مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

ابن تومرت وادعاؤه للمهْدوية بالمغرب الأقصى

إعداد [ذ/ رضوان الحصري]

     ما أسهلَ أن يدّعي الإنسان لنفسه ما ليس فيه من خصال الكُمّل وصفات النّبَّل مِن ذوي الهيئات مِن الرجال، وما أكثر أولئك الذين يتشبعون بما لم يُعطوْا، ويتزيّوْن بغير أزيائهم، ويحبون أن يُحمدوا بما ليسوا منه ولا هو منهم بِسبب، ومَن فعل ذلك فضحتْه شواهدُ الامتحان، وفَتنتْ معدنَه نارُ الاختبار، فسِرْعان ما يتداعى عظيمُ بنيانه، ويسْودُّ مَشِيد قصْره.
وأقبحُ من ذلك كلِّه أن يكون هذا الادعاء لحساب الدنيا على الدين، فيتوشح في ساحته ذيّاك المتشبعُ بأثوابِ  ذوي المقامات العظيمة عند الله تعالى، لينال رئاسةً أو سلطة أو لسانَ ذكرٍ في بني جِلْدته. وهذا هو  أعظم الدّجل والكذب الذيْن وَصَف بهما النبي  صلى اله  عليه وسلم، أولئك الذين زعموا بعده أنهم أنبياء، [ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء. [ الآية 94 من سورة الأنعام ]وإذا كان في هذه الأمة من زعم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي، فلا غرابة أن يوجد فيها من يدعي أنه المهدي المنتظر الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة، لأنه رجل صالحٌ يكتب الله على يديه نصرا عزيزا لهذه الأمة، فيُلقي الإسلام بِجِرانه إلى الأرض،  ويغْمرها القسط والعدل من كل مكان، ولا شك أن ذلك يكفي للتغرير بالهمج الرّعاع الذين يسيرون مع كل ناعق أينما سار، ما دام يرفع عقيرته بحريتهم وكرامتهم، والعيش الهني لهم ولأبنائهم.
قال العلامة أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي (ت1102 هـ) ـ رحمه الله – : “فمن انتهض اليوم للانتصاب رَوْماً لإقامة الحق، وإنصاف المظلوم من الظالم؛ فهو مغرور، ولعلّ ذلك لا يتأتَّى له كما ينبغي في بيْته، فضلاً عنْ قريته، فضلاً عن البلد، فضلاً عن الإقليم، وقد يَسْمعُ فضائلَ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والقيامِ بمصالح المسلمين، ودرجةِ الإمام العادل، وذلك كلُّه حق، ولكن أين يتأتى؟…وقد يكون ذلك ـ وهو الأغلب ـ دسيسةً دُنْيوية، ونَزْعةً شيْطانية”. [1]    و مِمن ادّعى أنه المهدي المنتظر بالمغرب الأقصى مهدي الموحدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله المصمودي الهرغي السوسي (ت524هـ)، وقد كان رجلا فقيها أصوليا متكلما نظّارا ذَرِبَ اللسان، له رحلة إلى المشرق لقي فيها الكبار كأبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، وأبي بكر الطرطوشي (ت 520هـ)، ثم رجع إلى المغرب فبثّ فيه دعوته، ووضع كبرى معالم مشروعه، وقد رأى أنه لابد من أمر تجتمع بسببه عليه كلمة المغاربة على بكْرة أبيهم، وقد كان ذلك، فادعى أنه المهدي المنتظر الذي بشّر به النبي صلى الله  عليه وسلم ، بَيْد أنّ هذا الادعاء لم يأت دَفعة واحدة، بل سبقته إرهاصاتٌ ومقدمات كانت بمثابة التمهيد له. مِن ذلك أنه لما كان ببجاية مرْجعَه من الرحلة المشرقية قال لصاحبه أبي بكر بن علي البيذق الصنهاجي : “يا أبا بكر، نادِ الصبيان للوِرد يقومون، يأخذون حزبهم، فلما أقبلوا ناداهم، فقال لهم : إنما الله إله واحد، والرسول حق، والمهدي حق، فاقرأوا حديث أبي داود تعرفوا الأمر، وعليكم بالسمع والطاعة لربكم، والسلام”.[2] 
قلت : ويعني بقوله “فاقرأوا حديث أبي داود” حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : “لو لم يبق مِن الدنيا إلا يومٌ لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث فيه رجلا مني، أو من أهل بيتي، يواطئ اسمُه اسمي، واسْم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما مُلئت ظلما وجورا”. [3]ثم إنه لما ظفر بشيء من ميل الناس إليه أعلن بكل صراحة أنه مهدي آخر الزمان.
قال عبد الواحد المراكشي (ت647 هـ) : “وجعل يذكر المهدي، ويُشوق إليه، وجمَع الأحاديثَ التي جاءت فيه من المصنفات، فلما قرّر في نفوسهم فضيلةَ المهدي ونسبه ونعْته ادعى ذلك لنفسه، وقال : أنا محمد بن عبد الله، ورفع نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصرّح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديثَ كثيرة، حتى استقر عندهم أنه المهدي، وبسَط يدَه فبايعوه على ذلك”. [4] 
وقال ابن أبي زرع (ت741هـ) : “وكان المهدي أوحد عصره في علم الكلام وعلوم الاعتقاد، حافظا للحديث والفقه، له لسانة وفصاحة، فأخذ يُشَيّع عند الناس أنه الإمام المهدي المنتظر المخبَر به، القائم في آخر الزمان، الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا”. [5]
وهو ما أفصح عنه ابن تومرت بنفسه، حيث قام خطيبا بالسوس الأقصى في شهر رمضان المعظم سنة 515 هـ، وقد تبعه كثير من البرابر، فقال : “الحمد لله الفعّال لما يريد، القاضي بما يشاؤه، لا رادّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد رسول الله المبشر بالإمام المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما، يبعثه الله إلى نسخ الباطل بالحق، وأن يلي مكانَ الجورِ العدلُ، والمغربُ الأقصى منبِته، وزمانه آخر الزمان، والاسمُ الاسم، والنسبُ النسب، والفعلُ الفعل”. [6] 
 وقد أطال الكلام على المهدي وصفاته في كتابه : “أعز ما يطلب”، وكثيرٌ من ذلك لا أصل له في السنة النبوية، من ذلك قوله : “أما الحسب فحسب الموحدين، وأما النسب فإنه من ذرية فاطمة، وأما الزمان فيأتي في آخر الزمان، وأما المكان فالمكان الذي قام منه…، وأما القول فإنه قال : أنا المهدي، وهو صادق في قوله، وأما الفعل فإنه يَفتح الدنيا شرقها وغربها”. [7]
وقال أيضا : “وأمْر المهدي حتْم، مَن خالفه يُقتل، لا دفع في هذا لدافع، ولا حيلة فيه لزائغ”. [8]
وقال أيضا ـ كما في نسخة صكّ كتبه للفقيه القاضي علي بن أبي الحسن الجذامي ـ بعد البسملة والصلاة : “أقول وأنا محمد بن عبد الله تومرت، وأنا مهدي آخر الزمان”. [9]قلت : فأين في الأحاديث الصحيحة أن منبت المهدي من المغرب الأقصى، وأين فيها أنه يقول : أنا المهدي، وهل يوجد في هذه الأمة من سيخالف المهدي إذا ظهر حتى يحتاج إلى قتله ؟
لقد كان ابن تومرت يزعم أنه مأمور بنوع من الوحي والإلهام، [10]، ووجد قوما جهلةً لا يعرفون شيئا مِن أمر الدين، ولا مِن أمر الدنيا، فاستهواهم بكيده، وغلبهم بعُذوبة لفظِه، ولسانه ومكرِه. [11]فسهل عليه أن يتلقب بالمهدي بعد أن كان يُلقب بالإمام المعصوم. [12]
لم يكن بعدما أمسك ابن تومرت بحَكَمة الأمر في المغرب الأقصى، وزمامِ السلطة والرئاسة فيه إلا أن يُعترف له من قِبل الجميع أنه هو المهدي الموعود به، فتَلوّن كثيرٌ من العلماء طلبا للسلامة، والشرعُ يبيح لهم ذلك، لأجل الإكراه كما هو معروف، وقد سبق نظيره في محنة القول بخلق القرآن، بل قد كان قبلَ ذلك في مكة قبل الهجرة زمنَ القهر والاستضعاف، وأصلُه قوله تعالى:[من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره، وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم].[ الآية 106 من سورة النحل.]وها أنا ذا أُمثل بعَلَم من الأعلام المغاربة، اعترف قوْلا للخليفة أبي محمد عبد المؤمن بن علي الكومي (ت 558هـ) بأن ابن تومرت هو المهدي المنتظر، وكتب إليه رسالة يُثبت فيها أمرَه بالدليل والبرهان على طريقة المنازعة بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء عقلا ونقلا. إنه الفقيه الإمام أبو عبد الرحمان محمد بن عبد الرحمان ابن طاهر القيسي المرسي (ت 574هـ)، قال ابن الأبار (ت658هـ) : “ورَأَس بمرسية بعد انقراض الملثّمين يسيرا، ثم تخلى عن ذلك، وتلوّن للناس رغبة في السلامة”. [13] 
  وقد ساق نصَّ رسالته المذكورة آنفا بتمامها  أبو محمد ابن القطان في كتابه “نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان” [14] ، وإنَّ كلَّ مَن يُكتب له الاطلاع عليها يعلم في داخلة نفسه مدى التكلفِ الذي جَهد صاحبَه وهو يحاول إسقاط الأحاديث الواردة في المهدي على مهدي الموحدين المزعوم لتكون منطلقة عليه ومنسحبة إليه، من ذلك قوله : ” ثم وجدناه أيضا قد ملأ الأرض قسطا وعدلا…إذ كل بلد انقاد له فنظمتْه سياستُه، وحكمته إمارته العادلة ورياسته، أَثبت فيه القسط بين الناس والعدل، وتَمَّلكَ نفوسَ ساكنيها السكينةُ والفضل، والبلادُ في زمانٍ تنقاد له طوعا وتنساق، أو تُقاد إلى ملكه كرها وتساق، وذلك بيّنٌ محسوس لا مدفع فيه…”. [15]قلت : وكأني بالفقيه ابن طاهر وهو يخطُّ بسِن قلمه : “وذلك بين محسوس لا مدفع فيه” يَفْتَرُّ عن ضَواحِكِه سِخْريةً بدولةٍ أُسِّس بنيانها على شفا جُرُف هار، لأنه يعلم أن مُلْك الموحدين لم يتجاوز في أقوى مُدده إفريقية، فهل وصل إلى الحجاز والعراق وما وراء النهر فضلا عن أن يكون قد ملأ الأرض ؟، اللهم غفرا، وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله أحدُ ملوك العدل والقسط، وقد بلغت دولة الإسلام في عهده ما بلغت، فظنّ الثقة الثبت إبراهيم بن ميسرة الطائفي رحمه الله (ت 132هـ) أنه المهدي، فأجابه الإمام طاوس بن كيسان اليماني رحمه الله (ت 106هـ)  بأنه لم يستكمل العدل كله،. [16]

إن المهدي الذي ينصر به الله هذا الدين في آخر الزمان رجل يصلحه الله في يوم واحد، ولا يحتاج لإثبات أنه المهدي إلى جمعه للأحاديث التي وردت في حقه وعرضِها على الناس، ولا يقول لهم : أنا المهدي فاتبعوني، لأن كل ذلك يفعله غير الواثق بنفسه، ولذا يسهل عليه أن يسفك الدماء بغير حق إذا خولف، وإذا رأيت رجلا يدعي أناسٌ أنه المهدي، ويُكَذّب آخرون ذلك، فانْثُر يدك منه نَثْر الدَّقل، وصَعِّر خدّك له، لأن المهدي الحقيقي بكل سهولة ويسر تجتمع عليه ـ بلا طلب منه ولا دعوة ـ كلمةُ الأمة التي عصم الله عز وجل إجماعها من الضلالةِ ومخالفةِ الواقع، والله ناصر عباده الصادقين، والحمد لله رب العالمين.

———————–

[1]- “المحاضرات في اللغة والأدب” لأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي 1/257، (تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى 1982م).
[2]- “أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين” لأبي بكر بن علي البيذق الصنهاجي، ص 17، (تحقيق عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى 1971م).
[3]- رواه أبو داود في “السنن”، كتاب المهدي، رقم : 4282، ص765 (اعتناء مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1427هـ).
[4]- “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” لأبي محمد عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، ص 134 (تصحيح المستعرب دوزي، ليدن، 1847م)
[5]- “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” لأبي الحسن علي بن عبد الله ابن أبي زرع الفاسي، ص111، (تصحيح كارل يوحن تسورنبرغ، دار الطباعة المدرسية، مدينة أوسبالة، 1833م).
[6]- “الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية” لأبي العلاء محمد بن محمد بن سماك العاملي الغرناطي (ت 750هـ)، ص78 (تصحيح البشير الفورتي، مطبعة التقدم الإسلامية، تونس، الطبعة الأولى 1329هـ، وقد نسب الكتاب في هذه الطبعة إلى ذي الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب السلماني، وهو خطأ، كما نسب في طبعة عبد القادر زمامة وسهيل زكار إلى مجهول، والصحيح أنه لابن سماك العاملي، والبيان في غير هذا المقام).
[7]- “أعز ما يطلب” جُمع من كلام أبي عبد الله محمد بن عبد الله ابن تومرت، ص400 (تحقيق عبد الغني أبو العزم، مؤسسة الغني للنشر، الطبعة الأولى 1997م).
[8]- “أعز ما يطلب” ص 254 (نشر لوسياني، الجزائر، 1903م).
[9]- “نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان” لأبي محمد حسن بن علي بن عبد الملك، ابن القطان الكتامي (ق7)، ص89 (تحقيق محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية 1410هـ).
[10]- “رقم الحلل في نظم الدول” لأبي عبد الله محمد بن عبد الله السلماني، المعروف بلسان الدين ابن الخطيب (ت776هـ)، ص57 (المطبعة العمومية، تونس، الطبعة الأولى 1316هـ).
[11]- “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس” ص114.
[12]- “مآثر الإنافة في معالم الخلافة” لأحمد بن علي القلقشندي (ت 821هـ)، 2/252 (تحقيق عبد الستار أحمد فراج، عالم الكتب، بدون تاريخ).
 [13]- “التكملة لكتاب الصلة” لأبي عبد الله محمد بن عبد الله البلنسي، 2/74 (تحقيق عبد السلام الهراس، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ).
[14]- ” نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان” ص101_ 122.
[15]- “نظم الجمان” ص 112.
[16]- رواه نعيم بن حماد المروزي في “الفتن” باب سيرة المهدي وعدله وخصب زمانه، رقم : 1042، 1/359 (تحقيق سمير بن أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة، الطبعة الأولى 1412هـ).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق