن مجاهد في كتابه السبعة، «فعمد هذا المسبِّع إلى قوم قد اختار كلُّ رجل منهم لنفسه قراءةً من جملة القراءت التي رواها، وكانوا لعمري أهلاً للاختيار لثقتهم وأمانتهم وعلمهم وفصاحتهم، فأوهم بذلك كلَّ من قلَّ نظره، وضعفت عنايته أن هذه القراءات السبع هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، وأكد وهمَه ما يراه من اجتماع أهل الأمصار عليها، واطّراحِهم ما سواها»(3).

وقد انبرى للردِّ على هذا القول، الإمامُ المحقّق  أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي في كتابه الماتع معاني الأحرف السبعة في فصل منه، ولنفاسة كلامه رحمه الله أسوق هذا الفصل كاملا، قال رحمه الله:

«وممن ذهب إلى أن الأحرفَ السبعةَ تغايرُ الألفاظ السبعة على اختلاف حالاتها؛ إنما هي الأحرفُ المضافة إلى الأئمة السبعة الذين جمعهم ابنُ مجاهد فَمَن بعده من المؤلفين في كتب القراءات، وأن كل حرف من الأحرف المنزلة هو ما اتخذ به واحد منهم.

وهذا مذهبٌ دون الوسط تعلق به قومُ أغبياء القراء والعوام. قد قام ذلك في نفوسهم وأولِعوا به، حتى إنهم قد يُنكرون اختيار مَن تقدمهم في القراءة وحروفَه، أو تأخرهم أو قارنهم. ويشذون حروف من عداهم، وإنما أوتوا من حيث سُبع القومُ في مؤلفات من ذكرتُهم من المتأخرين؛ فوافق كونهم سبعة أناس سبعةَ أحرف عددا، على ما جاء من لفظ الخبر. وقد تجد فيهم من يتوهم أن نصّا قد ورد عليهم، وفي جمعهم حروف القرآن، كما لا يجوز معه  أن يُضاف الحروف أو أي شيء منها إلى غيرهم.

وقد كان الأئمة السبعة الأعلام، الذين مضى ذكرهم، من الدين والعلم بمكان عليٍّ ورتبة رفيعةٍ. غير أنه لا خلاف فيما بين من ينعقد بهم إجماع الأمة من العلماء أن المسلمين عن آخرهم، على اختلاف الأعصار وتباين الديار، كواحد منهم في القرآن بأحرفه السبعة، وسائرِ مناهج الدين كلِّها تصريفا وتكليفا، لأحدهم ما لمثله منها، وعليه ما على شكله، إلا من خُصَّ من ذلك بشيء أو نُصَّ عليه، وقام فيه دليل واضح، وحجة فاصلة، نحو من أُبيح له التختّمُ بالذهب من الرجال(4)، أو رُخص له لبس الحرير(5)، أو من ضحَّى بجَذَعة من المعز، فقيل له: يُجزئ عنك، ولا يجزئ أحدا بعدك(6)، في غير ذلك مما يكثر تَعداده. فلما لم يَرِد نص في ذلك بالأئمة السبعة، ولم يكونوا مما أجمعت الأمة على أن لا يجوز الاتخاذ بحروفِ غيرهم؛ دل ذلك على غباوة من ذهب إلى ما قدمناه من المذهب.

فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على الائتمام بهم وقبولِ اختياراتهم؟

فالجواب: أن الأمر على ذلك أو قريب منه. وهذه سنة الله في أهليه من خلقه، والعلماء من خواصه من حملة كتابه حفظا مع العلم به، أن يجعلهم قدوة الأمة، ويجمعهم عليه من غير نزاع، دون غيرهم من علماء الشرع. لكن قبولُ هؤلاء السبعة لم يدلَّ على رد غيرهم بالإجماع دون أقرانهم، وهذا بعد أن مضت برهة في الإسلام، ولم يكن يُعرف فيها عدد من الرجال في اختيار حروف القرآن، ولم يكن المعتبر فيها عددٌ من الرجال؛ إلا أن نشأ الأئمة الخمسةُ في الأمصار الخمسةِ، وصاروا أخلافا للتابعين، وإن كان بعضهم منهم، وجمعوا الحروفَ واختاروها من المأثور المشهور؛ فائتم به أهل كلِّ مصر منها بواحد منهم في القراءة من غير أن شذّ ما وراء اختيار ما ائتم به أهلُ كلّ مصر منها بواحد منهم في القراءة.

لكن كل من رضيه أهل مصر دينا وعلما واختيارا رضيه ذوو الأمصار الأخر، من غير أن عرف رد اختيار أحد الخمسة في عصره، في مصره أو غير مصره، فوافق ذلك رضاء المسلمين كافة، لما كانت تلك الأمصار الخمسة أمهات أمصار المسلمين، وكانت علماؤها رؤساءَ سائر ذوي العلم في الإسلام.

فهذا كان وجه قبول الخمسة أولا من جملة السبعة، وصار بذلك قبولُ اختياراتهم على صورة الإجماع.

على أن الناس قد كانوا يؤلفون في القراءات فيما بعد الأئمة الخمسة؛ فيقدمون فيها ما شاؤوا عددا من الأئمة؛ من الخمسة وغيرهم، ولم يكونوا مما يعرفون التسبيع بحال. بل لو كانت الأئمة الخمسة شعارَهم في مؤلفاتهم، من أحبوا من الأئمة، ممن كان على منهاجهم زيادةً على عدد ممن اتخذوا بحروفه على نحو ما نجده في كتاب أبي حاتم وأبي عبيد وغيرهما، فإنك تجدُ في كل واحد عددا كثيرا من الأئمة، وحروفهم تجاوز الخمسة والسبعة والعشرة، إلى أن نشأ بعدهما ابنُ مجاهد بملئٍ من الزمن، لأنه لم يكن مما لحق أبا حاتم ولا أبا عبيد، بل نقل عن أصحابهما، فأضاف في تأليفه حمزةَ بنَ حبيب الزيات، وعليَّ بن حمزة الأسدي، لفضل عنايتهما بالقرآن، وعلمهما، وأمانتهما في دينهما، وصحتهما في روايتهما؛ ولأن قراءتَهما مما وقع له تلاوةً بإسناد وقته. فلذلك ألحقهما بالخمسة فبقِع(7) كتابُه بهما.

وهذا بعد أن تربص مدة من الدهر بتأليف كتابه المسبِّع يترجح فيها بين تقديم علي بن حمزة الأسدي وبين يعقوب بن إسحاق فيه، إلى أن رأى ما أَوجب أن يُقدم عليّا على يعقوب، ولعل ذلك كان منه لتحصّل حروفه قبله متلوة عالية، بعد أن لم يكن عنده حروفُ يعقوب كذلك.

فلما سبّع الأئمةَ الخمسة في كتابه بحمزة وعلي، وقع ما تقدم في هذا الفصل من الشبهة بين العوام، فتوهم بعضُهم أن الأحرف السبعةَ ما اختاره من الحروف هؤلاء السبعة الذين جمعهم ابن مجاهد في كتابه، فمن بعده من المؤلفين، إلى أن رأى أولو البصائر أن يزيدوا على الأنفس السبعة من المختارين لإزالة تلك الشبهة عن قلوب العوام، ولم يردوا من السبعة إلى الأئمة الخمسة الذين كانوا في الأصل؛ لأن ذلك مما كان يوهِمُ غمضَ الشيخين الذين هما حمزة وعلي، بعد أن ألحقهما ابن مجاهد ومن ألف بعده بالخمسة.

فلما لم يمكنهم ذلك ورأوا أن العوامَّ قد ينكرون ما جاوز اختيارات السبعة زادوا في العدد على ما يجدونه من الثمانية فصاعدا.

وهذا الذي ذكرته عمن زاد الأئمة على السبعة، مع العلة التي ذكرتها الموجبة ذلك، على التخمين قلتُه، لا عن سماع سمعتُه، لكني لم أقتف أثرهم تثمينا في التصنيف، أو تعشيرا أو تفريدا إلا لإزالة ما ذكرته من الشبهة.

وليعلم أن ليس المراعي في الأحرف السبعة المنزلة عددا من الرجال دون آخرين، ولا الأزمنة ولا الأمكنة. وأن لو اجتمع عدد لا يحصى من الأمة فاختار كل واحد منهم حروفا بخلاف صاحبه، وجرَّد طريقا في القراءة على ضده، في أي مكان كان، وفي أي أوان أراد، بعد الأئمة الماضين في ذلك، بعد أن كان ذلك المختار بما اختاره من الحروف بشرط الاختيار، لمَا كان بذلك خارجا عن الأحرف السبعة المنزلة، بل فيها متسع وإلى يوم القيامة. والله أعلم»(8).

  1.  أخرجه البخاري في صحيحه باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم في صحيحه باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.
  2.  معاني الأحرف السبعة ص164-165.
  3.  بيان السبب الموجب لاختلاف القراءات ص54.
  4.  لعله يشير إلى ما رواه أحمد في مسنده عن محمد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتما من ذهب، وكان الناس يقولون له: لم تختم بالذهب وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه غنيمة يقسمها، سبي وخرثي قال: فقسمها حتى بقي هذا الخاتم، فرفع طرفه فنظر إلى أصحابه ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم خفض، ثم رفع طرفه فنظر إليهم، ثم قال: أي براء، فجئته حتى قعدت بين يديه، فأخذ الخاتم فقبض على كرسوعي ثم قال: « خذ البس ما كساك الله ورسوله»، قال: وكان البراء يقول: كيف تأمروني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  البس ما كساك الله ورسوله؟. وإسناده ضعيف.
  5.  يشير إلى الحديث المتفق عليه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «رخَّص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في قميص من حرير، من حكة كانت بهما».
  6.  يشر إلى الحديث المتفق عليه من حديث البراء بن عازب، أن خالَه أبا بردة بن نيار، ذبح قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن هذا يوم اللحم فيه مكروه، وإني عجلت نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعد نسكا»، فقال: يا رسول الله، إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، فقال: «هي خير نسيكتيك، ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك».
  7.  ضبطه محقق الكتاب بفتح القاف مشددة (بَقَّعَ)، وعلق عليها بقوله: «يقال بقَّع الشيء؛ جعله ذا بُقع. ومراد الإمام الرازي من قوله: بقّع كتابه بهما؛ أن ابن مجاهد قد بثَّ قراءتيهما في أنحاء كتابه (السبعة في القراءات)، وهما: حمزة الكوفي وعلي الكسائي»اه. ولعلَّ الصواب في ضبطها كسرُ القاف دون تشديد، قال في المحيط في اللغة (قعب): «لم أبْقَع بكذا، أي: لم أكتف به». وقال الصغاني في التكملة والذيل (بقع): «بقع بالشيء، أي: اكتفى به». وقال في تاج العروس (بقع): «وَقد بَقِعَ كفَرِحَ، أَي: بَلِقَ. ويُقَال: بَقِعَ بِهِ، أَيْ اكْتَفَى بِهِ». فيكون المعنى، والله أعلم، فبقِع كتابُه بهما، أي: اكتفى كتابُه بهما دون غيرهما من القراء.
  8.  معاني الأحرف السبعة ص323-329.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق