مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

إلقاء الشعر في التراث العربي (الحلقة الثانية)

العصر الأندلسي:

تأثرت الأندلس في الغرب الإسلامي بكل مظاهر الحياة في المشرق، وكان من جملة ما تأثرت به اهتمام الخلفاء والملوك في قصورهم بالشعر واحتفاءهم بالشعراء على نحو ما رأينا في قصور الخلفاء العباسيين، فلا عَجَبَ إذا رأينا الشعر يُنشَد أمام الخلفاء والملوك وهؤلاء يجزلون لهم العطاء كما هو الحال في المشرق، ووجدنا دُورا مخصوصة بالشعراء، ومجالس يقيمُها الخلفاء والقضاة تُنشَد فيها الأشعار، ومنهم من اختار نديما له من الشعراء، ووجدنا من السلاطين من اتخذ يوما خاصا بالشعراء من بين أيام الأسبوع، ففي خبر المعتضد والشاعر ابن جاخ البطليوسي الذي نقله المقري في «نفح الطيب» أن « ابن جاخ الشاعر وَرَدَ على حضرته، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، فسألوه، فقال: إني شاعر، فقالوا: أنشدنا من شعرك، فقال:

 إِنِّي قَصَدْتُ إِلَيْكَ يَا عَبَّادِي         قَصْدَ القَلِيقِ بِالجَرْيِ لِلْوَادِي

 فضحكوا منه وازدروه، فقال بعض عقلائهم: دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم، فلم يبالوا بكلام الرجل، وتنادروا على المذكور، فبقي معهم، وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص لا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين، فقال بعض لبعض: هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا، ويجترئ على الدخول معنا، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حَسْمًا لعلة إقدام مثله عليهم. فلما كان اليوم المذكور، وقَعَدَ السلطانُ في مجلسِه ونصب الكرسي لهم، رغبوا منه أن يكون هذا القادم أولَ متكلم في ذلك اليوم، فأمر بذلك، فصعد الكرسي، وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم، فقال: [القصيدة] فقال له الملك: أنت ابن جاخ؟ فقال نعم، فقال: اجلس فقد وليتكَ رئاسة الشعراء، وأحسن إليه، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده»(1)، ونرى من خلال هذه القصة مظهرا آخر من مظاهر هيآت إلقاء الشعر في البلاط الأندلسي وهي تنصيب كرسي خاص بالشعراء يصعده الشاعر الذي سيقوم بإلقاء شعره وقتئذ، وهو في الغالب يكون مقابلا لمجلس السلطان، وربما يكون الكرسي في مكان مرتفع قليلا عن مجلس السلطان وعن مجالس الشعراء الآخرين الذين ينتظرون نَوْبتهم لإنشاد شعرهم.

ومما يدل على قيمة الإنشاد في العصر الأندلسي أن ابن جابر مَدَحَ الصلاح الصفدي بإجادة الإنشاد وربما تفضيله على الغناء فقال: 

إِنَّ البَرَاعَةَ لَفْظٌ أَنْتَ مَعْنَاهُ              وَكُلُّ شَيء بَدِيعٍ أَنْتَ مَعْنَاهُ 

إِنْشَادُ نَظْمِكَ أَشْهَى عِنْدَ سَامِعِهِ          مِنْ نَظْمِ غَيْرِكَ لَوْ إِسْحَاق غَنَّاهُ(2)

ومثل ذلك قصة الوزير لسان الدين ابن الخطيب لما بُعِثَ سفيرا إلى السلطان أبي عنان، فلما قَدِمَ عليه برفقةِ وزراء الأندلس وفقهائها استأذنه في إنشاد شعر يُقدّمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم: 

خليفةَ الله ساعَدَ القَدَرُ        عُلَاكَ مَا لَاحَ في الدجى قَمَرُ 

ودافعتْ عنك كَفُّ قُدْرَتِهِ       ما ليس يَسْطِيعُ دفعه البَشَرُ

وجهكَ في النائباتِ بدرُ دجًى      لنا وفي المحل كَفُّكَ الَمطَرُ 

والناس طُرًّا بأرض أندلسٍ       لولاك ما أوطَنوا ولا عمروا 

وجملةُ الأمر أنه وطن        في غير علياك ما له وَطَرُ 

ومن به مذ وصلتَ حبلهم      ما جحدوا نعمة ولا كفرُوا 

وقد أَهَمَّتْهُمُ بأنفسهم            فوجهوني إليك وانتظروا 

 فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأَذِنَ له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهِلَهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه. وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا»(3)، ويستفاد من القصة أمران اثنان هما:

أولهما: استمرار عادة الإنشاد عند الأندلسيين بين يدي الملوك قياما.

ثانيهما: تأثير الشعر في نفوس الخلفاء والملوك. 

على أنه وُجِدَ من الخلفاء من لا يعتد بالشعر اعتدادا مثل الخليفة المظفَّر بالله عبد الملك لأنه لم يكن ذا حظ في تذوق الأدب «والحق أن الشعراء من حيث الإنشاد كانوا في أيامه فريقين: فريق رسمه إنشاد الشعر بين يديه وفريق يرفع إليه القصائد ولا ينشدها وكلهم ينالُ من جوائزه»(4)، ولم يكن عبد الملك كأبيه المنصورِ بن أبي عامرٍ ولا مقاربا له بأي حال في تذوق الأدب وتقديره وتمييز جيده من رديئه ولذلك تميزت أشعار مادحيه بالفتور.

وقد كان زِيُّ الشعراء مما يعتدُّ به أيضا أثناء الإنشاد ففي «نفح الطيب» أن أبا الفضل بن شرف وَفَدَ على المعتصم من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته الفائقة [القصيدة]، فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسَدَهُ بعض من حضر وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم فقال له من أي البوادي أنت؟ قال: أنا من الشرف في الدرجة العالية وإن كانت البادية عَلَيَّ بادية ولا أنكر حالي ولا أُعْرَف بخالي فمات ابن أخت غانم خجلا وشمت به كل من حضر(5).

العصور المتأخرة:

لا شك أن للعصر الحديث مميزات تميزه عن غيره من العصور الأدبية وأهم تلك المميزات ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وأقدمها المذياع ثم التلفاز ثم ما تلاها من وسائل سمعية بصرية، وكلها وسائل أتاحت للشاعر تعدد إمكانيات إلقاء شعره سمعيا أو بصريا، بعد أن كان الشاعر قديما حبيس الإلقاء المباشر في سوق من الأسواق كما هو الحال في العصر الجاهلي أو أمام الخلفاء والملوك في العصور التالية.

وشعراء العصر الحديث يتفاوتون في درجة الإلقاء تفاوتا كبيرا فقد وُجِدَ منهم من يحسن الإلقاء ويجيده، ومنهم من يتولى غيره إلقاء شعره عنه لأسباب كثيرة.  

«وكان أحمد شوقي لا ينشد شعرَه بنفسه، فكان ينوب عنه في إنشاده بعض من يحسن الإنشاد مثل: كامل الشناوي، من رجال الآداب والصحافة، وكامل زيتون، من رجال التربية والتعليم»(6).

يقول إبراهيم أنيس: «ولم يكن «شوقي» رحمه الله ممن يحسنون الإنشاد، فكان يتخير لإنشاد شعره في المحافل من يجيدونه ويتقنونه ويأسرون الأفئدة بجمال الإنشاد مع جمال اللفظ والمعنى. أما «حافظ» فقد كان من خير الشعراء المحدثين إنشادا ولذا كان يؤثر إلقاء شعره في المحافل على نشره في الصحف. وما أنشد في حفل إلا بَزَّ أقرانَه من الشعراء وتملكَ قلوبَ السامعين بقوة صوته وحسن أدائه، وربما كان في الحفل من هم أجود منه لفظا ومعنى»(7). 

فلإلقاء الشعر سحر كبير وقد يكون له أثر في ترجيح شاعر على آخر، وسببا من أسباب شهرته، ومن ذلك ما في أخبار الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، يقول الدكتور إحسان عباس متحدثا عن بداياته الأولى: «ولو رددنا الأمور إلى أسبابها الحقيقية لوجدنا أن شعر «بدر» حينئذ لم يكن هو الذي يملك الإعجاب، وإنما هو ذلك التلاحم بين الإنسان والكلمات، تلاحما تضيع فيه الحدود بين الصوت والمعنى والملقي نفسه، ويغدو كل ذلك نبضات أو جيشانا من الدروع، أو حشرجات مختنقة في قبضة الكآبة والموت، وظلت طريقة بدر في الإلقاء على هذا اللون سواء أكان شعره هادرا أم خافتا، متحمسا أم باكيا، ولهذا عبر عنها من سمعوا إلقاءه، في فترات متفاوتة، تعبيرات متقاربة، فقال الأستاذ العبطة وهو يتحدث عن دور مبكر في وقفات بدر أمام مستمعيه «وأخذ يقرأ شعرا من أنماط شتى بأسلوب مؤثر وحركات غريبة، إذ كان يندمج في جو شعره اندماجا عجيبا ويؤشر إشارات تفصح عما في قلبه»(8). ويظهر من سياق النص قدرة الإلقاء على التأثير في الجمهور فضلا عن الشعر نفسه.  

وتقول الأديبة السيدة خالدة سعيد متحدثة عن إلقاء بدر في فترة متأخرة: « كان يقف على منبر الندوة اللبنانية بهيكله الواهي وعينيه الصغيرتين يصرخ بصوت غريب تموجه قشعريرة مرعبة، يتفجر من أبعاد قصية»(9)، وفي هذا القول إشارة لطيفة إلى هيئة السياب وهو ينشد شعره ألا وهي الوقوف وقد ذكرنا أن من عادة الشعراء العرب إلقاء شعرهم وقوفا.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- نفح الطيب 4/243- 244.

2- نفح الطيب 2/684.

3- نفح الطيب 5/98- 99.

4- تاريخ الأدب الأندلسي -عصر سيادة قرطبة- ص:62.

5- نفح الطيب 3/359. 

6- فن الإلقاء ص:201.

7- موسيقى الشعر ص:163.

8- بدر شاكر السياب حياته وشعره ص:33.

9- بدر شاكر السياب حياته وشعره ص:33.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق