مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةدراسات عامة

استعمال العلوم العقلية في خدمة العلوم الشرعية

إن الناظر في تصنيفات العلوم في الثقافة الإسلامية يجدها تتشكل في ثنائيات متقابلة؛ نذكر منها على سبيل التمثيل[1]علم الدين/ علم الدنيا ( جابر بن حيان- ت 160 هـ تقريبا)،علوم إنسانية وهي الفلسفة/ عوم دينية وهي الوحي ( الكندي- ت 253 هـ)،  علوم نظرية/ علوم عملية ( الفارابي- ت 339  هـ)، علوم العرب/ علوم العجم ( الخوارزمي- ت 7 هـ)، علوم شرعية- نعتية/ علوم عقلية ( ابن حزم- 456)، علوم حكمية- فلسفية/ علوم نقلية- وضعية ( ابن خلدون- ت 808)…

ويدخل في العلوم العقلية: الفلسفة، والمنطق، والعدد، والطبيعة، وعلم الفلك…

ويدخل في العلوم الدينية: الفقه، والكلام، والحديث…

وقد اختلفت مواقف مفكري الإسلام وعلمائه من هذه العلوم، بين متفلسف مائل إلى  العقل وتفضيله، وبين منتصر للنقل وتبجيله، وبين مجيز للخوض في تلك العلوم، وبين مانع منها، أو من بعضها.

غير أن من العلماء أيضا من ذهب إلى أن هذه العلوم يتعلق بعضها ببعض، ولا يستغني منها علم عن غيره[2]، لكن تبقى العلوم الدينية هي المقصودة لذاتها، وتكون العلوم العقلية خادمة لها، ونحن في هذه الورقات نذكر بعض النماذج التي تبين هذه العلاقة.

علاقة الفقه بالعلوم الفلكية والرياضية 

يعبر عن علم الفلك في الثقافة الإسلامية بعدة مصطلحات: الفلك، والتنجيم أو النجوم والهيئة.

غير أن مصطلح التنجيم عام يدخل تحته علمان؛ يقول الفارابي: ” وأما علم النجوم فإن الذي يعرف بهذا الاسم علمان:

أحدهما: علم أحكام النجوم: وهو علم دلالات الكواكب على ما سيحدث في المستقبل، وعلى كثير مما هو الآن موجود، وعلى كثير مما تقدم.

والثاني: علم النجوم التعليمي: وهو الذي يعد في العلوم وفي التعاليم”[3].

إن علم النجوم التعليمي بتعبير الفارابي هو المقصود في هذا الباب، وقد عرفه ابن خلدون بقوله: “علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعدّدها لكلّ كوكب من السّيّارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السّماويّة المشاهدة الموجودة لكلّ واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها”[4].

هذا، وقد استعمل علم الهيئة في خدمة بعض أبواب الفقه كالصلاة، والصوم، والحج..؛ فإنها عبادات تتعلق بمعرفة المواقيت والاتجاهات..

كما أن علم الحساب استعمل في أبواب أخرى: كما في قسمة المواريث والغنائم..

يقول ابن حزم: ” ولا بد أن يعرف من الحساب ما يعرف به القبلة والزوال إلى أوقات الصلوات، ولا يوقف على حقيقة ذلك إلا بمعرفة الهيئة، ولا يعرف حقيقة البرهان في ذلك إلا من وقف على حدود الكلام، ولا بد أن يعرف من الحساب أيضاً كيف قسمة المواريث والغنائم، فإن تحقيق ذلك فرض لا بد منه”[5].

غير أن هذه المعرفة في رأي بعض الفقهاء ينبغي أن تكون على قدر الحاجة، من غير مجاوزة إلى ما لا ينبني عليه عمل، وفي هذا الصدد يقول المستشرق آنخل جنثالث بالنثيا عن أصول الدراسات الرياضية والفلكية في الأندلس: ” كان تشدد فقهاء الأندلس مانعا كذلك – أول الأمر- من نهوض العلوم الرياضية بما فيها الفلك. وكان الفقهاء يتجاوزون عن الحساب ويبيحون الاشتغال به فيما يتصل بالعمليات التطبيقية المتعلقة بقسم المواريث. وأما الفلك فقد قدر له – كما يقول الأستاذ ريبيرا – يخضع لما كان جاريا من أساليب المنع والتحريم، التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى الاضطهاد البالغ في القسوة. وقد عبرت بهذا العلم في الأندلس فترات لم يكن يسمح للناس خلالها بأن يعرفوا منه إلا ما لابد منه لتحديد اتجاه قبلات المساجد، وتعيين مواقيت الليل والنهار على مدار العام لتعرف أوقات الصلوات، والاستيثاق من مواعيد الأهلة، فإذا تجاوز الإنسان هذه المطالب من هذا العلم فقد غرر بنفسه”[6].

علاقة علم الكلام بالعلوم العقلية

يُعرَّف علم الكلام بأنه ” علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة والرّدّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السّلف وأهل السّنّة”[7].

إن الغاية من علم الكلام هو نصرة العقيدة الإيمانية بالدليل العقلي، وبذلك يكون العقل خادما للنقل، وهو يؤكد ما ذكرناه سابقا، من قول كثير من العلماء بأن العلوم الدينية هي المقصودة لذاتها، وأن العلوم العقلية وسيلة خادمة لها.

وعلم الكلام لم يكن يناقش الخلافات الداخلية فحسب، بل كان أيضا – ولعل ذلك هو السبب الأول في نشأة علم الكلام- يناقش الخلافات الخارجية، يقول حمو النقاري:

“لقد كانت العقائد الإيمانية أساسا ” متكلما فيه” بمقتضين اثنين، مقتضى خارجي تمثل في الخصوم المعتقدين على حقائق مغايرة للحقيقة الإسلامية والمجتمعين عليها، فقد تكلم هؤلاء على الحقيقة الإسلامية، وتكلم المسلمون على حقائقهم، ومقتضى داخلي تمثل في الخصوم المشاركين في الاعتقاد على الحقيقة الإسلامية والاجتماع عليها ولكن المخالفين في فهم هذه الحقيقة المشتركة وتعيينها”[8].

ظهرت الفرق الكلامية عموما، والمعتزلة خصوصا، مع واصل بن عطاء ( ت 131 هـ) في البصرة، في زمن قد توسعت فيه الفتوحات الإسلامية لتشمل بقاعا مثل بلاد الرافدين، وبلاد فارس، والهند، وبلاد الشام …

وهذه البلدان قد عرفت باشتمالها على أديان مختلفة، فحدث بذلك أن التقى المسلمون بفرق أخرى مثل اليهود، والنصارى، والمجوس، والثنوية، والمنانية، والدهرية، والملاحدة …

وقد كفل الإسلام الحق لأهل الذمة منهم العيش في أمان، من غير تفتيش عن عقائدهم، ولا إكراههم على ترك دينهم. بل وفي بعض الأحيان امتد الأمر ليشمل بعض الزنادقة، يقول النديم ( ت 438 هـ) عن بعضهم:

” يزدان بخت، وهو الذي أحضره المأمون من الرَّيِّ بعد أن أمَّنَه، فقطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدان بخت، فلولا ما أعطيناك إياه من الأمان لكان لنا ولك شأن.

 فقال له يزدان بخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم، فقال المأمون: أجل.

وكان أنزله بناحية المحرم، ووكل به حَفَظَةً خوفا عليه من الغوغاء، وكان فصيحا لسنا”[9].

يظهر إذن أن الإسلام كفل لهم الحق في البقاء في تلك البلاد المفتوحة، وضمن لهم الأمن والأمان، وممارسة شعائرهم الدينية، بل أكثر من ذلك نجد المسلمين كفلوا لهم حق النظر والمناظرة.

ولما كانت تلك الملل والنحل المخالفة للمسلمين لها أدلتها – أو شُبَهها- العقلية، وفلسفاتها الخاصة، وكانت تخوض في مسائل عقلية دقيقة، فلسفية وطبيعية، وتناظر بها، فقد خاضت المعتزلة معها هذه المناظرات الدقيقة، المشتملة على مسائل عميقة ودقيقة اصطلحوا عليها بـ ” الغامض” أو ” الدقيق” أو ” اللطيف” من الكلام، صار العلم بها عندهم من الأصول التي يعنى بها الذابون عن التوحيد ” … وذلك لأنه باب من الكلام شديد، وهو أصل من أصول التوحيد عظيم، وهو الكلام فيما كان ويكون، وما يتناهى وما لا يتناهى، والكلام في البعض والكل. وإنما يعنى بهذا الباب من العلم من له عناية بالتوحيد وبالرد على الملحدين[10].

يميز المتكلمون بين الجليل/الواضح من الكلام، وبين الدقيق/ الغامض منه.

والذي يرتبط بما نحن فيه هو “الدقيق” فإنه كلام في أمور عقلية فلسفية وعلمية طبيعية[11]:

مثل الكلام، في ” الجسم” ما هو؟ وهل يتجزأ الجسم؟ وهل هناك ” جزء لا يتجزأ”= الذرة؟ و” الجواهر والأعراض”، و”الجوهر الفرد”، وهل الأعراض تبقى أم تفنى؟ و”الحركة والسكون” وهل يكون الساكن متحركا؟ وهل تكون الحركة سكونا؟ و”وقوف الأرض”، و”الوقت”، و”اللون” و” الطعم” و”الرائحة”، و” المداخلة والمكامنة والمجاورة”، و” الحواس” ما هي وهل هي جنس واحد؟ و” الصوت” كيف يُسمع؟ وهل يبقى؟ وهل يكون في مكانين؟ وهل هو جسم؟ و” الهواء” هل هو جسم أم معنى؟ وهل يجوز أن يرتفع من حيز الأجسام؟ ..

إن هذه المواضيع التي تطرق إليها المتكلمون وناقشوها، وجادلوا بها من أجل إفحام المخالفين في الملة هي من صلب العلوم الطبيعية، و” قد احتلت الطبيعيات في علم الكلام القديم – السائر قدما نحو المتجه الإلهي- مكانا فسيحا في صدر المسرح الفكري. ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو من أصول المعتزلة الخمسة ولا من العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا حتى شهدت مع المتكلمين زخما وثراء”[12]. غير أن ” الطبيعيات لم تكن إلا سلما للإلهيات، وليست مطلوبة في حد ذاتها أبدا للفهم والتفسير. المطلوب فقط استخدامها وبالتحديد استخدام ( حدوث العالم) كدليل على العقائد الإلهية. الحادث هو الجسم الطبيعي فكانت الطبيعيات محض صورة عقلية للإلهيات، خادمة لها وليس للإنسان..”[13].

إن استعمال الأدلة العقلية في نصرة العقيدة لم يكن مقصورا على المتكلمين فحسب، بل أيضا استع ليشمل غيرهم، ومن أمثلة ذلك محاولة بعضهم الاستدلال على قضية ” الاستواء” وأن ” الله فوق العالم “بعلم الهيئة.

يقول أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين (ت 438): ” ومن عرف هيئة العالم ومركزه من علم الهيئة وأنه ليس له إلا جهتا العلو والسفل، ثم اعتقد بينونة خالقه عن العالم، فمن لوازم البينونة أن يكون فوقه؛ لأن جميع جهات العالم فوق، وليس السفل إلا المركز وهو الوسط”[14].

ثم عقد فصلا ” في تقريب مسألة الفوقية من الأفهام بمعنى من علم الهيئة لمن عرفه” يقول فيه: ” لا ريب أن أهل هذا العلم حكموا بما اقتضته الهندسة، وحكمها صحيح لأنه ببرهان لا يكابر الحس فيه بأن الأرض في جوف العالم العلوي، وأن كرة الأرض في وسط السماء …” الخ.

وفي نفس السياق يؤكد ابن تيمية ( ت 728 هـ) على أن “الحساب” معقول، وأن قضاياه لا تتناقض، وأن الفلاسفة ” إنما جعلوا الهندسة مبدأ لعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية.

فان علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل والهندسة التي هي علم بالكم المتصل علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة مثل جمع الأعداد وقسمتها… فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول وما من احد من الناس إلا يعرف منه شيئا فانه ضروري في العلم ضروري في العمل ولهذا يمثلون به في قولهم الواحد نصف الاثنين ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة[15].

ويبين أهمية علم الهيئة في فهم مسألة الاستواء؛ فيقول: ” والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه؛ فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون وإنما البدعة السؤال عن الكيفية. ومن أراد أن يزداد في هذه القاعدة نورا فلينظر في شيء من الهيئة وهي الإحاطة والكروية ولا بد من ذكر الإحاطة ليعلم ذلك”[16].

ويقول: ” اعلم أن (الأرض ) قد اتفقوا على أنها كروية الشكل وهي في الماء المحيط بأكثرها؛… وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كروية وكذا الباقي. والكرسي فوق الأفلاك كلها والعرش فوق الكرسي ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة. والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن لفظ ” الفلك ” يدل على الاستدارة ومنه قوله تعالى ﴿ وكل في فلك يسبحون﴾ قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل. ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار.وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك“.

خلاصة:

لقد اختلفت مواقف العلماء من العلوم العقلية، بمقابل العلوم النقلية، غير أن كثيرا منهم دعا إلى إعمال تلك العلوم – أو بعضها على الأقل مما هو قطعي المقدمات والنتائج- في خدمة العلوم الشرعية؛ فكان بذلك أن استعمل علم الهيئة وعلم الحساب في الفقه، لمعرفة المواقيت والاتجاهات وقسمة الإرث، كما أن علم الكلام استدعى الطبيعيات لإثبات الإلهيات، وفي نفس السياق استعمل بعض العلماء كابن تيمية النتائج المتوصل إليها في علم الهيئة للتأكيد على مسائل عقدية كالاستواء.

 [1] – مستويات الخطاب المنهجي في العلوم العربية الإسلامية، حسن عبد الحميد، دار رؤية- القاهرة، ط: 2، 2013. ص 85، وما بعدها.

 [2] –  رسائل ابن حزم: رسالة مراتب العلوم، تح. إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط: 1، 1983. 4/ 81.

 [3] –  إحصاء العلوم، تقديم وشرح علي بو ملحم، دار وكتبة الهلال، بيروت- لبنان، ط: 1، 1996. ص 57.

 [4] –  ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تح. خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط: 2، 1408- 1988. 1/ 630.

 [5] – نفسه، 4/ 75.

 [6] – تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: حسين مؤنس، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2011. ص 501.

 [7] – ديوان المبتدأ والخبر، ابن خلدون، 1/ 580.

[8] – منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، دار الأمان، الرباط، ط: 1، 1426- 2005، ص 51.

 [9] – الفهرست، ضبط وشرح وتعليق وتقديم يوسف علي الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط. 2، 1422 هـ- 2002 م. ،ص 522- 523.

 [10] – كتاب الانتصار والرد على ابن الروندي الملحد، أبو الحسين الخياط، تحقيق وتقديم: نيبرج،  بيت الوراق، لندن، ط. 1، 2010 م.ص 69.

 [11] – ينظر الجزء الثاني من كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” لأبي الحسن الأشعري؛ فإنه في الدقيق من علم الكلام.

 [12] – الطبيعيات في علم الكلام من الماضي .. إلى المستقبل، يمنى طريف الخولي، دار رؤية، القاهرة، ط: 1، 2010، ص 75- 76. 

 [13] – المصدر السابق، ص 77.

 [14] –  رسالة في إثبات الاستواء والفوقية، تح. أحمد معاذ بن علوان حقي، دار طويق لنشر والتوزيع، الرياض، ط:1، 1419- 1998، ص69- 70.

 [15] – الرد على المنطقيين، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

 [16] – مجموع الفتاوى، المؤلف، تح. عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416- 1995. 5/ 149.

الدكتور ياسين السالمي

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق