مركز الدراسات القرآنيةشذور

إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون

 حدّد الله عز وجل للقرآن صفات وخصائص ذاتية، وأوضح أنه وحي كامل من لدنه سبحانه (إن هو إلا وحي يوحى)[النجم 4]، يستجيب لما كان من حالات تاريخية سابقة، ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) [فاطر 31 ـ 32].

فبعد أن وصف الله سبحانه القرآن بأنه (كريم)، وصفه وصفا ثانيا بأنه (في كتاب مكنون)، وهذا وصف كرامة لا محالة (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) [ الواقعة 77 ـ 78]؛ ولا شك أن وصف الكتاب بالمكنون ـ الذي هو اشتقاق من الاكتنان؛ وهو الاستتار ـ يرشدنا إلى جهد البليغ القادر على كشف هذا المستور بمزيد من الإقبال تدبرا وتأملا لا اقتصارا على أحدهما، مما يفهم منه أن الكتاب الكريم فيه قابلية الاستمرار في العطاء ليستجيب لمختلف العصور، وتكون الاستجابة بمكنوناته التي تنكشف طبقا لحالات الاستدعاء الزماني.

وهذا مقصد أسمى ومطلَب أسنى لا يمكن إحكامه إلا بعد التمسك بأمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلَك، لطيفة المأخذ:

منها: الإيمان بقدسية هذا الكتاب، وبأنه كلام الله تعالى، لا مدخل فيه لأحد، أنزله سبحانه ليكون بشيرا ونذيرا، ودليلا على وحدانيته، ومرشدا إلى معرفة عزّته وجبروته، ومفصحا عن صفات جلاله، وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله الذي أرسله به صلى الله عليه وسلم(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) [النساء 82] وبأنه بلسَم شاف، ثم الإيمان بأن التفكر والنظر وتكشيف مكنونه هو تكليف شرعي كسائر التكاليف الشرعية.

ومن شروطه، ارتداء لباس التقوى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) [الحديد 28]، وهذا النور لا يتحقق بغير التقوى (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف 26] ومن شروط هذا المقصد ـ أعني تكشف المكنون ـ الأهلية والقدرة لاستثارته، وإتقان ما يلزم من الوسائل التي تمَهد السبيل أمام فهم القرآن، في مقدمتها اللغة العربية فهي المفتاح، وعليها المعول في تلقي القرآن، مصحوبة بمزاولة ما يعين على الفهم والتدبر من السنة المبينة للكتاب، وكلام السلف المتقدمين في هذا الباب، بالإضافة إلى كليات مقاصد الشريعة.

ومن شروطه، الكدح، والصبر، وإخلاص النية والتجرد، وقوة الإرادة والعزيمة في النظر والاستمداد، ونفوذ قابلية المؤمن القارئ في الصنعة، واحترام مقاييس هذه الصنعة، ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها.

ومن شروطه، إخراج الحواس من صمَمِها وجعلها قادرة على العروج إلى علياء القرآن الكريم، وتطويعها لهذا المقصد، حتى يصبح المستمِد في موقع يخوض معه تجربة الاحتكاك بالقول الثقيل، كما وصف القرآن نفسه(إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) [المزمل 5]، وهي تجربة تتطلب يقظة للحواس الظاهرة والباطنة، وتستدعي استنفارا عقليا، وكدحا تدبريا، لا يقتصر على قدرات الكشف والتعرّف، بل تستوجب فعل خلق وابتكار بشكل تتحول معه علوم القرآن قاطبة من مبتداها إلى يومنا هذا، من قواعد للرقابة على الفكر إلى محفّزات سفر إلى القرآن بالقرآن.

ومن شروط هذا المقصد الوعي بحاجات الأمة في لحظتها التي تعيشها، إذ لا يكفي أن يكون الإنسان مؤمنا، متقيا لربّه ومولاه، متقنا للعلوم التي أنتجت حول هذا الكتاب الكريم، على نفاسة كل ذلك ومحوريته في عملية الكشف عن مكنونات الكتاب الكريم.. بل لا بد من أن يكون المتصدر لهذا الفعل الجَلل فقيها بملابسات زمانه ومتعلقاته، يستطيع من خلاله تنزيل القرآن الكريم على واقع الناس وتفعيل دلالاته في قضايا الإنسان والعمران والحضارة والاقتصاد والتربية والفن والأدب والقيم والأخلاق والسلوك..

د.محمد المنتار

• مدير البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء.
• رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق