وحدة الإحياءدراسات عامة

إمكانات المرجعية القرآنية في تأسيس المشترك بين الإنسانية

في خضم بحثنا عن أسس المشترك بين الإنسانية تأكد لنا التمايز والتباين بين مرجعيتين؛ مرجعية واحدية مُضيَّقة ومرجعية توحيدية مُوسعة، الأولى أحادية متحيزة ومتمركزة حول ذاتها وهي المرجعية المادية الوضعية، والثانية عالمية ومنفتحة ومستوعبة وهي المرجعية القرآنية. لذلك نحتاج إلى اتخاذ المرجعية التوحيدية التي تعبر عـن الفطرة الإنسانية السوية أساسا لنقد ومراجعة وتجاوز قصور المرجعية المادية التي تستند إليها الحضارة الغربية، من أجل القدرة على إنتاج نظرية معرفية لها من الإمكانات ما يؤهلها لمخاطبة الإنسان والكون خطابا متخلصا من النظرة الضيقة التي تفرضها الرؤية الوضعية على العالم بسلطانها العلمي والاقتصادي والإعلامي، ومن النظرة التراثية التقليدية الجامدة التي تحولت بفعل عامل الزمن وسلطان التقليد إلى أصلٍ يقاس عليه.

لذلك نروم التأسيس للمشترك الإنساني انطلاقا من المرجعية القرآنية بناء على كونها مرجعية جامعة لجملة من الإمكانات المنهجية والمعرفية التي تحتضن استنباط النظرية وبنائها كالآتي:

أولا: إمكانات دينية

تتأسس المرجعية القرآنية على القرآن الكريم، وهو وحيٌ مُصدِّقٌ ومُتممٌ ومكمِّل للوحي السابق عليه وللمعرفة البشرية قديمها وحديثها، فأصول العقائد الدينية واحدة، وأظهر الله القرآنَ على الدِّين كله بالهيمنة والتصديق وليس بالإنكار والإلغاء، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ (الفتح: 28).

 وبالتالي فالمرجعية القرآنية تحفظ المشترك الديني، وتؤسس له عبر خطابٍ يعترف بالآخر المخالف دينيا ويمد له يد التعارف والتعاون والتآخي، وهذا ما يتيح لأتباع جميع الرسائل السماوية أن تتعاون في بناء المشترك الإنساني، وحفظ التنوع الطبيعي والثقافي “لينهضوا جميعا بأمانة أداء مهمة الاستخلاف في الأرض، وليكون التنوع مصدرا لبعث روح التنافس بينهم، في ميادين الإبداع والارتقاء الحضاري، وليحول دون تعطيل أو تخلف أسباب الأداء والإبداع والارتقاء في ميادين عمارة الأرض… وليكون هذا التنوع كذلك سببا لقيام قاعدة الحاجة والضرورة بين الناس والمجتمعات، فلا يستطيع أحد؛ أفراداً ومجتمعات الاستغناء عن أحد، ولتقوم من بعد الحاجة بينهم لحياة مشتركة، يسوسها نظام عالمي مشترك[1]“.

يشترك القرآن مع الكتب السابقة في الكليات الاعتقادية الكبرى التي على أساسها تبنى المواقف والأفكار وتنظم العلاقات، فالقيم القرآنية قيم عالمية جامعة، تصون حرية المعتقد والفكر والرأي. ومن الجوامع المشتركة مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما ورد في الآيات الآتية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ (المائدة: 46)، ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 48).

وهذا الأساس المشترك من “الهدى والنور” يشكل إطارا ومرجعا دينيا للتفكير في المشترك وبناء حضارته. وإقامة المشترك مع أهل الكتاب لا يمنع من البناء المشترك مع أهل الأرض قاطبة على الأسس الفلسفية الكبرى التي تحملها المقاصد الكلية للدين، و”شيئا فشيئا يدرك عقلاء العالم، من مختلف الحضارات، وتدرك فطرة الجماهير حاجة العمران البشري إلى العامل الديني، وإلى النظرة المؤمنة والمعايير الدينية[2]“.

 ثانيا: إمكانات إنسانية

القرآن كتاب العالم بلا تحيزٍ جغرافي، وكتاب الإنسان بلا تحيزٍ قومي، وكتاب الحياة بلا تحيزٍ زمني، يخاطب الإنسان في وجوده ومعرفته وقيمه، فخِطابه عالميٌّ وحضارته عالمية؛ حضارة الرحمة والتراحم والمرحمة، حضارة العدل والحرية والسلام، حضارة التعارف والتعايش والعمران، والجميع منتمٍ لأمة الإنسانية: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 91).

 إن الخطاب القرآني موجه إلى الذات الإنسانية أنَّى كانت، إلى كل فردٍ وكل جماعة، “فإذا جعلنا في بؤرة وعينا أن خطاب القرآن الكريم إنما هو بكل بساطة تعبيـر عن الفطرة الإنسانية السوية الغائية الإعمارية الأخلاقية، وعن سنن الفطرة والكون من حولها، والتي ليست هي إلا حقائق الخلق وجوهره، والتي جاء الوحي لا ليتجاوزها، أو ليتنكر لها، أو ليُغيرها، وإنما جاء لكي يجعل جوهر هذه الفطرة السوية الإنسانية والسنن الكونية في بؤرة وعي الإنسان، وفي بؤرة إدراكه، وذلك لكي يرشِّد فطرة الإنسان، ويهدي مسيرته في سعيه لتحقيق ذاته وفطرته الإنسانية الروحية السوية، والاستجابة لحاجات فطرة خلقه ونوازعه التسخيرية الإعمارية الحضارية[3]“.

ثالثا: إمكانات واقعية

 أثبت القرآن الكريم قضية الخلق مِن النشأة الأولى إلى أن أصبح الناس قبائل وشعوبا وأمما، أُنزلت عليهم الكتب، وأُرسلت لهم الرسل، ليتحقق ميزان العدل في الحياة، إلا ليقوم الناس بالقسط، إخوة في الإنسانية، لا فضل لعرقٍ على عرق أو لسانٍ على لسان. وبَيَّن السنن الكلية التي ينتظم وفقها الكون والتاريخ، والغاية من الخلق والمصير الحتمي للكون، وحث الإنسان على الاعتبار من كل مظاهر الخلق المختلفة، والتفكر في آلاء الله المنتظمة، مع التدبر في آيات الله المنزلة، والتبصر في الأنفس، فـ”الآيات المخلوقة والمتلوة، فيها تبصرة وفيها تذكرة: تبصرة من العمى، وتذكرة من الغفلة”[4]. ودعاه لمعرفة خالقه ومخلوقيته وإحسان العلاقة مع بني جنسه ومع الخلق أجمعين، ووصف له مسيرة الوجود في الدنيا والخلود في الآخرة، وعلمه منهجا نقديا لتصحيح المعارف المتوارثة عبر سلطة الآباء ومراجعتها. وحمَّله مسؤولية اختياراته وتبعاتها على ذاته وعلى غيره. فهو مسؤول عن نفسه ومسؤول أيضا عن الغير من حيث تأثيره فيه واقتدائه به، قال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون﴾ (الأنعام: 156).

 رابعا: إمكانات حوارية تواصلية

بنية النص في القرآن الكريم بنية حوارية تفاعلية إقناعية، تحرص على التواصل مع الآخر، والاشتراك معه، والاقتراب منه، واستثمار المشترك الجامع معه، والإنسان مخاطب بنداء القرآن ليسمَعه، سواء اتبع الحق واهتدى به، أو بقي في دائرة الاستماع والتعرف والجوار. لذلك تكثر عبارات: قال، قالوا، قلنا، يقولون، قل لهم، قيل لهم، يا أيها الناس.. مما يبين حوارية لغة القرآن التي أوردت مادة “قال”، وهي تفيد قيمة التحاور والمجادلة والمناقشة والمراجعة والمجاوبة بين الناس، أكثر من ألف وسبعمائة مرة.

يؤكد القرآن الكريم على مبدأ “الكلمة السواء” باعتباره أساسا للحوار، الذي تغيب فيه صيغة الغالب والمغلوب، والمستكبِر والمستضعَف، والقاهر والخاضع، وتتساوى فيه الإنسانية بآدميتها الخِلقية، فكانت تلك الكلمة الجامعة أرضية أخلاقية لتنظيم الاختلاف والتعدد[5]. قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ(آل عمران: 64)، مما يعني أن الحوار قضية عقدية من صميم دعوة القرآن، وتؤكد مقصد التوحيد الذي جاءت الرسالات الإلهية بالدعوة إلى استيعابه والعمل وفق مقتضياته، والكلمة السواء ليست “سواء ذاتية” متحيزة لجهة ما استعلاء واستكبار وأنانية وإنما هي “سواء بينية” بين ذاتين أو أكثر، وسط مشترك بين طرفين مختلفين؛ نحن وإياكم، نتداعى إليها جميعا لنشيد على أساسها بناء مشتركا جامعا، لا عبودية فيه إلا للخالق ولا اعتداء فيه على المخلوق.

والدعوة إلى الكلمة السواء، “المؤسَّسة على الوحدانية، والمسدَّدة في الحياة الإنسانية بالمساواة وعدم التربُّب”[6]، دعوة لمراعاة المقاصد الكبرى التي نصت الشرائع السماوية على حفظها إن وُجدت، وعلى المطالبة بها إن غابت. وبهذا تكون الكلمة السواء، هي الأصل الجامع، والأساس المشترك الذي يحسم كثيرا من نقط الخلاف، وبهذا تتبين ضرورة التجاوب مع القضايا المرتبطة بالكلمة السواء، مهما تعددت وجوه عرضها. والدعوة بالتي هي أحسن إلى هذه الكلمة تتعارض مع الدعوات التي لا ترى في الوجود سوى ثنائيات صراعية متنابذة.

 خامسا: إمكانات الوسطية

الوسطية خصيصة من خصائص القرآن الكريم، وأمر من الأوامر الإلهية الكلية، ومفهوم يحكم الفكر والسلوك، فالإنسان روح وبدن، عقل وقلب، “لا يعيش تناقضا داخليا بين روحه وجسده، بين القيم الدينية ومتطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعدم وجود قطيعة بين الدين والدنيا بين الدنيا والآخرة، ينتج عنه من الناحية الفلسفية أن النمط الفكري المستخرج من الإسلام ينفر من الثنائية و لا يمكن أن يدرج في إطار الثنائية ولا يمكن أن يدرج في إطار المثالية أو المادية…فالوسطية هي الأرضية الفكرية والمنهجية للمفاهيم الإسلامية[7]“.

ومن معاني الوسطية الالتزام بالفضيلة التي هي توسط بين رذيلتين أو بين طرفين مذمومين كالجود الذي هو توسط بين البخل والإسراف، والشجاعة التي هي وسط بين الجبن والتهور، ومعانيها أيضا العدل والقسط والإنصاف في التعامل مع الآخر كيفما كان، وعدم الظلم على أي حال، وضد كل أنواع التطرف والغلو والتشدد والتنطع والتعصب الفكري والإيديولوجي والفلسفي والديني وغيره، ففي الحديث: “الظلم ظلمات يوم القيامة[8]“.

الوسطية وصفٌ للأمة القرآنية الشاهدة ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً ﴾ (البقرة: 142)، وهي التي عبر عنها الحديث النبوي: “إن الدِّين يُسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة”[9].

 فالوسطية؛ تيسير وتسديد وتقريب وتبشير واختيار أعدل المواقف والأوقات، كما أن من معاني الوسطية الجمع في الرؤية بين موضوع الإنسان وموضوع الكون، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفرد والجماعة، وبين الذات والآخر، وبين الحاضر والمستقبل، فيكون الإنسان بمنهج الوسطية “محور حركة الخلائق في أداء مهمة عمارة الأرض، وإقامة الحياة الآمنة في ربوعها… وتبقى قدسية حياة الإنسان وكرامته، وسلامة البيئة، والعدل، والتنمية الراشدة، هي المعايير التي يحتكم إليها في صحة الأداء الحضاري في الأرض وسلامته[10]“.

 سادسا: إمكانات استيعابية ومنفتحة

 تستوعب المرجعية القرآنية الأديان السابقة وحكمة الأمم الماضية وتنفتح على جميع التجارب المفيدة في الأجيال الحالية والمستقبلية، علميا وتربويا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. والقرآن كتاب مكنون، وهو يتكشف عبر العصور عن كنوزه اللامتناهية ليستوعب مشكلات وقضايا العصور كلّها، وبحسب سقوفها المعرفيَّة وعلى اختلاف أنساقها الثقافيَّة والحضاريَّة، فهو مستوعب لما بين يديه من الكتب والأنساق المعرفية ومنفتح عليها في نفس الوقت، فقد استوعب تراث النبوات كلها، وختم الرسالات السابقة..

والسبيل الوحيد للاستيعاب الذي لا ينتهي من هذا المعين هو التلاوة والتدبر والتفكر والاستبصار والاجتهاد، بمنهاجية قرآنية تراعي السياق التاريخي والحضاري والعمراني والبيئي والثقافي للإنسانية، والمنهاج القرآني هو منهاج الهدى ودين الحق، الموافق لفطرة الإنسان ورشد تعقله، من غير تكلف: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ (ص: 84).

 منهاج إصلاح للإنسان قبل إصلاح الأشياء، يسمو بتفكير الكائن البشري وتفكُّره ليهيئه روحيا وعقليا ليبذل جهده حتى يتحول خلقا آخر وينشأ نشأة أخرى، فيصير غير هذا الإنسان المادي المرذول بغفلته عن الحق والهداية، الشقي باستكبار هو انحداره الأخلاقي.

 سابعا: إمكانات قيمية أخلاقية

القرآن المجيد كتاب الهداية والرحمة والعدل يصدِّق على جميع القيم الأخلاقية المشتركة ويتممها؛ الصدق والأمانة والأخوة والتراحم والتبادل والسلم والتعاون[11]، وفي مقابل ذلك ينكر جميع الفواحش والرذائل؛ القتل والظلم والخيانة وشهادة الزور والحقد. وتتسع القيم القرآنية لجميع الأفعال الإنسانية سواء المتعلقة بذاته الفردية أو بعلاقة الفرد أو الجماعة بالآخرين أو بالبيئة والعمران.

 ومن الآيات التي نزلت في مكة أول البعثة قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: 1)، مما يفيد عالمية القيم القرآنية وغائيتها، ليكون نذيرا يُهذب الأخلاق ويُصحح الأفكار ويُقوم السلوكات، يجمع بين الشهادة والبشارة والنذارة والإنارة والدعوة بالتي هي أحسن، لإقامة حضارة الإنسان السوي؛ حضارة العمران البشري الأخوي، الذي يسع الجميع في إطار التخلق بأخلاق الاستخلاف.

 إن القول بالمشترك القيمي يتجه إلى القيم المشتركة بين الإنسانية، وهي “تمثل ثوابت بالنسبة للبشرية كلها؛ ألا وهي قيم الهدى ودين الحق، تطالب البشرية بالمعروف في فطرتها، وتنهاها عن المنكر الذي ترفضه فطرتها، وتحللها الطيبات، وتحرم عليها الخبائث، وتضع عن البشرية إصرها والأغلال التي كانت عليها… وتدعو الناس كل الناس أن يلتزموا بتلك القيم ويدخلوا في السلم كافة، في حضارة تنظر للناس كلهم على أنهم لآدم، وآدم من تراب، وتستوعبهم جميعا[12]“.

ثامنا: إمكانات العالمية

تجمع عالمية القرآن بين عالمية الكتاب وختم النبوة وعالمية الخطاب:

القرآن الكريم كتاب العالم، المصدق للكُتب والمهيمن عليها، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة:50)، فلا إلغاء ولا إقصاء ولا عِداء، وإنما هو إتمام وتصحيح واستيعاب. وهذه العالمية المصدقة والمهيمنة تتجاوز ثنائيات الصراع: الإسلام/الغرب، الدين/الدولة، الأصالة/المعاصرة… وتستوعب جميع التعدديات الدينية والثقافية.

أما عن ختم النبوة فلا شك أنها خُتمت ختما توحيديا مُصدقا ومُهيمنا ومُتمما؛ ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (الأحزاب: 40)، فيكون المسلمون هم كل من آمن بجميع الرسالات وبجميع الرسل الذين خُتموا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يفرقون بين أحدٍ منهم. إذ إن المقصد الأعظم لجميع الأنبياء من أقوامهم هو أن يكونوا مسلمين في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم، وأن يعيشوا مسلمين في إقامتهم للعمران البشري المتآخي المتراحم..

وبخصوص التوجه إلى العالم، قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: 158)، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (سبأ: 28)، فالخطاب القرآني خطاب موجه للعالمين بغض النظر عن انتماءات الناس الجغرافية والثقافية والعرقية، لذلك “يؤكد القرآن وحدة المؤمنين حول الإيمان المشترك، بغض الاعتبار عن الِعرْق أو القبيلة”[13] بصيغ جامعة مثل: “يا أيّهَا النّاس”، “يا أيّها الإنسَان” “يا بَنِي آدَم”، فهو لا يقتصر على قومية أو عِرقٍ أو نِحلةٍ أو رجُل دينٍ. كما أن مقاصد القرآن عالمية مشتركة بين البشر جميعا بوصفهم شركاء ينالون من عطاءات الله اللامتناهية بحسب استعدادهم وقيامهم بواجبات أزمانهم.

هذه العالمية “التي ورثت كافة رسالات السماء وانفتحت عليها تصديقا ونسخا بذات الوقت، ورثت كافة النبوات وانفتحت عليها، ورثت كافة الحضارات وتفاعلت مع كل الأعراق والسلالات… عالمية قيادها الرحمة وشرعة التخفيف وخطابه للناس كافة وشعارها رفع الإصر والأغلال والتأكيد على مبدأ التطهير بديلا عن التكفير”[14]، وهي اليوم في حاجة إلى اكتشاف منهجي ومعرفي من أصولها المؤسِّسة، إذ لا تزال معطلة ومرتقبة كبديل عن العالمية العولمية المادية القاهرة.. لأنها عالمية صراع التأويلات والمصالح المادية، سواء في رؤيتها المتفائلة مع “فرنسيس فوكوياما” الذي ربط المدينة الفاضلة بالنمط الليبرالي الحديث وجعلها قطب الفضائل والقيم؛ الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة، أو في رؤيتها المتشائمة مع “صمويل هنتنغتون” التي تلخص العلاقات المستقبلية في صراع بين أكبر الحضارات في العالم المعاصر.

أما عالمية المشترك الإنساني ذات المرجعية القرآنية فهي عالمية رحمة الآيات: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 106)؛ إذ العالم اليوم في حاجة إلى عالمية مستوعِبة ومتجاوِزة، تختزل كل إمكانات التعارف والتعايش والتعاون بين المسلمين وغيرهم، وتصلح مفاسد العالمية المادية الاستكبارية وتقضي على تحيزات النزعات العرقية والقومية والبراغماتية السلبية والعنصرية والأسطورية والفرعونية الاستعلائية.

إذا اجتمعت هذه الإمكانات في إطار ناظم كُلي متمثل في المرجعية القرآنية المعرفية، وإذا عُمل بها ستتجدد أسس العلاقات بين الثقافات وستتهاوى الأوهام المعرفية المتراكمة عبر الزمن، وستتوقف الكثير من النزاعات العنيفة، وتتجنب الإنسانية الصراعات المدمرة التي أتلتها الفلسفات المادية الصراعية.

وفي مقابل ذلك يُبنى العالم من جديد على قوام المشترك الإنساني بدلا عن الصدام الحضاري، ذلك أن “القول بقيم مشتركة أو عالمية أو إنسانية لا يعني أن المشتركات يجب أن تكون شاملة، وتسري مقتضياتها على جميع الناس في كل الظروف والأحوال”[15]، وإلا سنسقط في عولمة تفرض نظرة أحادية وقيما إقليمية متحيزة، تلغي الاختلاف والتباين والتمايز.

في إطار هذه المرجعية واستيعابا لها انتشرت الدعوة الخاتمة انتشارا واسعا في جميع بقاع المعمور، واستوعبت حتى الشعوب التي كانت وثنية من مغول وفرس وأتراك وبربر وغيرهم، وانهارت تلك الثنائية العصبية: شرق وغرب، بالتفاعل الإيجابي لحضارة القرآن مع باقي الحضارات واستيعابها وتجاوزها في نفس الوقت، ولم تكن متحيزة منغلقة على ذاتها.

لا ينبغي أن يوظف المشترك الإنساني مدخلاً لإذابة الفوارق وإلغاء الخصوصيات الذاتية، والتنكر للمختلف فيه، ولا لعولمة ثقافة ما أو تعديل الأنساق القيمية للآخرين مما يتفق ومعايير أنساق الثقافة الغالبة، فهو ليس إدماجا للثقافات، ولكنه نداء المستقبل للشعوب والأمم والأديان والمصالح من أجل تشييد علاقات المشترك الإنساني التي تحفظ الأسس الكبرى لحضارة الإنسان، وتحترم التنوع والاختلاف والتنافس، والإقرار بأن هناك حضارات متعددة وليست حضارة واحدة نسخت الحضارات السابقة عليها. ومن تم لا مندوحة من إعادة النظر في المناهج والنظريات والمعارف الناتجة عن حضارات عالمنا المعاصر والمنتجة لقيمها في نفس الوقت، ليس فقط ما ينتج عن الحضارة الغربية التي يزعم البعض أنها خلاصة التطور البشري ونهاية تاريخه.

الهوامش

[1]. أحمد الرفاعي، الوسطية مرتكز لحوار الثقافات لتحقيق المشترك الإنساني، ضمن الوسطية أبعاد في التراث والمعاصرة، الأردن: منتدى الفكر العربي، منتدى1، (1428ﻫ/2007م)، ص82.

[2]. محمد عمارة، الإسلام والسياسة، القاهرة: دار السلام، ط1، 2005م، ص26.

[3]. أبو سليمان عبد الحميد، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، القاهرة: دار السلام، ط1، (1430ﻫ/2009م)، ص34-35.

[4]. أحمد ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص 236

[5]. ينظر: عبدالهادي بوطالب، عالمية الإسلام ونداؤه للسلام ودعوته للتعايش والاعتراف بالآخر، مجلة الاجتهاد، عدد: 52- 53، ص 62-63

[6]. عبد الله بن محمد السالمي، الإيمان والعمل الصالح رؤية مفتوحة لعالم جديد، مجلة التفاهم، عدد: 34، (1432ﻫ/2011م)، ص 369

[7]. محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 2، (1412ﻫ/1991م)، ص51.

[8]. صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، رقم الحديث: 2315.

[9]. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يُسر، رقم الحديث: 39.

[10]. حامد بن أحمد الرفاعي، الوسطية مرتكز لحوار الثقافات لتحقيق المشترك الإنساني، م، س، ص79.

[11]. ينظر: الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، م، س، ص161.

[12]. طه جابر العلواني، نحو منهجية معرفية قرآنية، م، س، ص488.

[13]. اسبوزيتو، جون ومجاهد داليا.من يتحدث باسم الإسلام؟ ص58.

[14]. حاج حمد أبو القاسم، الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن، بيروت: دار الهادي، ط1، (1425ﻫ/2004م)، ص424.

[15]. ألشتاين جين بتكي، هل توجد قيما إبراهيمية مشتركة، مجلة التفاهم، عدد: 33، (1432ﻫ/2011م)، ص168.

Science

د. أحمد الفراك

أستاذ الفلسفة والمنطق بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، جامعة عبد المالك السعدي-تطوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق