مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

ابن رشد الفقيه

بقلم:الأستاذ عبد الله كنون

إن الكتابة عن ابن رشد الفيلسوف كثيرة جدا، ومنها دراسات قيمة كتبها مختصون في المادة بحيث أصبحت هذه الناحية من تفكيره وتراثه العلمي متميزة للغاية، ناهيك بما كان لها قديما من أثر بين في توجيه الحياة الفكرية والعلمية في أوروبا قبل عصر النهضة.

أما ابن رشد الفقيه فقد بقي بمعزل عن عناية الباحثين، ولم تنل ثقافته الفقهية ما تستحقه من الوزن والتقدير، حتى تنوسيت أو كادت، وصار وصف ابن رشد بالفقيه يغلب أن يدل على ابن رشد الجد لا على ابن رشد الحفيد صاحبنا. وقد استشعرت ذلك حين كتبت عنوان هذه الكلمة وهممت بتغييره لولا أني أعلم أن البساط يعين المراد.

والحق أن ابن رشد الجد كان إماما من أئمة الفقه المالكي، يؤخذ بقوله فيه، ويعتمد عليه في الفتوى والقضاء، وكتاباه البيان والتحصيل، والمقدمات، من أعظم كتب المذهب وأشهرها عند المالكية ولم يتردد الشيخ خليل الجندي صاحب المختصر المبين بما به الفتوى في مذهب مالك، أن يجعله أحد أربعة أقطاب ممن يعول على آرائهم في فقه هذا المذهب، وهم اللّخمي ولن يونس وابن رشد والمازري [ينظر مختصر خليل، المقدمة، ص1] فهو إذن صاحب مدرسة فقهية ماتزال معتمدة إلى الآن عند أتباع مالك في جميع العالم الإسلامي، ولذلك لا غرو أن يغطي اسمه إذا وصف بالفقيه على اسم حفيده فلا يتبادر إلى الذهن غيره كما لو كان هو الفقيه وحده.

إلا أننا نعلم أن صاحبنا كان أيضا من أئمة الفقه وأعلام المذهب، وأنه لا يقل كفاءة ولا ينزل مكانة عن جده في العلم بأحكام الشريعة وسائر المعارف الإسلامية، ولقد وصفوه بأخص أوصاف جده من أنه كان مفزع الناس في الفتوى وأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية، فضلا عن كونه ولي قضاء الجماعة بقرطبة مثله، وهو منصب عال يعطي لصاحبه الإشراف على سائر قضاة الأندلس، وربما خوله حق تعيينهم، فنحن نرى أنه في هذا المقام لم يكن بينه وبين جده فارق ما، غير أن الجد كان منقطعا إلى الدراسات الفقهية والنظر في أحكام الشريعة فخلف ذلك التراث الطائل الذي يعتز به الفقه المالكي، والحفيد كان مشاركا في العلوم العقلية والطبية، فتوزعت اهتماماته وكان إنتاجه في هذه أكثر وأخصب، وإن لم يؤت إنتاجه الفقهي من ضعف مادة أو قلة في الجملة.

ولقد جاء في ترجمته عند ابن الأبار تبيينا لمنهاج طلبه وميدان تخصصه: أنه درس الفقه والأصول وعلم الكلام.. ومال إلى علوم الأوائل وكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره، وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب[التكملة لابن الأبارج ل ص269] فهو على هذه المشاركة الواسعة والانفراد من بين أهل عصره بالتقدم في العلوم الكونية، كان الناس لا يستغنون عن فقهه وطلب فتواه في النوازل، وما ذلك إلا لما يعلمونه من رسوخ قدمه في المعرفة بأحكام الشريعة وسداد نظره في مسائلها.

وعليه إذا كانت الدراسات العديدة التي وضعت حوله قد اهتمت بفلسفته وحكمته، وشرحت آراءه وما كان لها من تأثير على الحياة العقلية في العصور الوسطى بأوروبا، وكذلك الناحية الطبية من تراثه وخاصة كتابه الكليات قد نالت حظها من البحث، ولم يبق إلا تراثه الفقهي غير مدروس ولا معتنى به، فإن الواجب يقضي علينا أن نلقي نظرة ولو خاطفة على عمل فيلسوفنا العظيم وطبيبنا النطاسي في ميدان الفقه والتشريع، ونعرف قدر الإمكان بجهده الكبير في هذا الصدد فنتمم حلقات البحث في معارفه المتنوعة، ونسد الفراغ الذي بقي في ترجمته من هذه الناحية.

ولأجل أن نحرر الموضوع جيدا، لا بد أن نلم بما كان عليه الوضع الفقهي بالمغرب والأندلس في عهد ابن رشد، نتيجة لقيام دولة الموحدين، لا سيما وهو قد كان على صلة متينة برجال هذه الدولة وعلى رأسهم الخليفتان يوسف بن عبد المؤمن وابنه يعقوب المنصور.

نحن جميعا على علم بما كان للفقهاء في دولة المرابطين من نفوذ قوي وجاه عظيم، ولا شك في أن ذلك كان من وضع الشيء في محله، وإسناد الأمر إلى أهله، فالدولة إسلامية، وأحق الناس بتولي مناصب الحكم والشورى فيها هم العلماء العارفون بأحكام الشرع، المتفقهون في الدين، تماما كما يتولى مناصب الحكم اليوم في أغلب الدول المدنية رجال القانون وأساتذة الحقوق، وكانت الدولة المرابطية قد قامت على أساس مقاومة البرغواطيين ونِحلتهم الضالة، ونشر الدين الصحيح فلا غرو أن تلقي بزمام الأمور إلى الفقهاء وتبوئهم أعلى مقام.

فلما جاء الموحدون، وكان إمامهم المهدي بن تومرت صاحب دعوة وزعيم فرقة، وقد لاقى الأمرين من معارضة الفقهاء ومناهضتهم له، نهجت دولتهم سياسة أخرى من تقريب من قبل دعوتهم وإبعاد الفقهاء عن مراكز المسؤولية، ومن ثم صار الفقه الساذج، أكبره وأصغره، لا ينفق لديهم بل صار يتعرض لمناوأتهم والتثريب عليه وعلى رجاله، وما قضية إحراق كتب الفقه المالكي وأمهات دواوينه بخافية عمن له اطلاع على تاريخهم[ينظر كتاب المعجب المراكشي ص 228].

وقصدنا بالفقه الساذج الفقه المجرد من الأدلة ومدارك استنباط الأحكام وبأكبره علم التوحيد استنادا إلى تسمية أبي حنيفة به بذلك في كتابه الفقه الأكبر، وبأصغره علم الفروع، فإن الموحدين قاموا بالدعوة لمذهب الأشعري في العقائد وروجوا له، وانتقدوا ما كان عليه المغرب ودولة المرابطين من الأخذ بعقيدة السلف، وسموهم المجسمين وسموا أنفسهم الموحدين في مقابل ذلك، ثم صاروا يدعون إلى الاجتهاد والنظر في أصول الأحكام من الكتاب والسنة، وينعون على الفقهاء تقليدهم والتزامهم لمذهب مالك حتى تورطوا في قضية الإحراق لكتب المذهب التي ألمعنا إليها.

ومن الأكيد أن ننبه على أنهم لم يكونوا يهدفون إلى إحلال مذهب الظاهرية محل مذهب مالك ولا أنهم كانوا يأخذون في أنفسهم بهذا المذهبي كما قال بذلك غير واحد من الباحثين، وقد أبطلنا ذلك بالدليل القاطع في كتابنا النبوغ المغربي، وإنما كانوا من أصحاب النظر والدليل المتمسكين بالمنطق والبرهان، ولذلك أخذوا في العقائد بمذهب الأشعري ومالوا في الفقه إلى إحياء الاجتهاد.

على هذه الحالة عرفهم ابن رشد، وبدافع من اهتمامهم بالعلوم النظرية والعقلية اتصلوا به، إذ كان إماما فيها ومتفردا بين أهل عصره بإتقانها، وقد حدثنا عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب عن أول لقاء تم بين الخليفة يوسف بن عبد المؤمن وصاحبنا ابن رشد بتدبير من الفيلسوف أبي بكر بن طفيل، وكان وزيرا ليوسف، فلم تكن مذكراته معه إلا في قضايا الفلسفة ورأى أصحابها في قدم العالم، وكان أن حمله بعد ذلك على تلخيص فلسفة أرسطو وشرح كتبه على ما هو معروف[انظر كتاب المعجب للمراكشي ص 242].

إذن فابن رشد الفيلسوف هو الذي برّز على منصة الدولة، وهو الذي كان على صلة رسمية بالموحدين وأما ابن رشد الفقيه فقد كان يشغل منصب القضاء ويفتي الناس فيما يعرض لهم من النوازل التي لا علاقة لها بأحكام المنصب، وهو يمقتضى ذلك فقيه مالكي على مذهب أبيه وجده، ومذهب المغاربة والأندلسيين عموما، إذ كانت نزعة الدولة الاجتهادية، تلك التي تحدثنا عنها لم تستطع أن تهزم مذهب مالك ولا أن تتغلب عليه حتى في تولية مناصب الفتوى والقضاء، كما حصل أن تغلب هذا المذهب في أوائل أيام الخلافة الأموية بالأندلس على غيره من المذاهب لاصطناع الدولة له والتزامها به، وكما حصل في المغرب أيام الأدارسة الذين كانوا يأخذون أيضا بهذا المذهب.

ولعل الطريقة التعسفية التي كانوا يفرضون بها وجهة نظرهم هي التي جعلت الفقهاء وجماهير المتمذهبين ينفرون من دعوتهم ويتمسكون باتباع مالك رحمه الله، فإن أحب شيء إلى الإنسان ما منعا كما يقول الشاعر، وإحراق الكتب لم يكن قط وسيلة لمنع انتشارها بل ربما كان سببا في مزيد الإقبال عليها وتداولها، والنظر الفقهي في أيام الموحدين لم يكن قاصرا عن دراسة أسباب الخلاف المذهبي والخلاف العالي، بل كان متمكنا من ذلك أشد التمكن، ومتعمقا في علم الأصول الذي به تعرف مدارك الأئمة، فليس من السهل صرفه عما يأخذ به عن حجة ودليل الرواية والسماع، ويشرح هذا الموقف مناقشة جرت بين يوسف بن عبد المؤمن وأحد فقهاء أشبيلية، أبي بكر بن الجد، فيما حكاه صاحب المعجب عنه قال:

«لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس فقال لي يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله أرأيت يأ أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيهما يجب أن يأخذ بها المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى كتاب سنن أبي داود، وكان يمينه، أو السيف»[المعجب للمراكشي ص 279].

إن قرقعة السلاح تمنع من حسن الاستماع، ولذلك ظل الفقهاء على رأيهم ولو كانوا من المقربين إلى الدولة كأبي بكر هذا وصاحبنا ابن رشد، بل إننا نجد ابن رشد يقوم فعلا بتوضيح ما أشكل على الخليفة في كتاب عظيم النفع هو كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد الذي ذكر فيه أقوال فقهاء الأمة من الصحابة والتابعين ومجتهدي الأئمة مع بيان مستند كل من الكتاب والسنة والقياس وأسباب الخلاف ووجوهه وعلله ومع الترجيح واعتماد الصحيح من النصوص بحيث لم يدع لقائل ما يقول في هذا الباب اعتراضا على هذا المذهب أو ذاك واستشكالا لمدرك حكم واستنباط فقه لم يرد فيه نص أو اضطربت الرواية المتعلقة به.

وهكذا أثبت ابن رشد أنه يكن ضالعا مع الموحدين في موقفهم من مذهب الإمام مالك، وأن شخصيته الفقهية كانت فوق المساومة، وأنه سواء اطلع على مناقشة الخليفة للفقيه ابن الجد أو لم يطلع عليها، لم يهب أن يتصدى لرد ما كان الخلفاء الموحدون ومن على رأيهم يوردونه على الفقهاء ويطعنون به في المذهب، وشرح ما خفي عليهم من ذلك، والدفاع عن أئمة الدين وعلماء الملة بعلم وتجرد تام.

وإذا كنا قد سجلنا عدم نجاح الحملة الموحدية على الفقه المالكي، فإننا لا ننكر تأثر هذا الفقه وحَمَلته على الرغم من ثباتهم بروح الدعوة الموحدية القائلة بالرجوع إلى الأصول واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة فإن الفقهاء في هذا المجال قد راجعوا خطتهم وأخذوا بطريقة وسط بين الاعتماد على أقوال مقلديهم (بفتح اللام) فقط والاجتهاد المطلق، وصاروا يتلمسون مدارك الأحكام ومآخذ الأقوال التي تنسب لرجال المذهب من مصدريها العظيمين الكتاب والسنة، ويوجهونها ويصححون مستندها إن لم يكن ردا على الخصوم فطلبا للاطمئنان حتى لا يتشوف أحد إلى ما وراء ذلك أو تعلق بذهنه شبهة من الشبهات.

وأزعم أن ابن رشد فضلا عن تأثره كغيره من الفقهاء بهذه الروح، كان أيضا متأثرا بثقافته المنطقية ومرانه على الجدل، في مقارنته للمذاهب وتخريجه للأقوال، ولعل ذلك هو ما منعه من أن يكون متعصبا لهذا المذهب أو ذاك، فإنه يناقش كل خلاف بروح رياضية نزيهة، وإذا رجح فقها على فقه فإنه لا يبدي أي نطع في ذلك كما هي عادة فقهاء المذاهب، والغالب أن يرى الخلافات المذهبية ناشئة من يسر الشريعة ومرونة قواعدها، فيجعلك تشعر بالاطمئنان لكل المذاهب وتلاشي الخلاف فيما بينها تلاشي الضباب بفعل أشعة الشمس.

ولا يعني هذا تنازله عن مالكيته وعدم قيامه بفقه المذهب كما يطلب من أحد أقطابه، كلا فإنه أول ما يذكر مذهب إمامه، ويزيد بذكر أقوال أعلامه المشهورين التي خالفا فيها الإمام ومداركها ولا يقول في مسألة من المسائل أنه لا يعرف حكمها في المذهب كما يقول ذلك أحيانا فيما يتعلق ببعض المذاهب الأخرى، مما يدل على تمكنه من معرفة مذهبه وتضلعه في فقهه. وهو يأخذ على المذهب مخالفته للأصول في بعض المسائل وربما يعلل ذلك بعدم بلوغ النص إلى الإمام أو عدم صحته عنده. وكثيرا ما يلاحظ مخالفة المذهب للقواعد التي بني عليها واتخذها أساسا للحكم وله في العمل الذي هو أصل من أصول مذهب الإمام مالك أعني عمل أهل المدينة كلام ضمنه كتابه في أصول [ذكره في بداية المجتهد ج ل ص 102] الفقه ولعله هو الذي لخصه في كتاب بداية المجتهد عند الكلام على جمع الصلاة ورأيه فيه وسط، يقبل ويرد بحسب المقامات[البداية ج ل ص174].

فنرى من هذا أنه لم يتخل عن مذهب الإمام مالك، وأنه كان يأخذ بفقهه ويلتزم باجتهاده مع ما كان عليه من تسامح وسعة أفق، وأكثر من ذلك أنه لم يحاول أن يجعل له رأيا مخالفا لفقهاء المذهب، ويوجد مدرسة جديدة فيه كما فعل جده، أدركنا ذلك بالتتبع لكلامه، ورأيناه يصرح به في كتابه بداية المجتهد، أثناء استعراضه للخلاف في نجاسة الأرواث حين يقول:

«ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور، وإن كانت مسألة فيها خلاف، لقيل أن ما يُنتِن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر، وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر، وكذلك المسك، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر»[البداية ج ل ص81].

وبالطبع انتقد ابن رشد المذاهب الأخرى في عدة مسائل وألزم أصحابها بمخالفتهم للقواعد التي اعتمدوها كلما وقعت منهم هذه المخالفة، وهو يعتني بذكر مذهب الظاهرية ولا يذكر إمامه داود بل يقتصر على ذكر ابن حزم، لا أدري أذلك للاعتزاز بأندلسيته أم للاعتداد بقول العلماء لولا ابن حزم لما ذكر داود. والجمهور عنده إنما يعني الأئمة الثلاثة مالكا والشافعي وأبا حنيفة[البداية ج ل ص59] أما الحديث الثابت فهو ما أخرجه البخاري ومسلم[البداية ج ل ص47و61] أو أحدهما. ومن الطريف أنه يعتمد كثيرا في الحديث على صحيح مسلم وهي طريقة المغاربة الذين يفضلون مسلما على البخاري من ناحية الرواية كما هو معروف.

وعلى ذكر الحديث فإن تصرفه فيه يدل على الخبرة والمهارة بخلاف ما قالوا عنه من أن الدراية أغلب عليه من الرواية كما سبق، فنجده يدقق في روايات حديث السجود على الجبهة والأنف حتى يذكر انفراد أحدهما بذكر الجبهة فقط مؤيدا بذلك مذهب مالك، ومستدركا على الحافظ أبي عمر بن عبد البر الذي انتصر على روايات الجبهة والأنف معا[البداية ج ل ص139]. وكذلك نجده يرد على ابن عبد البر في تضعيفه لأحد الأحاديث بأنه وارد في صحيح مسلم[البداية ج ل ص 212]، وهذا مع العلم بأن كتاب الاستذكار لابن عبد البر هو مصدره الأول في تحقيق المذاهب ونسبتها إلى أربابها[البداية ج ل ص88]. وقد يبحث في الحديث الثابت من جهة المعنى اعتبارا بالحديث الضعيف[البداية ج ل ص131] وذلك لصيرورة منه إلى نقد المتن بعد صحة السند. والأمثلة على مشاركته في علم الحديث وأخذه به، غير هذه كثيرة فلا نطيل بها.

وينتفع ابن رشد بمعلوماته الطبية والطبيعية والفلكية في الترجيح والاختيار للأقوال والمذاهب وبناء الفقه على النظر العلمي الصحيح وذلك كما في تعقيبه على اختلاف الفقهاء في استمرار العادة الشهرية مع الحمل عند النساء حيث قال: «وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والدنين صغيرا، وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء إلى أخره[البداية ج ل ص35] وكتعليله لاختلافهم في نجاسة عظام الميتة وشعرها بأن مرجعه إلى فقد الحس والنمو، فمن قال ببقائهما فيهما لم يحكم بالنجاسة[البداية ج ل ص78] وكرده على قول الخليل بن أحمد في الشفق بأنه لا يثبت بالقياس والتجربة[البداية ج ل ص96]، وكقوله في مسألة تعجيل دفن الميت أن ذلك في غير المرضى بأمراض مخصوصة حتة لقد قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث[البداية ج ل ص226]، وهكذا أفادنا الحكم، وكلمة المسكوتين أي الموتى بالسكتة القلبية.

ومسائله من هذا الباب كثيرة، وتقدم منها قوله نجاسة الأرواث، ومن الجدير بالذكر أنه يرى العمل بالحساب لإثبات إهلال الشهر، ويقول إن سبب اختلاف العلماء في ذلك هو ترك اعتبار التجرية فيما سبيله التجرية والرجوع إلى الأخبار في ذلك، وأورد حديث صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له، وقال إن الجمهور أول قوله فاقدروا له بما ورد في رواية أخرى فأكملوا العدة ثلاثين، وغيرهم يقول إن معنى التقدير له هو عده بالحساب[البداية ج ل ص284].

وأحسب أن هذه النظرة القصيرة قد أعطتنا من سمات فقه الرجل ما يجعلنا على علم بعلو مكانته بين الفقهاء وأنه صاحب نظر واستدلال إلى كونه صاحب نقد ورواية، وأنه ينحو منحى التيسير والتسهيل أخذا بمبدأ الشريعة السمحة في نفي الحرج وترك التشديد وأنه إن لم يكن صاحب مدرسة في الفقه، فإنما ذلك لتحرجه من أن يزيد في طين الخلاف بلة، وإلا فهو قادر على أن يجتهد كاجتهاد جده في دائرة المذهب، واجتهاد غيره من الفقهاء الكبار، وتركه لذلك مما يدل على قوة تدينه وشدة تمسكه باتباع السلف والقدوة الحسنة.

وذلك كله مع سعة الصدر وعدم التنطع كما نبهنا عليه سابقا، ويعجبني كلامه في مناقشة مذهب من يقول بكفر تارك الصلاة اعتمادا على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك، فهو يخرجها على أن المراد من يتركها متعمدا مستحلا لذلك، ومع ذلك فهو لا يرى قتله كفرا ولا حدا، لأنه لا يحل دمه إلا بإحدى الثلاث المنصوص عليها في الشرع، وهذه ليست منها. وأما مجرد الترك فلا يكون صاحبه كافرا إلا على مذهب من يكفر بالذنوب بمعنى المعتزلة، وهو قول لا يأخذ به أهل السنة. وهذه خلاصة كلامه، ولولا طوله لنقلتها فلينظر في محله[البداية ج ل ص91].

 مع هذه اللمحة عن فقه ابن رشد وثقافته القانونية، ينبغي أن تذكر فلسفته الإلهية وموقفه من الشريعة بعامة، فإن لهما علاقة متينة بالإيمان والفكرة الدينية في الإسلام، وكتاباه في هذا الغرض وهما: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، أشهر من أن يعرف بهما، وعليهما وعلى كتابه «تهافت التهافت» قامت شهرته كفيلسوف إسلامي عظيم، وفق لأول مرة وبنجاح كبير بين أغراض الفلسفة والدين، ورد على القائلين بتناقضهما وأثبت فكرا وعملا بسيرته التي لا يتطرق إليها الشك أن الفيلسوف يمكن أن يكون مؤمنا صادقا ومتمسكا بقواعد دينه لحد أن يصير قدوة فيه.

وهذا المقصد الذي أنعم درسا وقتل بحثا ليس من نوع كلمتنا هذه. ولكنه ينطوي على موقف نعتبره من تتمة الكالم على فقه ابن رشد وإمامته الدينية وهو معارضته لدعوة الموحدين في اتجاهها العقدي كمعارضته لها في اتجاهها الفقهي، ونحب أن نشير له باختصار توفية لحق الموضوع.

والحقيقة أنه ليس معارضة بمعنى الكلمة، ولكنه يؤول إليها، فإن التصدي للرد على الغزالي ونقد كتابه التهافت مع ما كان له من مقام عظيم في نفوس الموحدين واعتباره الآذن لزعيمهم المهدي بن تومرت بالقيام على المرابطين مع ما يدعى له من القراءة عليه والأخذ عنه، لا يمكن أن يعد إلا استمرارا للحرب التي شنها الفقهاء على الغزالي وكتبه في الدولة السابقة، وليس ذلك مما يرضى عنه الموحدون والمتعصبون للغزالي على العموم.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن نقد ابن رشد للأشاعرة في قضية المتشابه ودليل الوجود وغيرهما ومذهبهم هو مذهب الموحدين في العقيدة على ما قدمناه، دعوا إليه وألزموا الناس به وحاربوا المرابطين عليه هو أيضا من المجازفة في الخلاف على الدولة ويعتبر شجاعة أدبية يقل لها النظير في عصره.

ولعل ذلك مما وطد سمعته العلمية، ورفع مقامه الديني عند الناس، وإن كان من الوجهة السياسية لا بد أن يخلف أثرا في نفوس الدولة، ويحسب له في المخالفات التي أخذت عليه عند امتحانه.

المهم أن الرجل كان يوجِّه ولا يوجَّه، وكان إماما في الفقه كما كان إماما في الفلسفة، وإذا قلنا إماما في الفقه فإن ذلك يعني إماما في الدين، لأن الفقه في الإسلام من الدين، وكانت له غيرة على الحكمة والشريعة معا هي التي جعلته طول حياته يقف موقف الدفاع عنهما وذلك هو سر عظمته رحمه الله.

انتقاء: ذة. نادية الصغير.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق