وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

ابن رشيد الفهري السبتي (تـ721هـ/1321م)



د. جما بامي

مدير وحدة علم وعمران

 

يعتبر أدب الرحلات من أفيد وأمتع المصادر الثقافية في تاريخ الإسلام، ذلك أن مدوني الرحلات جمعوا في أعمالهم بين الخُبر والخَبر، وساروا في الأرض بحثا عن العلم والثقافة، وليعايشوا أنماط الاجتماع والسلوك الإنساني بالمشاهدة والعيان، وليحققوا مآرب شتى على رأسها زيارة الوجهتين الوجيهتين مكة وطيبة بتعبير الرحالة الكبير ابن رشيد السبتي..
لقد طبق ابن رشيد الفهري السبتي هذا المنهج وسار على درب الرحالة الكبار، وطيب نفسه وروحه وعقله بزيارة طيبة الطيبة التي جعلها ومكة الحرام عنوانا لرحلته الشهيرة: “ملأ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة”. فمن هو هذا العالم المحدث الرحالة الذي أنجبته سبتة الخالدة كما أنجبت قبله أساتذة كبار ونوابغ؟
هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رُشيْد الفِهري السبتي. ولد بمدينة سبتة -أعادها الله إلى سابق مجدها- في شهر رمضان سنة 657هـ في أوّل ولاية أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينيّ -نهاية الدولة الموحدية- وتوفي بمحروسة فاس في 22 محرم سنة721هـ، في فترة حكم أبي سعيد عثمان المرينيّ والد السلطان الشهير أبي الحسن المريني.
تاقت نفس ابن رُشيْد إلى العلم في سن باكرة، فتلقى الدراسة الأولية بمدينته سبتة، وكان من بين شيوخه الفقيه أبو الحسين ابن أبي الربيع المتوفى سنة 688هـ، والأديب أبو الحكم مالك ابن المرحّل المتوفى سنة ت699هـ، وأبو الحسن علي بن الخضّار الكتّامي المتوفى سنة 689هـ، وأبو القاسم القبتوري المتوفى سنة 707هـ، وقد تخرّج على هؤلاء العلماء في العلوم المختلفة من علوم القرآن، والحديث، والتفسير، واللغة، والأدب.
ثمّ انتقل ابن رُشيْد إلى محروسة فاس، والتزم مجالس العلم فيها، فحذق علوم الحديث، وأصبح من الأعلام الذين يعرفون به. يقول علي إبراهيم كردي في كتابه: “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة”، بَيْدَ أن ابن رُشيْد لم يكتفِ بما أخذه عن المشايخ في المغرب، فتاقت نفسه إلى الارتحال شرقا لينهل من علمائه ما تيسّر له من علوم، فقام برحلته الطويلة، حيث التقى بعدد كثير من المشايخ والعلماء والأدباء ذكرهم في رحلته، وجمع عددا من الإجازات لنفسه، ولأولاده، ولجملة من أقاربه، وأصدقائه.
وبعد عودته من رحلته تصدّر ببلده سبتة لإقراء الفقه والحديث، ثمّ ولي الخطبة بجامع غرناطة، وكان لإقامته في هذه المدينة أثر في إنعاش النشاط العلمي بها، إذ عقد مجالس للأدب حضرها عدد كثير من الطلبة، وسرعان ما اشتهر بين الناس، فاستدعاه السلطان إلى المغرب، وعينه إماما وخطيبا للجامع العتيق بمرّاكش، ثمّ استقدمه إلى فاس وجعله من خاصّته، وكان معظّما مقبول الشفاعة، وبقي كذلك إلى أن توفّاه الله ودفن بمقبرة المدينة..
تُرجم للعلامة ابن رشيد السبتي في عدة مصادر منها: ابن الخطيب في “الإحاطة في أخبار غرناطة”، وابن فرحون في “الديباج المذهب”، وابن الجزري في “غاية النهاية في طبقات القراء”، وابن حجر العسقلاني في “الدرر الكامنة”، وابن فهد المكي في “ذيل طبقات الحفاظ”، والجلال السيوطي في “بغية الوعاة”، والداودي في “طبقات المفسرين” وابن القاضي في “جذوة الاقتباس” وفي “درة الحجال”، وأحمد المقّري في أزهار الرياض في أخبار عياض” وفي “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، وحاجي خليفة في “كشف الظنون”.. وترجمه العلامة عبد الله كنون في “النبوغ المغربي”، والسملالي في “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام”، ومحمد بن جعفر الكتاني في “السلوة”..
أما تلاميذ ابن رُشيد فيذكر الأستاذ علي إبراهيم كردي، في كتابه “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة” أنه أخذ عن ابن رُشيْد عددٌ كثير من الطلاب من الأصقاع المختلفة، ذكرت كتب التراجم والفهارس أعدادا كثيرة منهم، وسنكتفي بذكر بعضهم، منهم المحدّث الراوية محمد بن عبد الرازق (تـ 749هـ) الذي كان يُقرئ الموطأ والبخاري في القرويين، وأبو البركات محمد بن الحاج البلفيقي (تـ 771هـ) الذي عدّه ابن خلدون شيخ المحدّثين والأدباء، وعبد المهيمن الحضرمي (تـ 779هـ) الأديب الشاعر الشهير.
كان العلامة ابن رشيد غزير التأليف في علوم مختلفة، فقد ألف في النحو: “تقييد على كتاب سيبويه”، و”تلخيص القوانين في النحو”، وألف في ميدان البلاغة “إحكام التأسيس في أحكام التجنيس”، و”الإضاءات والإنارات في البديع”، و”حكم الاستعارة”، و”شرح التجنيس”؛ وألف ابن رشيد في العروض: “جزء مختصر من العروض”، و”وصل القوادم بالخوافي في شرح كتاب القوافي”. واشتهر صاحبنا ابن رشيد في التأليف في التراجم، من ذلك “إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب”، و”ترجمان التراجم على أبواب البخاري”، و”شروح وتعليقات على كتب الضبّي وابن الأبّار” ولابن رشيد في ميدان الأسانيد: “إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح”، و”السّنَن الأبْيَن والمورد الأمْعَن في المحاكمة بين الإمامين في السند المُعنْعن”، والصراط السويّ في اتصال سماع جامع الترمذيّ؛ وفي ميدان الفقه ترك لنا ابن رشيد: “حكم رؤية هلال شوال”، و”المقدمة المعرّفة لعلو المسافة والصفة”. ويبقى أشهر مؤلف لابن رُشيد السبتي هو رحلته “ملء العيبة بما جُمعَ بطولِ الغيبةِ في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكّة وطيبة”، وله فهرس مشايخ متعلق بهذه الرحلة، وهو بمثابة بيان علمي وثقافي ينقل لنا روح الحركة العلمية التي عاصرها وشارك فيها وخلدها في مؤلفاته، ومنه ندرك القيمة المضافة الكبرى لرجل مثل بن رشيد في تاريخ الحركة العلمية بالمغرب والمشرق في بداية الدولة المرينية..
ابن رشيد الفهري السبتي (تـ721هـ/1321م)
وقد أثنى لسان الدين بن الخطيب على معرفة بن رُشيد بعلوم الحديث، فقال عنه في “الإحاطة في أخبار غرناطة”: “كان واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيّما عليها، بصيرا بها، محققا فيها، ذاكرا فيها للرجال“..
وأثنى عليه ابن فرحون في “الديباج المذهب”، فأشار إلى تضلّعه في العربية والفقه والأدب والتاريخ والقراءات، وقال العلامة ابن خلدون عن صاحبنا ابن رشيد: “كبير مشيخة المغرب، وسيد أهله، وشيخ المحدّثين والرحالة”..
يُعَدُّ كتاب “ملء العيبة” من أنفس ما كتبه ابن رُشيْد، لما تضمنه هذا الكتاب من فوائد علميةٍ كثيرة، وقد أنجز الأستاذ أحمد حدادي دراسة حولها صدرت ضمن منشورات وزارة الأوقاف في جزأين. وممن اهتم برحلة ابن رشيد أيضا الأستاذ علي إبراهيم كردي في كتابه: “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة“، الذي يفيدنا أنه قد: “وصل إلينا من هذه الرحلة نسخة خطّية واحدة غير كاملة، منسوخة بخط المؤلف ما عدا الجزء الثالث منها، قرأها عليه تلميذه الأديب عبد المهيمن الحضرمي، كما يظهر من التقييدات الموجودة عليها، وانتقلت بعد ذلك بالمُلك بين أسر مغربيةٍ معروفة كعائلة الونشريسي والمنجور، ثمّ آلتْ إلى مكتبة دير الأسكوريال بإسبانيا. ويقع المخطوط في سبعة أجزاءٍ كما ذكر المؤرخون، ضاع منها اثنان، ووصل إلينا خمسة هي: الجزء الثاني: ويتضمن الحديث عن مدينة تونس عند الورود، وقد ترجم فيه لستة عشر شيخا وأديبا وعالما من أهالي تونس والمقيمين فيها؛ الجزء الثالث: وهو جزء مبتور الأول والآخر، يتحدّث فيه عن مصر والإسكندرية عند الورود، ترجم فيه لعشرة شيوخ من أهالي الإسكندرية، وثلاثة وأربعون من أهل القاهرة، الجزء الخامس: موضوعه الحَرمان الشريفان ومصر والإسكندرية عند الصدور، وفيه يذكر ابن رُشيْد مراحل سفره، ويصف تنقّلاته ومحاوراته مع الأصحاب، ويطنب في الحديث عن مناسك الحج، ولا يغفل ما التزمه في رحلته في التعريف بمن لقيه من الرجال، فترجم في الحرمين الشريفين لستة عشر شيخا، وفي مصر لأحد عشر شيخا منهم أربعة تكرر لقاؤه بهم، وترجم بالإسكندرية لأربعة شيوخ؛ الجزء السادس: ويتعلّق بالعودة من الإسكندرية إلى تونس عن طريق طرابلس والمهدية، ويعرّف فيه بجماعة من الأعلام، واحد منهم لقيه بالمركب، واثنين لقيهم بمدينة طرابلس، وواحد لقيه بالمهدية، وأربعة وثلاثون لقيهم بتونس، منهم عشرة تكرر لقاؤه بهم؛ الجزء السابع: ويتعلّق بالعودة من تونس إلى سبتة عن طريق (عنابة الجزائرية)، ومالقة، ورُندة، والجزيرة الخضراء، ويتحدّث ابن رُشيْد في هذا الجزء عن مروياته، ومجالسه، ومراسلاته، ويترجم فيه لستة أشخاص، ويختم به رحلته المباركة هذه… أما الجزآن الضائعان فهما الأول والرابع، ويضم الجزء الأول حديثه عند خروجه من مدينة سبتة، ووصوله إلى المرية، ولقائه للوزير ابن الحكيم (تـ 807هـ)، ودخوله بعد ذلك بجاية (بالجزائر)، ويرى الأستاذ كردي إبراهيم علي أنّ ابن رُشيْد قد عرّف في هذا الجزء بعدد من المشايخ والعلماء الذين كانت تزخر بهم بجاية في نهاية القرن السابع الهجري، الذين ترجمهم الغبريني في كتابه الشهير “عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية”.. على حين يضم الجزء الرابع حديثه عن بلاد الشام التي اتّجه إليها ابن رُشيْد عند خروجه من مصر، ثم انطلق منها إلى الحجاز، ويبدو أنه ترجم فيه لجماعة من العلماء لقيهم في طريقه إلى الحجاز، ويدلّنا على أسماء بعض منهم الاستدعاء الكبير المطبوع بآخر الجزء الثالث من الرحلة.
وقد كان الدكتور بدر العمراني قد نشر مقالا حول العلامة ابن رشيد وتمكنه من علوم الإسناد نشر بجريدة ميثاق الرابطة الغراء (عدد 11)، ومما جاء في المقال المذكور: “تتجلى عناية الإمام ابن رُشيد بجلاء ووضوح من خلال رحلته الماتعة المسماة: “ملء العيبة، فيما جمع بطول الغيبة، في الرحلة إلى مكة وطيبة” التي خلد فيها صورا مشرقة، وصفحات وضيئة من المثابرة وتحمل الشدائد والصعاب من أجل لقاء الشيوخ ومجالستهم للأخذ عنهم، ولا يكتفي في ذلك بالسماع، بل يحرص على توثيق تلك المجالس عبر استدعاء يقدمه للشيخ، فيجيزه الشيخ مذيلا ذلك بخطه، وتجده كذلك لا يكتفي بإدراج اسمه فقط؛ بل يشرك معه الحاضرين ممن صحبوه في الرحلة، والغائبين ممن قصرت بهم النفقة، والصغار والولدان ممن يرجو لهم صالح الأثر. وللتمثيل يورد الأستاذ العمراني نموذجا من استدعائه الصغير فيقول: “فصل من وقف على هذا الاستدعاء من علماء الآثار، الذين شهدت لهم بدوام الظهور على الحق صحيحات الآثار، كفيل بأن يُجيز جميع مروياته ومنقولاته ومقولاته ومصنفاته: للفقيه الصّدر أبي علي بن رَشيق، والفقيه الكاتب أبي عبد الله ابن الدّرّاج، والفقيه الفاضل أبي القاسم ابن الشاط، والفقيه المصنف أبي عبد الله ابن عبد الملك، وابنه أبي القاسم، والفقيه الصوفي أبي عبد الله ابن قطرال، وأخيه النشأة الصالحة محمد. وللفقيه المقرئ أبي عبد الله السلوي، وللفقيه أبي عبد الله الغماري، وللفقيه الأديب أبي الحجاج الطُّرْطُوشي، وللفقيهين الفاضلين، أبي محمد عبد المهيمن بن علي بن حرز الله، وأخيه أبي عبد الله، ولكاتب الأحرف محمد بن عمر بن رُشيد، ولبنيه وفقهم الله، أبي القاسم محمد، وأم السعد عائشة، وأم المجد أمة الله، ولأخواته عائشة، وفاطمة، ورحمة، ولقريبيه أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن رُشيد، ومحمد بن رُشيد بن موسى”؛ فأنت تلاحظ هنا أيها القارئ الكريم الكثافة العلمية والإنسانية الثاوية في هذا النص بما يمكن اعتباره تأريخا للحياة الفكرية في عهد بن رشيد، مع إبراز العلاقات العلمية والسلاسل المباركة لانتقال العلم عبر الإسناد وما يتصل بذلك من معطيات حضارية واجتماعية..
ويلخص الأستاذ علي إبراهيم كردي، في كتابه “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة” خط سير رحلة بن رشيد بقوله: “فقد خرج رحّالتنا من مدينة سبتة قاصدا الحج سنة(681هـ)، وعمره سبعة وعشرون عاما، وأقام بالمرية المدينة الأندلسية مدّة من الزمان لقي فيها الوزير الأديب ابن الحكيم، وتوطّدت أواصر الصداقة بين الرجلين، ورافقه في رحلته إلى الحج، فيمّم رحّالتنا شطر مدينة تونس عن طريق تلمسان وبجّاية، ومنها تحوّل إلى الإسكندرية، ثمّ القاهرة التي وصلها سنة (684هـ)، ورحل من القاهرة إلى دمشق متوجّها إلى المدينة المنوّرة، ثمّ إلى مكّة المكرمة. وبعد أداء فريضة الحج عاد أدراجه إلى القاهرة فالإسكندرية سنة(685هـ)، ومنها ركب البحر إلى طرابلس الغرب، فالمهدية بديار إفريقية فوصلها في ربيع الأول من تلك السنة، وبلغ تونس في ربيع الثاني، وأقام بها عاماً كاملا، ثمّ توجّه إلى مدينة بونه(عنابة)، ومنها أبحر إلى مالقة ورندة والجزيرة الخضراء، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة سبتة في جمادى الثانية سنة (686هـ)…”.
يقول العلامة محمد الحبيب بلخوجة محقق رحلة “ملأ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة” لابن رُشيد (دار الغرب الإسلامي، الطبعة: 1، 1988) بشأن زيارة رحالتنا إلى طيبة الطيبة: “فقد تم له ذلك بفضل الله سبحانه بالتوجه من دمشق إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في الحادي عشر من شوال سنة أربع وثمانين وستمائة، والشوق محتدم والوجد غير مكثتم، وهو يسأل الله التيسير ويعود به من التعسير. وقد سلك لذلك مع الركب طريق الشام إلى المدينة المنورة. فمن ميدان الحصى بظاهر دمشق إلى بصرى الشام، ومنها إلى وادي الأزرق وإلى تبوك ثم السير إلى حجر ثمود والعلى ومنه إلى وادي القرى وعيون حمزة إلى أن وصل طيبة الطيبة وهو يردد قول الشاعر:
وأبرح مـــــا يكـــــون الشوق يومــا     إذا دنـت الديــــــار مـن الديـــــــــار
وكان الوصول إلى ظاهر المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ضحاء اليوم الثالث والعشرين لذي القعدة. وكان سفره منها إلى مكة المكرمة يوم السادس والعشرين منه، وفي طريقه إلى البلد الحرام مر بذي الحليفة وبوادي الصفراء وخليص وبطن مر التي بلغها في السادس من ذي الحجة؛ وبعد قضاء الوطر من سفره، وتحقيق منية النفس، وأداء الفرض عاد ابن رُشيد إلى المدينة المنورة في اليوم الخامس عشر لذي الحجة وبلغها في الخامس والعشرين منه.. ثم غادرها في الثامن والعشرين مستأنفا الرحلة عائدا إلى بلده وهو ينشد قول الآخر:
أودعكــــم وأودع جنـــانـــــــي         وانثـر عبرتـــي نثـر الجمـــــان
وقلبــي لا يريد لكــــــم فراقــا         ولكـــن هكذا حكــم الزمـــــان
كان ابن رُشيْد السبتي حريصا على الاتصال بالعلماء والشيوخ، وقد اكتسب من ذلك علما واسعا، ووقف على أمّهات تصانيف كتب الحديث وكتب اللغة، وقد كان تأكيد صاحبنا بن رُشيد على هذا الجانب العلمي مهيمنا على رحلته “ملأ العيبة”؛ بحيث نلحظ أن اهتمامه بالمعالم والآثار العمرانية لم يكن كبيرا، بل نجده قد اهتم بالأساس بالتأريخ للأعلام، صارفا كل اهتمامه إلى ملاقاة الرجال وزيارة العلماء والمحدّثين والرواة، وأصحاب الكتب في مجالسهم بالمساجد والدكاكين وفي المنازل، وكان يحرص كذلك على زيارة قبور أئمة الحديث الذين يتّصل بهم السند أو ينتهي إليهم. ويستنتج الأستاذ كردي في كتابه عن بن رُشيد أن رحلته تُعدُّ بحقّ برنامجا أو فهرسا واعيا لما تضمّنته من تراجم وأسانيد وأسماء كتبٍ ومرويّات، وهذا ما وعاه تلميذه عبد المهيمن الحضرمي حين أطلق على الرحلة اسم البرنامج، فكتب في آخر صفحةٍ منها بخطّهِ ما نصّهُ: “أكملتُ قراءة هذا البرنامج في يوم الأحد الحادي عشر لرجب عام عشرين وسبع مئة”.
قال ابن رشيد في رحلته: “إنّي لم أكن قصدتُ به مقصد التصانيف المهذبة، ولا التآليف المركبة، إنّما قيّدته بحسب ما تيسّر لي ممّا كتبته على ظهور الكتب، وفي بطون البطائق، ممّا قُيّد للتذكار بتلك المعاهد اللائحة الأنوار، فقصدت أن أضمّ بدده وأجمع عدده”…، وقال أيضا: “… وإن كنت أودعته من الفوائد ما لعلّه لا يحصره ديوان، ويعزّ وجوده على ذي البحث والتنقير والافتنان من مسائل حديثيّة وأصليّة وأدبية وبيانية، بعضها منقول عن أئمتنا وأشياخنا، وبعضها ممّا فتح الله فيه من فضله العميم… وقد ضممت هذا المجموع من الأحاديث النبوية والغرائب الأصليّة والفقهية، واللطائف الأدبية، والنكت العروضية…“.
والملاحظ أنّ ابن رُشيْد اتّبع في الجزأين الخامس والسابع منهجا مختلفا إلى حد ما عن نهجه في بقيّة الأجزاء؛ إذ أولى الناحية الجغرافية اهتماما خاصا في الجزء الخامس، فوصف الطريق التي سلكها الركب منذ خروجه من الشام إلى الحجاز، ووصف البلدان التي مرّ بها كبُصرى وحوران وتبوك والحجر، وكذلك وصف البلدان التي قطعها بين المدينة ومكّة، أو الأماكن التي تتّصل بمناسك الحج، وأركانه. قال ابن رشيد في وصف انطلاق الركب من دمشق إلى المدينة: “وكان سفرنا من ظاهر دمشق من الموضع المعروف بميدان الحصى عصر يوم الاثنين الحادي عشر من شوّال، وقد كنّا برزنا للسفر غدوة اليوم، فاعتاق الكِريُّ في بعض حوائجه إلى عشيّ اليوم، وعاينّا في ذلك اليوم عند خروج الناس للوداع ما يسيل الدموع، ويكاد يذهب بالقلب السليم، فكيف بالمصدوع، فبتنا تلك الليلة بالموضع المعروف بالقيساريّة على ضفة النهر، ورحلنا سحر اليوم الثاني عشر، ونزلنا منازل بالطريق سالكين إلى بُصرى وهي مدينة حوران..
وتميز الجزء السابع من رحلة بن رشيد ببعض المحطات الأدبية الممتعة التي تبرز علو كعب صاحبنا في هذا الباب.. من ذلك المطارحة الأدبية بينه وبين الأديب التونسي أبي الفضل التجاني التي شغلت حيزا كبيرا من الجزء السابع من الرحلة، وقد تبادل بن رشيد الرسائل والمساجلات الشعرية مع صاحبه التجاني، ومن نماذج رسائل بن رشيد قوله: “ولا أغربُ من رسالتك البديعة المساق، المخجلة كلّ قلادة بما رزقته من حسن الانتظام والاتساق، فقد أغربت وأشرقت وغرّبت وشرّقت، وتهادتها النواسم العطرية، وافتقرت إليها الموسم السرّية والمباسم الخمرية، وأنت تخلع عليّ فرائدها، وتجلب إليّ فوائدها، وتذكرني في أمر التصنيف، وتعرّفني وإياه بغير لام التعريف، وتشرّف هذا المجموع غاية التشريف، فتارة تخاطبه بالعقيلة الحسناء، وتارة تخاطبه بالخميلة الغنّاء…”.
ومن معاصري ابن رُشيد السبتي رحالتان شهيران هما العلامة التجيبي السبتي الرحال والرحالة العبدري الحاحي. وقد كتب الأستاذ المقتدر عبد القادر زمامة مقالا نشر بالعدد 22 من مجلة المناهل الغراء (يناير 1982) بعنوان: “الرحالتان السبتيان ابن رشيد والتجيبي”، ومما قال فيه: “فالمعجم العلمي للثقافة المغربية الذي بدأت مواده تتضخم منذ عصر الموحدين، حافل بالعناوين والموضوعات والاهتمامات والاتجاهات، وقد تشابكت فيه المعارف الأدبية بالمعارف الشرعية، والاتجاهات العقلية بالاتجاهات الذوقية.. وأخذ جل ذلك طريق الاستمرارية على عهد المرينيين.. فإذا تعمقنا فيما خلفه لنا الرحالتان السبتيان، وما خلفه معاصرهما الرحالة العبدري الحاحي نجد أن ذلك المعجم الذي عهدناه في العهدين.. لا يلبث أن يظهر بارز السمات من حيث التفكير والتعبير والتطلعات والاهتمامات عند شبان من أهل المغرب خرجوا من بلادهم بعدما طبعتهم ثقافتها بطابع خاص ودفعتهم إلى محاولة المزيد من المعرفة مع الربط بين ما عاشوا فيه من عطاءات مغربية وأندلسية وبين ما تحتفظ به أمصار تونس ومصر والشام والحجاز من عطاءات… يضيف عبد القادر زمامة: “ينبغي أن يكون واضحا عندنا أن كلا من ابن رشيد والتجيبي إنما قاما بتدوين عمل علمي لتتميم الدراسة والتوسع في المعرفة وذكر أخبار الشيوخ وعلومهم ومؤلفاتهم وأسانيدهم.. فعملهما في العمق هو من قبيل كتابة الفهارس العلمية لا كتابة الرحلات الجغرافية والفرق واضح بين عملهما هذا وبين عمل ابن جبير”، وأُحيل القارئ الكريم على المقالة التي كنت نشرتها من قبل ففيها تبرز بوضوح أدوات المقارنة بين رحلة بن جبير وبين رحلة صاحبنا ابن رشيد.. توفي بن رشيد السبتي بمحروسة فاس سنة 721هـ ودفن بها، رحمه الله ونفعنا بعلمه. والله الموفق للخير والمعين عليه.

يعتبر أدب الرحلات من أفيد وأمتع المصادر الثقافية في تاريخ الإسلام، ذلك أن مدوني الرحلات جمعوا في أعمالهم بين الخُبر والخَبر، وساروا في الأرض بحثا عن العلم والثقافة، وليعايشوا أنماط الاجتماع والسلوك الإنساني بالمشاهدة والعيان، وليحققوا مآرب شتى على رأسها زيارة الوجهتين الوجيهتين مكة وطيبة بتعبير الرحالة الكبير ابن رشيد السبتي..
لقد طبق ابن رشيد الفهري السبتي هذا المنهج وسار على درب الرحالة الكبار، وطيب نفسه وروحه وعقله بزيارة طيبة الطيبة التي جعلها ومكة الحرام عنوانا لرحلته الشهيرة: “ملأ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة”. فمن هو هذا العالم المحدث الرحالة الذي أنجبته سبتة الخالدة كما أنجبت قبله أساتذة كبار ونوابغ؟
هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن رُشيْد الفِهري السبتي. ولد بمدينة سبتة -أعادها الله إلى سابق مجدها- في شهر رمضان سنة 657هـ في أوّل ولاية أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المرينيّ -نهاية الدولة الموحدية- وتوفي بمحروسة فاس في 22 محرم سنة721هـ، في فترة حكم أبي سعيد عثمان المرينيّ والد السلطان الشهير أبي الحسن المريني.
تاقت نفس ابن رُشيْد إلى العلم في سن باكرة، فتلقى الدراسة الأولية بمدينته سبتة، وكان من بين شيوخه الفقيه أبو الحسين ابن أبي الربيع المتوفى سنة 688هـ، والأديب أبو الحكم مالك ابن المرحّل المتوفى سنة ت699هـ، وأبو الحسن علي بن الخضّار الكتّامي المتوفى سنة 689هـ، وأبو القاسم القبتوري المتوفى سنة 707هـ، وقد تخرّج على هؤلاء العلماء في العلوم المختلفة من علوم القرآن، والحديث، والتفسير، واللغة، والأدب.
ثمّ انتقل ابن رُشيْد إلى محروسة فاس، والتزم مجالس العلم فيها، فحذق علوم الحديث، وأصبح من الأعلام الذين يعرفون به. يقول علي إبراهيم كردي في كتابه: “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة”، بَيْدَ أن ابن رُشيْد لم يكتفِ بما أخذه عن المشايخ في المغرب، فتاقت نفسه إلى الارتحال شرقا لينهل من علمائه ما تيسّر له من علوم، فقام برحلته الطويلة، حيث التقى بعدد كثير من المشايخ والعلماء والأدباء ذكرهم في رحلته، وجمع عددا من الإجازات لنفسه، ولأولاده، ولجملة من أقاربه، وأصدقائه.
وبعد عودته من رحلته تصدّر ببلده سبتة لإقراء الفقه والحديث، ثمّ ولي الخطبة بجامع غرناطة، وكان لإقامته في هذه المدينة أثر في إنعاش النشاط العلمي بها، إذ عقد مجالس للأدب حضرها عدد كثير من الطلبة، وسرعان ما اشتهر بين الناس، فاستدعاه السلطان إلى المغرب، وعينه إماما وخطيبا للجامع العتيق بمرّاكش، ثمّ استقدمه إلى فاس وجعله من خاصّته، وكان معظّما مقبول الشفاعة، وبقي كذلك إلى أن توفّاه الله ودفن بمقبرة المدينة..
تُرجم للعلامة ابن رشيد السبتي في عدة مصادر منها: ابن الخطيب في “الإحاطة في أخبار غرناطة”، وابن فرحون في “الديباج المذهب”، وابن الجزري في “غاية النهاية في طبقات القراء”، وابن حجر العسقلاني في “الدرر الكامنة”، وابن فهد المكي في “ذيل طبقات الحفاظ”، والجلال السيوطي في “بغية الوعاة”، والداودي في “طبقات المفسرين” وابن القاضي في “جذوة الاقتباس” وفي “درة الحجال”، وأحمد المقّري في أزهار الرياض في أخبار عياض” وفي “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، وحاجي خليفة في “كشف الظنون”.. وترجمه العلامة عبد الله كنون في “النبوغ المغربي”، والسملالي في “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام”، ومحمد بن جعفر الكتاني في “السلوة”..
أما تلاميذ ابن رُشيد فيذكر الأستاذ علي إبراهيم كردي، في كتابه “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة” أنه أخذ عن ابن رُشيْد عددٌ كثير من الطلاب من الأصقاع المختلفة، ذكرت كتب التراجم والفهارس أعدادا كثيرة منهم، وسنكتفي بذكر بعضهم، منهم المحدّث الراوية محمد بن عبد الرازق (تـ 749هـ) الذي كان يُقرئ الموطأ والبخاري في القرويين، وأبو البركات محمد بن الحاج البلفيقي (تـ 771هـ) الذي عدّه ابن خلدون شيخ المحدّثين والأدباء، وعبد المهيمن الحضرمي (تـ 779هـ) الأديب الشاعر الشهير.
كان العلامة ابن رشيد غزير التأليف في علوم مختلفة، فقد ألف في النحو: “تقييد على كتاب سيبويه”، و”تلخيص القوانين في النحو”، وألف في ميدان البلاغة “إحكام التأسيس في أحكام التجنيس”، و”الإضاءات والإنارات في البديع”، و”حكم الاستعارة”، و”شرح التجنيس”؛ وألف ابن رشيد في العروض: “جزء مختصر من العروض”، و”وصل القوادم بالخوافي في شرح كتاب القوافي”. واشتهر صاحبنا ابن رشيد في التأليف في التراجم، من ذلك “إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب”، و”ترجمان التراجم على أبواب البخاري”، و”شروح وتعليقات على كتب الضبّي وابن الأبّار” ولابن رشيد في ميدان الأسانيد: “إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح”، و”السّنَن الأبْيَن والمورد الأمْعَن في المحاكمة بين الإمامين في السند المُعنْعن”، والصراط السويّ في اتصال سماع جامع الترمذيّ؛ وفي ميدان الفقه ترك لنا ابن رشيد: “حكم رؤية هلال شوال”، و”المقدمة المعرّفة لعلو المسافة والصفة”. ويبقى أشهر مؤلف لابن رُشيد السبتي هو رحلته “ملء العيبة بما جُمعَ بطولِ الغيبةِ في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكّة وطيبة”، وله فهرس مشايخ متعلق بهذه الرحلة، وهو بمثابة بيان علمي وثقافي ينقل لنا روح الحركة العلمية التي عاصرها وشارك فيها وخلدها في مؤلفاته، ومنه ندرك القيمة المضافة الكبرى لرجل مثل بن رشيد في تاريخ الحركة العلمية بالمغرب والمشرق في بداية الدولة المرينية..
ابن رشيد الفهري السبتي (تـ721هـ/1321م)
وقد أثنى لسان الدين بن الخطيب على معرفة بن رُشيد بعلوم الحديث، فقال عنه في “الإحاطة في أخبار غرناطة”: “كان واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيّما عليها، بصيرا بها، محققا فيها، ذاكرا فيها للرجال“..
وأثنى عليه ابن فرحون في “الديباج المذهب”، فأشار إلى تضلّعه في العربية والفقه والأدب والتاريخ والقراءات، وقال العلامة ابن خلدون عن صاحبنا ابن رشيد: “كبير مشيخة المغرب، وسيد أهله، وشيخ المحدّثين والرحالة”..
يُعَدُّ كتاب “ملء العيبة” من أنفس ما كتبه ابن رُشيْد، لما تضمنه هذا الكتاب من فوائد علميةٍ كثيرة، وقد أنجز الأستاذ أحمد حدادي دراسة حولها صدرت ضمن منشورات وزارة الأوقاف في جزأين. وممن اهتم برحلة ابن رشيد أيضا الأستاذ علي إبراهيم كردي في كتابه: “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة“، الذي يفيدنا أنه قد: “وصل إلينا من هذه الرحلة نسخة خطّية واحدة غير كاملة، منسوخة بخط المؤلف ما عدا الجزء الثالث منها، قرأها عليه تلميذه الأديب عبد المهيمن الحضرمي، كما يظهر من التقييدات الموجودة عليها، وانتقلت بعد ذلك بالمُلك بين أسر مغربيةٍ معروفة كعائلة الونشريسي والمنجور، ثمّ آلتْ إلى مكتبة دير الأسكوريال بإسبانيا. ويقع المخطوط في سبعة أجزاءٍ كما ذكر المؤرخون، ضاع منها اثنان، ووصل إلينا خمسة هي: الجزء الثاني: ويتضمن الحديث عن مدينة تونس عند الورود، وقد ترجم فيه لستة عشر شيخا وأديبا وعالما من أهالي تونس والمقيمين فيها؛ الجزء الثالث: وهو جزء مبتور الأول والآخر، يتحدّث فيه عن مصر والإسكندرية عند الورود، ترجم فيه لعشرة شيوخ من أهالي الإسكندرية، وثلاثة وأربعون من أهل القاهرة، الجزء الخامس: موضوعه الحَرمان الشريفان ومصر والإسكندرية عند الصدور، وفيه يذكر ابن رُشيْد مراحل سفره، ويصف تنقّلاته ومحاوراته مع الأصحاب، ويطنب في الحديث عن مناسك الحج، ولا يغفل ما التزمه في رحلته في التعريف بمن لقيه من الرجال، فترجم في الحرمين الشريفين لستة عشر شيخا، وفي مصر لأحد عشر شيخا منهم أربعة تكرر لقاؤه بهم، وترجم بالإسكندرية لأربعة شيوخ؛ الجزء السادس: ويتعلّق بالعودة من الإسكندرية إلى تونس عن طريق طرابلس والمهدية، ويعرّف فيه بجماعة من الأعلام، واحد منهم لقيه بالمركب، واثنين لقيهم بمدينة طرابلس، وواحد لقيه بالمهدية، وأربعة وثلاثون لقيهم بتونس، منهم عشرة تكرر لقاؤه بهم؛ الجزء السابع: ويتعلّق بالعودة من تونس إلى سبتة عن طريق (عنابة الجزائرية)، ومالقة، ورُندة، والجزيرة الخضراء، ويتحدّث ابن رُشيْد في هذا الجزء عن مروياته، ومجالسه، ومراسلاته، ويترجم فيه لستة أشخاص، ويختم به رحلته المباركة هذه… أما الجزآن الضائعان فهما الأول والرابع، ويضم الجزء الأول حديثه عند خروجه من مدينة سبتة، ووصوله إلى المرية، ولقائه للوزير ابن الحكيم (تـ 807هـ)، ودخوله بعد ذلك بجاية (بالجزائر)، ويرى الأستاذ كردي إبراهيم علي أنّ ابن رُشيْد قد عرّف في هذا الجزء بعدد من المشايخ والعلماء الذين كانت تزخر بهم بجاية في نهاية القرن السابع الهجري، الذين ترجمهم الغبريني في كتابه الشهير “عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية”.. على حين يضم الجزء الرابع حديثه عن بلاد الشام التي اتّجه إليها ابن رُشيْد عند خروجه من مصر، ثم انطلق منها إلى الحجاز، ويبدو أنه ترجم فيه لجماعة من العلماء لقيهم في طريقه إلى الحجاز، ويدلّنا على أسماء بعض منهم الاستدعاء الكبير المطبوع بآخر الجزء الثالث من الرحلة.
وقد كان الدكتور بدر العمراني قد نشر مقالا حول العلامة ابن رشيد وتمكنه من علوم الإسناد نشر بجريدة ميثاق الرابطة الغراء (عدد 11)، ومما جاء في المقال المذكور: “تتجلى عناية الإمام ابن رُشيد بجلاء ووضوح من خلال رحلته الماتعة المسماة: “ملء العيبة، فيما جمع بطول الغيبة، في الرحلة إلى مكة وطيبة” التي خلد فيها صورا مشرقة، وصفحات وضيئة من المثابرة وتحمل الشدائد والصعاب من أجل لقاء الشيوخ ومجالستهم للأخذ عنهم، ولا يكتفي في ذلك بالسماع، بل يحرص على توثيق تلك المجالس عبر استدعاء يقدمه للشيخ، فيجيزه الشيخ مذيلا ذلك بخطه، وتجده كذلك لا يكتفي بإدراج اسمه فقط؛ بل يشرك معه الحاضرين ممن صحبوه في الرحلة، والغائبين ممن قصرت بهم النفقة، والصغار والولدان ممن يرجو لهم صالح الأثر. وللتمثيل يورد الأستاذ العمراني نموذجا من استدعائه الصغير فيقول: “فصل من وقف على هذا الاستدعاء من علماء الآثار، الذين شهدت لهم بدوام الظهور على الحق صحيحات الآثار، كفيل بأن يُجيز جميع مروياته ومنقولاته ومقولاته ومصنفاته: للفقيه الصّدر أبي علي بن رَشيق، والفقيه الكاتب أبي عبد الله ابن الدّرّاج، والفقيه الفاضل أبي القاسم ابن الشاط، والفقيه المصنف أبي عبد الله ابن عبد الملك، وابنه أبي القاسم، والفقيه الصوفي أبي عبد الله ابن قطرال، وأخيه النشأة الصالحة محمد. وللفقيه المقرئ أبي عبد الله السلوي، وللفقيه أبي عبد الله الغماري، وللفقيه الأديب أبي الحجاج الطُّرْطُوشي، وللفقيهين الفاضلين، أبي محمد عبد المهيمن بن علي بن حرز الله، وأخيه أبي عبد الله، ولكاتب الأحرف محمد بن عمر بن رُشيد، ولبنيه وفقهم الله، أبي القاسم محمد، وأم السعد عائشة، وأم المجد أمة الله، ولأخواته عائشة، وفاطمة، ورحمة، ولقريبيه أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن رُشيد، ومحمد بن رُشيد بن موسى”؛ فأنت تلاحظ هنا أيها القارئ الكريم الكثافة العلمية والإنسانية الثاوية في هذا النص بما يمكن اعتباره تأريخا للحياة الفكرية في عهد بن رشيد، مع إبراز العلاقات العلمية والسلاسل المباركة لانتقال العلم عبر الإسناد وما يتصل بذلك من معطيات حضارية واجتماعية..
ويلخص الأستاذ علي إبراهيم كردي، في كتابه “ابن رشيد الفهري السبتي ورحلته ملء العيبة” خط سير رحلة بن رشيد بقوله: “فقد خرج رحّالتنا من مدينة سبتة قاصدا الحج سنة(681هـ)، وعمره سبعة وعشرون عاما، وأقام بالمرية المدينة الأندلسية مدّة من الزمان لقي فيها الوزير الأديب ابن الحكيم، وتوطّدت أواصر الصداقة بين الرجلين، ورافقه في رحلته إلى الحج، فيمّم رحّالتنا شطر مدينة تونس عن طريق تلمسان وبجّاية، ومنها تحوّل إلى الإسكندرية، ثمّ القاهرة التي وصلها سنة (684هـ)، ورحل من القاهرة إلى دمشق متوجّها إلى المدينة المنوّرة، ثمّ إلى مكّة المكرمة. وبعد أداء فريضة الحج عاد أدراجه إلى القاهرة فالإسكندرية سنة(685هـ)، ومنها ركب البحر إلى طرابلس الغرب، فالمهدية بديار إفريقية فوصلها في ربيع الأول من تلك السنة، وبلغ تونس في ربيع الثاني، وأقام بها عاماً كاملا، ثمّ توجّه إلى مدينة بونه(عنابة)، ومنها أبحر إلى مالقة ورندة والجزيرة الخضراء، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة سبتة في جمادى الثانية سنة (686هـ)…”.
يقول العلامة محمد الحبيب بلخوجة محقق رحلة “ملأ العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة” لابن رُشيد (دار الغرب الإسلامي، الطبعة: 1، 1988) بشأن زيارة رحالتنا إلى طيبة الطيبة: “فقد تم له ذلك بفضل الله سبحانه بالتوجه من دمشق إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في الحادي عشر من شوال سنة أربع وثمانين وستمائة، والشوق محتدم والوجد غير مكثتم، وهو يسأل الله التيسير ويعود به من التعسير. وقد سلك لذلك مع الركب طريق الشام إلى المدينة المنورة. فمن ميدان الحصى بظاهر دمشق إلى بصرى الشام، ومنها إلى وادي الأزرق وإلى تبوك ثم السير إلى حجر ثمود والعلى ومنه إلى وادي القرى وعيون حمزة إلى أن وصل طيبة الطيبة وهو يردد قول الشاعر:
وأبرح مـــــا يكـــــون الشوق يومــا     إذا دنـت الديــــــار مـن الديـــــــــار
وكان الوصول إلى ظاهر المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ضحاء اليوم الثالث والعشرين لذي القعدة. وكان سفره منها إلى مكة المكرمة يوم السادس والعشرين منه، وفي طريقه إلى البلد الحرام مر بذي الحليفة وبوادي الصفراء وخليص وبطن مر التي بلغها في السادس من ذي الحجة؛ وبعد قضاء الوطر من سفره، وتحقيق منية النفس، وأداء الفرض عاد ابن رُشيد إلى المدينة المنورة في اليوم الخامس عشر لذي الحجة وبلغها في الخامس والعشرين منه.. ثم غادرها في الثامن والعشرين مستأنفا الرحلة عائدا إلى بلده وهو ينشد قول الآخر:
أودعكــــم وأودع جنـــانـــــــي         وانثـر عبرتـــي نثـر الجمـــــان
وقلبــي لا يريد لكــــــم فراقــا         ولكـــن هكذا حكــم الزمـــــان
كان ابن رُشيْد السبتي حريصا على الاتصال بالعلماء والشيوخ، وقد اكتسب من ذلك علما واسعا، ووقف على أمّهات تصانيف كتب الحديث وكتب اللغة، وقد كان تأكيد صاحبنا بن رُشيد على هذا الجانب العلمي مهيمنا على رحلته “ملأ العيبة”؛ بحيث نلحظ أن اهتمامه بالمعالم والآثار العمرانية لم يكن كبيرا، بل نجده قد اهتم بالأساس بالتأريخ للأعلام، صارفا كل اهتمامه إلى ملاقاة الرجال وزيارة العلماء والمحدّثين والرواة، وأصحاب الكتب في مجالسهم بالمساجد والدكاكين وفي المنازل، وكان يحرص كذلك على زيارة قبور أئمة الحديث الذين يتّصل بهم السند أو ينتهي إليهم. ويستنتج الأستاذ كردي في كتابه عن بن رُشيد أن رحلته تُعدُّ بحقّ برنامجا أو فهرسا واعيا لما تضمّنته من تراجم وأسانيد وأسماء كتبٍ ومرويّات، وهذا ما وعاه تلميذه عبد المهيمن الحضرمي حين أطلق على الرحلة اسم البرنامج، فكتب في آخر صفحةٍ منها بخطّهِ ما نصّهُ: “أكملتُ قراءة هذا البرنامج في يوم الأحد الحادي عشر لرجب عام عشرين وسبع مئة”.
قال ابن رشيد في رحلته: “إنّي لم أكن قصدتُ به مقصد التصانيف المهذبة، ولا التآليف المركبة، إنّما قيّدته بحسب ما تيسّر لي ممّا كتبته على ظهور الكتب، وفي بطون البطائق، ممّا قُيّد للتذكار بتلك المعاهد اللائحة الأنوار، فقصدت أن أضمّ بدده وأجمع عدده”…، وقال أيضا: “… وإن كنت أودعته من الفوائد ما لعلّه لا يحصره ديوان، ويعزّ وجوده على ذي البحث والتنقير والافتنان من مسائل حديثيّة وأصليّة وأدبية وبيانية، بعضها منقول عن أئمتنا وأشياخنا، وبعضها ممّا فتح الله فيه من فضله العميم… وقد ضممت هذا المجموع من الأحاديث النبوية والغرائب الأصليّة والفقهية، واللطائف الأدبية، والنكت العروضية…“.
والملاحظ أنّ ابن رُشيْد اتّبع في الجزأين الخامس والسابع منهجا مختلفا إلى حد ما عن نهجه في بقيّة الأجزاء؛ إذ أولى الناحية الجغرافية اهتماما خاصا في الجزء الخامس، فوصف الطريق التي سلكها الركب منذ خروجه من الشام إلى الحجاز، ووصف البلدان التي مرّ بها كبُصرى وحوران وتبوك والحجر، وكذلك وصف البلدان التي قطعها بين المدينة ومكّة، أو الأماكن التي تتّصل بمناسك الحج، وأركانه. قال ابن رشيد في وصف انطلاق الركب من دمشق إلى المدينة: “وكان سفرنا من ظاهر دمشق من الموضع المعروف بميدان الحصى عصر يوم الاثنين الحادي عشر من شوّال، وقد كنّا برزنا للسفر غدوة اليوم، فاعتاق الكِريُّ في بعض حوائجه إلى عشيّ اليوم، وعاينّا في ذلك اليوم عند خروج الناس للوداع ما يسيل الدموع، ويكاد يذهب بالقلب السليم، فكيف بالمصدوع، فبتنا تلك الليلة بالموضع المعروف بالقيساريّة على ضفة النهر، ورحلنا سحر اليوم الثاني عشر، ونزلنا منازل بالطريق سالكين إلى بُصرى وهي مدينة حوران..
وتميز الجزء السابع من رحلة بن رشيد ببعض المحطات الأدبية الممتعة التي تبرز علو كعب صاحبنا في هذا الباب.. من ذلك المطارحة الأدبية بينه وبين الأديب التونسي أبي الفضل التجاني التي شغلت حيزا كبيرا من الجزء السابع من الرحلة، وقد تبادل بن رشيد الرسائل والمساجلات الشعرية مع صاحبه التجاني، ومن نماذج رسائل بن رشيد قوله: “ولا أغربُ من رسالتك البديعة المساق، المخجلة كلّ قلادة بما رزقته من حسن الانتظام والاتساق، فقد أغربت وأشرقت وغرّبت وشرّقت، وتهادتها النواسم العطرية، وافتقرت إليها الموسم السرّية والمباسم الخمرية، وأنت تخلع عليّ فرائدها، وتجلب إليّ فوائدها، وتذكرني في أمر التصنيف، وتعرّفني وإياه بغير لام التعريف، وتشرّف هذا المجموع غاية التشريف، فتارة تخاطبه بالعقيلة الحسناء، وتارة تخاطبه بالخميلة الغنّاء…”.
ومن معاصري ابن رُشيد السبتي رحالتان شهيران هما العلامة التجيبي السبتي الرحال والرحالة العبدري الحاحي. وقد كتب الأستاذ المقتدر عبد القادر زمامة مقالا نشر بالعدد 22 من مجلة المناهل الغراء (يناير 1982) بعنوان: “الرحالتان السبتيان ابن رشيد والتجيبي”، ومما قال فيه: “فالمعجم العلمي للثقافة المغربية الذي بدأت مواده تتضخم منذ عصر الموحدين، حافل بالعناوين والموضوعات والاهتمامات والاتجاهات، وقد تشابكت فيه المعارف الأدبية بالمعارف الشرعية، والاتجاهات العقلية بالاتجاهات الذوقية.. وأخذ جل ذلك طريق الاستمرارية على عهد المرينيين.. فإذا تعمقنا فيما خلفه لنا الرحالتان السبتيان، وما خلفه معاصرهما الرحالة العبدري الحاحي نجد أن ذلك المعجم الذي عهدناه في العهدين.. لا يلبث أن يظهر بارز السمات من حيث التفكير والتعبير والتطلعات والاهتمامات عند شبان من أهل المغرب خرجوا من بلادهم بعدما طبعتهم ثقافتها بطابع خاص ودفعتهم إلى محاولة المزيد من المعرفة مع الربط بين ما عاشوا فيه من عطاءات مغربية وأندلسية وبين ما تحتفظ به أمصار تونس ومصر والشام والحجاز من عطاءات… يضيف عبد القادر زمامة: “ينبغي أن يكون واضحا عندنا أن كلا من ابن رشيد والتجيبي إنما قاما بتدوين عمل علمي لتتميم الدراسة والتوسع في المعرفة وذكر أخبار الشيوخ وعلومهم ومؤلفاتهم وأسانيدهم.. فعملهما في العمق هو من قبيل كتابة الفهارس العلمية لا كتابة الرحلات الجغرافية والفرق واضح بين عملهما هذا وبين عمل ابن جبير”، وأُحيل القارئ الكريم على المقالة التي كنت نشرتها من قبل ففيها تبرز بوضوح أدوات المقارنة بين رحلة بن جبير وبين رحلة صاحبنا ابن رشيد.. توفي بن رشيد السبتي بمحروسة فاس سنة 721هـ ودفن بها، رحمه الله ونفعنا بعلمه. والله الموفق للخير والمعين عليه.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق