وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

ابن يجبش التازي

 

 

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

من بين أهم الحواضر التاريخية لبلاد المغرب محروسة تازة بمآثرها وعلمائها، وأدبائها، وملاحمها البطولية في المقاومة والدفاع عن الوطن. ولقد بدا الاهتمام في السنين الأخيرة بمدينة تازة وبعلمائها وأدبائها، وما خلفه هؤلاء من إنتاج في مختلف الميادين العلمية والمعرفية. فلا غرابة إذن، إذا قال الحسن الوزان الذي زار مدينة تازة في العهد الوطاسي بأنها: “تحتل الدرجة الثالثة في المملكة من حيث المكانة والحضارة، ففيها جامع أكبر من جامع فاس، وسكانها الشجعان الكرماء..من بينهم عدد كبير من العلماء الأخيار والأثرياء، لأن أراضيها تنتج أحيانا ثلاثين ضعف ما يبذر فيها”.

وقد بدا للحظة أن تازة صارت نسيا منسيا، لذلك يرى كثير من الباحثين، أنه يقع على عاتق التازيين وغيرهم من الباحثين في التاريخ الفكري المغربي مهمة التعريف بتازة وبمزاياها الحضارية المتعددة من أجل الإسهام في إعادة الاعتبار لها ولعلمائها وأدبائها، يقول الدكتور عبد الهادي التازي: “.. تلك هي تازة، وأن على أبنائها اليوم أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، عليهم وحدهم تقع تبعة التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة ..”.

والحديث عن تاريخ الحركة العلمية بحاضرة تازة حديث ذو شجون، لكن نكتفي بالإلماح إلى بعض الشخصيات العلمية التي ساهمت في بناء الكيان العلمي والثقافي للمدينة على مر العصور، ففي العهد الموحدي نذكر سعيد الغياثي، وابن جلداسن، وابن حمادة وابن حبوس، وابن عمران، وفي عهد المرينيين نذكر: ابن العشاب وابن البقال والعلامة الكبير ابن بري، والصديني والزرويلي، والترجالي، والمجاصي وإبراهيم بن عبد الرحمن التسولي، وأبو شعيب الجزنائي، والشاعرة الأديبة صبح جارية الجزنائي، والمكودي، والسطي، والمؤرخ الأديب الشهير علي الجزنائي صاحب كتاب: “زهرة الآس في بناء مدينة فاس”، وابن شجاع الزجال، وابن هيدور عالم الرياضيات الكبير وتلميذ ابن البناء المراكشي العددي. وعلى العهد الوطاسي نذكر ابن فارس، ومحمد ابن يجبش الذي حارب الاستعمار البرتغالي والاسباني للسواحل المغربية بالمشاركة الفعلية في الجهاد وبتميزه بالشعر الجهادي الذي بلغت شهرته الآفاق، وتأليفه في الجهاد شعرا ونثرا يعد فريدا من نوعه في العالم العربي والإسلامي..     

لقد قام ثلة من أبناء هذه المدينة المباركة وغيرهم من محبي تازة بالتعريف بها وبتراثها العلمي والحضاري، لاسيما أن أغلب المصادر المؤسسة لتاريخ المدينة لازالت قابعة في بطون الخزانات العامة والخاصة..ومن المفيد هنا أن نذكر أعمال الدكتور إدريس العزوزي محقق كتاب “عدة المريد الصادق للشيخ أحمد زروق البرنسي، والأستاذ محمد الأمراني صاحب كتاب: “ابن بري التازي إمام القراء المغاربة”، وله العديد من الدراسات التي لم تنشر بعد عن الشيخ إبراهيم التازي، والشيخ أحمد زروق، والشيخ ابن يجبش التازي، والشيخ اليعقوبي الرشيدي، والشيخ أحمد بن الفتوح، حاول فيها محمد الأمراني التعريف بهؤلاء العلماء وببعض إنتاجهم الشعري والنثري، وقد طبع كتاب “ابن بري التازي إمام القراء المغاربة” سنة 1996 بأمر من الملك الحسن الثاني رحمه الله، طبع بوزارة الأوقاف بتصدير كل من عبد الكبير العلوي المدغري، وعبد الهادي التازي وسيدي عبد الله كنون؛ ثم الأستاذ إدريس بن الأشهب، أحد المتخصصين في التاريخ العلمي لمدينة تازة، إضافة إلى باحثين آخرين نذكر منهم “العربي الغساسي” و “محمد بنعبو” و “فاطمة بقال” و “محمد اليوبي” و “حسن العزوزي” و”الحسن حمدوش”، والأستاذ محمد العلوي الباهي من خلال مؤلفه: “علماء تازة ومجالسهم العلمية: مقاربة تاريخية” والذي تناول فيه مجموعة من الموضوعات ذات الصلة بالبعد العلمي والحضاري للحاضرة التازية، وللإشارة، يبقى هذا الكتاب واحدا من ضمن إصداراته الكثيرة ضمن سلسلة تحمل عنوان: “تازة تاريخ وحضارة”؛ لكن يبقى كتابه “علماء تازة”، كتابا متميزا، جهد فيه للتعريف المنهجي ببعض علماء تازة وبمجالسهم العلمية عبر التاريخ، وبعلماء المذهب المالكي بها، وقد أفرد الأستاذ الباهي مبحثا في كتابه حول أصول وجود المجلس العلمي بمدينة تازة، خصوصا وأنها اعتبرت معقلا للعلم والعلماء منذ العصور الأولى للإسلام ببلاد المغرب، وذلك بفضل موقعها الاستراتيجي، وباعتبارها كذلك رباطا للجهاد والمقاومة منذ القرن الثاني الهجري، ومن هؤلاء العلماء: سيدي يحيى بن عمران، والترجالي، والعلامة ابن بري والفقيه مصباح والأديب الفقيه ابن يجبش التازي؛ بدورها ساهمت الأستاذة الفاضلة ربيعة بنويس من جامعة القنيطرة  بدراسة تهم الجانب الصوفي بمحروسة تازة من خلال الشيخ إبراهيم التازي والشيخ أحمد زروق والعلامة الكبير الشيخ الأديب محمد ابن يجبش الذي نخصص له هذه الحلقة إسهاما منا في إثارة الانتباه إلى دور هذه المدينة المباركة في تاريخنا الفكري والثقافي بتوفيق من الله.

هو العالم الصوفي الأديب الفقيه سيدي أمحمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي التسولي؛ اختلف في تسميته على مدى خمسة قرون، فهو عند أحمد بابا التمبوكتي ابن بحبش، وعند بن عسكر في “الدوحة” يحبش وكذلك عن ابن القاضي في “الدرة” وعند الناصري في الاستقصا، لكن ما أتبثه أبو بكر البوخصيبي في كتابه القيم “أضواء على ابن يجبش التازي” استنادا على وثائق خطية من بلد المترجم، وبعض الظهائر السلطانية أن اسم صاحبنا هو ابن يجبش، ياء وجيم وباء وشين، هو الصحيح المعول عليه، وهذا أيضا رأي العلامة عبد الله كنون..  

وابن يجبش التازي هو صاحب كتاب: “تنبيه الهمم العالية على الصدقة والانتصار للملة الزاكية، وقمع الشرمذة الطاغية”، وهي رسالة مهمة في الجهاد في سبيل الله ويعرف منها لحد الآن نسختان: إحداهما تامة، وهي ضمن مجموع يحمل رقم ق 336 بالخزانة الوطنية بالرباط، والثانية نسخة خاصة يتخللها بتر.    

ومطلع القصيدة:       

فَسَد الزَّمَــــانُ وَغَــــابَ كُـلُّ رَفِــي          بِذَهَابِ أَهْلِ الصِّدْقِ فِي المَشْـرُوعِ

هْل الصَّفَا، أَهْــلُ الوَفَا وَمَـــنْ بِهِـمْ          صَلُــــحَ الوُجُــودُ بِبَـــذْرَةِ المَــــزْرُوعِ

قَوْمٌ كِـــرَامٌ لاَ يُضَـــــامُ جَلِيـسُـهُمْ              وَرَقَـى بِحُـــرْمَتِهِمْ لِكُـــلِّ مَنِيـــــعِ

ولمحمد بن يجبش أيضا كتاب: “أحكام فقهية” مخطوط بالخزانة المحجوبية، بسُوس، نُسِخَ في جمادي الأولى 1163هـ، ضمن مجموع رقم 287، وهذه الأحكام في 12 صفحة “انظر فهرس ما لم يفهرس من المخطوطات المغربية في الخزانات الخاصة وقف على إعداده و ترتيبه أبو الهيثم الشهبائي، الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، منشورات مركز نجيبويه للمخطوطات و خدمة التراث”  

وللعلامة ابن يجبش كتاب “تخميس بردة البوصيري” أوله: الحمد لله الذي نور قلوب أحبائه بمحبة حبيبه:

يا من له همة مــن أرفع الهمـــم          وجسمه قد غدا في غاية السقم

ومقلة العين لم تفتـــر ولـم تنـــم          أمن تذكــر جـــيران بــذي سلــــم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

في مجموع من ورقة: 115/إلى120/سطوره37، مقياسه: 90/225 مكتوب بخط مغربي جيد مشكول..”انظر   فهرس المخطوطات العربية المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط، القسم الثاني: 1921-1953″ الجزء الأول، اعتنى به سعيد علوش وعبد الله الرجراجي. مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الثانية  2001، ولصاحبنا محمد بن يجبش كتاب “إرشاد المسافر للربح الوافر” وهو يندرج في أدب الرحلة، وله أيضا قصيدة عارض بها منفرجة ابن النحوي “انظر البوخصيبي، أضواء على ابن يجبش التازي”..

قال ابن عسكر في: “دوحة الناشر” عن ابن يجبش: ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي بقوله: “ومنهم الشيخ المتفنن الأديب البارع المتبحر الصوفي العاشق المتوغل في مشاهدة الجمال. ابن يحبش “الصواب يجبش” التازي كان -رحمه الله- سيدا فاضلا عالما متفننا شاعرا فصيحا ماجدا من مشايخ الصوفية .له الشأن الذي لا يدرك.. وقد وقفت على تأليف له في الجهاد ألفه في الحض على الجهاد في سبيل الله. فكان ينبغي أن يتناول باليدين ويكتب دون المداد باللجين، أودعه نظما ونثرا وله قصائد ومقطعات كلها رائقة، وله على بردة الإمام البوصيري تخميس عجيب، وله في فن التصوف العجب من النظم والنثر ؛ توفي بتازة سنة920ه/ 1514-1515م.

لا يمكن الحديث عن ابن يجبش التازي دون الإشارة إلى كتاب المرحوم أبو بكر البوخصيبي -ومفتش التعليم السابق بتازة وهو أصيل محروسة آسفي وقد ولع ولعا شديدا بتازة وعلمائها- الذي ألف كتابه الرائع “أضواء على ابن يجبش التازي التسولي”، “الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1976″، وقد نال بهذا الكتاب القيم جائزة المغرب للكتاب سنة 1972..  

قال سيدي عبد الله كنون عن كتاب “أضواء على ابن يجبش التازي” وصاحبه سيدي بوبكر البوخصيبي، “مجلة دعوة الحق، عدد نونبر 1976: ص139-140”: “الحقيقة أن الكسل الفردي داء استشرى في طائفة من الشباب والمثقفين الكهول والشيوخ، فلا ينتظر منهم إلا الانتقاد وإملاء الرأي من أعلى، فانصرف النظر عنهم إلى من برأهم الاختبار من هذا الداء، وهم زمرة قليلة من العاملين المجدين المنتجين الناجحين؛ إن من هؤلاء الأستاذ الباحث المتمكن السيد أبا بكر البوخصيبي، الذي لم يشغله عمله في التفتيش بوزارة التعليم، عن الإسهام بنصيبه في الدراسات التاريخية والأدبية بهمة ونشاط، وإتحافنا بنتيجة اجتهاده وزبدة إنتاجه. وها هو باكورة عمله يطالعنا به في كتابه “أضواء على ابن يجبش التازي”؛ إنه ترجمة لهذه الشخصية المغمورة، تكاد تكون كاملة، أخرجها الكاتب من العدم، واستعمل فيها مؤهلاته العديدة، من ثقافة أدبية أصيلة، ونظر مقارن موفق، وفكر متمعن غواص، فأخضع لها هذه المعلومات القليلة المنتشرة هنا وهناك، عن شخصيته المدروسة، وسوّى منها ترجمة هذا العالم الجليل، التي كان يكتنفها غير قليل من الغموض، وأصبحت بجدِّه المشكور، واضحة المعالم، مجلوة على منصة التعريف”.. وتكفي شهادة عالم من عيار سيدي عبد الله كنون لندرك مدى الغموض الذي أحاط بشخصية ابن يجبش، ولندرك الجهد الجبار الذي بدله المرحوم البوخصيبي؛ لذلك يعتبر كتابه حول ابن يجبش المصدر الوحيد المعول عليه في هذا المجال، رحم الله أبو بكر البوخصيبي ورحم سيدي عبد الله كنون، لقد أحبوا هذا الوطن حتى النخاع، نفعنا الله بعلمهم وبركتهم..    

وقد اشتهر ابن يجبش بأدب الجهاد وعرف به، ذلك أن محروسة تازة كان لها نصيبها المحترم من المتصوفة والمجاهدين، يأتي في طليعتهم صاحبنا الصوفي الشاعر المرابط أبو عبد الله أمحمد  بن عبد الرحيم بن يجبش الذي اشتهر بكتابه في الحث على الجهاد وتحرير الثغور. وقد عاشت تازة خلال فترة الوطاسيين وأوائل السعديين فترة أمن وهدوء  ورخاء لوقوعها كما ذهب إلى ذلك المرحوم “أبو بكر البوخصيبي” في كاتبه: “أضواء على ابن يجبش التازي” ص: 26/27″ شرق مدينة فاس ولهذا سلمت من مثل ما كان الجانب الغربي يرزح تحته من زحف وتهديد ولاسيما حينما بدأ نجم دولة الأشراف السعديين يبزغ من ناحية الجنوب، يضاف إلى ذلك ضعف شوكة بني عبد الواد بالمغرب الأوسط واشتغالهم عن ناحية تازا بمواجهة دسائس الإسبان وأخيرا خضوع المنطقة للنفوذ العثماني، ولم ينس –يضيف “بوبكر البوخصيبي” السلاطين من بني وطاس ما كان لمدينة تازة مع أبائهم وأجدادهم من ذكريات عذبة، وأيام صافية بيضاء، فلم يتنكروا لها بالمرة، ولا آنستهم نشوة سلطانهم الجديد، وظفرهم بمدينة فاس، ما كان لهذا الحصن الحصين من فضل على توطيد دعائم ملك بني مرين، وهكذا فرغم قربها من فاس العاصمة،    ارتفعت رتبة عاملها إلى مستوى خليفة سلطاني، وكان من الذين تولوا هذه المأمورية أيام صاحبنا، ابن يجبش أبو العباس الوطاسي، أخو السلطان محمد بن محمد الشيخ المعروف بالبرتغالي”، وقد عرف عن أبي العباس هذا حبه للأولياء والعلماء الذين كانوا يجتمعون ويتناظرون في مجلسه بتازة “البوخصيبي، أضواء، ص: 27”.

وعرف عن ابن يجبش التازي التسولي تواصله الكبير مع علماء الحاضرة الفاسية، ونحن نعرف أن هذا التواصل تجسيد طبيعي لعلاقة جدلية مباركة بين حاضرتين اختلط فيهما الدم والتاريخ والعلم والحضارة..

  من هذه العلاقات العلمية المباركة نذكر تلك التي كانت بين ابن يجبش وبين الشيخ الإمام السنوسي، ذلك أن ابن يجبش كان قد مدح  بقصيدة شعرية شرح “العقيدة السنوسية الصغرى” التي ألفها الإمام السنوسي الذي كان قد وجه هذا الشرح إلى ابن يجبش..

وفي سياق العلاقة الجدلية بين العلم والعمران، وما ينتج عن ذلك من تطور للاجتماع الإنساني في علاقة مع المجال أريد أن أشير إلى أن القراءة الطوبينيمية لمعالم تازة التاريخية تنبأ عن تأثير كبير لمسارات العلماء وما ارتبط بهم-علميا وعائليا- على المجال المديني من ذلك مثلا: “درب العالية الجبشية بمحروسة تازة” الذي ينسب إلى السيدة الفاضلة ابنة صاحبنا العالم الصوفي الأديب الإمام أبي عبد الله محمد ابن يجبش التازي دفين تازة، وقد أطلق اسمها على هذا الدرب الذي به ضريحها، وقبرها قرب سيدي بلفتوح والمحاذي لزاوية والدها ابن يجبش؛ نذكر أيضا زنقة سيدي بودروس التي تنسب لسيدي عبد الله بن سيدي محمد بن يجبش، وهو أيضا من علماء تازة ووارث والده في العلم، وسيدي بودروس هو أخ السيدة العالية الجبشية، وضريحه بالزاوية الجبشية مقابل ضريح والده محمد بن يجبش، وهذا دليل على التحام هذه الأسرة المباركة بتربة مدينة تازة وتخليد ذكرها بها.

وبعد فهذه لمحة موجزة عن العلم والعلماء بالحاضرة التازية، وقفنا فيها -ببعض التفصيل- مع الشيخ الأديب الفاضل ابن يجبش التازي الذي لا يمكن أن نأتي بشأنه بأكثر مما أبدعه المرحوم البوخصيبي، فهو المرجع فيه، وإنما أثرنا الاهتمام من جديد إلى ابن يجبش، ومن خلاله إلى تازة وتاريخها الفكري، إيمانا منا بأن إعادة كتابة التاريخ الفكري للمغرب لن يمر-بشكل منهجي- إلا عبر كتابة التواريخ المحلية، وللحديث بقية..

توفي سيدي ابن يجبش التازي التسولي عام 920هـ ودفن بتازة، وقبره مشهور بالحاضرة التازية، رحمه الله وجازاه عن تازة والمغرب خيرا والله الموفق للخير والمعين عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق