وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

ابن بَرَّجان

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

كنت تطرقت في حلقة ماضية إلى شخصية الإمام ابن العريف الصنهاجي ومحنته زمن المرابطين، وقد ارتأيت أن أردف بشخصية صوفية ذات علاقة وطيدة  بصاحبنا ابن العريف، سيجعلنا الاقتراب منها ندرك أبعاد إنسانية أخرى للفكر الصوفي إبان عصر الدولة المرابطية بالمغرب، يتعلق الأمر بالإمام ابن بَرَّجان.
لقد عاش ابن بَرَّجان في أيام دولة المرابطين وهي الدولة التي بوأت الفقهاء مكانة عليا، وأحرقت في آخر أيامها كتب الإمام الغزالي، وعرفت في نهايتها ثورة “المريدين” بزعامة ابن قسي في الأندلس. وقد كانت هناك حلقات وصل بين أقطاب التصوف في تلك الفترة خاصة بين ابن بَرَّجان وابن العريف وابن قسي، وقد حقق الباحثون الرسائل التي تبادلها هؤلاء خصوصا الباحث بول نويا  Paul Nwyia  وعبد السلام الغرميني، وكشفوا لنا من خلالها مكانة ابن بَرَّجان الفكرية لدرجة أن ابن العريف كان في رسائله يحليه “بالشيخ الفاضل الإمام” والإمام أبي الحكم شيخي وكبيري.
يقول الأستاذ محمد جنبوبي في كتابه “الأولياء في المغرب”: “نكبة ابن العريف ظلت مقرونة بنكبة ولي آخر، شاركه الكثير من الأمور، كالانتماء لنفس العصر، والشهرة في العلم والتصوف، ثم السقوط ضحية نفس الواشي، والترحيل في نفس المركب إلى سبتة والتعرض للنكبة، فالموت بمراكش في نفس السنة 536 للهجرة، لتنتهي سلسلة الاقتران إلى تجاور مدفنيهما، الذين صارا من بعد ضريحين يزاران.. إنه ابن بَرَّجان”.
ابن بَرَّجان الذي تسميه العامة بمراكش “سيدي أبو الرجال”، وهذا الاسم لم يأت من فراغ، إذ أننا نجد ابن الأبار في كتابه “التكملة لكتاب الصلة”  يسميه  عبد الرحمان بن أبي رجال، وكذلك حلاه بهذا الاسم الإمام الذهبي في “سير أعلام النبلاء”.
يعرفه ابن خلكان في “وفيات الأعيان” بأنه “أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمان بن محمد بن عبد الرحمان اللخمي، عرف بابن بَرَّجان وكان عبدا صالحا، وأكثر كلامه على طريق أرباب الأحوال والمقامات”.
وقال ابن الأبار في “الحلة السيراء” إن ابن بَرَّجان كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث والتحقق بـعلم الكلام والتصوف مع الزهد والاجتهاد في العبادة.. أما ابن الزبير فقال عنه  في”صلة الصلة”  بأنه “أخذ من كل علم بأوفر حظ، مؤثر لطريقة التصوف وعلم الباطن، متصرفا في ذلك، عارفا بمذاهب الناس، متقيدا في نظره بظواهره الكتاب والسنة، بريئا من مردى تعمق الباطنية، شديد التمسك بالكتاب والسنة”، ووصف تفسير ابن بَرَّجان للقرآن  بأنه: “جرى فيه على طريقة لم يسبق إليها واستقرأ من الآيات عجائب وقرائن من الغيوب إلا أنه أغمض في التعبير، فلا يصل إلى مقصوده إلا من فهم كلامه وألف إشارته وإلهامه”.
كانت نكبة ابن بَرَّجان متزامنة مع نكبة صاحبه ابن العريف وترتبط معها بنفس الأسباب والملابسات وهي تبرز العمل “الممنهج” الذي قاده بعض فقهاء المرابطين  من أجل إخماد صوت “المعارضة” التي أبداها التيار الصوفي المتنامي في المجتمع المرابطي. إلا أن ما  يضفي على نكبة ابن بَرَّجان”خصوصية” هو ما نستشفه من قول ابن الزيات التادلي في “التشوف إلى رجال التصوف”: “لما أشخص أبو الحكم ابن بَرَّجان من قرطبة إلى حاضرة مراكش، سئل عن مسائل عيبت عليه، فأخرجها على ما تحتمله من التأويل. فانفصل عما ألزمه من النقد، وقال أبو الحكم: “والله لا عشت ولا عاش الذي أشخصني بعد موتي. يعني السلطان. فمات أبو الحكم. فأمر السلطان أن يطرح على المزبلة، ولا يصلى عليه، وقلد من تكلم فيه من الفقهاء”. لكن صوفيا آخر سيدخل على الخط مدافعا عن صاحبنا ابن بَرَّجان وهو الإمام الشهير أبو الحسن علي بن حرزهم دفين خارج باب الفتوح بمحروسة فاس، وسيكون تدخله حاسما في التأثير على الناس الذين توافدوا من أجل الصلاة على جنازته. ويذكر صاحب كتاب “الاستقصا” أحمد بن خالد الناصري أن الإمام بن حرزهم استنفر خديمه لكي ينادي في الأسواق:” احضروا جنازة الشيخ الفاضل الفقيه الزاهد أبي الحكم بن بَرَّجان، ومن قدر على حضورها ولو يحضر فعليه لعنة الله”.
يكاد من ترجموا لابن بَرَّجان وابن العريف يتفقون على أن ابن العريف شيخ لابن بَرَّجان باستثناء الباحث بول نويا Paul Nwyia  الذي حاول في مقاله note sur quelques fragments inédits de la correspondance d’Ibn Alarif avec Ibn Borjan  الذي نشر في العدد 153 من مجلة هسبريس (1956)، أن يثبت أن ابن بَرَّجان هو شيخ ابن العريف.
أما الدكتور عبد السلام الغرميني في كتابه المدارس الصوفية المغربية والأندلسية في القرن السادس الهجري دار الرشاد الحديثة بالدار البيضاء، سنة2000م، فقد استشف من الرسائل التي وجهها ابن العريف لابن بَرَّجان، أن أبا الحكم بن بَرَّجان أرفع مكانة حتى وصف بأنه (غزالي الأندلس )، ومن المدرسة البَرَّجانية انبثقت المدرسة العريفية والملاحظ أن ما توصل إليه الباحث الغرميني موافق لما استنتجه بول نويا في دراسته المذكورة أعلاه حول علاقة ابن بَرَّجان بابن العريف.
وباستدعاء هذا النموذج النبيل في الفكر والسلوك نكون قد وضعنا اليد على  جانب من أوجه النشاط الفكري في إطار “شبكة علاقات” كانت تجمع بين أقطاب الصوفية بالمغرب والأندلس، دفعت بالدولة المرابطية إلى استقدام ابن العريف وابن بَرَّجان وغيرهم إلى مراكش. وكانت قد عقدت لابن بَرَّجان مناظرة أورد عليه الفقهاء مسائل ينكرونها فأجاب وخرجها مخارج محتملة فلم يرضوا منه بذلك لكونهم لم يفهموا مقاصده وقرروا عند السلطان أنه مبتدع، فمات بعد أيام ومات في المحرم  سنة 536هـ، ولا يمكن الجزم بسبب موته على الرغم من أن الغالب عند المؤرخين وأصحاب التراجم أنه قتل كصاحبه ابن العريف  لكن أحدا لم يصرح بملابسات هذا القتل..
ومهما يكن الأمر فإن بوادر مدرسة صوفية “ذات نفس غزالي” في المغرب والأندلس كانت واضحة المعالم في شخصي صاحبينا ابن بَرَّجان وابن العريف والتيار الفكري الكلامي الذي تبلور في المغرب بعد وفاتهما وانقضاء عهد الدولة المرابطية. وعلى الرغم من التأثير الواضح للإمام الغزالي في فكر ابن بَرَّجان؛ فإن هذا الأخير تفرد في منهجه الفكري وفي رؤيته للعالم ونسقه الكوسمولوجي.
كان الإمام ابن بَرَّجان مفسرا، صوفيا، مقرئا، محدثا، متكلما، مشاركا في الهندسة والحساب. واشتهر بتفسير رائق للقرآن المجيد اختلف في اسمه والراجح أنه “تنبيه الأفهام إلى تدبر القرآن الكتاب والتعرف على الآيات العظام” كما في مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط، وقيل أن اسم التفسير “تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب الحكيم وتعرف الآيات والنبأ العظيم” وهذا العنوان الأخير وجد بنسخة مخطوطة في المكتبة السليمانية بـإسطنبول، ومن كتبه أيضا شرح أسماء الله الحسنى وتأليف آخر في الحديث يسمى “الإرشاد”.
أما عن شيوخ ابن بَرَّجان فلا نعرف بالتحديد إلا ابن منظور الذي سمع الحديث منه، أما أشهر تلاميذه فنعرف أبا محمد عبد الغفور بن إسماعيل ابن خلف السكواني اللبي، وأبا القاسم القنطري، وأبا محمد عبد الحق الإشبيلي  الذي اشتهر في علم الحديث والرجال، وأبا عبد الله بن خليل القيسي وهو آخر من روي عنه حسب ما ذكره ابن الزبير في “صلة الصلة”.

 ولصاحبنا كتاب في تفسير الأسماء الحسنى وصفه ابن الزبير بالشهير، وقد ذكره المفسر التونسي ابن عاشور في التحرير والتنوير ونقل عنه، (أنظر المقالة حول التعريف بتفسير ابن برجان) والراجح أن: “شرح معاني أسماء الله الحسنى” و “ترجمان لسان الحق المبثوث في الأمر والخلق” هما عنوانان لكتاب واحد. وقد أشار ابن بَرَّجان إلى هذا الكتاب في عدة مناسبات في تفسيره، وبذلك نعرف أن هذا الكتاب كتبه ابن بَرَّجان قبل التفسير.
إن تفسير ابن بَرَّجان الموسوم بـ “تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب والتعرف على الآيات والأنباء العظام” يعتبر من أهم المؤلفات التي تركها لنا هذا العالم الفاضل، وهو من أهم التفاسير التي أنتجها علماء الغرب الإسلامي. توجد نسخة من هذا التفسير في الخزانة العامة بالرباط تبدأ بسورة الأعراف وتنتهي عند تفسير قوله تعالى: “لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ” [سورة النور، الآية: 62]. وقد عثر مؤخرا على الجزء  الثاني من تفسير (تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب الحكيم وتعرّف الآيات والنبأ العظيم) لابن بَرَّجان في موقع مخطوطات ميونيخ بألمانيا، ويبدأ هذا الجزء من تفسير سورة الاِسراء إلى نهاية القرآن الكريم.
ولعل أهم ما يمتاز به تفسير ابن بَرَّجان اهتمامه فيه بالمناسبة بين السور والآيات واهتمامه بالمعاني الدقيقة، ففي سورة الاِسراء عند الحديث عن بركة المسجد الأقصى قال: “ربما سميت تلك الأرض مقدسة لتجلي المبارك القدوس عز وجل فيها لموسى عليه السلام وتكليمه إياه فيما هنالك، قال عز وجل: “نودي أن بورك من في النار ومن حولها” [سورة النمل، الآية:7]، وقال: “إنك بالوادي المقدس طوى” [سورة طه، الآية:11] فليس يبعد مع هذا أن يكون الله عز وجل ذكره أبقى بركة تجليه فيما هنالك إلى يوم القيامة .
وفي قصة موسى رد ما أورده المفسرون من سبب عقدة لسان موسى وإرجاعهم ذلك السبب إلى الجمرة قائلا: “والصحيح والله أعلم بما ينزل أنه كان رجلا عبرانيا في مجاورة القبط في جحورهم فكان ظاهر لسانه لغة القبط ثم تغرب إلى أرض مدين وجاور العرب فتعرب من أجل مدة سنين كان فيها هنالك قال عز وجل: “فلبث سنين في أهل مدين” [سورة طه، الآية:40] فكانت من أجل ذلك لكنة لسانه فلم يكن فصيحا في لسانهم كأخيه هارون عليها السلام”.
وقد أوّل الإمام ابن بَرَّجان قوله تعالى “ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم” [سورة هود، الآية:117 ] قال “مختلفين أي في التوحيد والنبوة فمنهم من كذب بها ومنهم من صدق بعضا إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم أي للرحمة والتوحيد والتصديق”.
ويبدو أن صاحبنا ابن بَرَّجان اهتم في هذا التفسير الرائق بتفسير القرآن بالقرآن وقد وظف ثلاثة علوم لتفسير هذا النص علم التفسير وعلم الحديث وعلم الأصول، مما يبين قيمة الرجل  الفكرية وموسوعيته.
ويتميز تفسير ابن بَرَّجان كذلك باتجاهه الإشاري إذ يقول في ذلك “فكلام الله عز وجل لا يدركه بالكيف البشر، وإنما يدرك أمره ونهيه بالمثالات والأمثال والأسماء والحروف، وبذلك استبان لهم كلامه كما تقدم… وبها أي بالحروف والأمثال والأسماء يستدل على كلامه تعالى وأمره ونهيه”.
إن الإمام ابن بَرَّجان في بيانه للمناسبة بين الآيات إما أن يذكر مناسبة الآية لما قبلها وما بعدها أو يبين مناسبة لآية أخرى بعيدة عنها في الموضع وقد تكون في سورة أخرى كما في قوله: “والأنعام خلقها، عطف هذا الخطاب على ما تقدم لاتصال ذكر الخلق بالأمر وتقارب معنييهما لصدورهما في الأمر وتقارب معنييهما لصدورهما في الأمر الخالق جل وعلى” [سورة الاَنعام، الآية 5] وقال بعد قوله تعالى: «إن ربك هو الخلاق العليم” [سورة الحجر، الآية:85] “هذا منتظم لذكر الحق الخلق والسماوات والأرض” وفي قوله تعالى: “ولله يسجد من في السماوات والاَرض طوعا وكرها” [ سورة الرعد، الآية:14] قال: “انتظام هذه الآية بالتي تقدمتها معنى أنه ليس بشيء كائن ما كان مؤمن أو كافر أو حيوان أو نبات بخارج عن التعبد لله عز وجل والقنوت لعظمته”. هذا معنى من المعاني العميقة في تفسير الإمام ابن بَرَّجان تم استخلاصه بفضل التصور” التركيبي” النسقي للقرآن المجيد مع استحضار البعد الكوسمولوجي الثاوي في جدلية الإنسان والكون والقرآن.
ويصدر الإمام ابن بَرَّجان في بعض الأحيان إشارات لا تفصح مباشرة عن المراد ولو أن “نفسها” الكوني باد لا مراء فيه كما في قوله تعالى: قال الله عز وجل: “إِنَّا خَلَقْنَا الاِنسان مِنْ نُطْفَةٍ اَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً” [سورة الاِنسان، الآية:2]؛ فإن الذي أنشأه من كونه نطفة مهينة، وجمع خلقته من أمشاج آثاره في طبقات الخلقة في خزائن السماوات والأرض إلى أن جعله سميعا بصيرا، قادرا على أن ينشئه نشأة أخرى، إنما هو النوم التي يصير إليها الموت…، وكأن الإمام ابن بَرَّجان يستشعر من استشكلت عليه مقاصده فينصحه بالتأمل والتدبر، وقد يستعمل عبارة “فافهم”.. قال عن الفرقان: «لذلك سماهم فرقانا لما جعل فيه من معنى الفرقان الموجود في الروح الموحى به مع الملك إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما جعل في قلوب أهل العلم والإيمان من القرآن المذكور بقوله: “إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا” [سورة الاَنفال، الآية: 28] وهو تمييز صور المعنى في الباطن كتصوير الصور في الظاهر فافهم….
بل إنه يمكن القول إن صاحبنا ابن بَرَّجان وضع منهجا لفهم وتدبر القرآن العظيم، يقول في تفسيره: “لمعرفة الأسماء والبحث عن سلوكها مسالكها من العالم يوقف على تفصيل جمل ما أنبأنا  به في الكتاب العزيز، وأن ذلك لا مطمع فيه إلا بلزوم التقوى، وتقديم صحيح الإيمان وفي تفسير وإطراح الحول والقوة ونبذ الحرص على حسن الثناء… إذ هو نوع من العلم لا تسومه النفوس من ذاتها، ولا تشعر به ولا يتعرفه إلا بهداية وتوفيق وإشعار، وإلهام إلى ما هو الصواب”.
توفي ابن بَرَّجان سنة 536 للهجرة بمراكش، ودفن برحبة الحنطة بمحروسة مراكش حسب ما ذكره ابن عبد الملك في كتابه الذيل والتكملة، ويذكر العباس بن إبراهيم المراكشي في “الإعلام  بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام” أن ابن بَرَّجان دفن في رحبة الزرع. وقبر ابن بَرَّجان موجود اليوم بالفعل في “ساحة الرحبة” المختصة ببيع العقاقير والأعشاب بمراكش.

رحم الله الإمام ابن بَرَّجان
والله الموفق للخير والمعين عليه

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق