مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

إلا الصوم فإنه لي

بسم الله الرحمن الرحيم

          وفاء بالعِدَة، وإبراء للذمة، أفرد مقال اليوم للموعود به قبل انقضاء المدة، وذلك وجه تخصيص الصوم بالإضافة إلى المولى سبحانه دون غيره من سائر القرب، وذلك في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي  هريرة رضي الله عنه قال:  سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:  « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصِّيَامَ هُوَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخِلْفَةُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ »[1].

            هذا الحديث من الأحاديث المجلية لفضيلة الصيام، المبرزة لمكانته بين صالح الأعمال، والمستوقف للناظر في الحديث؛ مستكنها العلل، و منقبا عن الأسرار، إجالة الفكر بحثا عن سر تميز  هذه الشعيرة بهذا الاختصاص؟ وما سر إضافتها إليه سبحانه دون غيرها من المبرات؟ فقال صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه: “كُلّ عَمَلِ ابنِ آدم لَهُ إلاّ الصيامُ فإنّهُ لي وأنا أجزي به”، وقد تعددت توجيهات العلماء في الفسر عن ذلك، وممن توسع في تتبع هذه العلل؛ ابن حجر رحمة الله عليه في الفتح، فأوصلها إلى عشر من المحامل، وعزاها إلى أصحابها، واستدرك وتعقب بعضها، وعضد واستشهد لبعضها، وأنا ناقل بحول الله هذه الأقاويل دون إطالة بالإيردات، أو تعرض لما أجيب به عن الاعتراضات، إلا ما فيه تمام إفادة بحول الله،  وللإشارة فإن  ابن حجر رحمة الله عليه ذكر أن غيره توسع فيها أكثر منه، ولعله أفرد ذلك في مصنف خاص، قال رحمه الله: “وقد بلغني أن بعض العلماء بلَّغها إلى أكثر من هذا؛ وهو الطالقاني في حظائر القدس له، ولم أقف عليه.[2]

   وهذا أوان الشروع في المقصود، قال رحمة الله عليه[3] : وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: “الصيامُ لي وأنا أَجْزي به”، مع أن الأعمال كلَّها له، وهو الذي يجزئ بها على أقوال.

         أحدها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، وعزاه للمازري، ونسبه القاضي عياض إلى أبي عبيد، ونقل نص كلامه فقال: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله، وهو الذي يجزئ بها، فنرى -والله أعلم- أنه إنما خص الصيام؛ لأنه ليس يظهر من بن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب…وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم، فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، قال القرطبي: ذلك أن  أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا، قال ابن حجر: أي في الصورة الظاهرة.. فلا يدخله الرياء بالفعل، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية.

          ثانيها: أن المراد بقوله: وأنا أجزي به أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس، قال القرطبي معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير،وهذا كقوله تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر:10] والصابرون: الصائمون في أكثر الأقوال، قال ابن حجر: وسبق إلى هذا أبو عبيد في غريبه، فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات.[4]

            ثالثها: معنى قوله: الصوم لي أي: إنه أحب العبادات إلي، والمقدم عندي، واستشهد له بحديث أبي أمامة المرفوع؛ “عليكَ بالصَّومِ فَإنَّهُ لا مِثلَ لهُ”، وفي رواية “لا عِدلَ لهُ”[5]،  لكن يعكر على هذا الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ” وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةِ.[6]

          رابعها: أن الإضافة فيه إضافة تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله، وإن كانت البيوت كلها لله، وناقة الله، والنوق كلها خليقته، وقد قال تعالى: “وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ” [البقرة:125]

          خامسها: أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب سبحانه، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، وقال القرطبي: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق.

         سادسها: أن المعنى كذلك لكن بالنسبة إلى الملائكة لأن ذلك من صفاتهم.

         سابعها أنه خالص لله وليس للعبد فيه حظ، بخلاف غيره، فإن له فيه حظا لثناء الناس عليه لعبادته، فالعبادات كلها تدخلها حظوظ النفس، ما خلا الصوم، فإنه مخالفة محضة لعوائد النفوس.

         ثامنها: سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك، واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات؛ فإنهم يتعبدون لها بالصيام.

        تاسعها: أن جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام، وأورد له حديث البيهقي بسنده إلى ابن عيينة قال: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة)، قال القرطبي: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكرت في حديث المقاصة، فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال، أي: التي يؤدى منها القصاص، وذلك في حديث المفلس المعروف.

             عاشرها: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال، وذلك أنه قربة ليست تظهر على الجوارح، فلا يتفطن له، ولا يعلم به الجليس إن لم يخبر به.

فهذه أوجه من العلل والأسرار، ويمكن أن يستزاد منها بإذكاء جذوة اقتباس الأنوار، ولعله إن جاد الزمان بكتاب الطالقاني فكشفت عنه الأستار، لتملينا بجناه اليانع الثمار.

           فالله نسأل الذي أتم علينا النعمة، فأدركنا شهر العدة، أن يتمم علينا الفضل و المنة، فيفرحنا بصومنا يوم التتويج والتوشية بالحلية، فتلك غاية المنية، فله مستتم الشكر  بدءا وختما، والحمد لله رب العالمين.

[1] رواه البخاري في صحيحه، كتاب اللباس، باب باب ما يذكر في المسك، رقم: 5583، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم:2760، واللفظ له.

[2] فتح الباري: 4/109.

[3] نفسه، ينظر 4/106-109

[4] أفردت لهذا الموضوع مقالا نشر على موقع الرابطة، بعنوان: “وجه تسمية الصيام بالسياحة، ومناسبة تخصيص أهل الصيام بباب الريان”.

[5] لفظ الحديث كما في صحيح ابن خزيمة، كتاب الصوم، باب فضل الصيام وأنه لا عدل له من الأعمال، رقم: 1893،  عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ، قَالَ: “عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ”. وهو بلفظه في صحيح ابن حبان ،كتاب الصوم، باب ذكر البيان بأن الصوم لا يعدله شيء من الطاعات، رقم:3426.وعند النسائي بلفظ : “لا مِثل له”، رقم:2219.

[6] رواه الحاكم في المستدرك، من حديث ثوبان، رقم:448.وأحمد في مسند ثوبان، رقم:22378.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق