وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

إشكال التقصيد الكلي بين النص والفقه والواقع

تثير مسألة التقصيد الكلي إشكالات علمية، وما يصاحبها من أسئلة مرتبطة بفقاهة الخطاب الشرعي في علاقته بمواقع الوجود الإنساني؛ لأن توجيه النظر إلى إحدى الجوانب الثلاث النص أو الوقع أو الفقه في البناء الكلي للشريعة تلزم عنه متعلقات معرفية، وآثار إدراكية في بناء النظر الفقهي لطبيعة الحياة التي يرغب في التأسيس لقصدية السعي فيها.

على هذا التقدير النظري الأصلي ترغب هذه الورقة تفكيك المسألة على نحو يبصر بالتداعيات العلمية المؤثرة والمنهجية الخطيرة التي تترتب عن كل زاوية من تلك الزوايا.

فتتأمل مسألة التقصيد الشرعي بمسالكه وأسسه المعتبرة، وتنظر في دعاوى التقصيد الفقهي بأسسه وتداعياته العلمية والمنهجية، وتبحث أنظار التقصيد الفكري بمبادئه وآثاره الفلسفية، رادة الإشكال إلى أصوله ومحررة النزاع في فصوله، ولنبدأ بالمقدمات التأسيسية.

أولا: مقدمات تأسيسية

مقدمة أولى

تستند هذه الورقة على مقدمة تعتبرها أساس بعض الأطاريح الداعية إلى مراجعة الخطاب المقاصدي، على شاكلة النظر في التقصيد الكلي ومعاودة البحث في مسالكه وطرقه، ومفادها: أن عدم امتلاك القدرة العلمية والمنهجية في تشغيل المقاصد بكلياتها وجزئياتها، وفقدان البوصلة في تنزيلها في الواقع التكليفي، انتهي بتلك الأطاريح إلى الدعوة إلى معاودة النظر في مسالك تقصيدها وطرق إثباتها، فظهرت دعوى التقصيد الفقهي التي تعتبر أن المقاصد الكلية على وجه التخصيص؛ إنما تم تأسيسها بناء على استقراء الأحكام الفقهية وتتبع الفروع الجزئية من المظان الفقهية، دون التماس أصولها من المعين القرآني، ثم تفتقت عنها دعوى أخرى وإن سلكت مسلكا مغايرا، تدعو فيه إلى ضرورة اعتبار بعض المقاصد الكلية التي يشهد حضورها وتأكيدها الواقع الإنساني بالنظر إلى الحاجة والضرورة إليها.

 لكن السؤال الذي تواجه به تلك الدعاوى له حدين:

أولاهما؛ متعلق بماهية الحدود المنهجية والأصول العلمية الداعمة لتك الدعاوى، وهل تقوى على الثبات في وجه دعوى التقصيد الشرعي كما سيتبين؟

وثانيهما؛ مرتبط بمدى صحة مداخل مراجعة النظر في مسألة التقصيد الكلي المفترضة في تطوير النظر المقاصدي، وربطه بمواقع الوجود البشري، أم أن الأمر لا يعدو تحريرا لمحل لا يمثل مظنة الإشكال؟

مقدمة ثانية

إن للتقصيد الشرعي مسالك دقيقة يتطلب الكشف عنها فقها عميقا بقواعد الخطاب الشرعي وواستيعابا واسعا للمعاني المبثوثة في تفاصيل الشريعة، سواء في المسائل الجزئية والخاصة أو القضايا الكلية العامة، وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي بيان ذلك في أواخر كتاب المقاصد من الموافقات، إلا أن البحث في هذه المسالك ما يزال في حاجة إلى مزيد من التحقيق والنظر حتى تكتمل أسسه وقواعده ومسالكه.

وإن تتبع المسلك الأصولي في التقصيد الكلي كما رسمته أنظار الأصوليين سيكشف عن أمرين اثنين:

الأول؛ وضع الخطوط المنهجية القويمة التي يلزم اعتبارها في بحث إشكال التقصيد الكلي وما نتج عنه.

الثاني؛ وزن كل الدعاوى والأفهام الناظرة في مسألة التقصيد الكلي عند الأصوليين، إما مدعية استنادهم  إلى غير ما استندوا اليه، أو موجهة الفكر توجيها ليست تفضي إليه مستنداتهم.

 مقدمة ثالثة

لقد اجتهد علماء الأصول، رحمهم الله، وعلى رأسهم الإمام الشاطبي في رسم الخطوط الشرعية والحدود المنهجية في بيان التقصيد الشرعي للكليات الضرورية في إقامة الحياة الإنسانية، وفي محاولة استخلاص المقاصد العامة التي يهدف الشارع إلى حفظها واعتبارها، سواء على وجه الضرورة أو الحاجة أو الكمال.

وهذا من شأنه، إثارة استفسارات حول بعض الأطروحات المعاصرة الداعية إلى إقحام كليات أخرى جديدة، وإدخالها ضمن تلك المعتبرة، كما ستيسر عملية الاشتغال على نخل تلك الدعاوى لمعرفة القائم منها على تلك الأصول من الواقف على شفا أصل هار.

ثانيا: تقريب مفاهيمي

1. في مفهوم القصد

القصد لغةً؛ من قصد يقصد قصداً ومقصداً، والقصد استقامة الطريق، ومنه قوله تعالى. ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ (النحل: 9)، قال فيها القرطبي: “استقامة الطريق، يقال: قاصد؛ أي يؤدي إلى المطلوب، ومنها جائر؛ أي ومن السبيل جائر؛ أي عادل عن الحق فلا يهتدى به[1]“، وقال صاحب زاد المسير: “القصد: استقامة الطريق، يقال طريق قصد وقاصد: إذا قصد بك ما تريد، قال الزجاج: المعنى: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبرهان[2].”

ويعني، أيضاً، الاعتدال والوسطية، ومنه قوله تعالى: ﴿واقصد في مشيك﴾ (لقمان: 19) قال القرطبي: “أي توسط: فيه، والقصد: مابين الإسراع والبطء؛ أي لاتدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار[3]“، وقال ابن كثير: “أي: امش مقتصداً مشياً؛ ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين[4].”

والأم والقصد: الهدف والغاية المراد الوصول إليها[5].

والمقصود: اسم مفعول؛ أي الذي عني بالقصد، ومن التوابع اللفظية في جانب الصيغة لفعل قصد هناك تقصيد، وهو على وزن تفعيل، كتأصيل دلالة على إلحاق المعنى المقصود بالمتكلم، سواء من جانب الصحة أو من جانب الخطأ.

القصد: مفرد قصود، ومقصد: مفرد مقاصد، وهو مصدر ميمي قد يعبر عن اسم مكان على سبيل المجاز.

واصطلاحاً: فقد أورده الشاطبي في نصوصه لإرادة محل القصد على سبيل التعيين والتحديد، كقوله مثلاً: “ومن ذلك أن المقصد الأول إذا تحراه المكلف يتضمن القصد إلى كل ما قصده الشارع في العمل، من حصول مصلحة أو درء مفسدة، فإن العامل به إنما قصده تلبية أمر الشارع إما بعد فهم ما قصد، وإما لمجرد امتثال الأمر، وعلى كل تقدير فهو قاصد ما قصده الشارع[6].”

ولم يرد عند أبي إسحاق جمع قصد بصيغة فعول أي قصود، وإنما أوردها على صيغة مفاعل؛ أي مقاصد، الشيء الذي يفسر تلاشي الفروق الدقيقة الاستعمالية بين لفظي القصد والمقصد عنده، يقول: “وإذا ثبت أن قصد الشارع أعم المقاصد وأولها وأولاها، وأنه نور صرف لا يشوبه غرض ولا حظ، كان المتلقي له على هذا الوجه آخذاً له زكياً وافياً كاملاً غير مشوب ولا قاصر عن مراد الشارع[7].”

أما عند غير الشاطبي فنقف على لفظ قصود، مثال ذلك ابن قيم الجوزية في إعلامه حيث قال: “فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ المقصودة لغيرها، ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها..[8]“، وبحسب الاعتبار الجمعي لا وجه فرق بين قصد ومقصد فيما يفهم من كلامه.

ومن ذلك أيضاً ما أورده العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى، في النوع الخامس والعشرين من حقوق الله المتعلقة بالقلوب؛ إذ قال: “القصود والنيات والعزوم على الطاعات فيما يستقيل من الأوقات.. فإذا حضرت العبادات وجبت فيها القصود إلى اكتسابها والنية بالتقرب بها إلى رب السماوات[9].” وقال في قواعده الصغرى: خصص الفصل السادس والسبعين لأعمال القلوب: كالمعارف، والأحوال، والنيات، والقصود[10]. وقد ذكر مصطلح القصود، أيضاً، الإمام المازري في إيضاحه قائلاً: “تقرر عند العقلاء اختلاف مواقع الأفعال في القصود، وكذلك يختلف عندهم أحكام الأوامر والنواهي في القصود[11].”

أما المقصود فلا يختلف كثيراً عن معنى القصد والمقصد على اصطلاح الشاطبي؛ إذ معظم السياقات التي ورد فيها لا يتغير معناها باستبدال بعضها بالآخر، ومن ذلك قوله: “دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع، وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة[12]“، وقال أيضاً: “وهكذا العبادات، فإن المقصد الأصلي فيها التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه على كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك، فإن هذه التوابع مؤكدة للمقصود الأول، وباعثة عليه، ومقتضية للدوام فيه سراً وجهراً[13].”

2. في مفهوم التقصيد

التقصيد على وزن تفعيل وأصله من قصَّد؛ أي أراد معرفة القصد من الكلام، أو هو نسبة ما يفهمه المتلقي من مقصود كلام إلى المتكلم، فهو إلحاق المفهوم من الكلام والمقصود من المعاني بالصادر عنه الكلام.

ولم يستعمل أحد من العلماء الأصوليين مصطلح التقصيد، وذلك أمر جاري الورود والتوقع بالنظر إلى النضج المتأخر لاستخدام مصطلح مقصد ومقاصد بالمعنى الاصطلاحي، لكن المصطلح أورده فقط الإمام الشاطبي، وإن كان ذلك إلا مرة واحدة، وذكره في سياق إلحاق المعنى المقصود بالشارع، من جانب الاحتمال والخطأ في بيان ما أراده الله تعالى، وهذا لايليق بمن ينظر في كلامه، سبحانه، بدون دليل أو شاهد حق؛ لأن ذلك مدخل إلى الرأي المذموم، يقول أبو إسحاق: “أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم، القرآن كلام الله، فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى: من أين قلت عني هذا، فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد[14].”

3. في مفهوم المقاصد

اصطلاحاً: لم يتعرض العلماء السابقون لتعريف المقاصد، وإن بحثوها وتناولوها بالدراسة والتحليل[15]، وربما يرجع ذلك إلى تعارفهم على معناها تداولاً بينهم.

وقد نصادف في كتاباتهم بعض الإشارات الموحية إلى معنى المقاصد في ارتباطها بالمصالح، مثل قول الغزالي: “مقصود الشارع من الخلق خمسة: هو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما تضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة[16].” وذكر الآمدي أن المقصود من تشريع الحكم: إما جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، أو مجموع الأمرين[17].

والإمام الشاطبي، شيخ المقاصد نفسه، الذي أفرد لها كتاباً خاصاً ضمن موافقاته، لم يضع لها تعريفاً محدداً، موجزاً إلا ما كان من تعريفه للمصالح؛ لارتباطها بها[18].

وفي الآونة الأخيرة، لما بدأت أهمية الموضوع تبرز في الدراسات العلمية الفقهية والأصولية، ظهرت معها تعريفات للمقاصد.

فحددها الإمام الطاهر بن عاشور بقوله: “مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا، أيضاً، معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الحكم، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة[19].”

أما علال الفاسي فقال: مقاصد الشريعة هي “الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها[20].”

ويقسم يوسف العالم المقاصد إلى قسمين: “مقاصد الخالق من الخلق، ومقاصده من التشريع، أما مقاصده من الخلق فتنحصر في أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والاِنس إِلاَّ ليعبدون﴾ (الذاريات: 56).

والثاني؛ مقاصد الشارع من التشريع، ويعني به الغاية التي يرمي إليها التشريع، والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام.»[21]

ومن المعاصرين المهتمين بعلم المقاصد، عرفها أحمد الريسوني بأنها “الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[22].”

وقد اختار عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني أن يعرفها بـ: “المعاني التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه[23].”

وعلى الجملة فالمقاصد الشرعية هي الغايات والمعاني التي يهدف الشارع إلى تحقيقها من تشريع الأحكام لمصلحة الإنسان.

 وانطلاقاً من هذه التعريفات والتحديدات المختلفة، يمكن أن نستخلص الملاحظات الآتية:

 أ. أن المقاصد تطلق على المعاني والحكم والأسرار التي أودعها الشارع في أحكام شريعته.

 ب. أن المقاصد قد تعني الالتفات إلى الغايات الكبرى التي جاءت من أجلها الشريعة.

 ج. أن المقاصد يقصد بها، أيضاً، المصالح الكبرى التي يهدف الشارع لحفظها، ودرج علماء الأصول على وصفها بالكليات، أي: الضروريات الخمس.

 د. أن المقاصد الشرعية أنواع:

ـ مقاصد غائية كبرى: وهي التوحيد والعبودية لله تعالى.

ـ مقاصد عامة كلية: وهي المعروفة بالكليات الخمس.

ـ مقاصد خاصة: وهي المقاصد الخاصة بكل باب من أبواب الفقه.

ـ مقاصد فرعية جزئية: وهي الأسرار والحكم الموضوعة في كل حكم من أحكام الشريعة، أو ما يسمى بالعلل.

على هذا التنوع في مفهوم المقاصد الشرعية، سأحقق النظر في مسألة المقاصد الضرورية العامة، وكيف نظر إلى إثباتها العلماء المشتغلين على النصوص الشرعية، والمفكرين المتأملين في التراث الفقهي والباحثين في التغيير الاجتماعي والواقعي؟ وذلك من خلال إجراء مقاربة علمية منهجية بين تلك الانظار المختلفة في مسألة التقصيد الكلي.

ثالثا: في دعوى التقصيد الفقهي

المراد بالتقصيد الفقهي هو “نسبة الاعتبار القصدي للكليات الضرورية إلى النظر الفقهي الذي تركه الفقهاء وإلحاق تحديدها إلى أفهامهم باستقراء تراثهم الفقهي”. ما يعني أن تحديد الكليات وفق هذا التقصيد راجع إلى استقراء التراث الفقهي الذي خلفه الفقهاء، بناء على فهوماتهم الفقهية لا إلى النصوص الشرعية وتتبع نصوصها بالأصالة؛ أي أن الكليات الضرورية مقصودة فقها اجتهاديا وتراثا علميا، لا استقراء نصيا أو ورودا شرعيا.

1. في فحوى الدعوى

يذهب عدد من الباحثين في الفكر الأصولي والمقاصدي إلى أن الكليات الضرروية المقصدية المعروفة قد تم النظر في تأسيسها بناء على النظر الفقهي، واستقراء الفروع الفقهية للمذاهب الفقهية، ومن هؤلاء نجد حسن محمد جابر في كتابه “المقاصد الكلية والاجتهاد المعاصر، تأسيس منهجي وقرآني لآليات الاستنباط” الذي أخذ على الشاطبي اختياره المنهجي في التأسيس لكليات من خلال البحث المضني في الفقه ومتراكماته، بدل البحث والنظر في المجال الأكثر خصوبة؛ أي المعنى القرآني، يقول جابر: “كان في وسع الشاطبي أن يختار طريقا آخر لرسم صورة المقاصد الكلية في نظرنا أقصر الطرق إلى الهدف وذلك بأن يباشر الفحص والتقصي في الحقل الأكثر خصوبة؛ أي في دائرة المعنى القرآني، بدلا من هذا البحث المضني في الفقه ومتراكماته، وكان في مقدوره أن يكتشف منظومة أسمى وأرفع من مقاصده الخمس، التي لم تكن غير تطبيقات وتفاصيل لمقاصد أعلى منها وأشمل، غير أن الفضاء الفكري لم يكن ليسمح بأكثر مما قدمه فقهاء المقاصد على امتداد قرنين، وهو أمر طبيعي وواقعي، أما غير الطبيعي فهو توقف العقل الفقهي عند الشاطبي وعدم المبادرة إلى نقده أو نقضه، وبالتالي عدم تحريك البحث نحو أفق المزيد من المعاصرة[24].”

يتضح، إذن، من خلال هذا النص لمحمد جابر أن التقصيد الضروري للكيات المعروفة، إنما ثبت لدى الشاطبي بناء على استقراء التراث الفقهي والانتاج الفروعي، ولم يكن انطلاقا من النصوص الأولى والمصادر الأصلية للفقه والاجتهاد المشخصة في النصوص القرآنية.

فإلى أي حد يعتبر هذا النظر صحيحا، وما أساسه العلمي وما هي آثاره العلمية والمنهجية؟ ذلك ما نرغب في بيانه مستصحبين في ذلك سلامة و صحة القصد من تلك النقود والمراجعات.

2. في أساس الدعوى

نحسب أن الأساس العلمي من الدعوى هو المراجعة النقدية وتطوير النظر المقاصدي حتى يواكب الحضور الإنساني المعاصر، ثم ضرورة الانتقال من مرحلة الشاطبي المبدعة لتلك المسالك والقيم المعرفية إلى مرحلة أخرى، تفرض مسالك مغايرة وحقول أخرى، غير التي اشتعل عليها الشاطبي وأسلافه في البحث المقاصدي.

ولم يتوقف نقد حسن جابر لاختيار الشاطبي عند ذلك الحد، بل تجاوز إلى اعتقاده أن أبا إسحاق طغى عليه الوهم في ذلك المذهب؛ أي التقصيد الفقهي بقوله: “لقد توهم الشاطبي أن بإمكانه إدراك المقاصد الكلية للشرع من الفقه، فقام بعملية استقراء لمختلف أبواب هذا العلم، وخرج باستخلاصات هي في الحقيقة والواقع، بحجم المتاح يوم ذاك، فالنتيجة كما يقول المناطقة، تتبع أخص المقدمات[25].”

وهو بذلك النقد لا يقصد تبخيس حق الشاطبي، وهو صاحب الفتح العلمي الكبير لنظرية المقاصد وكلياتها العلمية “ونحن إذ نستعمل منظار النقد في قراءتنا للشاطبي، فلا نقصد بخس الناس أشياءهم، فخطوة صاحب المقاصد كانت تعد في عصرها فتحا علميا جليلا، وهي لجدتها نجحت في فرض هيبتها على الحركة العلمية لقرون ونكاد نجزم أن سطوتها لم تغادر مختلف الأجيال المتعاقبة إلى اليوم لكننا في الوقت عينه لا ينبغي الاستسلام لهذه السطوة[26].”

ما يعني أن الرجل؛ (أي جابر) يراجع المسلك العلمي والمنهجي لأبي إسحاق عن ثقة علمية واستقراء بحثي ودراسي لأطروحة الشاطبي؛ في إنتاجاته سواء الموافقات أو الاعتصام على وجه الخصوص؛ لأنه قد أرسل أحكاما قيمية مطلقة وتقارير أضفى عليها تسليما في الموضوع.

 وإلى جانب محمد حسن جابر هناك عدد من الباحثين والدارسين المتبنين لهذا المذهب النظري، فقد ذكر جاسر عودة في كتابه “مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع الاسلامي” أن من أهم تجليات تطور النظريات الإسلامية في المقاصد عبر القرون، وخاصة القرن العشرين انتقادها التصنيف التقليدي للضروريات، وذلك لعدد من الأسباب من أهمها أنه: “جرى استنباط المقاصد من التراث الفقهي الذي وضعه الفقهاء، وليس من النصوص الأصلية من كتاب وسنة، فحينما نطالع بحوث المقاصد التقليدية نجد أن مراجعها هي دوما أحكام الفقه الإسلامي التي توصلت إليها مختلف مذاهب الفقه، ولا نجد فيها آيات القرآن الكريم أساسا لاستنباط المقاصد، وهو فارق له أثر كبير ومعتبر[27].”

وإن لم يذكر جاسر بعض الدارسين الذاهبين إلى ذلك المذهب بالتفصيل، فإنه أثبت على هامش التفصيل أنه قد استفاد في البناء النقدي للنظرية المقاصدية من محاورة مع حسن الترابي.

3. في آثار الدعوى

إن التسليم بمقدمات دعوى مرجعية التراث الفقهي وخلفيته الفروعية في التأسيس للكليات المقاصدية، واعتبار ضروريتها، كما تواتر حضورها ضمن النصوص الأصولية والتراث الأصولي، سيفضي منهجيا إلى القبول بنتائج علمية يمكن إجمالها في ثلاث:

أ. اجتهادية المقاصد

لا يستقيم الجدل حول غياب ورود نصوص قطعية في الاستدال على قطعية الكليات الضرورية حتى ننفي عنها مسلكية الاجتهاد في التأصيل، وطرقية البحث في التقعيد، إنما لابد من التفريق في المسألة بين أمرين اثنين:

بين الاجتهاد الأصولي الذي تواضع على صحة نتائجه الأصوليون، واستثمروا نتائجه على طول التاريخ العلمي، وإن لم يفصحوا عنه في كثير من الأحيان، فأضحت مسائله من قبيل المتفق عليها إجماعا، وبين الاجتهاد الأصولي الذي استفرغ فيه الأصوليون وسعهم الفردي، وتعرض لمحك الدرس بين قابل ومتحفظ على نتائجه وتقاريره، ولعل مسألة الكليات الضرورية من القبيل الأول وليس الثاني، كما سيتم بيان ذلك في المباحث الموالية، ومن الخطأ حشره ضمن الصنف الثاني بناء على مقدمات الدعوى المذكورة؛ لأن التخريج الأصولي للمسألة لا يرتبط بالفروع الفقهية التي خلفتها اجتهادات العلماء، بقدر ما هي نتاج اجتهاد أصولي استقرائي تضافرت نصوص كثيرة على كليته، وان لم يرد نص قطعي وبات فيها.

ب. ظنية المقاصد

بين هذا الأثر وسابقه رابط دقيق، باعتبار أن الاجتهاد متعين في ما ليس بنص قطعي، ويتبدى مورده عند الأصوليين في القضايا الظنية، ولعل القول بالتقصيد الفقهي للكليات الناشئ عن المسائل الفروعية المنبينة على الظنون، كما يقول الفقهاء، فيه حسم للمسألة قبل بحثها ودرسها أصوليا، لذلك فإننا لا نسلم بصحة هذه الدعوى إذا أريد بها تقصيد من هذا الجانب. ونحن نقول في هذا الاشكال المتعلق بالظني والقطعي بناء على المسالك المعتبرة عند الأصوليين وعلى رأسهم الشاطبي في التقصيد الكلي لتلك الضروريات فقد حصل الظن الغالب المفضي إلى القطع بها كما سيظهر ذلك.

ج. تاريخية المقاصد

إن القول بالتقصيد الفقهي للكليات الضرورية من شأنه اعتبار تلك الكليات تاريخية، وإدخالها في باب المتغيرات التي تخضع للمرحلة التاريخية وضروراتها وأولوياتها؛ لأن التأكيد على استنباطها واستقرائها من الأنظار الفقهية للفقهاء، والفقه متغير ومتبدل حسب الحالات والتاريخ، يلزم منه ما يلزم من ذلك الارتباط بين التراث الفقهي وكلياته ومقاصده، وهي النتيجة الأثرية التي أشار إليه حسن جابر بقوله: “فقد أدت نظرية الشاطبي وظيفتها يوم ذاك، وحالت دون سيادة فقه الحيل والمخارج، وقامت بعمليات ضبط دقيقة لحالات التفلت والخروج، لكنها لم تعد صالحة لتقديم حلول لمشكلاتنا المعاصرة بل باتت المسافة بين أسئلتنا وإجاباتها بعيدة وعصية على الطوي[28].”

وهذا يليق ويجوز علميا على افتراض صحة ذلك المذهب النظري، مالم يعاكس في علميته ما أثر من التخريج العلمي والمنهجي عند الأصوليين لتلك الكليات الضرورية المقصودة شرعا.

4. في الرد على الدعوى

إن القراءة المتأنية والواعية للنصوص الشاطبية المتمركزة حول التقصيد الكلي والضروري للمقاصد الشرعية لا تدع مجالا للشك في التصديق بأربعة أمور، إحداها منهجي وثانيهما علمي وثالثها تاريخي ورابعها منطقي:

أما الأول المنهجي؛ فإن أبا اسحاق لم يجعل الفضاء الفقهي والمجال الفروعي مناط ذلك التقصيد ومظنته إطلاقا، بالقصد التأصيلي والتأسيسي، عكس ما ذهب اليه حسن جابر ومن سار على نفس المذهب، بل إننا بالرجوع إلى موافقاته واعتصامه على وجه الخصوص سيلحظ ذلك التأصيل الطافح بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المؤصلة لتك الكليات، وعادة ما نجده يمهد استدلالاته التأصيلية بقوله: والدليل على ذلك الاستقراء…ثم يبدأ في سرد النصوص الشرعية سواء قرآنية أو حديثية، لينتقل بعد ذلك إلى تزكية استنتاجاته النصية الشرعية  بأقوال الفققهاء وما أدى إليه اجتهادهم.

وثانيها العلمي؛ أن ورود استثمار الفقه من قبل الشاطبي في مسألة التقصيد إنما تحرر بالقصد التبعي والبناء التكميلي؛ أي أن استدعاء الفقه في التأصيل ورد على سبيل التزكية للتأصيل القرآني على وجه الضرورة؛ لأن الفقه يمثل التطبيق العملي لتمثلات الكليات الضرورية في حياة الناس، فكان من الطبيعي أن تترجم وجوبا تلك المقاصد الضرورية بحفظها من الجانبين الوجود والعدم على حياة المجتمع. لذلك فإن استثمار التراث الفقهي قائم ووارد، على أن الاستعانة بالرصيد الاجتهادي التاريخي إنما من قبيل الاستدلال على التأصيل القرآني الأول وليس تأصيلا للاستدلال، وبينهما فرق دقيق لابد من التنبه إليه، وهذا ليس بغريب على منهجيات الاستدلال المعتمدة لدى فقيه غرناطة لمن أنعم النظر في مداركه.

وثالثها التاريخي؛ فهو من وجهين:

ـ الأول؛ أن مسألة التقصيد الكلي للضروريات سبق بها الشاطبي من قبل علماء كثر، واختلف التعابير والصيغ الدالة على نفس المعنى كالمحاسبي والجويني والغزالي والقرافي والعز بن عبد السلام واللآمدي وغيرهم كثير… ظاهر ذلك بالقراءة والبيان لمن استقرأ موارد العلماء في مظانها الأصولية.

ـ الثاني؛ أن المسألة كما أشار إلى ذلك الشاطبي وغيره ممن تقدموه كثير، أن الكليات الضرورية المقصودة شرعا مراعاة في كل ملة، وأنه لا تخلو ملة من الملل من الدعوة إلى الحفاظ عليها والعناية بها، وفي ذلك يقول الشاطبي: “وبهذا يظهر أن المقصود الأعظم من المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها، وهو قسم الضروريات، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في أصول الدين، وقواعد الشريعة كليات الملة[29]“؛ أي أن تلك الكليات إنسانية معروفة متفق عليها لدى الناس جميعا، وإن لم نعرف حقيقة السبل والمسالك التي استند اليها الأصوليون في توتير هذه المسألة. وعليه فإنه من هذا الوجه لا تحتاج إلى الرصيد الفقهي الإسلامي فحسب حتى يتبين أنها المقصودة كليا.

وإني لأعجب أن القراءات الفكرية أحيانا تبرح بنا مساحات التأمل العلمي الحقيقي المؤصل الى الانطباعت الذوقية، والأحكام المتسرعة التي تنتهي إلى أخطاء لا يستقيم وزنها العلمي، وقد تغير في كثير من القناعات إذا لم تبحث من جديد ويعاد فيها النظر. وهذا الذي نبهنا عليه في أكثر من مناسبة[30] بالاحتياط من نتائج ما وصلت اليه القراءات الفكرية للإشكالات العلمية المحتاجة إلى تأصيل علمي ودقيق، والتي قد أساءت كثيرا الى التجربة التاريخية لعلمائنا فكانت القراءات متجنية أحيانا وظالمة أحيانا أخرى أو غير منصفة في أحسن الأحوال.

وأما المنطقي: فإن حصيلة الاجتهادات الفقهية المستنبطة من قبل الفقهاء؛ أي ما يسمى بالمدونات الفقهية هي نتاج علاقة إعمال النظر العقلي مع النصوص الشرعية، وإن التأصيل الشرعي للكليات واستنباط المقاصد الضرورية من النصوص الشرعية؛ كما سيظهر مع أبي إسحاق سيترجم منطقيا ولا محالة ضمن الأنظار الفقهية، وإلحاقنا التقصيد الكلي بالفقه لا يليق، بل الأسلم إلحاقه بالنصوص المرجعية الأولى؛ أي الشرعية من قرآن وحديث، ومهما تصرفنا بالدعوى المائلة إلى التقصيد الفقهي وعدلنا عنها إلى التقصيد القرآني كما تدعو إلى ذلك، فإن الحصيلة الفقهية المنتجة ستلحقها الدعوى نفسها بالنظر الى الوثاقة الدقيقة والغليضة بين النص والفقه، وهذا دور كما يقول المناطقة، ثم لأن ما هو ناتج عنه لسنا في حاجة إليه في مسألتنا العلمية.

بناء على ما سبق؛ لابد للقائلين بدعوى التقصيد الفقهي للضروريات الإفصاح عن الأسس المعتمد عليها في تلك الدعوى، بمعنى؛ كيف تم الخلوص إلى تلك النتيجة الدعوى؟ وما هي الحقول المعرفية التي استندوا إليها في البحث بدل التعبير عن انطباعات فكرية أو تأملات نظرية اسفرت عن نتائج لم تعرف مقدامتها المنهجية، أو لم تستقم ممهداتها العلمية؟

وسوف تكون لنا عودة للموضوع بتفصيل في بيان المسالك الأصولية والعلمية التي سلكها الشاطبي خصوصا في التقصيد الشرعي للكليات الضرورية، دفعا لأي تقول أو دعوى لا تقوى على الاستمرار في المنافحة عن نفسها مع ذلك الكشف. ثم لأن الشاطبي أجدر بالجواب عن ذلك الإشكال، فلنترك الجواب له بعد حين.

رابعا: في دعوى التقصيد الواقعي

أقصد بالتقصيد الواقعي استنطاق النصوص الشرعية لتحديد الكليات المقاصدية الكبرى بناء على الحاجات الواقعية التي يعشها الإنسان، ويشعر بمسيس الحاجة اليها وفق المتغيرات الواقعية، بمعنى آخر؛ منح الأولوية المنهجية والأسبقية العلمية لتأثيرات الواقع في توجيه الكليات المقاصدية الضرورية.

ما يعني أن تحديد الكليات وفق هذا التقصيد راجع الى استقراء الواقع المعيش الذي يحياه الإنسان من حيث المبتدإ، لا إلى النصوص الشرعية وتتبع نصوصها بالأصالة؛ أي أن الكليات الضرورية مقصودة واقعا وحياة لا نصا وشرعا.

1. في فحوى الدعوى

بعض الأطروحات الداعية إلى نهج التقصيد الواقعي تبناها كل من: نصر حامد أبو زيد الذي رأى ضرورة اخضاع الكليات الضرورية الخمس إلى المبادئ الكلية الثلاثة الحرية العقل ثم العدل.

ثم رؤية محمد عابد الجابري الذي رأى  إعادة صياغته الكليات الضرورية وفق ترتيب خاص وجديد مع اعتبار كلية الدين في آخر سلم تلك الكليات[31].

ونجد أيضا وجهة نظر أحمد الخمليشي القاضية بإدماج مقصد العدل مقصدا ضروريا ضمن الكليات، إضافة الى تأملات أخرى منها ما أضافت الوحدة ومنها ما أقحمت الأمة وغير ذلك من المفردات الاجتماعية أو الحقوقية أو السياسية اللصيقة بواقع الإنسان المعاصر.

ونجد أخيرا رؤية جاسر عودة في كتابه الأخير مقاصد الشريعة كفلسفة للتشريع السلامي حيث اعتبر معيارالتنمية البشرية تعبيرا رئيسيا في زماننا عما يسمى في الفقه بالمصلحة العامة، وهي المصلحة التي يجب أن تسعه مقاصد الشريعة لتحقيقها من خلال أحكام الشريعة الاسلامية، وتحقيق هذا المقصد يمكن قياسه امبريقيا؛ أي علميا مبنيا على التجربة والملاحظة من خلال أهداف التنمية البشرية التي تحددها الأمم المتحدة وغيرها من المقاييس العلمية السائدة[32].”

نتساءل حول ما تم تصوره من تلك الرؤى:

 فهل الخطاب التأويلي المعاصر للنص الشرعي و الداعي إلى  إخضاع الكليات الخمس الضرورية للمبادئ “الكلية” الثلاثةِ: الحرية، والعقل، ثم العدل، تمت صياغتها في هذا الاعتبار بمسالك شرعية متواضع عليها، ووفق أصول استدلالية ملتزم بها، كما جاء في بعض الكتابات الفكرية وعلى رأسها، “الخطاب والتأويل” لنصر حامد أبو زيد، حيث يقول: “إن هذه المبادئ الثلاثة: العقل، الحرية، العدل، تمثل منظومة من المفاهيم المتماسكة المترابطة من جهة، وهي تستوعب المقاصد الكلية الخمسة التي استنبطها علماء أصول الفقه من جهة أخرى، إن الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال، تبدو مبادئ جزئية بالنسبة للمبادئ الثلاثة الكلية، ويمكن بالتالي أن تندرج فيه…[33].”

والأمر نفسه مع القراءة الفكرية الفلسفية للنصوص الشرعية، وخاصة عند المرحوم محمد عابد الجابري نقول هل ما تمت إعادة صياغته وفق ترتيب خاص لمستويات الضروريات الخمس، واعتبار كلية الدين في آخر سلمها تلك الكليات[34]، يتناسب مع فقه الخطاب الشرعي عند علماء الأصول والفقه كما تم عبر نظرهم العلمي ومسلكهم الشرعي؟

 كما تحضرنا في هذا الصدد أطروحات أخرى تدعو على إقحام مقاصد أخرى جديدة ضمن الكليات على سبيل الاعتبار التسلسلي، محكوم بعلاقة التصاعد والإرتقاء، كإدراج “ضرورة الوحدة[35]” ضمن هذه السلسلة، فهل ذلك التصور يفي بالمنهج العلمي المرسوم أصوليا وفقهيا في ذلك الاعتبار؟

ثم ماهي إمكانات اعتبار قيمتي حرية التعبير وحقوق الإنسان ضمن الكليات المقاصدية الكبرى المعتبرة، كما اقترح ذلك المرحوم عابد الجابري في كتابه: الدين والدولة وتطبيق الشريعة؟[36].

 وإلى أي مدى يمكن قبول مسألة العدل وإدراجها ضمن الكليات الضرورية كما اقترح ذلك  الدكتور أحمد الخمليشي في كتابه وجهة نظر؟ وهو يتساءل: “أليس هناك ما هو أنسب لإضفاء صفة مقاصد الشريعة عليه؟[37]“، وهل ما تم اقتراحه من وجهة نظر الأنسبية قد مر عبر مسالك منهجية مفضية إلى القطع، وتم ضبطه بأدلة شرعية إما نصية يفيد كليته القطعية، أو استقرائية لكل الجزئيات النصية القاصدة لتلك “ضرورة العدل”؟

2. في أساس الدعوى

لا تعدو مستندات دعوى التقصيد الواقعي أن تخرج عن أسس ثلاث متداخلة فيما بينها:

أما الأول؛ فقائم على المتغيرات الواقعية وما تفرزه من قيم جديدة تفرض على العقل المقاصدي العناية بها وحفظها في الواقع المعيش.

والثاني؛ أن تلك المقاصد المدعو إليها لها مستندات شرعية قرآنية دعت النصوص الشرعية إلى احترامها وتمثلها في الحياة الانسانية لعظيم أهميتها وكبير قيمتها.

والثالث؛ أن التفريط في عدد من القيم المقصدية الواجب رعايتها وحفظها سيؤثر على استمرارية الحياة السليمة، وستعيش المجتمعات الإنسانية اضطرابات مؤثرة على مسارها الإنساني والإجتماعي.

3. في آثار الدعوى

إن التسليم بمقدمات دعوى الخلفية الواقعية وسلطاتها الاجتماعية في التقعيد للكليات المقاصدية واعتبار ضروريتها، سينتج عن ذلك لزوما التسليم بخصائص تطبع تلك الكليات منها:

أ. تغير المقاصد

إن الركون إلى الواقع المتغير والمتبدل في تحديد الكليات الضرورية ضرب من التقصيد المنافي للاعتبارت الواجب مراعاتها في المقاصد الكلية، كاعتبار الثبات الموافق للصبغة الكلية، ثم إن ذلك التقصيد لا يستوي سوقه في بناء نظام كلي يحفظ للإنسان أصوله الأساسية حسب ما جاء في المفردات الأصولية لتلك الكليات، من نفس ونسل وعقل… بل يلجا إلى الاعتبارات المتغيرة وإن ثبت اعتبارها القصدي لا الكلي، كالوحدة والعدل والحرية فإنها مقاصد معتبرة تختلف أولوياتها بحسب كل مجتمع وواقع متعين، في حين الكليات الضرورية لا مناص من اعتبارها في أي مجتمع وواقع إنساني. إن هذا التوجيه الفكري للمقاصد لا يستقيم في التأسيس لكليات عامة مطردة وثابتة، وهو ما لا نجده في المقاصد المحددة فكرا وواقعا.

ب. محكومية المقاصد

إن الطبيعة الصلبة والميزة المادية، إن صح التعبير، للكليات الضرورية المحددة عند الأصوليين تجعل منها مقاصد عامة شاملة وحاكمة، تتحكم في ترتيب المقاصد الأخرى الوسيطة التي دعت الشريعة إلى حفظها والعناية بها، فكلية النفس مثلا حاكمة على مقاصد كثيرة كالحرية في التدين والعدل في الجنايات وحفظ البيئة وغيرها من القيم المقاصدية، وكلية العقل حاكمة على قيم أخرى كالعلم والحرية والتربية وغيرها، وإن التسليم بوثاقة التقصيد الكلي بالواقع الإنساني فيه تحكم و اعتبار تلك المقاصد محكومة لا حاكمة كما أكد الشاطبي، مما يسهل، بل يصح إعادة النظر فيها في كل حال وكل مقام تطلب الأمر ذلك، عكس المقاصد الكلية الشرعية لا يلحقها تحكم أو تغيير بل هي الحاكمة، وهي المؤثرة في تغيير أولويات المقاصد المعتبرة في الواقع الإنساني والاجتماعي.

ج. جزئية المقاصد

إن من أهم خصوصيات المقاصد الضرورية أنها معتبرة لكليتها؛ أي لاستيعابها جزئيات تشريعية كثيرة، ويرجع إليها في تقدير الاجتهاد وفقه النوازل من جهة، ثم لاشتمالها على مقاصد أخرى كثيرة تندرج تحتها وتكون خادمة لها، ولعل اللجوء إلى الواقع الإنساني المتغير في تحديد الكليات تجزيء لها، لكن الكليات في أصلها غير متغيرة، والمقصود بالجزئية هنا أنها لا تتضمن مقاصد كثيرة من جهة القيم المطلوبة، ولا تستوعب تلك المقاصد من جميع المجالات. فالقول بكلية الحرية مثلا لا يمكن لها أن تتضمن مقاصد أخرى كالعدل مثلا والبيئة والوحدة وغيرها، كما أنها لا تستوعب مجالات أخرى كالعبادات والمعاملات والجنايات وغيرها، وأقصد هنا تضمنا مباشرا وكليا واستيعابا عاما شاملا.

د. ذوقية المقاصد

بقراءة أغلب الأطروحات الرامية إلى فرض محكومية الواقع في التقصيد الكلي العام، يظهر أن الاختلاف الحاصل والمتنوع حول القضايا المعروضة من عدل وأمن ووحدة وبيئة وحقوق الإنسان ومساواة وأخوة ونحو ذلك، وإن تم حصوله لاعتبارات واقعة ونزوعات حاجية مجتمعية، فإن اقتراحها وعرضها مقاصد يجب العناية بها يعود لانطباعات ذوقية وآراء شخصانية لم تخضخ لمسبار التأصيل العلمي، هذا إذا تحدثنا عن التقصيد الكلي الذي تؤكده النصوص الشرعية، أما إذا تعلق الأمر بمجالات أخرى لا علاقة لها بالشريعة فليس ذلك مما نحن فيه. وإن التسليم بذلك المذهب النظري لا يمنع آراء ذوقية وانطباعية أخرى من اقتراح مقاصد كلية أخرى؛ وإن لم تمر عبر المسالك العلمية. وهذا ليس من خاصية العلمية التي وجب ورودها في الكليات الضرورية التي نحن بصدد الكلام عنها.

4. في الرد على الدعوى

يحسب  لأغلب هذه الأطروحات، على قيمتها المعرفية وأهميتها الفكرية في فتح باب البحث والنظر في تجديد الفكر المقاصدي وفق متطلبات العالم والعصر، لكن رغم ذلك كله تبقى محاولات في نظري تحكمها خاصيتان أساسيتان:

الأولى؛ خاصية التخصص، فكل رؤية من تلك الرؤى تنزع من حيث مبدئها إلى نزعة التخصص التي ينطلق منها كل واحد من أصحاب تلك النظرات، من ميدان موقعه ومجالات اهتمامه، فيعتبر القضية أو القيمة التي يشتغل عليها في في حقله المعرفي جوهرية وضرورية الاعتبار، ومِنْ ثَمَّ تحتاج إلى تشكيل جديد وصياغة جديدة وفق رؤية منسجمة مع ميادين البحث ليعطى لها الاعتبار المناسب.

الثانية؛ خاصية تأثير الواقع: لا يمكن إغفال الواقع وسلطاته القوية في التأثير على التقصيد العلمي للقيم والكليات الواجب حفظها والعناية بها في الواقع الإنساني، إلا أن تلك السلطة لا ينبغي أن ترد بثقلها على حساب السلطة الشرعية التي جاءت من أجل خدمة الانسان ورعاية مصلحته حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد له اضطرارا، لكن الذي يبدو أن تلك الأطروحات غلبت عليها تلك السلطة الواقعية ففرضت عليها التفكير في قضايا بدأت تطرح نفسها بشكل ملح على عالم الإنسان المعاصر.

إلا أنه في اعتقادي أن الأمر ليس كذلك؛ لأن الثوابت الأساسية في التقصيد الشرعي لا تخضع لأي من تلك الإكراهات أو المستجدات، وإنما تفرضها الضرورة الشرعية أولا وبالاستناد الكلي، مع مراعاة الضوابط العلمية في الاعتبار الشرعي لهذه الكليات ثانيا وبالاستناد الجزئي.

 إذ كيف تم التقصيد لمسألة العدل، مثلاً، ضرورة كلية من الكليات المعتبرة الواجب حفظها على سبيل الأولوية، هل باعتبار الأصول الشرعية ومسالكها المعروفة، وهل يمكن اعتبارها كلية على نحو مستقل عن الكليات الأخرى؟

وبعد ذلك كله، ألا يمكن أن نعتبر مقصد العدل فرعا  لا يتفرع من إحدى الكليات الخمس: كالدين مثلا؟ أو النفس أو المال؟

وكيف أمكن حسبان قيم أخرى كقيمة الحرية مثلا إحدى القيم والمقاصد الضرورية المستقلة المطلوب حفظها وحمايتها بالقدر الذي يتم به حفظ وحماية كلية الدين مثالا؟

وهكذا باقي المقاصد والقيم الأخرى التي جعلها البعض مشاريع كليات ضرورية في الواقع المعاصر.

بصيغة أخرى يفصح السؤال عن نفسه: ما هي المسالك لعلمية المستند إليها في التقصيد العلمي لتلك الضروريات أو الكليات أو المقاصد المزعوم اعتبارها على وجه الضرورة في الواقع المعاصر؟ أم أن هناك اعتبارات اخرى لا يعلمها غير الآملين في ذلك الزعم؟

وما يمكن تسجيله هنا هو أن هذه القيم المثالية المذكورة كالحرية والعدل والمساواة والوحدة والأمن… كلها قيم ومقاصد لم تفرط فيها الشريعة الإسلامية أَلبتة، بل دعت إلى احترامها وصيانتها في مناسبات عديدة من القرآن والسنة سواء على سبيل الوجوب أو غيره بحسب مقتضيات النصوص ودلالاتها.

إلا أنه ما ينبغي التنبيه إليه في هذا الصدد هو أن هناك فروقا دقيقة بين اصطلاحات العلماء للمقصد والكلي، وأقل هذه الفروق أن الكلي أعم وأوعب من المقصد، والمقصد أخص منه وأضيق، فيبنهما علاقة عموم وخصوص فكل كلي مقصد وليس كل مقصد كلي. فالحرية مثلا والعدل أيضا وكذا الوحدة مقاصد شرعية حقيقية ثابتة بالنصوص الكلية والجزئية، وجب حفظها والعمل على حمايتها والتمكين لها، غير أنها لا تمثل بالضرورة كليات ضرورية بالاعتبار المقاصدي المرسوم وفق الترتيب الكلي، المندرج في ما يترتب عن خرم الكليات، لأنها بحسب التقسيم الإنساني والواقعي مستوعبة ضمن الكليات الخمس المحددة سلفا.

لكن في البيان نفسه لابد من الإشارة إلى ضرورة مراعاة الترتيب المصلحي لتلك المقاصد الجزئية بحسب الأقرب فالأقرب، أو الأولى فالأولى بحسب حالات الأمة في واقعها المعيش، ومآلاتها في مستقبلها القادم، خاصة في ظل المتغيرات السريعة والملفتة؛ لأن من المقاصد الجزئية ما ترتقي من أدنى إلى أعلى في سلم الأولويات لتقترب من الاعتبار الكلي الضروري في مستوى الحفظ والرعاية. فمقصد العدل مثلا في الوقت المعاصر يمثل مقصدا مطلوبا بالاعتبار الأولى عن باقي المقاصد وإن لم يعتبر كليا على وجه الضرورة.

وعليه يمكن القول: إن كل ضروري من الضرورات لم يتم التنصيص عليه بصيغة مباشرة في دلالتها القطعية، أولم يمر بالمسلك الاستقرائي المفيد للقطع واليقين، لا يمكن اعتباره كذلك؛ لأنه لم يخضع للحدود المنهجية والضوابط الشرعية التي كانت وراء التأسيس العلمي للكليات الخمس، كما سيتم بيان ذلك مع علماء الأصول.

خامسا: في التقصيد الشرعي

1. أصول التقصيد الشرعي

سبقت الإشارة إلى تعدد المراجع العلمية في التأصيل للكليات الضرورية، ابتداء من الجويني ومرورا بالغزالي وانتهاء بالشاطبي، إلا أن أبا إسحاق خير من فصّل وأصل للمسألة في موافقاته، وسيكون مستندنا في بيان الأسس المنهجية للتقصيد الكلي الشرعي لسببين اثنين:

الأول؛ لأنه من أدق الأصوليين في البيان التأصيلي للكليات الضرورية إجمالا وتفصيلا، من حيث التقصيد الشرعي قرآنا وسنة.

والثاني؛ لأنه مثار نقد ومراجعة من قبل أهل دعوى التقصيد الفقهي، فجعلناه أنموذج التقصيد الشرعي حتى يكون ذلك الاختيار بمثابة مرافعة لأبي إسحاق عن نفسه أمام تلك الدعوى، وكشفا لمجانبتها الصواب في ذلك التقدير المنهجي.

أ. أصول التقصيد

عقد الإمام الشاطبي في نهاية كتاب المقاصد فصلاً خاصاً، ختم به حديثه عن المقاصد الشرعية؛ ليجيب عن سؤال الطرق والسبل المسلوكة في معرفة مقاصد الشرع، وما يلفت الانتباه هو أن هذا السؤال المنهجي الجدير بالجواب كان من المناسب منهجياً تقديمه في بدايات كتاب المقاصد، إلا أن استصحاب أبي إسحاق لمسلكه الاستدلالي بالاستقراء في كل مسألة يشفع له إرجاء ذلك حتى النهاية، وربما لحاجة علمية أو منهجية في نفسه كان الأمر كذلك.

وتنحصر أصول النظر في السؤال بحسب التقسيم العقلي في ثلاثة أقسام، سأذكرها بإيجاز لأشرع في بيان المقصود من هذا المبحث، يقول أبو إسحاق الشاطبي: “فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود مما ليس بمقصود له؟ والجواب أن النظر هاهنا ينقسم بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام[38]“:

القسم الأول؛ هو أن معرفة مقاصد الشرع متوقف على ظواهر النصوص “مجرداً عن تتبع المعاني التي يقتضيها الاستقراء ولا تقتضيها الألفاظ بوضعها اللغوي؛ إما مع القول بأن التكاليف لم يراع فيها مصالح العباد على حال، وإما مع القول بمنع وجوب مراعاة المصالح، وإن وقعت في بعض فوجهها غير معروف لنا على التمام، أو غير معروف ألبتة…[39].”

القسم الثاني؛ وهو نقيض الأول، ودعواه على ضربين:

الأول؛ أن مقصد الشارع أمر آخر، وراء الظواهر والنصوص، وهذا رأي الباطنية القائلين بعصمة الإمام الفاهم للنصوص بتفسيره الخاص.

والثاني؛ يفهم من خلال الالتفات إلى معاني الألفاظ، مقدمين في ذلك المعاني النظرية على النصوص، وهو رأي المتعمقين في القياس.

القسم الثالث؛ وهو الأخذ في الاعتبار الأمرين السابقين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا ظاهر النص بالمعنى، وهو معتمد الراسخين في البحث عن مقاصد الشارع، وهو الرأي الذي يتبناه إمامنا الشاطبي، وهذا المذهب النظري يسلك في الكشف عن المقاصد أربعة مسالك:

المسلك الأول؛ مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، وهو مسلك مشترك بين المعللِّين في الأوامر وغيرهم، ومَثّل لذلك بقوله تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع﴾ (الجمعة: 9)، ففي النص نهي عن البيع؛ ليس نهي مبتدأ، بل لتأكيد الأمر بالسعي، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني. لذلك فإن “الطلب الإلهي بمقتضى كونه طلبا لفعل أو طلبا لترك إذا ما ثبت أنه طلب معتبر يثبت به أي حكم شرعي فإنه يكون مسلكا لإثبات المقصد الشرعي[40].”

المسلك الثاني؛ اعتبار علل الأمر والنهي، وقد تم البحث عن الحكم الشرعي لمعرفة المقصد الشرعي؛ كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمعقود عليه، والحدود لمصلحة الازدجار، وفي هذا المعنى يقول الماوردي بأن “الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر به لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً، وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم[41].”

 وتدرك العلة بمسالكها المعلومة في أصول الفقه، وإن لم تدرك يتوقف عن القطع بها، ويقتضي ذلك التوقف وجهين:

الأول؛ عدم تعدية المنصوص عليه في ذلك الحكم إلى غيره؛ لأن العلة مجهولة “ولأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل[42].”

الثاني؛ أن الأصل في الأحكام الشرعية الموضوعة أن لا تتعدى بها محالها إلى غيرها حتى يعرف قصد الشارع بذلك التعدي؛ “لأن عدم نصبه دليلاً على التعدي دليل على عدم التعدي؛ إذ لو كان الشارع متعدياً لنصَّب عليه دليلاً، ووضع له مسلكاً[43].”

المسلك الثالث؛ أن للشارع في تشريع الأحكام، العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، كالنكاح مثلاً، فإنه مشروع للتناسل بالقصد الأول، أما السكن والازدواج، والاستمتاع بالحلال، والتحفظ من الوقوع في المحظور، وغير ذلك، فهذه كلها مقاصد تابعة، “وذلك أن ما نص عليه من هذه المقاصد التوابع هو مثبت للقصد الأصلي، ومقو لحكمته، ومستدع لطلبه وإدامته، ومستجلب لتوالي التراحم والتواصل والتعاطف، الذي يحصل به المقصد الشارع الأصلي من التناسل[44].”

المسلك الرابع؛ السكوت عن شرع العمل مع قيام المعنى المقتضي له، وذلك على ضربين:

أحدهما؛ أن يسكت عنه لأنه؛ لا داعي له يقتضيه، ولا موجب له يقدر لأجله؛ كجمع المصحف، وتضمين الصناع… فالقصد الشرعي فيها معروف.

ثانيهما؛ أن يسكت عنه وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم، عند نزول النازلة، زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص.

ب. العلة في إهمال الشاطبي لمسلك الاستقراء

الملفت للانتباه، بعد ذكر هذه المسالك الأربعة، أن الإمام الشاطبي لم يول عناية خاصة مفردة بمسلك الاستقراء، مثل ما يبدو ذلك جلياً على تتابع صفحات الموافقات في بياناته الاستدلالية على المسائل، وهو الأمر الذي سجله الأستاذ الريسوني إلى حد استغرابه؛ إذ يقول: “ولكن الغريب أن الإمام الشاطبي لم يذكره أصلاً مع الجهات الأربع التي تعرف بها مقاصد الشارع، والتي خصص لها خاتمة كتاب المقاصد، فهو لم يجعله الأول ولا الخامس[45].”

استغراب له ما يبرره، لاسيما إذا علمنا أن الإمام الشاطبي بنى جل مسائله، إن لم أقل كلها، على مسلك الاستقراء.

وفي نظري، أن عدم ذكر الإمام الشاطبي لدليل الاستقراء ضمن المسالك التي يتوصل بها إلى معرفة مقاصد الشريعة، يعود إلى أربعة أسباب: اثنان منها علمية، والآخرين منهجيين.

أما السببين العلميين:

فأولهما؛ أن الشاطبي كان بصدد البحث عن المقاصد الجزئية الخاصة بالفروع والأحكام الشرعية لا المقاصد العامة.

والثاني؛ أنه يبحث في مقاصد الشريعة من حيث دلالات الأدلة الشرعية في صيغتها المفردة والنصية، لا دلالاتها الإجمالية التي تثبت بالاستقراء.

والسببين المنهجيين

فأولهما؛ أنه قد سبق له الحديث بتفصيل عن مسلك الاستقراء في إثبات مقاصد الشريعة في المسألة التاسعة من كتاب المقاصد، مبرزاً أهميته المنهجية ودلالته المفيدة للقطع في إثباتها، ومعتبراً أن الاستقراء هو خلاص المسألة وروحها.

وثانيهما؛ وهو المهم في اعتقادي أن الاستقراء مسلك ومنهج في إثبات المقاصد سواء على سبيل القطع أو الظن، وليس دلالة أو تعريفا على المقصد، والشاطبي يبحث في مسالك المعرفة بالمقاصد، ويتضح ذلك من قول الشاطبي في مطلع هذا المبحث: “فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟ فالاستقراء، إذن، منهج يأتي استثماره بعد معرفة المقصد في الاحكام الشرعية، ليس لمعرفتها والتعرف عليه بل لإثبات صحة تلك المعرفة من تواترها المعنوي أو اللفظي في عدد من الاحكام. وبين المسلك الاول والثاني فرق دقيق.

2. مسالك التقصيد الشرعي

لكي يبين أبو إسحاق الشاطبي قصد الشارع في حفظ هذه الكليات ورعايته لها استثمر دليل الاستقراء على مستويين: الأول استقراء أدلة الشريعة، والثاني: استقراء الملل.

المستوى الأول: مسالك التقصيد باستقراء الأدلة

ليس بمقدور الأصوليين إثبات التقصيد الشرعي للكليات الضرورية بناء على طلب الأدلة القطعية اليقينية من جانب النصوص على سبيل الانفراد، بل إن المسلك المناسب في ذلك والموفي بالغرض العلمي لا يمكن إلا أن يكون دليلا من نوع آخر، يجمع شتات تلك الأدلة لتعظم دلالتها إلى القطع، وذلك مسلكهم الجاري في مثل هذه القضايا كدليل الإجماع مثلا، لكنهم لم يلتفتوا إلى هذا الإشكال في تصانيفهم، والراجح أنهم لم يكونوا يخاطبوا متعلمين أو جاحدين لتقاريرهم وتحريراتهم العلمية، إلا أن إهمالهم لذلك سرب الشك والظن عبر الزمن إلى تلك التقريرات العلمية والقواعد المقاصدية، مما استثار الشاطبي لإعادة المسألة إلى أصولها بالاستدلال على قطعية الكليات.

وقد سبقت الإشارة إلى أن الاصوليين بما فيهم الشاطبي قد أسسوا منهجهم في البيان الاستقرائي على داعم شرعي مهم، وهو التواتر المعنوي في الأخبار المفيدة للقطع، وهو المسلك الذي استثمروه في استقراء النصوص لحصول القطع في حفظ الكليات.

ويحصر الإمام الشاطبي الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها في خمسة، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، مع عدم ممانعته في إضافة كلية العرض، بقوله: “وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف[46].”

وفي ذلك يقول الإمام القرافي: “فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان، وفي التحقيق الكل متفق على تحريمه[47]“، إلا أن المشهور المتفق عليه عند العلماء هو حصر الكليات الضرورية في الخمس الأولى.

ويقول الإمام الغزالي: “مقصود الشارع من الخلق خمسة: هو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم[48].”

وشبيه بهذا المعنى نفسه أورده سيف الدين الآمدي في إحكامه معتبرا أن المقصود من شرع الحكم: “إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية، فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلا، أو لا يكون أصلا، فإن كان أصلا فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم يخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات، والحصر في هذه الأنواع الخمسة إنما كان نظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة[49].”

فيبدو، إذن، أن كل الأصوليين متفقون على الكليات الضرورية الخمس وإن زاد بعضهم كلية أخرى فتبقى كليات الدين والنفس والنسل والعقل والمال قد حازت إجماعهم واتفاقهم.

ـ منهج الشاطبي في التقصيد بالاستقراء

ينهج الشاطبي في استلاله الشرعي على التقصيد لكليات الشريعة وضرورياتها منهجا خاصا، زاوج فيه بين ثنائية الوجود الحافظ والعدم الخارم للمقاصد المرعية في ثباتها، فكان بيانه لذلك من وجوه: من حيث جوانب الحفظ: وأدخل فيه جانب الوجود وجانب العدم. ومن حيث نصوص الحفظ: فحصرها في نصوص القرآن الكريم المكية ثم المدنية.

وسأكتفي بالبحث في الوجه الأول، مستصحبا في الاعتبار الوجه الثاني عند الاستدلال بالنصوص الشرعية في معناها العام.

وينهج الإمام الشاطبي في استدلاله على الكليات الضرورية منهجاً تسلسلياً مرتباً من الأسفل إلى الأعلى، ومن الخاص إلى العام، وذلك من جهتين:

الجهة الأولى: التقصيد الكلي

 يوزع فيه النصوص الشرعية على كل قاعدة[50] من قواعد الشريعة مع ربطها ببابها المناسب من الأبواب الفقهية التي درج الفقهاء على البحث والتصنيف وفقها، ثم يربط كل باب أو قسم بالكلية الضرورية التي تمثله في أصلها الوضعي، وذلك على البيان الآتي[51]:

أ. الحفظ من جانب الوجود، ويعني الشاطبي بذلك أن في الشريعة نصوصاً شرعية تستنبط منها أحكام شرعية يقصد بها إقامة الكليات وتثبيتها والدعوة إلى حفظها بتشريعات تراعي وجودها.

ـ باب العبادات؛ يقصد به ما يرجع لحفظ الدين: كقاعدة الإيمان، والشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.

ـ باب العادات؛ يعني به ما يعود لحفظ النفس والعقل: كتناول المأكولات والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما شابه ذلك.

ـ باب المعاملات؛ يريد به ما يؤول إلى حفظ النسل والمال، كانتقال الأملاك بعوض وبغير عوض، بالعقد على الرقاب والمنافع والأبضاع.

ب.الحفظ من جانب العدم: والمراد به ما يرجع لحفظ هذه الكليات الخمس من التلافي والعدم؛ كالقصاص والديات للنفس، والحد للعقل، وتضمين قيم الأموال للنسل، والقطع والتضمين للمال، وما إلى ذلك.

أما الجهة الثانية: التقصيد الجزئي

 فيبحث فيه عن دلالات النصوص الفرعية الصغرى المتعلقة بكل قاعدة من القواعد ليحصل بها معنى كلي يروم الحفاظ على تلك القواعد، إما من جانب الوجود أو من جانب العدم، حسب الآتي:

كلية الدين؛ باعتبار الصلاة أهم ركن موحٍ بحفظ كلية الدين، فإن الإمام الشاطبي جعله مثالاً يطبق عليه استقراء النصوص الفرعية؛ لإثبات هذه الكلية من جهة، ولجعلها مثالاً يمكن اعتماده في سائر الأركان الأخرى؛ إذ يقول: “فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها: ﴿أقيموا الصلاة﴾ وجاء مدح المتصفين بها بإقامتها، وذم التاركين لها، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وقتال من تركها أو عاند في تركها أو غير ذلك مما في هذا المعنى، علمنا يقيناً وجوب الصلاة[52]“؛ فلاحظ هنا تتبع الشاطبي للنصوص القرآنية والحديثية في دلالاتها العامة؛ إذ الأصل في هذا استقراء النصوص في معانيها الدالة على حفظ كلية الدين، بناء على ما يندرج تحتها من شعائر كالصلاة مثلا. ولا نجد للفروع الفقهية أثرا إلا ما يستتبع ذلك من أحكام.

ويقول في الصددِ نفسِهِ: “ومن هذا الطريق، ثبت وجوب القواعد الخمس: كالصلاة، والزكاة، وغيرها قطعاً، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: ﴿أقيموا الصلاة﴾ وما أشبه ذلك لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضرورياً في الدين لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين[53].”

كلية النفس؛ فالنصوص الدالة على حفظها من الجانبين كثيرة، كقول تعالى: ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾(الأنعام: 152)، ﴿وإذا الموءودة سئلت. بأي ذنب قتلت﴾ (التكوير: 8-9)، ﴿وقد فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَ عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ (الأنعام: 120)، وأشباه ذلك، وذكر أن حفظ النفس إذا نظرنا إليها من جهة أنه «نهى عن قتلها وجعل قتلها موجباً للقصاص، متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك، ورتبت الأجناد لقتال من رامت نفسه قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف لهذا، علمنا يقيناً..تحريم القتل[54].”

 وانظر أيضا هنا إلى كثرة الاستدلال النصي القرآني والمعاني المستنبطة من بالنصوص غير المباشرة في دلالتها، وهو ما سيسير على نهجه في باقي الشروح الأخرى لباقي الكليات.

كلية العقل؛ تم حفظ العقل الإنساني في الشريعة من تشريع أحكام عديدة، منها ما يدعو إلى الكف عن شرب الخمر وترتيب الحد عن ذلك، والدعوة إلى استخدام العقل وتنميته وتربيته في مناسبات عديدة من القرآن والسنة، إضافة إلى أحكام خاصة بحفظ النفس؛ “إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس، كسائر الأعضاء ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعهما[55].”

كلية النسل؛ وقد تم حفظه بتحريم الزنا، وتشريع الحد فيه، والأمر بحفظ الفروج، إلا على الأزواج أو ملك اليمين، وإقامة أصله بشرعية النكاح والتناسل، وصيانة العلاقة الزوجية بضوابط شرعية وتنظيمها بشكل متزن. وهذه كلها أحكام شرعية منصوص عليها، وليس محض اجتهاد فقهي كما يزعم أهل دعوى التقصيد الفقهي.

كلية المال؛ “فقد ورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم، والإسراف والبغي، ونقص المكيال والميزان والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى[56]“، كما أحل البيع وحرم الربا، ونظم كل المعاملات المالية؛ درءاً للاختلال وإتلاف أموال الناس بالباطل، وحرم السرقة وشدد على فاعليها بالحد، وقاوم البغاة والمحاربين والمعتدين.

فنستخلص من هذه الإشارات الخاصة بتتبع النصوص الكبرى العامة والنصوص الجزئية الخاصة في معانيها والقواعد الشرعية الكبرى أن الشارع يقصد إلى حفظ هذه الكليات الخمس على الجملة، وذلك باستثمار الاستقراء المعنوي الذي يقوم على المعرفة التواترية في الأخبار؛ لأنه إذا تعذر الوقوف على النص المعين في الإثبات حل محله المعنى العام المستقرئ من جملة النصوص للقطع في المسألة.

ويعتبر الإمام أبو إسحاق الاستقراء المعنوي استقراءً تاماً؛ إذ يقول: “واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب[57].” ولعل مرد هذا الرأي عند الشاطبي يعزى إلى كثرة الأدلة المتضافرة التي لا حد لها في باب حفظ الكليات، وهو ما أكده بقوله: “فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملاءمتها للشريعة مجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد[58].”

المستوى الثاني: مسلك التقصيد باستقراء الملل

إن ما يزيد المسألة إثباتاً وعلماً على نحو قطعي لا يقبل الظن فيها عند الأصوليين، هو قيام القطع بحفظ الشارع للكليات الضرورية على استقراء الملل والشرائع السابقة، الذي أفضى إلى القصد في رعايتها وحفظها.

وقد كرر الإمام الشاطبي فكرة اعتبار الملل السابقة للضروريات الخمس أزيد من عشر مرات[59] في كتابه الموافقات، وفي ذلك تقرير منه على أهمية هذه الضروريات فيها، ومكانتها في التقصيد الشرعي من الأحكام.

من ذلك قوله رحمه الله: “وبهذا يظهر أن المقصود الأعظم من المطالب الثلاثة المحافظة على الأول منها، وهو قسم الضروريات، ومن هنالك كان مراعى في كل ملة، بحيث لم تختلف فيه الملل كما اختلفت في أصول الدين، وقواعد الشريعة كليات الملة[60].”

كما نراه تارة أخرى ينسب الفكرة إلى بعض الأصوليين من قبله فيقول: “بل زعم بعض الأصوليين أن الضروريات مراعاة في كل ملة، وإن اختلفت أوجه الحفظ، بحسب كل ملة، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات…[61].” ولعله يقصد من بينهم كبار الأصوليين الذين تعرضوا للمقاصد الشرعية؛ كالغزالي، والقرافي، وغيرهم.

وفي ذلك يقول الغزالي: “وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة-والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر[62].”

ويقول الآمدي: “المقاصد الخمسة التي لم يخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال…[63].”

والأمرُ نفسُهُ أكده القرافي حيث قال: “الكليات الخمس حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على اعتبارها، وأن الله تعالى ما أباح النفوس ولا شيئاً من الخمسة المتقدمة في ملة من الملل [64].”

إلا أنه بعد هذا الجرد المهم لأقوال علماء المقاصد الشرعية، القاضي باتفاقهم على حصول القطع بحفظ الكليات الضرورية الخمس في جميع الملل والشرائع، يتمخض عن هذا الرأي الاستقرائي أسئلة وجيهة في هذا المجال وهي:

 الأول: ما هي هذه الملل التي يقصدها الأصوليين في إجماعها على حفظ تلك الكليات؟

والثاني: كيف تم الحكم على اشتراكها في القيام على رعاية تلك الضروريات المعتبرة؟

والثالث: ما هو المسلك المعتمد في إثبات حفظ تلك الملل للكليات؟

هذا ما لم يتم التوضيح فيه وتفصيله عند أهل الاختصاص الأصولي.

وعلى الإجمال فإنه بالبحث الجاد في أصول الأدلة الشرعية، والنظر الاستقرائي الثاقب، استطاع الإمام الشاطبي أن يأت بما لم يأت به الأوائل بحيث برهن على قصد الشارع حفظ هذه الكليات الضرورية في الدين، وأنها مراعاة في كل التصرفات الشرعية، على وجه بلغ درجة قوية من القطع، وذلك باستقراء معنوي لما تحمله تلك النصوص المتضافرة فيما بينها من تآلف حول كل قاعدة من هذه القواعد.

تقويم عام

بناء على التفصيل السابق،  يمكن القول: إنَّ علماء الأصول، رحمهم الله، وعلى رأسهم الإمام الشاطبي، قد رسموا خطوطاً شرعية وحدوداً منهجية في التعامل مع القضايا الشرعية الضرورية في إقامة الحياة الإنسانية، وفي محاولة استخلاص المقاصد الكلية التي يهدف الشارع إلى حفظها واعتبارها سواء على وجه الضرورة أو الحاجة أو الكمال. فالكلي الشرعي يحتاج إلى دليل قطعي لمعرفته وإثباته ضمن الأمور الأصلية الضرورية، والقطع في الدليل ينبغي التماس المسلك الأنسب في تحصيله وإجرائه في المسائل وفق الطريق السليم.

كما وضع الأصوليون بمنهجهم العلمي حدا للفضول المعرفي الذي يكتنف عددا من الباحثين في رؤيتهم التجديدية للخطاب المقاصدي، بمحاولتهم إضافة كليات جديدة يرونها جديرة بالإضافة ضمن الكليات المعتبرة عند أهل الاختصاص، كما أثار مسلكهم في ذلك مساحات تأمل واستفسار لبعض الأطروحات المعاصرة الداعية إلى إقحام كليات أخرى، وإدخالها ضمن تلك المعتبرة؛ لأسباب تتنازعها  الضرورة الواقعية المعاصرة تارة  أو الحاجات المتجددة للنوع الانساني تارة أخري.

إضافة إلى ذلك، فقد فندت منهجية الأصوليين وعلى رأسهم الشاطبي في التأصيل الشرعي للكليات الضرورية المقاصدية كل الدعاوى الذاهبة إلى استناد تلك المناهج على المجال الفروعي الفقهي في التأصيل بدل النصوص القرآنية، وقد تبين بالأدلة مجانبة تلك الدعاوى للصواب من جهة، وتقرر الإفصاح عن المسالك المنهجية القويمة في ذلك التقصيد الشرعي.

وبناء على هذا التحرير يمكن وضع كل تلك الأطروحات الفكرية التجديدية، إن سلمت التسمية وجاز الوصف، على محك النظر الأصولي والشرعي.

نتائج ختامية

نتيجة أولى:

اعتبر علماء الاصول أن التقصيد الشرعي يمر عبر مسالك علمية: أولها؛ اعتبار مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، وهو مسلك مشترك بين المعللِّين وغيرهم، وثانيها؛ اعتبار علل الأمر والنهي، مع البحث عن الحكم الشرعي لمعرفة المقصد الشرعي، وثالثها؛ أن للشارع في تشريع الأحكام، العادية والعبادية مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، ورابعها؛ السكوت عن شرع العمل مع قيام المعنى المقتضي له، ويبقى أهم مسلك جامع بين هاته المسالك هو النظر الاستقرائي الذي كان معتمدهم وللشاطبي نصيب كبير في استثماره بشكل منهجي. وهذه المداخل المسلكية ذات البعد العملي والمنهجي من شأنها أن تفند كل ادعاءات التقصيد الفقهي القائمة على النظر الفقهي في تأسيس الكليات ورد كل المذاهب الداعية الى التفسير الواقعي للكليات الضرورية دون أسبقية النص كما ورد بين ثنايا الموضوعة.

نتيجة ثانية:

لقد رسم الأصوليون بمسالكهم العلمية خطوطا واضحة في التقصيد للكليات الشرعية، وهذا من شأنه الوقوف في وجه الفضول المعرفي الذي دفع عددا من الباحثين في رؤيتهم التجديدية للخطاب المقاصدي، إلى إضافة كليات جديدة يرونها جديرة بالإضافة ضمن الكليات المعتبرة، لذلك فإن كل ضروري من الضرورات لم يتم التنصيص عليه بصيغة مباشرة في دلالتها القطعية، أولم يمر بالمسلك الاستقرائي المفيد للقطع، لا يمكن اعتباره كذلك؛ لأنه لم يخضع للحدود المنهجية والضوابط الشرعية التي كانت وراء التأسيس العلمي للكليات الخمس، كما تم بيان ذلك مع الإمام الشاطبي وغيره من علماء الأصول.

نتيجة ثالثة:

ما وجدنا بعدما وضع العلماء تأصيلا مسلكيا قويما ومتينا للكليات تأصيلا جديدا، ناقضا لما سبقه بقدر القيمة المعرفية والمنهجية السالفة، لذلك نعتبر أن الأصل بقاء تلك الكليات على تحديدها الضروري وتقصيدها الأصلي على ما كان حتى يثبت عكس ذلك، أو تبديلا فيه أو تغييرا لمفرداته، أو حتى يظهر بديل له تتلقاه العقول بالقبول وتطمئن إليه النفوس. أما العمل على تغيير النظر الكلي بحجة التقصيد الفقهي والاستناد إلى التراث الفقهي أو البعد الاجتماعي الواقعي، فهذا لا يستقيم والمناهج العلمية في التأصيل، وإلا سوف لن ينتهي النظر في التغيير والتبديل بما سلف ذكره وبيانه من مقترحات وإضافات، بل سيطول التغيير والتبديل والإضافة والزيادة حسب التأملات الذوقية والاجتهادية الخاصة، دون إجماع كما تم الإجماع على تلك الكليات الضرورية المشهورة والمعروفة.

الهوامش


[1]. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص81.

[2]. الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي. زاد المسير، بيروت: المكتب الإسلامي، ط3، 1404ﻫ، ج4، ص432.

[3]. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، د ج14، ص71.

[4]. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، د ج3، ص447.

[5]. انظر: الفيروزأبادي، القاموس المحيط، د ص396.

[6]. الشاطبي، الموافقات، ج2، ص156.

[7]. المرجع نفسه.

[8]. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، ج3، ص94.

[9]. ابن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ج1، ص150.

[10]. ابن عبد السلام، العز، القواعد الصغرى، الفوائد في اختصار المقاصد، تحقيق: إياد خالد الطباع، دمشق: دار الفكر المعاصر، ط.1، 1416ﻫ، ص145.

[11]. المازري، أبو عبد الله محمد بن علي التميمي، إيضاح المحصول من برهان الأصول، دراسة وتحقيق: عمار الطالبي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2001م، ص225.

[12]. الموافقات، م، س، ص297.

[13]. المرجع نفسه، ج2، ص301 – 302.

[14]. المرجع نفسه، ج3، ص318.

[15]. انظر: نور الدين بن مختار الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، حجيته، ضوابطه، مجالاته، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كتاب الأمة، ع65، س 18، 1419ﻫ، ص47.

[16]. أبو حامد محمد بن أحمد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي. بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، ص417.

[17]. علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق: عبد الرزاق عفيفي. بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1406ﻫ، ج3، ص271.

[18]. ينظر تعريف المصالح عند الشاطبي في الموافقات، ج2، ص20.

[19]. ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص154.

[20]. علال. الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء: نشر مكتبة الوحدة العربية، 1963م، ص3.

[21]. يوسف حامد العالم، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، هيرندن: المعهد العلمي للفكر الإسلامي، ط2، (1414ﻫ/1993م)، ص85.

[22]. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدار البيضاء: دار الأمان، ط1، (1411ﻫ/1991م)، ص7.

[23]. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عرضًا ودراسة وتحليلاً، دمشق: دار الفكر، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص47.

[24] المقاصد الكلية والاجتهاد المعاصر، حسن محمد جابر، تاسيس منهجي وقرآني لأليات الاستنباط، ط1، (1422ﻫ/2001م)، بيروت: دار الحوار، لبنان، ص12.

[25]. المرجع نفسه، ص11.

[26]. المرجع نفسه.

[27]. جاسر عودة، مقاصد الشريعة الاسلامية كفلسفة للتشريع الاسلامي، رؤية منظومية، تعريب عبد اللطيف الخياط، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، هرندن، فيرجينيا، واشنطن،(1432ﻫ/2012م)، ص34-35.

[28] المقاصد الكلية والاجتهاد المعاصر، م، س، ص11.

[29]. المرجع نفسه، ج2، ص134.

[30]. أنظر كتابي الخطاب النقدي الأصولي، في المقدمات التأسيسية للكتاب، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فيرجينيا، (1433ﻫ/2012م).

[31]. انظر: محمد عابد الجابري، قيم ثقافة السلام في الديانات السماوية، مجلة فكر ونقد، المغرب، دار النشر المغربية، ع8 (س1/1998)، ص10.

[32]. جاسر عودة، مقاصد الشريعة الاسلامية كفلسفة للتشريع الاسلامي، م، س، ص64

[33]. نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص207.

[34]. انظر: محمد عابد الجابري، قيم ثقافة السلام في الديانات السماوية، مجلة فكر ونقد، المغرب، دار النشر المغربية، ع8 (س1/1998)، ص10.

[35]. إدريس حمادي، المجتمع في ضوء الشريعة الإسلامية، المقاصد والوسائل، مجلة فكر ونقد، المغرب، دار النشر المغربية، ع5 (س1/1998)، ص113.

[36]. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1996م، ص190.

[37]. أحمد الخمليشي، وجهة نظر، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، ط1، 1984م، ج1، ص249- 250م.

   ـ أحمد الخمليشي، وجهة نظر، الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه، الدار البيضاء: دار نشر المعرفة، ط1، (1420ﻫ/2000م)، ج3، ص59- 60.

[38]. الموافقات، م، س، 2/297

[39]. المصدر نفسه، ج2، ص297.

[40]. عبد المجيد النجار، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، بيروت، لبنان: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2006، ص28-29.

[41] . أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت: دار الكتب العلمية، لبنان، د. ط، ص275.

[42]. المرجع نفسه، ج2، ص299.

[43]. المرجع نفسه

[44]. المرحع نفسه، ص301.

[45]. الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، م، س، ص283.

[46]. المرجع نفسه، ج3، ص21.

[47]. القرافي، التنقيح، م، س، ص392.

[48]. الغزالي، المستصفى، م، س، ص417.

[49]. الآمدي، الإحكام، م، س، ج3، ص370.

[50]. ليس المقصود بالقاعدة هنا معناها الفني العلمي”الكلي”، وإنما كما اصطلح عليها الفقهاء في تصانيفهم، كقاعدة البيع مثلاً، وقاعدة النكاح.

[51]. لمزيد من التوضيح ينظر: الشاطبي، الموافقات، م، س، ج2، ص8.

[52]. المرجع نفسه، ج1، ص26.

[53]. المرجع نفسه، ص24.

[54]. المرجع نفسه، ص26.

[55]. المرجع نفسه، ج3، ص35.

[56]. المرجع نفسه، ص35.

[57]. المرجع نفسه، ج4، ص74.

[58]. المرجع نفسه، ج1، ص26.

[59]. انظر مثلا: المرجع نفسه، ج1، ص20، وج1، ص26، وج2، ص19، وج2، ص139، وج2، ص213، وج2، ص227، وج3، ص88.

[60]. المرجع نفسه، ج2، ص134.

[61]. المرجع نفسه، ج3، ص88.

[62]. الغزالي، المستصفى، م، س، ص417.

[63]. الآمدي، الإحكام، م، س، ج3، ص370.

[64]. القرافي، التنقيح، م، س، ص394، وانظر أيضا:

    القرافي، الفروق، م، س، ج4، ص1155.

Science

د. الحسان شهيد

أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق