وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

ابن ليون التجيبي

 

 د.جمال بامي

مدير وحدة علم وعمران

لا يمكن لبلد ما أن يحيى حياة طيبة بدون أن يكون لدى أهله ولع بالأرض وبالرغبة في استصلاحها، واستنبات الزرع منها بالغراسة والسقي والتهيئة والتسميد والرعاية..

وهناك إجماع لدى أهل العلم أن فن الغراسة نما وترعرع واستوت سوقه في بلاد المغرب والأندلس التي أنجبت عباقرة في علم الفلاحة كابن بصال وأبي الخير الاشبيلي، والطغنري، وابن وحشية وغيرهم ممن تركوا مصنفات في علم الفلاحة لازالت تثير مؤرخي العلم والمشتغلين فيه إلى اليوم..

 

وكم تود النفس لو أن المسئولين على قطاع الفلاحة ببلدنا الكريم اهتموا بالتنسيق مع الجامعة ومراكز البحوث، بإحياء التراث العلمي المغربي الأندلسي في علم الفلاحة استلهاما على مستوى الخبرة والمنهج. وإذا كان المغرب اليوم يرفع شعار المغرب الأخضر، وهو شعار لا محالة  نبيل، فإن مقتضى هذا الشعار الكبير، في أحد جوانبه، هو بناء “تقليد علمي زراعي” يبني على الخبرات الفلاحية المتراكمة على مدى قرون ليضيف إليها المكتسبات المعاصرة في بعدها التقني الإيجابي، بعيدا عن المقاربات التي أدى الكثير منها إلى إتلاف التقاليد الزراعية المغربية الأصيلة..

ضمن هذه الفلسفة العامة وجب الاهتمام بالتراث العلمي المغربي بشكل عام، والتراث الزراعي بشكل خاص، وهو ما دأبت شخصيا بمجهودي المتواضع-ضمن الرؤية العامة لوحدة علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء-على الإسهام فيه عبر مقالات تعرف بعلماء مغاربة أفاضل ساهموا بحظ وافر في تقدم الإنسانية..

وفي هذا المقال، سأعرف بشكل مركز بعالم زراعي أندلسي مغربي كبير هو ابن ليون التجيبي صاحب كتاب “إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة” المختصر تحت اسم: “كتاب في علم الفلاحة لابن ليون”.

ولد ابن ليون التجيبي في المرية ببلاد الأندلس عام 1282م وتوفي بها عام 1349 م متأثرا بمرض الطاعون.

لم يكن ابن ليون التجيبي مهندسا زراعيا فحسب، بل كان أيضا فيلسوفا وقاضيا وعالم رياضيات وشاعرا وعالما بالتصوف وأهله..

تنقل ابن ليون في بلاد المغرب العربي والمشرق لتوسيع مداركه وإتمام معارفه. فتتلمذ عل يد علماء كبار  مثل أبي زكريا يحيى بن أحمد بن محمد بن القس الفاسي وأبي حيان من المرية وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد النقني من مصر وغيرهم.

أُلف ابن ليون كتابه في علم الفلاحة في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وهو يدل على المكانة المرموقة التي كانت تحتلها الهندسة الزراعية في التقاليد العلمية المغربية الأندلسية.

هناك أسباب عديدة وراء هذا التطور، وبشكل خاص، اهتمام العرب بعلوم الطب التي تنبني على الخصائص العلاجية للنباتات ومنافعها، ومن ثم علم النبات بشكل عام في بعده التصنيفي والبيئي والفلاحي. من ناحية أخرى، فقد كانت العديد من النباتات موضع تبادلات داخل الدولة الإسلامية الممتدة الأطراف، مما أدى إلى ضرورة دراسة الخصوصيات العلمية والتقنية وحاجات كل نبتة من أجل أقلمتها في البلدان المستقبلة ومناخها الجديد.
توجد نسخة من كتاب ابن ليون التجيبي “إبداء الملاحة وإنهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة” في معهد الدراسات العربية بغرناطة، وهي  نسخة تعود إلى عام 740 هـ./1348م، أي سنة واحدة  قبل وفاة المؤلف. وهي نسخة مكتملة وتتألف من 1365 بيت شعر كُتبت بالخط المغاربي؛ وكُتبت العناوين بخط أكبر من النص. وهي عبارة عن أرجوزة بمعنى أنها عمل شعري نُظم على بحر الرجز.
والملاحظ أن هذه الأرجوزة الفلاحية المباركة تحتوي على قليل من التزيين البلاغي والشعري، وقد قام صاحبنا ابن ليون بهذا العمل “باستعمال الأسلوب النثري والبحث عن موضوعية دائمة مع سهولة استعماله لبحر الرجز“..
راكم ابن ليون علوما كثيرة، مشرقية ومغربية قبل أن يكتب أرجوزته الممتعة المفيدة المُجيدة، كما كان رجل ميدان يقوم بالتجارب الفلاحية، ويبحث في أسماء النباتات وخواصها، وطبيعة المياه والزبول، وعلاقة النباتات بالمواسم.. لقد كان ابن ليون مطلعا نبيها على كتب الفلاحة الأندلسية مثل مؤلفات ابن بصال والطغنري وأبي الخير الاشبيلي؛ كما كان مطلعا على كتب إخواننا المشارقة مثل كتاب في لحن العامة لابن هشام اللخمي وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري. وكان قارئا لإنتاجات الشيخ الرئيس، والأصمعي والزبيدي.

وبما أن علم الفلاحة علم يضم فيه علم الأولين إلى علم المعاصرين، بحكم طبائع الأشياء؛ فإن التجيبي كان مدركا لأهمية كتب القدماء في مجال الهندسة الزراعية، فاطلع على كتب اليونان مثل ديموقراط، وأرسطو وفيلون، وأومبيدوكل، كما قرأ العالم الفارسي قسطوس واللاتينيين الرائدين كولومل وجالينوس..
من الناحية العملية، يُحدد ابن ليون في كتابه فن الزراعة ويشرح كيفية تطبيقه في بلاد الأندلس، تسديدا للعلم بالعمل بفضل من الله.

وبأسلوب بديع يتناول أسس هذا العلم النبيل –الذي بدونه يسود التخلف والتبعية والكسل- ليدرس العناصر الأربعة الضرورية لهذا الفن وهي: التراب والماء والزبل والعمل. ولا شك أن هذه العناصر الأربعة تذكرنا بما كان قاله الفاضل مالك بن نبي في كتابه “شروط الحضارة” من أن اجتماع الفكرة والتراب والزمن تنتج الحضارة، لقد كان مالك آدميا يحس ويفهم ويشعر كما كان ابن ليون التجيبي كذلك..

يقول ابن ليون في كتابه:

وهي الأراضي والمياه والزبول         والعــــــمل الذي بيـــانه يطول

وهناك مقطع مميز خطير في أرجوزة ابن ليون، حيث تظهر بقوة قريحته وعمقه وبعد نظره وحسه العلمي والعملي والإنساني؛ وهو مقطع يتعلق بتخطيط وموقع المنازل في القرى، وما يلزم فعله لترتيب البساتين والديار والمزارع. فيقول:

تنـــــــظر للقــــبلة والبـــــاعل           قرب وللصهريج والبشـــر اعتلا

أو عوض البــــئر تكون ســاقية           بالماء من تحت الظلال جــارية

وما لـه بابــــان فهـــو أســـــتر           وراحة الســــاكن فيـــــها أكثر

ثم يلي الصـهريج ما لا يسقط           ورقه مـــن كـــــل مــــا ينشّط

فتأمل أيها القارئ الكريم عظمة هذا الرجل الفاضل، الذي ترك أرجوزة ظاهرها الفلاحة وعمقها فلسفة شاملة للعمران والبناء والتشييد ضمن منظومة تظم التراب والماء والنبات والحيوان والهواء والإنسان… إنها فلسفة القرآن الكونية التي ألهمت هؤلاء الفضلاء، فجاء علمهم استجابة للجدلية المباركة التي تربط الإنسان بالغيب والطبيعة لتنتج الحضارة الكونية الإنسانية الاستخلافية..

وينصحنا التجيبي في كتابه أنه : بالقرب يجب زرع مربعات من الزهر وأشجار ذات أوراق دائمة ؛ ونحيط الدار بكروم العنب ونزرع في الممرات العريش؛ ويجب أن يكون البستان مغلقا في إحدى ممراته وذلك لعزله عن باقي الدار. وبالإضافة لكروم العنب، يجب زرع الأشجار المثمرة مع بعض أشجار الميس وأخرى مشابهة، ذلك لأهمية ومنفعة خشب هذه الأشجار..

إن المتأمل اليوم في زراعتنا وقرانا ومداشرنا ليأسف على الحال التي آلت إليه، ولا يمكن إلا أن يتمنى ثورة زراعية فنية شاملة تدبر المجال القفر لتجعل منه بساتين وحياض ورياض. ولن يتم ذلك إلا بالعلم والعمل واستلهام التجارب السابقة التي يعتبر كتاب ابن ليون أحدها.. وإذا ما بدت بوادر هذه النهضة الزراعية بقرارات ملموسة محسوسة وقتها يمكن أن نتحدث عن مغرب أخضر..

رحم الله ابن ليون التجبيي، وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق