وحدة الإحياءدراسات عامة

إشكالية الحركة بين نمذجة المعنى وعولمة اللامبالاة

تؤسس هذه المساهمة رؤيتها المنهجية على فكرة التحليل الجذري للإشكالية المعرفية، التي نشأ عنها “إزاحة المعنى” عن الحركة الوجودية للإنسان؛ على مستوى تحققه الذاتي، أولاً، ومن ثم انسحاب ذلك على طبائع علائقه التعارفية، كمترتب ثاني. إنها مقاربة تفسيرية للمعنى الوجودي للإنسان، والصلة المتحققة بين الوحي والمعنى، في زمن اللامبلاة المعولمة.

إذ إن مسير النظر الفكري والاجتهادي قد راكم ميراثاً كبيراً من الرؤى التفكيكية حول علة التشظي التي لحقت بعلاقة الإنسان بالمعنى، إلا أن مفقوداً جوهرياً في جذر المشكل ظل يؤثر، بغيابه عن الرؤية، على اكتمال ونجاعة صفة المداواة ووصفة الدواء، وهو مفقود يتعلق بصلة المعنى بالوحي، أو ما تسميه المساهمة بالصلة التحققية، وهي صلة تحيلنا، في سبيل إدراكها، إلى جملة قضايا مركزية وتأسيسية متعلقة بمفهوم الوحي ذاته، ومناهج تأويله واتجاهات تفسيره، بما يبين تمام حضوره في إيجاد المعنى، وتجلياته في وجدان السلوك الإنساني، وعلاقته بتقدم حالات الاتصال الإنساني الوجودي؛ وما المعنى إلا مُفسرٌ حيويٌ للوحي والاتصال والوجود.

إن قصة الوجود الإنساني كلها تتلخص بواسطة نظرية التحولات الكبرى، أي إمكانية تفسيرها بلغة المراحل المتميزة لتطور المعنى عبر الخطاب الإلهي، والاتصال الإنساني، التي كانت لكل مرحلة منها نتائج “معرفية-ثقافية” عميقة، سواء بالنسبة للفرد، أو حياته الاجتماعية بشكل عام. إنها فكرة السفر في الزمن عبر المسافة؛ في قصة الوحي والعلاقة بين السماء والأرض، ليس كما وردنا في منجز الإسراء، أو رحلة أهل الكهف من الماضي إلى المستقبل، وإنما التساؤل الذي سيتعمق لدينا حتى لو استطعنا نحن تطبيق هذا السفر بشكلٍ عمليٍّ وحقيقيٍّ، والذي سيبقى هواجسنا الوجودية الفلسفية.

 وهو تساؤل ينزع لاستقراء ما قد يحدث إن عدنا إلى الماضي، أو أسرعنا الخُطى نحو المستقبل، تخطياً للحاضر، هل باستطاعتنا أن نقوم بتغييرهما، أو تغيير أنفسنا للتواؤم مع أي منهما، أو معهما؟ فالقصة الموثقة بالنص المقدس حول أهل الكهف تُخبرنا أنهم تعرفوا على “المستقبل” بعد أن ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾، فوجدوه قد تغير بفعل ما تراكم من معارف لساكنته تغيراً تاماً، ومشوا فيه غرباء دون أن تُحدثهم الدهشة كم ساهموا هم في التراكم المعرفي، الذي أجمل معنى هذا التغيير، وزاوجه بما استجد من معارف وأفهام خلال قرون ثلاثة، وزيادة، جسدت علاقة الماضي بالمستقبل عبر فاصلة الحاضر؛ ماضيهم وحاضرهم.

ورغم أن الرحلات عبر الزمن والمسافة الأفقية والرأسية الخارقة للعادة، الموصوفة في الكتب المقدسة، أو المتخيلة في الروايات والأساطير، ما زالت تسحرنا، إلا أن الزمن في مخيالنا الآن ليس مجرد دالة حسابية بين متغيرين، ولكنه يبدو لنا أحياناً كرغبة في الخلاص من خضات الحاضر المزلزلة، أو عبارة عن محاولة لاستكشاف النتائج المغيبة عنَّا، وإقرار بأن عصور وأحقاب الماضي والمستقبل لا يزالان بأيدينا، لو أحسنا التحصن بالمعنى.

وباختصار، فإن المعرفة العامة بهذه العصور والأحقاب المرتبطة بالماضي كانت متصلة بكثافة بإرسال الرسل والأنبياء، وبظهور الفلاسفة والحكماء، وبدايات تطور آليات الاتصال الإنساني؛ كالإشارة، والكلام، والكتابة، والطباعة، ووسائط ووسائل الإعلام، التي نعرفها اليوم. ومن هنا، فإن فهم نتائج وعواقب الانتقال والتحولات من المراحل الأقدم إلى المراحل الأحدث، يتيح لنا الحصول على خلفية هامة لتطور الحركة واستقامة الوجهة بيقين المعنى، وإدراك أهمية ونتائج المرحلة، التي دخلها الجنس البشري، منذ بدايات تصور المعنى، وقراءتنا لتأثيرات العولمة على نمذجة هذا المعنى، وما نشهده من لامبالاة مُضَيِّعَة لهذا المعنى.

واليقين، أن النتيجة المستخلصة لهذه التحولات هي أن كل مرحلة “رسالية”، أو “اتصالية”، كان لها تأثيرات ذات دلالات كبرى؛ أي أتت بتغيرات كثيرة وكبيرة بالنسبة للتفكير الإنساني على المستوى الفردي، وبالنسبة للتطور الثقافي على المستوى الجماعي، أو “البيئة المعرفية-الثقافية”، التي هيأت لها وأنتجتها كل رسالة وحي، أو وسيلة اتصال مستحدثة. فالمساهمة، بهذا الفهم، تبحث في مكون رؤيتها الأول عن المفهوم التحققي للوحي عن الأبعاد، التي فصلها النص القرآني، ونوازل الاتصال.

 وتقتضي الاستقامة المعرفية، بشأن النظر في جدل مراجع الرؤية حول حركة الإنسان ووجهته، على ضوء علاقة الوحي بالعالم، الاطمئنان إلى حقيقة الضبط اليقيني لمفهوم الوحي وجلاء التصور حوله. ومن ثم، التأكد ما إذا كان واحداً من موجهات المعرفة-المعنى، كما تستصحبه بعض الاتجاهات النظرية، أم أنه عين المرجع التوحيدي للمعارف، كمطلوب النص المقدس، وعلوم السنن والاتصال، التي تبين كنه حقيقة الإنسان والمعنى الوجودي لذاتيته الفردية، والتي تنتهي تمظهراتها وتداخلاتها الاجتماعية والثقافية الكونية إلى تشكيل صلته التعارفية بالعالم المعولم.

في المنهج

نسعى، في هذه المساهمة، لتحليل الإشكالية المعرفية المرتبطة بـ”الوجهة” و”الحركة” و”المعنى” وإدراك “اليقين” و”النمذجة” و”عولمة اللامبالاة”، وذلك بإعادة النظر في نماذج من الافتراضات الدينية والعقلية “الوجهة”، التي أدركنا أنها “اليقين”، ومزجها بالنشاط العملي “الحركة”، وفكرة المراحل المحمولة في فكرة “المعنى” التواصلي والتعارفي. وهذه الخطوة تجعل من الممكن تأسيس رابطة تستند إلى نماذج ظاهراتية للبناء العقلي لإدراك التخطيط الشعوري والعملي في عالم العولمة؛ أي الوجهة والحركة. وبالتالي، العمل على استعادة واقعية علمية لليقين، واستدراك خطأ وخطل وخطر إزاحة “المعنى”، الذي أفضى إلى “اللامبالاة”، في عالم يتعولم بسرعة فائقة.

ولاستدراك مقصدنا، فإننا في حاجة دائماً للتجربة، وذلك باستخدام مناهج لتحيين أساليب محددة، لتطبيق التحليل الجذري لإكسابنا المهارات، التي نحتاج إليها لنعرف ما نقوم به، فضلاً عن أنه يمكن أن نُعَرِّفَهُ للآخرين. وقد وصفت جوهر هذه الممارسة بـ”النمذجة”، وأقترح في هذه المساهمة كيف يمكن أن تُفهم هذه “النمذجة” بشكل صحيح، باعتبارها عملية مستمرة يكون التعرف عليها من خلال إحداث تشكيلات جديدة في عملية التمثيل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ (الأنبياء: 16).

ونحن، كما قد اقترحت، في صحبة معرفية عامرة مع رموز الرابطة المحمدية للعلماء، التي تشحذ فينا المسألة المعرفية، لأن مدلول “النمذجة” يفتقر لطريقة منضبطة في الحديث عنه. ورغم أن المناهج التي أمامنا صريحة، وإجراءاتها محددة، والنتائج متوقعة، لكننا قد لا نتمكن بشكل كامل ومقنع للتعبير عن حالة فكرية عن الوسائل، التي يتم بها إنتاج هذه النتائج. وبالتالي، ينحصر جهدنا في التحليل، الذي ليس افتراء على مساق، يدخل من الباب الخلفي للمساقات الأكاديمية، بل هو مؤشر على التعقل المطلوب لفهم البعد النظري، الذي يقودنا إلى المرحلة المقبلة للحجة، التي بدأنا بها هنا، ويجب أن تبلغ غاياتها.

إن اقترابنا من الحجة الأساسية قد يقودنا لاستخدام مصطلحات تبدو وكأنها مدخل لـ”نظرية الهيكلة”، كما تناولها جيلبرت، ومصطلحات “إعادة الإعمار البنيوية” في النظرية الاجتماعية لترويتيش[1]، وربما هي أشبه باستخدام “البنيوية”، كما في فلسفة العلوم، لكل من بلازر ومولينز، غير أنها لا تشير لنفس المجموعات من الافتراضات والمبادئ، التي يمكننا أن نُجري معادلاتها بشكل ملائم على موضوعة العولمة[2]. إذ تقول نظرية الهيكلة إن هناك ازدواجية في البناء الهيكلي بين المجتمع ووكلاء المعرفة الإنسانية المعنيون بـ”المعنى”، قد تتسرب منها طبائع “اللامبالاة”. وينظر إلى الوكلاء وكأنهم يعملون على استنساخ خصائص هيكلة المجتمع ونمذجتها، مما يسمح للحياة الاجتماعية أن تكون مستمرة على نسق واحد عبر الزمان والمكان. والهيكلة أيضاً “تُشير تجريدياً لعملية ديناميكية حيث تأتي الهياكل لحيز الوجود[3]“. وعلى هذا النحو، تختلف نظرية الهيكلة عن كلا البنيوية وفلسفة الحركة. إن محدودية البنيوية تتمثل في أنها تعتبر استنساخ العلاقات والممارسات الاجتماعية، كنتيجة ميكانيكية، بدلاً من أن تكون العملية الإنشائية النشطة، التي أنجزتها الحركة، والتي تتمثل في أفعال الشخص الفاعل بيقين الوجهة.

على النقيض من ذلك، فإن من سمات خطأ فلسفة الحركة، ذات الوجهة العقلانية المادية الصِرْفَة هي قلة “الإنتاج” المعرفي المهتدي، وبالتالي، لا تستطيع على الإطلاق تطوير أي مفهوم للتحليل البنيوي “للمعنى[4]“. بينما يبدو استخدام ترويتش لمصطلحات “البنيوية” و”إعادة الإعمار البنيوية” أنها تُشير إلى نظرية اجتماعية مجددة “للنمذجة” والمحاكاة لسلوك التنظيم الذاتي للحركة، على الرغم من أنه ليس من الواضح إذا كان يُشير إلى “الهيكلة”، أو “البنيوية”.

 فمن منظور فلسفة العلم، استخدم مولين مصطلحات “البنيوي” و”البنيوية” في تصور الفوقية النظري. ووفقاً لمولين، فإن الركيزة الأساسية للبنيويين هي أن مفهوم التقريب ينتمي أساساً إلى التفسير المنهجي لمفهوم النظرية التجريبية[5]. ويُشير عمل بلازر إلى قياس العمل وفلسفة الحركة إلى النظريات السوسيولوجية، التي لديها قدرة الفعل بين أهدافها[6]، ولكن تحليله الفعلي لـ”لحركة”، التي تقوم على فلسفة العلم البنيوية، يركز على التقريب والقياس، ويستبعد النص المقدس. وربما لا تكون هذه هي القضية، التي يقع عبء وضوح المصطلحات فيها على هؤلاء المُنظرين، بقدر ما يقع على عاتقنا نحن فهمها وإعادة قراءتها ومواءمتها مع النص المقدس، بعد أن وفروا لنا قدراً من الوضوح في رسم الفروق بين مقدمات السرد العقلي.

وبالنظر إلى مرجعية “المعنى” وجوهريته التفسيرية لحركة الوجود الإنساني في الإسلام، فإن الحاجة للتجديد المنهجي الأصولي والمقاصدي تبدو ماسة في بحث الإشكالية المعرفية المتعلقة بكنهه، وتنزلاته، وبفهم ظاهرة إزاحته، التي بلغت مداها في الطور الراهن لسؤال “اليقين”، الذي يتبدي في كل مشكلات العصر بمختلف تمظهراتها، بما يتطلب الانتقال إلى حالة إدراك محيطة، لبناء المعرفة بمضامينها الوجودية، والتي تستقيم معها أحوال الإنسان، وتسكن إليها احتياجاته الفكرية والنفسية والوجدانية باطمئنان؛ أي أن “المعنى” أصبح بحاجة إلى مورد تفسيري أكثر قدرة على إجابة أسئلة هذه الاحتياجات. هذا المورد هو مقصود التجديد الاجتهادي، ومفقود ميراث الرؤى الفلسفية المتراكم عبر النظريات التأملية والتجريبية. وهذا المفقود تظهره الاستعادة الجذرية لمفهوم “الوحي” وصلته التحققية بـ”المعنى” حيث هو مفسر حيوي للوحي في تمثلاته الفكرية وتصديقاته السلوكية.

منطق النمذجة

إن القلق الرئيس هنا هو، كما قال كونفوشيوس، أن نستخدم الكلمة الصحيحة لهذا النشاط، الذي نشترك فيه، لئلا تنحرف ممارستنا عن مسارها لعدم وجود فهم مشترك حول “المعنى”[7]. وهناك عدة كلمات مفتاحية تعرض نفسها علينا، في هذه المساهمة، مثل “الحركة” و”الوجهة” و”المعنى” و”المبالاة” و”اليقين”، من خلال ما يمكن تسميته فقه اللغة الأخلاقي، والذي ينبغي لنا دراسته، باعتباره الأكثر ملائمة في النظر إلى هذه “النمذجة”[8]. إذ إن الشكل الاسمي، للـ”نموذج”، هو بالطبع مفيد جداً وأكثر اتساقاً مع نية الاختصار والحصر، ولكن لأسباب سوف ترد في ثنايا هذه المساهمة، هو أن التعرف على فضيلته الأساسية بشكل صحيح، قد تختلف عن النعت الحالي، الذي يكثر استخدامه، بما فيه الوصف الدلالي. ولكن، وقبل الوصول إلى مدلولات الكلمات المذكورة وعلاقتها بفقه اللغة، نحن في حاجة للإطلالة على مفهوم “النمذجة” في ضوء الأدبيات المتوفرة، ومن ثم النظر في الملاحظات المُعِينَة على فهم هذا المصطلح، وإسقاطاته بالحصر، الذي يُقَلِّص كليات “المعنى” في حركة الحياة في السرد العام، أو يضيء بها ظُلَم الحياة وأصول المعرفة في النص القرآني.

وبشكل عام، تُعَرَّف “النمذجة” بأنها الرمزية البيانية، أو الرياضية، المادية، أو اللفظية، للتمثيل، أو هي النسخة المبسطة من المفهوم، مثل الظاهرة، والعلاقات، والهيكل، والنظام، أو جانباً من جوانب الواقع الحقيقي. وتشمل أهداف النموذج، تسهيل الفهم من خلال القضاء على المكونات غير الضرورية، وللمساعدة في صنع القرار من خلال محاكاة “ماذا لو” السيناريوهات، وللشرح، والسيطرة، وتوقع الأحداث على أساس الملاحظات السابقة[9]. وبما أن معظم الأشياء والظواهر تبدو معقدة جداً، باعتبار أن لديها أجزاء عديدة، ويكتنفها الكثير من التعقيد بسبب الترابط الكثيف لأجزائها، مما يُصَعِّبْ فهمها في مجملها، فإن النموذج يحتوي فقط على تلك الميزات، التي هي من الأهمية بمكان لغرض صانع النموذج.[10] غير أنها قد تضر بترميزها للقيم، في مسألة يقينيات الوجهة، كليات اليقين في المعنى.

لقد نشأت مسألة “النمذجة” للعلوم الإنسانية كناتج طبيعي للحوسبة، ومن السؤال السابق حول ما الذي يجمع الممارسين في جميع التخصصات، ويشكل بينهم قيماً مشتركة، وما الذي يفعله جميعهم بأجهزة الحواسيب الخاصة بهم، التي قد نجد في أنشطتها مؤشرات متنوعة من ممارسات نوعية متماسكة؟ وكيف يمكننا أن نخلق الأفضل، وأن نشعر أكثر بالإنتاج الذي نلاحظه؟ هناك، بطبيعة الحال، الكثير من الإجابات: فالممارسة تختلف من شخص لآخر، من مشروع إلى آخر، وطرق تفسير ذلك ربما تختلف حتى أكثر من ذلك عندما يتعلق الأمر بالنص المقدس.

 وفي هذه المساهمة نزعم بأن “النمذجة” هي دالةٌ على مثل هذه الممارسات[11]. نعم، لدينا ثلاثة أهداف متطابقة لتحديد “نمذجة” العلوم الإنسانية، التي لها أرضية فكرية مشتركة مع التخصصات القديمة، بما فيها علوم الدين، بحيث يمكننا أن نقول كيف، وإلى أي مدى يتوافق مجالنا مع العلوم الإنسانية، وكيف يستمد منها، ويضيف إليها؛ في نفس الوقت، عكس تجربة “النمذجة” فيما تعنيه لنا “وجهة الحركة”. ونستهدف النظر إلى القضايا الأكثر تحدياً في الحياة العامة، وتلك الأسمى تجلياً في النصوص القرآنية. وبالتالي، يُمَكِّننا استرداد كمالات “المعنى” وكلياته، وأن نتخيل مستقبلاً أكثر مكافأة، فكرياً، مما نحن عليه في واقعنا المعاش اليوم.

لهذا، لا تهدف هذه المساهمة، حصراً، إلى تحقيق رؤية جديدة في جوهر المعتقدات الأخلاقية والدينية، وإنما هي تجريدات تسعى لفهم “المعنى” من خلال الفكر واللغة بطريقة أكثر تفضيلاً لا تفصيلاً، ولكنها تتجنب، في الوقت نفسه، “النمذجة” الكمية المخلة بقيمة “المعنى”. ومبدئياً، فنحن غالباً ما نميل إلى التفكير من خلال اللغة والقيم الأخلاقية الكلية، لا “النمذجة”، التي تبتسر “المعنى” وتخل بمقاصده. ونسترشد بأن مباحث الأخلاق هي دعوة لنا أن نفهم أن حاجتنا لفهم جوهر اللغة والفكر الأخلاقي والديني لن تتحقق من قراءتنا لنظريات ميتافيزيقية، تُشْرَحُ من وجهة النظر هذه، ولكن عبر التركيز على الأشكال الأعمق للتعبير الديني القرآني.

 ومن هنا، فهذه المساهمة لا تقترح نظريات ميتافيزيقية، وإنما تحاول تبيان الطريق لنا للعمل بأنفسنا للخروج من التباسات منهجية قَيَّدْنَا بها أحوالنا، منها بعض أخطاء التفلسف، الذي غَيَّب فكرة “الوحي” عن توجيه مقاصد حياتنا، والذي أظهر لنا أن المداخل القياسية الحديثة للأخلاق لا يمكن أن تبرر كل خلافاتها مع المعتقدات الأخلاقية الدينية، التي جاءت الرسالات السماوية، وخاتمها القرآن الكريم.

إننا نعلم أن عدد الدراسات والكتب المنشورة حول فلسفة “المعنى” كبير للغاية، وكثيرها مهم ومفيد. ونتيجة لهذا، ليس لهذه المساهمة هدف قاصد، أو أي محاولة لمراجعة مستفيضة، أو تسجيل جميع الحوارات والخلافات الفلسفية والدينية حول هذا الموضوع الهام. وإنما ركزنا على مختارات من الآراء بقناعة أن هيكل الأفكار العامة عن “المعنى، والحركة، والوجهة”، والروابط الواشجة بينها، مدين بالكثير لـ”الوحي”، كما هو للخيال العقلي الفطري، الذي هو مطلوب للفلسفة والتفقه وتطوير تقنيات التواصل الإنساني، والذي يمكن أيضاً أن يقودنا بسهولة كبيرة جداً إلى أي مكان يريد العقل أن يتأمل في مكنوناته.

وعلى أساس نهج الفلسفة، تضع هذه المساهمة في الحساب تحليل العلاقة بين “الوحي والمعنى”، يتجنب أي تناقض أسست له العقلانية المادية، ويقر بأن القضايا المركزية في المجالات الأخلاقية والدينية لا يمكن حلها عن طريق التحليل النظري العقلي وحده، وإنما تتحقق كمالات المعرفة بها بتوجيهات “الوحي” الإلهي المرشد لفطرة الصواب. وباتباع هذا النهج البديل، يمكننا أن نُصْبِح على بينة من النظريات الأخلاقية الوضعية، التي ترتكز على تقديرات غاية في المادية، ومبررات الاعتقاد الديني، التي تزكي قيم السمو الروحي في جوهر الحياة البشرية.

فرضيات المعنى

إن جوانب الأشياء الأكثر أهمية لنا تبدو مخفية دائماً بسبب بساطتها، وعلاقة الألفة، التي تربطنا بها. فالواحد منَّا غير قادر على ملاحظة شيء ما، لأنه دائماً أمام ناظرينا، ولأن الأسس الحقيقية لاستطلاعاتنا لا تلفت انتباه الشخص العادي على الإطلاق. وهذا قد يعني فشلنا في أن نتأثر بالنظر إلى شيء كان يُنظر إليه فيما مضى على أنه الأكثر والأقوى لفتاً للانتباه[12]. لذا، فإن محاولة استكشاف بعض المواضيع، التي هي محور المناقشات المستمرة داخل مجتمعاتنا، والتي تتعلق بالتعبير عن الطبيعة الصعبة للأخلاق، وقيود التصوف وتكاليف الدين، والمبررات الملزمة بها، قد صار لها وضع إشكالي في عالم العولمة الحديث. ولهذا، فإن الواجب يدعونا، بطبيعة الحال، إلى مناقشة بعض الأفكار المهمة، الموضوعة كقصد لهذه المساهمة، التي لا يمكن ببساطة إعادة إثباتها، أو تفسيرها.

 ومع ذلك، فهي في حاجة إلى محاولة تفسير، والتفسيرات كما نعلم جميعاً، تبدو في كثير من الأحيان مثيرة للجدل، للحد الذي يحرمنا من مناقشتها. رغم أننا نعتقد في ضرورة طرح الأسئلة القوية والحارقة، كونها وسيلة أكثر أهمية من الأجوبة الذكية، ولأنها تفتح آفاقاً جديدة لحوارات صاعدة، وتتيح إمكانيات جديدة لولوج مجالات مجهولة، وتحاور بالعقل العارف إشكاليات غير مطروقة. وقد يكون مدخلنا لها بأسئلة، تبدو يسيرة، ولكنها موغلة في العمق، مثل: ما الذي يعطي حياتنا المعنى؟ وماذا يعنيه شعورنا بالعجب والدهشة بالنسبة لبحثنا عن معنى؟ وهل من الممكن أن نجد المعنى بعيداً عن الله؟ وكيف يمكننا أن نزاوج بين حقائق العلم والوحي لإعطاء حياتنا معنى وهدف؟

نعم، لقد نُظِرَ للقيم الإنسانية، علمياً، كأمر مركزي ضمن عدد من التقاليد غير السلوكية في علم النفس والاجتماع، وغيرهما، بما في ذلك الأنسنة وعلم النفس الإيجابي. ووصف عالم النفس المعروف سكينر تحليل السلوك كمجال للقيم والأهداف. ومع ذلك، فقد عَرَّفَ هذه المفاهيم من حيث هي تاريخ من التعزيز، الذي فشل في تحديد ما إذا كان، وكيف أن القيم الإنسانية وغير الإنسانية قد تختلف. ويوفر تحليل السلوك السريري الحديث شكل من أشكال القبول والتزام مبدأ علاج معيقات “الحركة،” ومع ذلك، لم ينجح في تقديم تعريف وظيفي للقيم الإنسانية، التي تلبي هذا المعيار الأخير[13]. كما فشلت هذه الطرق في تقديم تفسيرات منطقية لبيئة العلاقات السلوكية، التي يمكن أن تُشارك في التقييم، الذي قد يسمح بالتنبؤ والنفوذ فيما يتعلق بـ”الحركة”.

إن واحدة من السمات المميزة للسلوك البشري، في حركته ووجهته، مقارنة، بما عليه الأنواع الأخرى من المخلوقات، هي في التعرف على مكانة العقل المهتدي، وإلى أي مدى تتأثر حياتنا من خلال القيم والهدف منها. فقد اقترح سكينر مرة أن تحليل السلوك هو مجال القيم والهدف منها. ومع ذلك، حصر الهدف فيما يعنيه من تاريخ التعزيز، الذي يمتد بالحركة إلى وجهة المستقبل[14]. وبهذا المعنى، جعل السلوك البشري، من غير الوحي والعقل المهتدي، لا يختلف عن أي كائن حي آخر. ومع ذلك، هناك شعور آخر، لم يدركه سكينر والوضعيون، يؤكد بأن القيم الإنسانية، والهدف منها، هي فريدة من نوعها، لا تستقصيها ولا تستوفيها القياسات المعيارية المخبرية. ويستند هذا التفرد على حقيقة أنه، على خلاف الأنواع الأخرى، فإننا ننخرط كبشر في السلوك اللفظي، أو فعل التواصل عن طريق اللغة واقتسام المعنى، والبحث الدائم عن القيمة الأخلاقية اليقينية لـ”المعنى”.

وهكذا، على عكس غير البشر، الذين تكون حواسهم مقيدة إلى حد أن قيمهم، والهدف منها، تستند بالضرورة على التاريخ الفعلي للاستجابة الفطرية، التي تنطوي على مصادر بسيطة نسبياً من التعزيزات المعنوية، والتي يجب أن تظهر في مرحلة ما عندما يتم اتصال. فالإنسان يمكنه أن يبني هدف الاتصال بالرموز اللغوية المتعلقة بالنتائج المستقبلية المعقدة، التي شُيِّدَتْ لفظياً في مراحل تطور الاتصال المختلفة، والتي قد تكون بعيدة زمنياً للغاية، أو تلك التي لم نجربها أبداً[15]، إضافة إلى الهدي والتوجيه الإلهي من خلال “الوحي”، وعبر الرسالات الدينية المختلفة.

الحركة والاتصال

إذا كنت تستطيع حقاً أن تلتزم بـ”بعقلية لا أعرف”، فلا يمكنك استكشاف مسألة ما إذا كانت الحياة لها معنى بطريقة هادفة، أم لا. فقد تم تكييف حياة كل واحد منا من سلسلة من الأفكار والكلمات والأفعال، التي تحدث في فضاء نطلق عليه الزمان، أو في مجال نُسميه المكان. وفي تقديرنا أن مشكلة الزمان “يترتب عليها مشكلة أخرى، ألا وهى مشكلة المكان، فالزمان مرتبط بالأحداث والوقائع المكانية، كما أن الوقائع الحادثة في المكان لابد لها من إطار زمنى يحكمها”[16].

وفي هذا الصدد نشهد انقسام الفلاسفة والعلماء والفنانين والأدباء إلى فريقين؛ إذ يذهب أحدهم إلى القول إن الزمان موجود خارج الذات، بينما يذهب الأخر إلى أن وجوده داخلها حيث لا يوجد شيء خارج الذات”[17]. غير أنه من الصعب معرفة ما إذا كان هناك أي شيء خارج تلك الأفكار، والكلمات، والإجراءات، وذلك لأنهم يقولون إن كل ما نعرفه حقاً هو تجربتنا الخاصة، التي لن تحدثهم بما يمكن أن يقنعهم بقصتي “الإسراء” و”الكهف”. إذ إن حقائق العلم التجريبي، أو العلم البشري، محدودة ومنقطعة: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ (النجم: 30).

في حين أن مفهوم العلم في القرآن لا ينفصل عن حقائق الوحي، وفي الغالب يكون العلم المادي متعلق بالمعرفة التجريبية. إذ تؤخذ معظم أفكارنا، والكلمات، والأفعال، في واقعنا الموضوعي، مع مسؤوليات البقاء على قيد الحياة، والتكاثر، واهتمامنا بعائلتنا. وإذا كان هناك أي وقت متبقي بعد استيفاء حاجتنا الخاصة، ربما قد ننظر في معنى حياتنا فيما يتعلق بارتباطها بمجتمعنا، وربما العالم بأسره. وبعد ذلك، قد نستكشف بالتساؤل الميتافيزيقي معنى حياتنا فيما يتعلق بشيء أكبر، هو الهدف، أو الوجهة. وقد يتولد لدينا الإحساس بـ”المعنى” المُوجِه للحركة في كل مكان.

وفي سبيل البحث عن “المعنى” عقلياً، يعتقد الوضعيون أن هناك ثلاث حقائق محتملة. الأولى، هي أنه لا يوجد أي معنى خارج تجربتنا الخاصة، سواء كان ذلك ساراً، أو غير سار، بالنسبة لنا. فإذا لم يكن هناك معنى آخر غير اللحظة المادية، يُصبح إحساسنا بأي معنى أكبر مما هو موجود إلا مزيج من الخرافات والأساطير، أو وسيلة للتعامل مع الخوف، الذي يستبد بنا في وجودنا المسلوب من يقينيات الحياة. فنحن على قيد الحياة ولا نعرف ما إذا كان هناك أي هدف لحركتنا ووجهتنا، ونحن سوف نموت، ولا يمكننا السيطرة على ما يحدث لنا. والاحتمال الثاني، هو أن هناك معنى للحياة خارج التجربة المباشرة. هذا المعنى يمكن أن يكون مقدر تماماً، أو يمكن أن يكون هناك بعض المجال لنا للمشاركة في تقريره بطريقة صغيرة، أو كبيرة، اعتماداً على نوع معتقدنا. وثالثاً، وأخيراً، احتمال أن لا يكون هناك معنى موروث، ولكن هناك معنى أننا إما شُركاء في اختراع المعنى، أو هو من اختراعنا نحن، أي أننا نخلق المعنى ونحن نمضي في مسيرة حياتنا. وفي رأي المدرسة التطورية، ربما كنا نُشارك في خلق معنى الحياة من لحظة الانفجار الكبير[18].

إن الإجابة المنطقية على ذلك هي أنه إذا لم يكن هناك أي معنى، فيجب أن نكون جاهزين لتحقيق أقصى قدر من السعادة بأي طريقة من الطرق. فماذا سيكون علينا أن نفعل؟ حتى إذا لم يكن هناك أي معنى، سيستمر الإنسان في ممارسة الكرم، والانتباه إلى الخبرة المباشرة، ويحاول أن يعيش تجربته الخاصة لحظة بلحظة إذا كان يرغب في تحقيق أقصى قدر من السعادة. وإذا لم يكن هناك أي معنى إلا أن يكون الإنسان سعيداً، فإنه لا بد له أن يعرف نفسه من أجل أن يحقق هذه السعادة. وإذا كان الإنسان يعتقد أن هناك معنى، فإنه سيسعى لمعرفة طبيعة هذا المعنى، ثم محاولة التعايش معه بأفضل ما يمكنه، وأن يعيش اللحظة. وإذا كان هناك معنى، والإنسان لا يعرف نفسه شعورياً، فهو سيرتكب باستمرار نفس الأخطاء، لأنه غائب عن الوعي، وحتى عن إدراك جميع الأشياء المدمرة، التي يفعلها للآخرين ولنفسه. وإذا كان يعتقد في المعنى فهو مدعو إلى معرفة نفسه، لأنه يريد أن يضم صوته إلى هذا المعنى، وعليه أن يعرف نفسه جيداً من أجل القيام بذلك.

وفي كل الأحوال، علينا أن نَحْذَر من استخدام إيماننا بـ”المعنى” كمجرد مخدر، أو ذريعة، تحجبنا عن الوعي بموجباته وفروضه، حتى لا نُظهر حقيقة “الوجهة” لأنفسنا ونقوم بالعمل المفروض علينا القيام به، ونتقيد بشروط “الحركة” اللازمة لتأكيد ما نؤمن به. أما إذا أصبحنا على قناعة بوجهات نظرنا الخاصة فقط فسنُصبح جاحدين جامدين بلا قيمة أخلاقية، ومتعصبين بلا هدف إنساني، حتى لو كنا متدينين. إذ إن السمة المميزة لقناعات بعض المتدينين المتشددين هي هشاشة القناعة بالمعنى، ونحن جميعاً، في مرحلة ما من حياتنا، قد تواجهنا حالة من عدم اليقين بكفاية المعنى، وحتى ضبابية الوجهة وفقدان الهدف. لذا، فنحن غالباً ما نأخذ راحة مؤقتة بفكرة المعنى الأكبر، المتمثل في الوحي، لكننا كثيراً ما نعيش حياتنا كما لو كنا نعتقد ذلك. فإذا نحن تشاركنا في امتلاك المعنى معاً، نكون بحاجة إلى أن نعتصم بالأخلاق، وصفات القِوَامَة الإنسانية، لأننا نعيش المعنى في أنفسنا ومع عائلاتنا والمجتمع والعالم.

ورغم كل ما تقدم، يوجد لدى الكثيرين بعض عُقَد الشك، الذي يوجد في مخيال كل واحد مِنهم. وذلك عندما يكون لهم صوت صغير، أو كبير، داخلهم يقول لهم ليس هناك معنى غير العقل، وهو الذي يدفعهم للفعل والحركة. إننا لا نحتاج أن نطلب من هذا الصوت أن يذهب بعيداً؛ بدلاً من ذلك، علينا أن لا نجعله جزءاً من وعينا العقلي المادي، الذي يُضعِف وازعنا الديني. وعلينا أن لا نقول لأنفسنا: هذا هو أنا لا أصدق أن كل الأمور مهمة. وقد تقنعنا اللامبالاة أن لا نُصدق أن أي شيء له قيمة، وليس هناك معنى يشعرنا ذلك، “ولكن هذه مجرد أفكار”[19].

 لذا، فإن استكشاف المعتقدات والثقة بها مهم جداً لإدراك حقيقة “المعنى”، ومهما كنت متكئاً على مصادر عقلية مقنعة، فإنه ليس من الضروري أن تغير سلوكك دون الاسترشاد بهذا “المعنى”. إذ لا يمكنك أن تتحلى بخصيصة التسامح، والقدرة على التحمل، في كل ما هو صحيح بالنسبة لك، وانت تعرف أنه قد تغير. إذ عليك أن تُعطي ذاتك فرصة للنظر في نفسك بلا خوف، إذا أدركت يقيناً أن الوجهة صحيحة.

وللتأمل الخاص؛ نتساءل: هل تعرف ما كنت تعتقد؟ هل تعتقد أن هناك معنى، أو هل تشك في ذلك؟ أو، هل تعتقد أننا نُشارك في اختراعه ونحن نمضي في حركتنا؟ هل يتسق سلوكك مع ما تؤمن به من مسلمات ويقينيات؟ إن هناك بعض الحقائق التأسيسية، التي لا يمكن أن تتغير، وليس بمقدور الإنسان أن يُبدلها أبداً، وأنه لن يكون قادراً على فهمها دون إيمان يقيني. ويرتبط كل منها مباشرة بالاعتراف بما هو وحي، وما هو عقلي، وكيف يجب على العقل أن يعيش في ضوء الحقائق المطلقة للوحي. لذلك كيف يعيش الإنسان بحكمة في سياق هذه الحقائق؟ وكيف يستوعب حركة الحياة، وتأثير يقين الموت؟ وكيف يُرحِب بتصحيح الحكمة لأخطائه؟ وكيف يتجنب الفخر بالفرص، ونفاد الصبر من التحديات؟

مقاربة الوجهة والمعنى واليقين

إن أصول الظواهر الفكرية كلها تبحث، في غايات حركتها القاصدة وغير القاصدة، عن إجابة لسؤال “اليقين”، حيث لا تتحدد “وجهة” دون مسار يقيني ينتهي إليها. وتتشارك في بناء معابره كل حواس المعرفة، بما يعني أن كينونة “الحركة” تجاه الوجهة هي تجلي اتصالي متكامل المنظومة، في تمظهراته الفردية والاجتماعية، وعبر تفاعل وسائطه الكونية مع مستقبلات الإدراك والتأثر في المكونات الوجدانية والفكرية والفطرية والغريزية: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36).

 من أجل ذلك ظل البحث في سؤال “اليقين” هو السمة المرجعية المفسرة لحركة الإنسان الوجودية في أفكاره وأفعاله ومقترحاته الفلسفية، وسعية المُحدِّد لمُنْتَج اهتدائه: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الملك: 22). من ثم، فإن طابعاً حتمياً يسم التداخل بين “الحركة” بكل أنساقها التكوينية، وبين “الوجهة” بكل سماتها ومآلاتها، و”اليقين” بكل منابت تساؤلاته، واستشكالاته وغاياته، التي تسع مدارات الاحتياج الإنساني.

والنسق المعبِّر عن هوية هذا التداخل هو ظاهرة الاتصال، كحالة متأسسة على “المعنى” من حيث هو واصلة “اليقين”، و”اليقين” هو مبتغى “المعنى”. لذا، فقد ظل “المعنى” هو محتوى ومقصود الاتصال؛ موجوداً، أو مفقوداً، سنة ماضية في التجدد، على امتداد مسيرة قصة الوجود الإنساني؛ منشئاً تشكلاتها الثقافية، وناظماً تحولاتها الاجتماعية، وراسماً آثارها الحضارية، عبر أطوار معرفية، ومراحل فكرية عميقة الانتقالات في المفاهيم والقيم، وسائل الأداء، وتقانات التواصل.

لقد انتهت هذه الإنشاءات البنيوية المتراكمة إلى تكييف لأوسع وأعقد أنماط الاتصال الإنساني المتمثلة في ظاهرة “العولمة”، التي أكدت تجلياتها الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، حتمية ذلك التداخل التأثيري بين “الحركة” و”الوجهة” و”اليقين”، الذي هو “المعنى”، والذي أشارت إليه الفاصلة السابقة. ذلك أن “العولمة”، التي ظاهرها إعلام إخباري ومعلومات، وباطنها ثقافات ورؤى وفلسفات، تطوي في خطابها خبرات وتاريخ تدافع التجارب البشرية، وتصرفاتها الفكرية، اصطلاحاً واصطراعاً، ممسكة بالماضي، والجة في الحاضر، وعابرة للمستقبل.

ولئن خلصت الجدالات التحليلية والفلسفية الحديثة إلى الإقرار بغلبة منظور “تشيئة” الإنسان وإخضاع واقعه وكيانه الوجداني إلى نسق الحسبة المادية، فإن “العولمة” الاتصالية تدلل على ذلك في أكثر معطياتها ونواتجها، بازاحتها لـ”المعنى” عن إنتاج الأفكار وإبعاد قيمه عن إبداع الأفعال، بما يمكن من القول إنها وسمت الموقف الإنساني المعاصر بحالة من “اللامبالاة” حيال المصير الوجودي الذاتي والاجتماعي للإنسان. إن لا مبالاة “معولمة” لهي تأكيد على عبثية العيش وضياع بهجة الرؤية للحياة، تلك البهجة، التي تتجلى في إلفة “المعنى”، وتوافق الفكر والروح، واتساق أحوال القلب التعقلية والشعورية. ذلك التجلي، الذي يجعل فعل الفرد وتحققه الذاتي الوجودي على استقامة تعارفية وتفاعلية مع كل دوائر انتماءاته الاجتماعية؛ من دائرة الانتماء القرابية إلى محيط الكافية الكونية للناس.

مفردة الوحي

إن “الوحي” أوجبته حاجة الإنسان “إلى وسيط لتلقي التبليغ الإلهي”[20]، وضبط وجهة ونسق حركة الإنسان في الحياة الدنيا. وقد أُشِيرَ إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى: 48). ومثلما أن هذا “الوحي” ضروري لضمان إبلاغ دقة النص القرآني، فهو شديد الأهمية بالنسبة لفهم كل نص مقدس، لأنه يُمَكِّن من الحصول على سجل للحقيقة منزه عن الخطأ، وحتى لا يؤدي تغيير الكلمات إلى تغيير مماثل في الأفكار، “فالله وحده إذن جدير بأن يتكلم بوضوح وسلطان”[21]. إلا أن الكثير من الدراسات المسيحية تعرِّف “الوحي” بأنه “نقطة التلاقي والتواجه بين الفكر الفلسفي والفكر اللاهوتي في علاقاتهما المتبادلة”[22]. وقد بدأ ذلك جلياً في خطبة البابا بنديكتوس الشهيرة، التي أساء فيها إلى الإسلام قائلاً: “أن العقيدة المسيحية تقوم على المنطق لكن العقيدة الإسلامية تقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل، أو المنطق”[23]. وهي تلك التصريحات، التي لم تكن صادمة للمسلمين فحسب، ولكن بعضها كان صادماً لكثير من المسيحيين أيضاً، فقد اعتبرتها الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية مسيئة لها أيضاً، لأنها وفق قوله “ليست كنائس مكتملة الأركان تابعة للمسيح”[24].

ولعل هذا يلجئنا إلى طرح سؤال هام، يأخذنا من حصانة دقة النص المقدس إلى معيارية التعبير العقلاني المادي، أو الثقافي الملتزم بقيود الدين، فيما يمكن أن نُشير إليه بمسألة “الإيمان والعقل”، وهل ينطوي هذا النص على موثوقية للانفتاح على “الوحي” الإلهي؟ إذ إن الثقافات معروف عنها علاقتها الوثقى بمعتقدات الناس وتاريخهم، لأنها “تُشَارِك في الديناميّات المنعكسة في الزمن البشري”[25]. فالثقافات تتغذى “بالمشاركة في القيم، وتظل حيّة ومستمرّة بمقدار انفتاحها على الحداثة”[26].

والمؤكد أن المجتمعات الإنسانية المعاصرة تتحرك بغير يقين هادٍ تجاه الحداثة المعولمة، التي تبقى فيها خيارات الأمة الإسلامية مرهونة ومقيدة بخصوصيتها. في ذات الوقت، الذي تسعى فيه نُخبها المتغربة إلى الهرولة نحو ما هو متاح من أيديولوجيات حافزة لسرعة اللحاق بقطار هذه الحداثة، ظناً منهم أن هذا هو السبيل الوحيد للتحرّر “من كلّ أشكال التخلّف، والانحطاط، والضعف، والإقرار بحرية العقل المادي ومركزيته في المشروع الحداثي النهضوي، ومن ثَمّ التأسيس لمشروع حداثي معاصر، يكون موازياً، أو مماثلاً، للمشروع الحداثي الغربي، بكل ما يحمله من مناهج فكرية، وخلفيات أيديولوجية، ورؤى معرفية”[27]. غير أن هؤلاء “نسوا أو تناسوا بأن الحداثة الغربية، بوصفها حركةً فكرية جديدة في التاريخ الأوروبي، تقوم أساساً على محاولة إبدال المرجعية الفكرية، التي تحكم وتوجّه السلوك الإنساني في الفكر والحياة، من مرجعية دينية إلى مرجعية إنسانية. فالعقل الأوروبي، الذي استطاع الإفلات من قبضة الكنيسة والإقطاع، وجد نفسه أمام حلٍّ واحدٍ لا ثاني له، عندما أراد تغيير الواقع القائم في تلك الفترة، تمثَّلَ هذا الحل في تغيير المرجعية التي تحكم الحياة، وجد نفسه أمام الكنيسة التي تتكلّم باسم الدين. واقتنع بقيم التغيير، والتقدّم، والتحرّر. الأمر الذي جعل من الحداثة ظاهرة أوروبية، شكّلت أنموذجاً حضارياً، ونمطاً فكرياً”[28]، لا يُمكن استنساخه وتجاهل خصوصياته الحضارية، ومحدداته الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية.

لقد أوقفنا حجتنا، وثبت لدينا، أن الحداثة، بهذا المعنى، يتحدّد مفهومها الإبستيمولوجي “وأصلُها التاريخي، وسياقُها الحضاري، وشكلُها الاجتماعي والسياسي”[29]، مفارقة لفضائنا الإسلامي، و”بأنها مذهب غربي ميلاداً وتكويناً، خضعت لمقولتي الزمان والمكان، ووقعت تحت تأثيرهما، ولم تستطع التخلّص من إكراهاتهما في هجرتها إلى بيئات ثقافية جديدة، ما جعلها سجينة للرؤية المعرفية، التي ساهمت في تكوينها، وبقيت تحمل بصماتها على مدار تاريخها، وهو ما يسمح لنا بالقول: إن الحداثة مقولة ذات حمولة أيديولوجية، تعلُق بذاكرتها مشوبات عقدية ذات أصول وثنية إغريقية، تحمل بعض آثارها في عصورها المتأخرة، فلم تستطع التخلّص منها حتى بعد أن تحوّلت إلى مذهب فكري”[30].

 فكيف لنا أن نُفسّر، إذن، ديناميات الرجاءات النخبوية في العالم الإسلامي من الحداثة بمحمولاتها هذه؟ مع مطلق تقديرنا أن كل إنسان ينتمي إلى ثقافة ما، يخضع لها ويؤثر فيها؛ فالإنسان هو، في آن واحد، مولِّد الثقافة التي ينتمي إليها ووليدها؛ أي أنهما نتاجان لبعضهما. فالإنسان “في كل تعبير من تعابير حياته، يحمل في ذاته ما يميّزه وسط الخليقة، وهو انفتاحه الدائم على [معرفة] السرّ [و] عطشه المتوقد إلى المعرفة. ومن ثم، فكل ثقافة تحمل نزعة إلى الاكتمال مطبوعة في ذاتها.”[31] غربية كانت، أو إسلامية.

ولإدراكنا اليقيني أن الحقيقة لا يمكن إلاّ أن تكون واحدة، فإن “الوحي” في الإسلام، وفي المسيحية، لم ينتقص من قيمة العقل في استقلاليته المشروعة. إذ إن العقل مناط التكليف، ومحمودة قدرته على التفكر وطرح الأسئلة في كل الديانات. ورغم أن العقل يُدرك أنه لا يستطيع أن يحسب ذاته قيمة مطلقة وفريدة، غير أنه مُقَوِّمٌ أساس من مُقَوِّمَات أمانة التكليف، التي كلف الله بها خلقه وهم يعيشون في هذا الكون. وقد حملهم هذه الأمانة، التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال، ولكن تصدى لها الإنسان، وحمل هذه الرسالة، وعينها كوجهة. ومن مقومات حمل الرسالة، أو التكليف، العقل، الجوهرة، التي وهبه الله للإنسان، به يميز، وبه يختار[32].

 فالحقيقة الموحاة تضع الكائن في وضح النور النابع من سني الكائن الأسمى القائم بذاته، وتنير الطريق أمام الفكر الفلسفي العقلي المادي. فالدين يبلغ بالمتدين هذا اليقين، إذ يقول القديس أوغسطينوس إن “الإيمان نفسه ليس سوى فكر يعبّر عن إذعان. من يؤمن يعقل وعندما يعقل يؤمن. فإذا كان الإيمان لا يرتكز على العقل، فليس الإيمان شيئاً”[33]، ويضيف قائلاً: “إذا حذفنا الإذعان، حذفنا الإيمان، فبدون الإذعان ليس من إيمان”[34].

فالعقل، كما أسلفنا، هو وسيلة للإدراك والتمييز والحكم، وهو مناط التكليف، ومهمته العظيمة هي فهم “الوحي”، وتنفيذه في واقع الحياة[35]“. وقد قيل أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل؛ أي أنه كالأساس والشرع كالبناء. ولن يغني أساس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن له أساس. وقد قيل فيه أنه كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن هناك شعاع من الخارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصراً. وفي قول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: “إن العقل شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك، لكنه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر، التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كـان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس”[36].

 ولكن الحقيقة الباقية تقول “إنه ليس بالعقل وحده يَحيا الناس؛ فالدين لن يعمل في الحياة عمله إلا بواسطة أصحاب العقول، والعقل لا يستطيع وحده أن يَبني حياة إنسانيَّة، دون معالم الدين، ودون هُدى الوحي، وغذاء الروح والضمير، والمنظومة القيمية والأخلاقية، وغير ذلك مما ينبع من الدين، ولا يستطيع غير الدِّين أن يُقدِّمه”[37]. فالتكاملية في تقرير “الوجهة” و”الحركة” تستلزم وجود العقل لاستيعاب حقيقة “الوحي”، و”الوحي” لهداية مسار العقل.

وهناك نمط من الافتراضات الأساسية المشتركة لكل الأديان، التي اعتقدت مجموعات مختلفة من البشر فيها، وعمدت تجريب قيمها حتى يُمْكِنها حل مشاكلها، والقدرة على التكامل الداخلي والتكيف الخارجي، التي اجتهدت بشكل جيد لإتقان الحركة بتوجيهاته، وبما يكفي لاعتبار إتباعه نهجاً صحيحاً. وبالتالي، لتلقينه لأعضاء جدد عبر الطريقة الصحيحة، التي تستصحب سلامة التصور، واستقامة التفكير، والشعور الحقيقي بالحاجة إليه، فيما يتعلق بتلك التحديات الماثلة أمام حركة الإنسان.

مفهوم الوحي

ظل مفهوم “الوحي”، في التحليل الجذري لإشكالية الإدراك المعرفي، وعلى امتداد عصور الرؤية، مقسماً بين تصورين؛ الأول، وضعي تقليدي ومادي، يشكك إما في مصدريته الإلهية السماوية، وفي هذه الحالة يسد أبواب تَفَهُمِه لقوله ونصوصه واستيعاب هداياته، أو يَنْظُره من زاوية محدودية وظيفية في مجال علاقة روحية فردية بين الإنسان وربه. والتصور الثاني، متدين برؤية تجزئي مفهوم “الوحي” بين معاني لغوية، واصطلاحات شرعية، وتخريجات إفتائية بحيث لا يمكنها من توحيد مراداته بما يشكل يقيناً يجعل “المعنى” تصديقاً محققاً لرسالة “الوحي” في هداية الإنسان، واستقامته وتحقيق غايات وجوده بسلام فكري ونفسي، ورخاء عيش لا ضنك فيه.

لقد بدأت قصة ارتباط الأرض والسماء منذ اللحظة الوجودية الأولى للإنسان: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 120-122). ولو انتبه حَمَلَة كلا التصورين إلى بعد الصلة والاتصال؛ للوحي بالإنسان والعالم، لكانوا صوبوا الإدراك بتوحيد الدلالات، ولتم فهم “الوحي” المدون في الكتاب، “القرآن الحكيم”، كمصدر للحقائق. فالآيات كلها متوحدة فيه، ومتكاملة في تصويرها الكوني بـ”المرأى”، مع مقابلها التفسيري التوصيفي بـ”المعنى”، وأن سداد الفطرة الفكرية تُوصل لهذه الحقائق، حتى لو نظرها مفكر غير مسلم بالشعار، وحتى لو غاب عنه مفتاح الضبط التوحيدي، لكن مقدمته السديدة موصلة إليه.

يقول العالم الياباني: توشيهيكو ايزوتسو: “إن إرادة الله بفتح تواصل مباشر بينه وبين البشر تظهر وفقاً للقرآن، في شكل تنزيله آية (الجمع آيات)، وعلى هذا المستوى الأساس ليس له ثمة اختلاف جوهري بين الآيات اللغوية وغير اللغوية، فكلا النوعين آيات إلهية على السواء. وبهذا الفهم، فإن “الوحي” بوصفه الشكل النموذجي للتواصل من الله إلى الإنسان، ليس سوى ظاهرة جزئية تنضم إلى عدة ظواهر غيرها في إطار المفهوم الأوسع لتواصل الله–الإنسان، وهذا هو السبب في أن القرآن يسمى الكلمات الموحاة “آيات” من دون تمييز لها من أخرى ذات الطبيعة غير اللغوية، التي تسمى آيات أيضاً”[38]. ومع قليل من الاستدراك على توشيهيكو في فكرة الظاهرة الجزئية، نجد أن عموم اجتهاده يمثل تدليلاً عميقاً على “اليقين” الإقناعي، الذي يقدمه “القرآن–الوحي” للفطرة الفكرية الإنسانية. وفي هذا إشارة مهمة إلى أن حقائق هذا “الوحي” الوجودية تأتي متسقة جغرافياً مع كونية الإسلام، أي إلى الناس كافة، وإلى العالمين.

ونلحظ هنا، أن هناك مسارات عديدة للضبط “اليقيني” لمفهوم “الوحي” التوحيدي من ذات الدلالة الاتصالية حيث خلط كلا التصورين؛ الوضعي والتديني، بين التوزيعات الوظيفية للوحي المتنزلة كحالات على الموجودات والكائنات؛ سواء كانوا بشراً، أو مخلوقات غيرهم، لغاية الإيمان بواحدية الله ومرجعيته وملكيته المتصرفة في السماء والأرض: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل: 68). ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ (الشورى: 61). وبين “الوحي” كرسالة كلية المحتوى والحقائق الموحاة إلى الرسل والأنبياء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 25)، ويقول في محكم التنزيل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).

ويتبين أن السور المرجعية، التي تبين فكرة توحيد “الوحي” بالحالات عديدة تهدي لمضمون موضوعات الاتصال وعلاقاته: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت: 11)، ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 72)، ويحدثنا سبحانه بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 6)،… ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (المؤمنون: 27)… ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: 49)… ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 121) ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: 113)،… ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال: 12)،… ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 109)… ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ (طه: 47). وينبهنا إلى أن القراءة التوحيدية للعلاقات الاتصالية للوحي ذات مهمة منهجية مركزية في وعي الإنسان المصيري، وارتباطاته بما حوله من موجودات ومخلوقات، في سياق ومحيط علاقات الأرض والسماء: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 12).

لقد لحقت بمفهوم التسخير نفسه حالة التجزئة التفسيرية، إذ قُصِر على البعد المادي ما أثر عميقاً في سداد الرؤية لحضور “الوحي” في توحيدية وشمول فكرة التسخير، التي شملت اتصالات الفكر الاجتماعي، والقيم المتعلقة بعلاقاته الإنتاجية والتكافلية، ومنظور الحسبة والعدالة في قسمة الأرزاق، والتي كانت واحدة من مدارات التساؤل الوجودي الفلسفي والأيديولوجي: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: 31).

ومن عناصر الاستشكال الجذرية لدى التصورين، الوضعي والتديني، فيما يتعلق بضبط المفهوم التوحيدي للوحي؛ المشكل المتعلق بتعدد الدلالات المعجمية للمفردة، وهو إشكال منهجي عميق فيما يتعلق بفهم مُبينات مفردات القرآن ومفاهيمه، بل وتكاد ترد إليه الأسباب الجوهرية في ضعف الوعي الفقهي بالقرآن تصوراً وأحكاماً. وهذا أيضاً واحد من الإحالات المهمة، التي يجب الاشتغال عليها في المنهج التجديدي لمفهوم “الوحي”؛ لأنها وثيقة الصلة بإدراك “المعنى” وتكييفه. غير أنه، ومن الموافقات النادرة، أن الدلالات المعجمية للفظ “الوحي” تشتغل على المستويات الاتصالية كلها، التي يشملها أداء مفهوم “الوحي”. ففي القاموس المحيط (“الوحي”: الإشارة، الكتابة، المكتوب، الرسالة، الإلهام، الكلام الخفي، كل ما ألقيته لغيرك، الصوت يكون في الناس وغيره، أوحى إليه بعثه والهمه، استوحاه: حركه ودعاه ليرسله، واستفهمه)[39].

بيد أنه عند مقاربة كل هذه الدلالات بالعلاقات الاتصالية، نجد مقابلاتها في “الوحي”، بكافة محمولاتها من المعاني المضمونية والإجرائية، متسقة مع الحق والعدل. وإلى ذلك، فإن الضبط “اليقيني” لمفهوم “الوحي” سيحيلنا في نتائجه الإقناعية إلى أن “الوحي” ليس مجرد مصدر من مصادر المعرفة، وإنما هو مصدر حقائق المعرفة. وفي سبيل ذلك، فإن المهمة الاجتهادية والمعرفية لانجاز هذا “اليقين” تستدعي إجراءات علمية عميقة ومراجعات واسعة للمحصول الكبير، الذي بذل في الحقول الاجتهادية كعلوم التأويل والتفسير. وهذا الاتجاه يمثل بالنسبة لمرجع الحركة ومرجع الوجهة/القلب المدرك والدال والنابض. كذلك بالنسبة لحقائق “المعنى”، الذي هو مقصود السعي بالتنزيل. ذلك أن المفهوم الإيماني نفسه “للتسليم” و”الإسلام” إنما يقوم على بناء يقيني. فهو ليس مفهوم إذعاني، وإنما حالة إدراك يقيني سخر له الله تعالى كل حجج التقبل “اليقيني” في آيات التكوين الوجودي، وحالات احتياجه الفكرية والذهنية والنفسية والوجدانية. وستشهد حركة الوجود الأرضي كلها (اتصالياً) في يومها الخاتم بكل هذا المسار الإعلامي للمعنى، في قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا. وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 1-9).

السلوك الوجودي

إن “المعنى” كمفسر حيوي للوحي في السلوك الوجودي، وفي صلته التحققية بـ”الوحي” لا يمثل مبحثاً فلسفياً تجريدياً يشتغل على تأمليات نظرية، أو مغذيات فكرية وشعورية منقطعة عن تكييف الفعل والسلوك، بل أن غايته تحققية، حتى على مستوى التصديق الوجداني. وهذا هو أقصى الغايات الإنسانية، لولا أن الإنسان جبل على تضييع الأمانة، أمانة “المعنى”، بتلازم حالتي الظلم والجهل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72).

ولو تأمل الناظرون هذه الآية التوحيدية، التي جعلت حال “المعنى” يتنزل بين متقابلات لا يجدها التصور الوضعي، وحتى التصور التديني التقليدي ذات صلة. فهذه الأمانة جعلت السموات والأرض والجبال مكافئات للإنسان في التكليف بحملها، رغم اختلاف التصنيف الإحيائي، ما يعني أن ثمة صلة تسخيرية في مجال “المعنى” بين الإنسان وهذه المخلوقات المسخرة له؛ السموات، والأرض، والجبال.

وثمة سمات موحية يستوجب استنطاق “المعنى” فيها لإصلاح وعي الإنسان بالقيم المعادلة من ناحية الهدى؛ لحالتي الظلم والجهل. وهما الحالتان المركزيتان في أسباب شقاء الإنسان، وفي كل أنواع شقاء حياته الأرضية وتعلقات صلاته بموجوداتها من شركاء كونين؛ كانوا بشراً، أو مخلوقات تسخيرية أخرى. وهنا نجد أن “المعنى” يفسر حيوياً “الوحي” حيث كل المكونات مسخرة لاستنباط “المعنى”، و”المعنى” مسخر لهداية الإنسان وإسعاده. و”الوحي”، في كل منظومات آياته، سواء التي تعلقت بمفردات العلاقات الإنسانية وتعاليمها الفكرية والخلقية، أو التي تعلقت بالمفردات الطبيعية المسخرة، فهي تشترك جميعاً في إنتاج هذا “المعنى”.

لهذا، نجد أن للمعنى تنزلات على أحوال السلوك القلبي؛ تعقلاً وفقهاً، تدبراً وشعوراً، وتنزلات على السلوك الذهني؛ تفكراً واعتباراً. وتنزلات على السلوك الغريزي؛ شهوة، وظلماً، وتعدياً. وعلى السلوك الروحي، كالاقتدار على تمثل المعاني الإيمانية الكبرى. وكل هذه الأنماط تجتمع في هذا المخلوق الإنساني المتداخل التراكيب.

 لذا، ما كان يمكن أن ينظر إلى “الوحي” وهو يجمع محركات “المعنى” كلها في السماء والأرض لصالح هدى هذا الإنسان، إذ الهدى نور على معارف الحياة، ما كان ممكناً أن ينظر إلى “الوحي” لكونه واحد من مراجع الرؤية، بل هو مرجع حقائق “المعنى”، الذي تبحث فيه، وعنه كل الأطروحات والفلسفات، وكل أعمال وأشغال الفطرة الفكرية. وإذا كانت أنشطة الإنسان قد تكاثرت تعقيداتها ووظائفها وتشابكاتها في نظم الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فإن الجامع فيها كلها إنها صورة “المعنى”، إما في وجوده، وإما في ضياعه. وبما أن “الوحي” هو مصدر الحقائق، فإن مسيرة الإنسان فيه، منذ خلقه فرداً وزوجاً، وحتى تخلقاته الاجتماعية، كلها مصادر “المعنى”.

والقصص المروية حول الوجهة هي سيرة الإنسان في حقيقته، التي لا يمثل معنى الماضي فيها إلا لحظة مرور زمني، لكن لا تجاوز فيها لحقيقة “المعنى”، الذي لا يتبدل كسنة بتبدل الزمان، ولا المكان، وإنما بتغير الإنسان عن “المعنى”، حين يغير ما بنفسه. حيث التغيير دلالة سالبة في التحول، بينما الإصلاح دلالة موجبة في هذا التحول. لذا، يضبط “الوحي” للمعنى سننه وقوانينه. فالسنن لا تتبدل زماناً ولا مكاناً، و”المعنى” كمفسر حيوي للوحي لا يتبدل، إنما يتغير موقف الإنسان ويتبدل منه هدى، أو ضلالاً، في طريقة ومضمون حركته، وفي مسار وجهته.

و”المعنى” في كل ذلك الحراك، وفي كل مدارات هذه الحركة، هو دالة اتصال في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. ولأن صلته بـ”الوحي” صلة تحقق وتنزيل، فإن المعادل التنزيلي السلوكي للمعنى المفسر للوحي في لحظة “العولمة” المعاصرة يجب أن يأخذ الاتجاه الاتصالي فيه اتجاه التكييف و”النمذجة”، أو نسق الأخذ من المثل. كما علمنا “الوحي” في مناهج التطبيق الاتصالي. ذلك أن حركة العولمة حين اتخذت طابع السيطرة العبثية، إنما كان ذلك لافتقار عالمها للمعنى المهيمن على حقائق السلوك وراشد السبيل.

والحال كذلك، فإن “نمذجة المعنى” من مرجعية “الوحي” تقتضي قراءة بعض المِثَالات، التي تبين منهجية كيف أن “المعنى” دالة ثابتة في الزمن، وأن سنة الله، كما في بيان “الوحي”، خارجة عن دائرة الأسطورة والخرافة والخيال، وإنما هي تجليات “اليقين” من خلال القدرة. وفي هذا ينفتح باب قراءة مراحل انتقال “المعنى”، في الخطاب الإلهي الموحى به، والاتصال التجريبي الإنساني، حتى لا يتحجج الناس بماضوية الحدث، وانقطاع “المعنى” عن الحضور. فالمعنى ثابت، كما تعاقب ثوابت النظام الكوني في دوران شمسه وقمره وتوالي فصوله. و”المعنى” يتوالى صادقاً متحققاً مع “الوحي”، إنما الإنسان يتزحزح عنه بتغييراته وتلجلجاته. وحتى لا يغتر الإنسان بأدائه في التسخيرات المادية والوسائطية، فإن جانباً من “نمذجة المعنى” المتحققة بـ”الوحي” يمكن مقاربتها في نموذجي الكهف والإسراء.

مراحل الانتقال

إننا إذا نظرنا إلى “المعنى” ومراحل الانتقال في الخطاب الإلهي والاتصال الإنساني سنجد أن الحياة الوجودية للإنسان ارتبطت منذ خلقه بسنة الأطوار: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ (نوح: 14). الطورية سمة متصلة بكل متعلقات البناء الإنساني، غير أنه من المهم الانتباه إلى أن الطور لبنة بنائية مضافة، وليس انتقالة حاذفة لما قبلها؛ بمعنى أن الأطوار الإنسانية، سواء كانت مادية بدنية، أو ذهنية فكرية، أو نفسية شعورية، كلها، تتراكم سماتها وخصائصها وتترحل إلى الأطوار اللاحقة عبر توسعات الإدراك، وصقل التجارب بالتفاعل. فالإنسان في طفولته كائن مكتمل الحواس، غير أن النضج الوظيفي والإدراكي، ثم اختيار الوجهة الفكرية والسلوكية، هو الذي يسم طبائع وأنماط أفعاله وتكليفاته عندما يتقدم عمره، لكن أسس تكوينه الإنسانية تكتمل آليات فعلها بخروجها مولوداً إلى الحياة.

وكذلك الحال مع “المعنى” فهو ذاته ثابت الخصائص والدلالات، إنما الإنسان المسؤول عن علاقات الحركة والوجهة، هو الذي يستقيم، أو ينحرف عن “المعنى”. وعلى ذلك، فعندما نبحث في أطوار وانتقالات تخص “المعنى”، عبر العصور والحقب، وخلال التحولات المفصلية في التاريخ الإنساني، فإننا نبحث في الحقيقة عن موقف الإنسان من هذا “المعنى”، وعن طبيعة تفاعله مع الخطابات الحاملة لقيمه، سواء عبر رسالات السماء النبوية، أو عبر رسالات الإصلاح الفطرية، التي يقودها الحكماء المصلحون والفلاسفة الأخلاقيون.

 وكذلك قراءة التحولات الجمعية الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالبنية الفردية، أي النفس، التي يؤدي موقف اختيارها الجمعي إلى وسم علاقة الإنسان بـ”المعنى”، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 12). فقد بدأ جدل علاقة التصرف بين الخطاب الإلهي وتجربة الاتصال البشري منذ أراد الله تعالى استخلاف آدم، عليه السلام، في الأرض. وذلك عندما تساءلت الملائكة وهي المخلوقات المحايدة للتجربة، المنضبطة بوظائف “المعنى”، الذي يخصها، عن خوف الإفساد من الخليفة الجديدة، نظراً لتجارب أرضية سابقة في سجلات شهودهم.. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 29).

فعلاقة “المعنى” بمراحل الانتقال، التي شهدتها التجربة الإنسانية في اختبارات حركتها ووجهتها، وفي تفاعلها الاتصالي مع الخطاب الإلهي، هي أهم علاقة ينظر فيها البحث المعرفي، لأنها باختصار هي علاقة “المعنى” الوجودي للإنسان. وبما أن الحديث عن انتقال، فهو حديث عن دالة الزمن. ويُعتبر مفهوم الزمن واحد من أهم المفاهيم الوجودية في مسيرة الإنسان، سواء في مراحل بنائه الخَلْقي، أو الخُلَقي، أو في علاقة “الأجل” ومحدودية العمر الأول في الحياة الدنيا “عمر الحال”، الذي هو العمر الأخطر، لأنه عمر الاختيار المُحَدِّد للعمر الثاني في عالم الخلود، وهو “عُمْر المآل”. فالزمن في علاقته الوجودية بالإنسان متمدد في خارطة مساره، ويظل واحداً من مراجع تساؤلاته، وتعجلاته: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء: 11). كما أن الزمن هو شاهد التحولات الكبرى، وهو مختبر “المعنى” في فضاء الحجج الاتصالية.

الاتصال والانتقال في دالة الزمن

إن القراءة الفاحصة لنموذجي الكهف والإسراء يستبين بها أن تلازم “المعنى” وسؤال “اليقين” أدخل الزمن كعنصر من عناصر المحاججة وجدل الحقيقة الإلهية منذ نشأة الوجود. وظل سؤال الزمن على الدوام يطرح على صيغة التعجيز، لأن الآلة الذهنية عندما تكون فارغة من “المعنى” تعجز عن بناء البرهان، وتميل إلى أسطرة الوقائع وتخييلها. بينما الخطاب الإلهي قدم برهان الزمن في سياقة الاتصالي المتكامل؛ مُدْخِلاً فيه كل عناصر “المعنى” العلمية والثقافية والاجتماعية والحضارية في “نمذجة” متعدية بطبيعة تشكيلها وتلبياتها الفكرية لنسبية والفواصل المنقطعة في توقيفات الماضي، أو توترات الحاضر، أو مجهولات المستقبل. ويعتبر نموذج سورة الكهف نموذجاً خاصاً في فقه الحياة. فقد حوت منظومة من الإجابات “اليقينية” على أكثر الأسئلة البشرية تعقيداً وتأثيراً على نوازع الإنسان النفسية والفكرية المتعلقة ببناء الإيمان لديه، وبتوازنه الاتصالي مع ذاته، ومع محيطاته الوجودية المتمددة في البيئة الاجتماعية ومؤسساتها. ومع أن سورة الكهف، في كل وحداتها المعرفية، قد قدمت نماذج لـ”المعنى” في شبكات اتصالية، إلا أن وحدتها النموذجية كانت قصة “الكهف”، الذي حملت السورة اسمه لرمزيته “المركزية” في توثيق موقف “المعنى”. إذ يعتبر “الكهف” شاهداً اتصالياً لا تنقضى عجائبه المعرفية.

غير أن العجيبة الأخرى ذات الصلة بـ”نمذجة المعنى” من خلال فكرة العبور الزمني، وتجربة الانتقال من حاضر سكن محل الماضي: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (الكهف: 25). فأصحاب الكهف حين ناموا؛ ناموا في لحظة حاضرهم وليس في لحظة ماضيهم، إنما ماضي آخرين، وحين استيقظوا على حاضرهم وجدوا مستقبلاً لآخرين، لكن المهمة الاتصالية، التي أنجزها فتية الكهف؛ “حملة قضية الإيمان”، هي التوثيق الفكري الإعلامي للتجربة، عبر رقيمهم. إذ رقموا تجربتهم بأداة محيية للمعنى؛ كتابة باقية الأثر، حتى لا تتعرض يقينية تجربتهم للأسطرة والتندر. وقد حفظ لهم مفتاح السورة هذه الإضاءة الكاشفة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ (الكهف: 1) فصفة “المعنى” عندهم، كذلك، هي استقامة لا تعرف العوج. وقد كانوا في طور “الفتية”، طور القوة والنضج الإدراكي. وهم بقوة موقفهم هذا شهدوا بـ”المعنى”، وعبروا به لحظة الزمن، وكانوا قادرين على إثارة الجدل بذات الفكرة؛ فكرة الإيمان، عبر العصور. إذ أرادوا أن يختبروا بجوهر “المعنى” الأجيال في كل عصر. ولكن، عندما أدركنا عصر “اللامبالاة” لم نجد في خطاب الإعلام المعولم من أثر قصتهم غير ترويجة “نومة أهل الكهف”، التي يتندر بها الناس.

أما رقيمهم فلا يكاد يذكره إلا القليلون، وأما موقفهم أمام زينة الدنيا، وكيف كانوا أحسن عملاً، فلم يبال به إلا أهل الذكر، فحتى معاصروا لحظة “بعثهم” انشغلوا بالتنازع في أمرهم، ثم انتهوا إلى أن يبنوا عليهم مسجداً. نعم، لم ينتبهوا لعبرة دالة الزمن، التي كانت برهان الحقيقة الإلهية في العلم و”المعنى” و”اليقين”، وفي الاتصال والتفاعل والشهادة، وفي برهان البعث، والساعة التي لا ريب فيها، والتي تمثل أكثر أسئلة الزمن بحثاً عن يقين يدرأ ريبها.

وهكذا، في كل مطروحات قضية الإيمان عبر الأزمان: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ (الكهف: 21)، والذين كانوا في مستقبل ماضيهم انشغلوا بعددهم: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ (الكهف: 22-23). فيما “الوحي” يوجه إلى المبالاة بجوهر قصتهم: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف: 13). فهم فتية يرتبط الإيمان عندهم بـ”المعنى” الموقف، فيواجهوا السياق الاجتماعي والثقافي والسلطاني والمؤسسة، التي تحتكر حرية الاختيار التعبدي: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ (الكهف: 20).

إن نموذج “المعنى” في قصة أصحاب الكهف نموذج اتصالي متكامل السياق الفكري والإبداعي، والإخباري التقني، فيما يلي فلسفة التلقي؛ أي “المبالاة” و”اللامبالاة”. وفوق ذلك، هو برهان على آيات الله المتحققة وجودياً في فضاء التعقل ورحاب “المعنى”. واليوم، فإن كل أدوات التسخير الاتصالي تقف شاهداً على الحقيقة الإلهية الدالة على البعث، وعلى حقيقة توثيق شهادة الإنسان، وإن مات وفنى، فتسجيلاته و”مرقوماته” باقية. إنها “نمذجة المعنى” في أجلى برهانيتها التعقلية والإدراكية. وبمثلما قدم خطاب “الوحي” الإلهي نموذجاً للمعنى في متعلق الإيمان بأبعاده التحررية من كل أشكال السلطة الاجتماعية والسياسية والكهنوتية في قصة أصحاب الكهف، وجسارة الفتية الفكرية، وإبداعهم في توثيق التجربة للأجيال في رقيم شاهد.

لقد قدم “الوحي” في سورة الإسراء نموذجاً اتصالياً لمرجع “المعنى” في دالة الزمن، وفي قضايا “الوجهة”، ووحدة الحقيقة الإيمانية، وتوثيق حقائق المُخْتَلَفْ عليه، ونبأ صراعات المستقبل، إنها رحلة “اليقين” العلمي والإخباري العابرة بحقيقتها للمختلقات والتشككات الاعتباطية من خلال تفسير وقائع المكان والزمان في لحظات ماضية، ومسارات حاضرة، ومآلات مستقبلية. فقد كانت مفردات الإسراء المحيطة مبينة: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1)، وكانت الرحلة الأفقية واضحة الخطوط والغايات؛ إسراء ليلي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله؛ أي في محيطه، ليُريَ عبده الآيات. ومفهوم الآية تحققي دائماً ودال على الموضوع: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 52). فنموذج الإسراء كان واضحاً في دالة الزمن، الذي لم تكن وظيفته برهان تجاوز منطق المسافة الجغرافية في الزمن وحسب، وإنما في تجاوز لزمن الأخبار والحوادث، لتظل هذه الآيات شاهداً على اتجاه المعرفة. فأخبار بني إسرائيل وصراعهم على سيادة “رسالة الكتاب”، وعلل التدين، وسلوك التعايش عندهم، وثقها “الوحي” في أكثر من موضع في القرآن، لكن نموذج الإسراء الاتصالي في قضية المسافة المكانية والزمن كان يحمل رسالة اتصالية إعلامية واضحة عن معرفة دقائق الصراع في أبعاده العلمية، والدينية والسلوكية والحضارية. وهناك أنساق عديدة من نماذج “المعنى” الاتصالية في رسالة “الوحي” يمكن استنباطها واستخراج موضوعاتها، وتكييفها منهجياً في دلالات الزمن والاتصال، واعتماد المحتوى “المعنى” لحل إشكالات ضلال “الحركة” وتعرجات مسار “الوجهة”.

المنظور الرسالي والمتغير الاتصالي

يبدو لنا، من الناحية المعرفية، أن النظر في مسألة تحولات “المعنى”، أو موقف الإنسان من المنظور الرسالي والمتغير الاتصالي لهذا “المعنى”، مشابه للجدل الفلسفي حول “الغاية والوسيلة”، الذي ظل حاضراً في مسار كل التحولات والانتقالات الحضارية والثقافية. ذلك أن المنظور الرسالي هو الاتجاه، الذي ينشغل بالمحتوى المضموني وغاياته، بينما المتغير الاتصالي، لاسيما في واقع اللامبالاة المعرفية، وسيطرة ديانة السوق، كما يصفها الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي، قد لا يحفل بقضايا ثقافة الرسالة، وهو مفتتن بثقافة وسائله الحديثة وإبهارها الأدائي، وإمكاناتها التأثيرية القابلة للتوظيف، لنقل كل ما من شأنه توجيه جمهور المتلقين إلى حيث يريد صاحب الوسيلة، حسب تصميم تعريف الاتصال نفسه، باعتباره مصدر وقناة ومتلقي؛ فهو “انتقال المعلومات أو الأفكار، أو الاتجاهات، أو العواطف، من شخص أو جماعة، إلى شخص أو جماعة أخرى، من خلال الرموز”[40]. فبالنظر إلى هذا التأثير الذي تتلقاه الحواس المتعرضة لوسائل الاتصال مع واقع ملئ بالإشكالات والقصور في موارد ومؤسسات التلقي الثقافي الأخرى، كالعائلة والمدرسة، والمحيط الاجتماعي، فإن الكفة المرجحة للاستمالة التأثيرية ستكون بلا شك لوسائل الاتصال.

يقول دكتور المهدي المنجرة خبير المستقبليات “يمثل الانفجار الإعلامي، ظاهرة دليلية، ليست يسيرة الإدراك، واستدلالاً على ذلك يكفي أن نتناول مثال الإعلام العلمي. ففي هذا الصدد يرى الأستاذ نيل، الحاصل على جائزة نوبل، أن حجم المنشورات العلمية قد فاق سنة 1985 وحدها، كل ما نشر أثناء الفترة الممتدة بين عصر النهضة وعام 1976، في حين يذهب سكرايب إلى القول بأن طاقة استيعاب الإعلام العادية للفرد الواحد تقدر بحوالي ثمانين 80 ألف معلومة يومياً”[41]. وإذا انتبهنا فقط لمعدل الطاقة الاستيعابية للمعلومات للفرد الواحد يومياً، ثم قارناها بمعدل ساعات التعرض لنسبة الإعلام الخالي من “المعنى”، عبر أنماط متعددة من برامج التسلية واللهو، ومع اختلال واضح في نسبة التوازن بين المعروض الفكري والثقافي مع المعروض الغرائزي، الذي أثر حتى على جودة الإنسان الإبداعية من الفنون والآداب والدراما والموسيقى، الأمر الذي يجعل وصف نمط الاتصال العولمي بـ”اللامبالاة” هو أصدق وصف معرفي للمضمون الاتصالي الغالب. وقد أدى كل ذلك إلى تكريس أوضاع الضياع الاجتماعي، واختلال موازين الأداء الحضاري، وحتى التفاوتات المنظورة في الأوضاع الاقتصادية والسياسية بين بلدان العالم، التي يُرجعها العديد من الباحثين إلى آثار هذا الحصار الاتصالي العولمي.

لعل غياب الاستراتيجيات والسياسات ببلدان العالم الثالث في مجال الإعلام، باعتباره ثروة اقتصادية واجتماعية وثقافية، يمثل سبباً من أهم أسباب أزمة النمو فيها وهشاشتها، بالنظر إلى البلدان المصنعة[42]. لكل هذه التداخلات، التي تمثل أجزاء كثيرة من مكونات “الحركة” في المجتمع المعاصر، فإن تحولات كبيرة ولا شك قد لحقت بالموقف من “المعنى” متجلية في كل أزمات الإنسان الفردية والاجتماعية وموضعته من حالة الاستقرار النفسي والفكري والمعيشي، حيث أصبحت صورة الإعلام الاتصالي المعاصر، هي صورة الرؤية التي تحكم نظم التعليم والسياسة والاقتصاد، وأصبح الملمح الأبرز لتحولات “المعنى” هو هذه السيطرة المنظورة للعولمة الاتصالية على مسيرة حركة الإنسان المعاصر ما يجعل أي جهد إصلاحي يسعى لإعادة التوازن ومعادلة خطاب الإلهاء العولمي لابد أن يبدأ بمجهود تفكيكي معرفي عميق لهذه الظاهرة، ودراسة عوامل تكوينها الجذرية، من داخل سياقات ظروفها الحضارية ومفرداتها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

واليوم، فإن وسائل الإعلام تؤثر في صياغة المعنى، وفي مفهومنا، ومعرفتنا، وذاكرتنا، فضلاً عن عواطفنا، لأنها تخلق الفضاء العام لهذا “المعنى”، وتُشكل آراء الجمهور حول مضامينه، وتؤدي إلى رفع قيمة التصورات الجديدة المفارقة لصواب يقينياته. لذا، ومن دون أدنى شك، فقد صار لهذه الوسائل تأثير هائل على أوضاع مجتمعاتنا، التي تُشكلها ثقافة الخبر والصور، إذ هي تقرر سمات تنشئتنا الاجتماعية، ومواضعات مجتمعنا، وموجهات حركتنا. إنها تغير بالفعل طريقة عمل الاقتصاد، والسياسة، والعلم، والقانون، والدين. وقد أصبح “ما نعرفه عن مجتمعنا، وحتى عن عالمنا، الذي نقطن فيه نحن، ومِثَالِنا المنمط لطرائق سلوكنا، نعلمه ونتعلمه من خلال وسائل الإعلام. ووفقاً لذلك، غدت “وسائل الإعلام” موضوعاً بالغ الأهمية في كل التخصصات والدراسات، التي تُعاين تطور التَشَكُّل الثقافي والحضاري للإنسان، في العقود الأخيرة في جميع أنحاء العالم[43].

لقد تحدث “مارشال ماكلوهان”، الذي لم يُشر إلى الإنترنت صراحة، عن التغييرات، التي من شأن وسائل الإعلام الإلكترونية الجماعية أن تُحْدِثها في المجتمعات الإنسانية في جميع أنحاء العالم. والأهم من ذلك، بالنسبة لماكلوهان، الذي قال قولته الشهيرة: “إن الوسيلة هي الرسالة”؛ أي أن محتوى البرمجة الفعلية هو أقل تأثيراً من مجرد الوصول إلى وسائل الإعلام والاتصالات، والتي تنبأ بأنها ستجلب كل “الوظائف الاجتماعية والسياسية معاً في انهيار مفاجئ”[44]، للقيم القديمة. وذلك في عالم لا يوجد فيه حاجز للنشر، ولا رقابة على ما يُنشر، وأن كل القيم نسبية، بما في ذلك الأخلاق. ويميل القائمون على الأمر إلى النظر والاقتناع أن كل المعلومات متساوية في القيمة.

فالميل الطبيعي للبشر تجاه تعزيز الذاتي من القناعات الثقافية، ومن خلال الاستخدام الانتقائي لوسائل الإعلام، غالباً ما يعني أن يتم تجاهل وجهات النظر المتنافسة من قبل أولئك، الذين يجب أن نستمع إليهم أكثر من غيرهم، والذين يرسخون القيم الموجهة لمسارات سلوكنا وحركتنا. لذا، فإنه لأمر محبط، أن العديد من المواطنين في البلدان المتقدمة يحملون قناعات عميقة بأنه يجب أن يُنْظَر إليهم بأنهم عادلون ومنفتحون، الأمر الذي يعطي للواقع الثقافي دعاية ضارة، بما في ذلك شرائط فيديو عمليات الإعدام ومواد التجنيد للتطرف والإرهاب، التي من شأنها أن تُقمع بقسوة في دول أكثر استبداداً.

وإذا جاز لنا أن نتساءل عن وسائل الاتصال ومسألة المعنى في الفلسفة الجديدة للإعلام الجديد، فإن المعارف الحديثة تُعَرَّف الصورة في الفن الرقمي من حيث تجاوزها للرؤية البصرية للمعنى. إذ تشمل “الصور الرقمية” العملية الإعلامية برمتها، التي يتم من خلالها إتاحة المعلومات بطريقة مُدركة ومفهومة، وهي تضع المعرفة في وضع متميز من أجل خلق تمييز لهذه الصور الناطقة بحقائقها. وللقيام بذلك، ورغم رواج مفاهيم التفوق التكنولوجي السائد، فإنه لا غنى عن الإنسان في العصر الرقمي؛ لأنه هو الذي يختار ويميز الصور، التي تلائم بشكل تام تصوراته عن الأشياء، بحجة أننا نقوم بتصفية المعلومات، والتي نتلقاها لإنشاء هذه الصور، بدلاً من قبولها لمجرد وجودها كأشكال فنية تقنية. وعلى اعتبار أن الصورة الرقمية ليست تمثيلاً ثابتاً للواقع، ولكن يتم تعريفها من قبل مرونتها الكاملة وسهولة الوصول إليها كرموز لمعنى.

إن مجرد التفاعل مع وسائل الإعلام الجديدة لا يحول المشاهدين إلى مستخدمين إيجابيين، أو مستهلكين سلبيين. فقد أصبحت الصورة نفسها هي أصل عملية إدراكها. إذ إن علاقة الثقافة والإعلام تقديم نماذج مختلفة لعمليات انتقال الرسائل، التي تدفعنا دفعاً للاعتراف بأن هناك مسافة لا يمكن تجاوزها بين المرسل والمتلقي، تلك المسافة، التي لا يمكن التغلب عليها أبداً إلا عبر وسائل الإعلام. فالوسيلة الإعلامية تحتل المساحة الفاصلة بين المرسل والمتلقي، وأنها قادرة على تسهيل علاقتهما مع الحفاظ على المسافة، التي تفصل بينهما. وجميع أشكال الاتصالات هي تقليص لأعمال غير متبادلة، ونقل للرسالة بين المرسل والمتلقي، عندما يكون التوحيد القيمي والحوار البناء مستحيلاً. والنقل بين الطرفين هو العملية المادية المتجسدة، ولكن كثيراً ما يُفهم على أنها بلا جسد، كما يُفترض أن الوسيلة ​​تكون غير مرئية من خلال استخدامٍ خالي من الضوضاء، ينطق “المعنى” بحقيقة وجوده.

إن صعود الإنترنت والانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية قد حاصرتنا بمصادر لا حصر لها للإلهاء المُضَيِّع للمعنى: الرسائل النصية، ورسائل البريد الإلكتروني، والواتسب، والفيبر، والانستغرام، من الأصدقاء، وتشغيل ملفات الموسيقى والفيديو، ومتابعة أسعار الأسهم المتغيرة باستمرار، والأخبار، ومعاينة المزيد من الأخبار. ولأداء عملنا الواجب القيام به، يمكن أن نحاول إيقاف تيار الأداة الرقمية، ولكن هذا من الصعب القيام به، لأننا عندما نحاول ينتابنا الخوف من فقدان قدرتنا على الحديث، وحتى لا نصير في عداد المفقودين، لأن بعض الناس يعتقدون أن لدينا إرادة ضعيفة جداً، ولأن أدمغتنا تضررت بفعل الضوضاء الرقمية. ولكن إلقاء اللوم على التكنولوجيا لارتفاع درجات الغفلة و”اللامبالاة” في غير محله. ويظهر التاريخ أن القلق نُغذيه دائماً، ليس من الشيء الجديد القادم، ولكن عن طريق التهديد بهذا الشيء، وأن كل ما قد يكون، سيُطرح للسلطة الأخلاقية إبتداء من اليوم[45].

وإذا كانت ثورة الاتصالات والمعلوماتية قد وحّدت العالم، فإنها مزقته في الوقت نفسه، فبعدما يسّرت الاتصال بين البشر القاطنين في أربعة أركان الأرض، خلقت، بالمقابل، صدمة ثقافية وحضارية هائلة جعلت كثيراً من الناس، الذين باتوا عارفين أكثر بما يحيط بهم، مرتابين وخائفين على ما عندهم من أنظمة وقيم ومعتقدات وثقافة، لا في بلدان ما يُعرف بالجنوب، التي خضعت للاستعمار الاستيطاني فحسب، وإنما في بلدان شكلت لعهود طويلة مراكز حضرية، وتنتمي اليوم لما كان يسمى بالعالم الأول؛ أي الغرب. فقد جعلتهم ينكفئون أكثر حول ذواتهم، ويرجع بعضهم إلى ثقافاتهم القومية والدينية بحماسة أشد، وأحياناً إلى ثقافاتهم الفرعية؛ العرقية والمذهبية والعشائرية الضيقة[46].

لقد بات العالم أكثر تشظياً في جوانب عديدة، وهذا ما يعطي لتخريجات ما بعد الحداثة تسويغاتها وتسويقاتها. هذه التخريجات، التي خلخلت مفاهيم ومقولات الأصل والكل، وشككت بالحقيقة التاريخية، وآمنت بالسرد الأسطوري لقصة الإنسان، وأصول خلقه وتطوره. فإذا عدّت العقلنة ابنة الحداثة وعصر التنوير، فإنها بفضل مرونة انفعالاتها العالية، ظن الناس أنها قادرة على الاستجابة والتعايش في ظل مفاهيم ومقولات وأفكار ما بعد الحداثة[47].

الصلة التحققية بين الوحي والمعنى

إن “المعنى” كدالة تفسيرية للوحي، وفق اجتهاد هذه الرؤية، وفي تأكيده على الهوية الاتصالية لعلاقات “الحركة” و”الوجهة” و”اليقين”، ينظر إلى النسق التوحيدي في علاقة الأرض بالسماء، من خلال توحيدية منهجية لمفهوم “الوحي”، وتنزلاته في الحياة والكون، دون تجزئة وظيفية تفصله عن “المعنى”، كما أوجدتها تركة أعراف، بدائية في نظرتها الفكرية لكينونة الإنسان، وزائفة في تصوراتها لحقائق ذاته. إذ عاشت بذلك المجتمعات البشرية وثنيتها المادية، وشتاتها الوجداني، في أحقاب من الماضي ودورات من الحاضر، تمثل لحظة العولمة في لامبالاتها خلاصة أزمتها، أي أن العولمة في تسويقها حالة اللامبالاة تكرس لفوضى الرؤية التجزيئية، واضطراب أحوال العالم الأرضي بسبب محاولة عزلها للأرض عن السماء على نحو يبدو اعتباطياً.

لهذا، فإن التوحيد المصيري، الذي يربط علاقة الأرض بالسماء، والذي يصوره المنظور الميتافيزيقي التقليدي على مخيال مجهول، في مقابل ما يقدمه المفهوم التوحيدي للوحي من منظور يقيني للغيب، ليس مقتصراً على المآل الأخروي وحسب، وإنما الذي يجعل صلة الأرض بالسماء متحققة على مستوى المسؤولية الوجودية في الحياة الأرضية، تكويناً وتسييراً. وذلك من خلال حياة “المعنى” الاتصالية. ويمثل هذا المُدْرَك واحداً من الحقائق المعرفية الكبرى الغائبة، التي أوجدت ظاهرة الكفران والقصور الإدراكي لدى البشر في فهم رسالة السماء للأرض. ومن ذلك، نشأ الإشكال الجذري حول علاقة “الوحي” بالعالم الأرضي على مستوى القدرة على الإحاطة “اليقينية” بمفهومه وتفسير واقعيته على علاقات الإنسان معاشاً، ومحيا، وممات، وصلات اتصالية، ما يستدعى إنشاء وإعادة تأسيس مفهوم “الوحي” وصلته التحققية بـ”المعنى”، ومن ثم تحويل مسار القدرة “العولمية” تجاه وجهة “المبالاة” “اليقينية”، تأصيلاً للوجهة، وتصويباً للحركة.

وتثير توجهات الإعلام الجديد تساؤلات كثيرة حول طبيعة ومغزى الرسائل، التي يحملها، أو يروجها خارج حدود منظومات القيم الثقافية والاجتماعية والسياسية لمراكز بثه وانطلاقه. وذلك في ظل اختلال واسع وكبير بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ويزيد التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الإعلام من هذا الاختلال، لأن التقدم في تقنية الاتصالات، وفنيات العمل الإعلامي، متلازم مع زيادة سيطرة ونفوذ الذين يملكون على توجهات الإعلام، وتسييره بالشكل، الذي يخدم مصالحهم وسياساتهم.

إننا، مثل كثيرين، نرفض الحتمية التكنولوجية في تقرير الحركة والوجهة، ولكن نهتم، باستمرار، بكيفية مشاركة غير البشر في مجال الاتصالات حتى لو كنا، في كثير من الأحيان، نخطئ في الحد من قوامة البشر المشاركين في هذه التكنولوجيا. وإمكانية وقوعها في حالات محددة، من السياقات التاريخية والأماكن الجغرافية، وهي تتألف من المفاهيم، التي تتقاطع مع الواقع الاجتماعي والجمالي للثقافة التكنولوجية، والتي يتم انتقاؤها وإعادة تصنيعها بوسائل أخرى، بما في ذلك تقنيات العديد من وسائل الإعلام. لكننا مهتمون أيضاً بمعالجة أوسع في مجال التقنيات الثقافية، وتصور كيف تتفاعل قدرات الإنسان والتكنولوجيا في البيئات التاريخية فضلاً عن توسيع مفهوم وسائل الإعلام لتشمل العديد من تقنيات المعرفة والجماليات.

غير أن أمر العولمة، رغم كل ذلك، لم ولن يحقق غاياته بشكل حاسم، لأسباب متعلقة بدورات منحنى النمو الحضاري، وبسنة التدافع، التي تجعل القوى البشرية مهما بلغت غير متمكنة من كامل الهيمنة على الإنسان، الذي خُلِقَ ومُكَوِّن الحرية بعضاً من نسيج تشكيله وتكليفه الوجودي بالاستخلاف في إدارة الأرض. وهي إدارة تحكمها سنن المدافعة والتعاقب، لا تتبدل ولن تتحول، لأنها من نظام الكون الراسخ. ومن ثم، فإن كانت محركات الفعل العولمي شاملة لأبعاد فلسفية ثقافية وسياسية واقتصادية، ومعارف تكنولوجية، كما نظن، فإن ما يكفل عودة التوازن التسخيري لمعطياتها التقنية المتمثلة في العولمة الاتصالية، التي هي نتاج تراكم حضاري شاركت فيه الأمة الإسلامية بنصيب وافر من التأسيس العلمي، وعودة القيمة الوجودية للإنسان، راجح ومأمول. ولن يتأتى ذلك إلا بنمذجة “المعنى” داخل محتوى هذا الحراك الاتصالي الكوني في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم ونظريات ونظم السياسة والاقتصاد، وإعادة تأسيس أصول وقيم العلاقات الوجدانية والاجتماعية، الذي يعني تأسيس النفس الإنسانية على “المعنى”، ولن يتحصل كل ذلك إلا من خلال الاستنارة والوعي بالصلة التحققية بين “الوحي” و”المعنى”.

محركات وأبعاد التأثير

يحتاج تفكيك ظاهرة العولمة إلى عقول تتحدى مغريات اللحظة، وتتجاوز بالنظر جاذبية متغيرات الراهن. وإذا استثنينا الرسل، وكمالات “المعنى”، الذي أوحى الله، سبحانه، به إليهم، فما من أحد تَفَحَّصَ الكون بإمعان النظر في فضاءاته، وشحذ الذهن والهمة لاستجلاء حقائقه، واستخدم المتاح من المعارف الفطرية والعلوم الموضوعية لمعاينة ثوابته ومتغيراته، وقدح العقل بمزيَّة التأمل لاستشراف مستقبله، واستنطق الفكر بمنطق الحكمة لتعظيم صوابه وضبط ثورات انحرافه، مثل الفلاسفة.

ومنذ بدء التفلسف، كانت قضية التغير والثبات في الظواهر الطبيعية والتحولات الاجتماعية، قبل سقراط وبعده، هي محور التفكير الفلسفي، ولا تزال لها أهمية عند الفلاسفة والعلماء حتى اليوم. فقد بدأ الفلاسفة بالرد على التساؤلات، التي طرحها سقراط عن أصل الكون، وتغير ظواهر الطبيعة من حولهم، ذلك بالملاحظة والتأمل العقلي المجرد غير التجريبي. فقد اتجه هذا الاهتمام ليعالج المشكلات، التي تتعلق بطبيعة العالم وتغير ظواهره وثباتها[48].

وكان الفيلسوف الرواقي هيراقليطس الإفسوسي (535-475 ق.م) مفعماً بهم السؤال ورهق التفكير، وحاملاً لمشعل النار على النهر، باحثاً عن نهايات العالم وبداياته. وحين رفض تعيينه بمنصب كبير الكهنة، جعل من رفضه هذا عنواناً لفلسفته المؤثرة، التي لا تزال مفاهيمها تعمل حتى اليوم. فقد تصور العالم على شكل سلسلة من الدوائر متحدة المركز؛ في وسطها تكمن الذات، وتتألف الدائرة الثانية من العائلة المباشرة، والثالثة هي الأسرة الممتدة؛ ثم أقربائهم من سكان المدينة ورجال القبائل، تليها عامة أبناء الوطن، وهلم جرا. وما تبقى من الجنس البشري يقعون في الدائرة الخارجية. ووفقاً لهيراقليطس، فإن مهمة كل شخص عاقل كانت “رسم الدوائر معاً بطريقة أو بأخرى نحو الوسط.” وهذا هو الأمر المطلوب، إذ إن الشخص العاقل يسعى دائماً لمعاملة البشر في جميع أنحاء العالم وكأن ما هم مواطنوه، ومواطنيه باعتبارهم رجال قبيلته وجيرانه. وهكذا، فإن الشخص المثالي جداً يمكنه معاملة جميع البشر كما يُعامل نفسه، وأن الآخر يستحق منه نفس الاعتبار الذي يظهره لنفسه[49].

إن رؤية هيراقليطس تبدو صعبة وطموحة، وربما قاتلة لرغبات البعض كذلك. فهل اعتبار المساواة بهذه الطريقة ممكن إنسانياً؟ لقد قبل الرواقيون بأنه لا يوجد هناك أي شعب فاضل تماماً، ربما باستثناء سقراط. وإذا كان ذلك ممكناً، فهل سيكون مرغوباً فيه؟ ربما اهتمامنا بتفضيل من هم أقرب إلينا هو الصحيح، وتقديم فضيلة الرواقيين كتحريف متعمد للواقع. ولكن حتى إذا رفضنا رؤية هيراقليطس، فإن عدداً قليلاً من شأنهم أن يختلفوا حول مبدأ أننا ينبغي أن نُعامل إخواننا من بني البشر في جميع أنحاء العالم باهتمام أكثر مما نقوم به الآن.

ويبدو أن العولمة تتبنى تطوير المثل الأعلى للرواقيين بجلب الدائرة الخارجية للإنسانية إلى المركز؛ أي نحو أنفسنا. فقد وضعت وسائل الاتصال الجماهيري، ووسائل الإعلام الاجتماعية، والتجارة العالمية، والعلاقات الدولية، جميع البشر في شبكات من العلاقة الوثيقة المتنامية مع بعضهم البعض. فالتفاعلات القديمة بيننا كانت مع الناس في جيرتنا، في مدينتنا، ومع مواطنينا، وكان الحديث، والمناقشات، وجدل السياسة، والبيع والشراء، واختلاط المشاعر بيننا، أما الآن يمكننا أن نعقدها مع الناس على الجانب الآخر من العالم. من حيث المبدأ، العولمة تجعل الجميع في كل أنحاء العالم كائن يستحق أكبر الاهتمام منا جميعاً[50]. ولكنها، في الوقت نفسه، أضعفت قيم التضامن الأخلاقي، وعززت روح اللامبالاة.

لقد أدت العولمة فعلاً إلى زيادة اللامبالاة، وليس هناك سبب للاعتقاد بحدوث العكس في تعقيداتها الحاضرة. وقد تطرق البابا فرانسيس مراراً لهذا الموضوع، وكان آخرها في زيارته إلى لامبيدوسا، إيطاليا، حيث سعى الآلاف من اللاجئين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى دخول أوروبا، إلا أن مصيرهم كان الغرق في البحر. فقد جعلتنا العولمة ننظر إلى الإنسان القريب نصف ميت على جانب الطريق، وربما نفكر ونقول “يا له من مسكين”، ونستمر في طريقنا، إذ إن إسعافه ليس من شأننا. ومع هذا، نحن نشعر براحة تجلبها لامبالاتنا. وفي عالم العولمة هذا، وقعنا في شِراك عولمة اللامبالاة، إذ تعودنا على معاناة الآخرين، وكأنها لا تعنينا، أو أنها ليست من شأننا.

إن البحث الموضوعي يدعم قلق البابا فرانسيس. إذ وجد علماء النفس أنه على الرغم من أننا قادرون على تمثُل أحاسيس القلق والاهتمام بشأن محنة غيرنا، فإننا نميل إلى أن نُصبح غير مبالين عندما نرى أن تلك المحنة هي واحدة من بين محن كثيرة أخرى. إذا سمعنا عن فرد يغرق، فنحن نشعر بالتعاطف؛ بينما أخبار زوارق الغرق الجماعي تُصيبُنا بالخدر، وربما الاستياء ممن عرضوا أنفسهم للتهلكة. فقد جلبت العولمة معاناة الجماهير البعيدة أمام أعيننا، وهي تُفند شعور المواطنة لدينا، واستنزفت شعورنا بالرأفة. وإذا استخدمنا نموذج هيراقليطس، الذي يقول: عندما يعاني شخص بعيد ويستدعي اهتمامنا، فنحن نرى أن ذلك الشخص قد أصبح أقرب إلينا من الآخر، الذي هو بعضٌ مِنَّا. ومع ذلك، فإننا عندما نرى معاناة الجماهير البعيدة، نحس بأن هناك شيء يمنعنا من تضمينهم في مركز اهتمامنا.

فبالإضافة إلى عولمة اللامبالاة، هناك أيضاً عولمة اليأس. حتى في الحالات التي لدينا اهتمام مناسب بمحنة الآخرين في جميع أنحاء العالم، نحن نشعر أننا عاجزون عن مساعدتهم. هناك طائرات بدون طيار تحرق النساء والأطفال الأبرياء في باكستان وأفغانستان واليمن والصومال، وقتل بلا رأفة في العراق وسوريا وليبيا وبورما، إنه شيء بشع، ولكن هناك القليل، الذي يمكننا القيام به. إننا نغضب عندما نسمع بأن شركات النفط متعددة الجنسيات تدفن المواد الكيميائية السامة بالقرب من القبائل الإكوادورية الأصلية، ولكن لا نستطيع مساعدتهم. إن الشعوب، الذين قاتلوا قتالاً صعباً جداً لخلق بلد ومجتمع حر وديمقراطي، والذين تابعنا نضالهم عبر الإرسال المباشر للفضائيات، ثم ذُبحوا وسُجنوا وأُعدموا؛ أصابنا حالهم بالاشمئزاز وثُرنا، لكننا شعرنا بالعجز، ولم نستطع أن نعينهم إلا بالشجب والتنديد.

وعلاوة على ذلك، فإن قوى العولمة لا تسحب دائماً في اتجاه واحد، من الدوائر الخارجية نحو الوسط؛ خذ مثلاً الطبقة، التي هي مثل التقسيمات الاجتماعية الأخرى؛ العرق والدين، هي قوية بشكل كافٍ، إن لم تكن أكثر من ذلك، من الانتماءات الإثنية والقبلية والوطنية، ولكنها تتقاطع مع دوائر هيراقليطس. لقد أدت العولمة إلى خفض التفاوت العالمي، وخلقت في الوقت نفسه الطبقات الوسطى الجديدة في الصين والهند ودول أخرى، في حين ارتفع عدم المساواة داخل البلد الواحد؛ مثل الولايات المتحدة وبلدان أخرى، من حيث الدرجة. ثم إننا يمكن أن نُلاحظ أن القواسم المشتركة قد تكون أكثر مع أشخاص من الجانب الآخر من العالم مما هي عليه بين أبناء البلد الواحد. وكما يقول الصحفي الكندي، الذي تحول إلى سياسي، كرستيا فريلاند بلباقة في وصفه للطبقة الثرية المتنفذة: “صعود الثراء الفاحش العالمي الجديد وسقوط أي شخص آخر”، إن المليارديرات من جميع أنحاء العالم، على سبيل المثال، لديهم تقارب مع بعضهم البعض أكثر بكثير من ذلك الذي مع مواطنيهم.

إننا قد نظرنا في هذه المساهمة إلى العولمة من وجهة نظر أخلاقية؛ ليس لأننا نعتقد أنها تولد في المقام الأول مشكلة أخلاقية فحسب، ولكن لتحفيز ما نعتقد أنه أكبر مشكلة، والتي هي سياسية بامتياز. على الرغم من أن العولمة قد وضعت جميع البشر على اتصال وثيق مع بعضهم البعض، فلا أحد مِنَّا يعيش حقاً حياة مواطن عالمي. إذ لدينا حتماً تجاربنا المحدودة الخاصة، والروابط والدوائر الاجتماعية المغلقة. وعلى الرغم من اهتماماتنا من أجل الإنسانية العالمية قد نمت، فإنه من المستحيل أن نُركز هذا الاهتمام بأي شكل من الأشكال بطريقة واقعية، أو معقولة؛ وبالتالي، اليأس واللامبالاة.

نتمنى لجميع البشر أن يُعاملوا على قدم المساواة أكثر، ولكن هذا ينطوي على قدر من السياسة، ومن بين أمور أخرى، جميع الحكومات، والمؤسسات، والشركات، والمنظمات، التي نحن جزءاً لا يتجزأ منها جميعاً، هي التي تتوسط في علاقاتنا مع بعضنا البعض. لذا، فإن أفضل ما يمكن أن نتمناه للبشرية جمعاء هو أن نعيش داخل الهياكل المؤسسية حيث تتم تلبية احتياجاتنا، ويُسمع لأصواتنا، وأن تكون رفاهيتنا محمية ومحسوبة، ونحن مُحاسبون عليها. غير أن الأمر الذي يبدو أكثر تعقيداً هنا، هو ثقل قناعتنا بعدم التكافؤ بين الماضي والمستقبل، والذي هو أكثر من مجرد وصفه بأنه غير عادل.

إن أجدادنا قد تجاوزوا مرحلة الضرر؛ لأنهم ببساطة لا يمكن أن يعرفوا ما إذا كنا قد خيبنا آمالهم، أم لا. إلا أن القرارات السياسية، التي نتخذها اليوم، سوف تفعل أكثر من مجرد تحديد أعباء المواطنة لأحفادنا. وهي تتعلق أيضا بمخاطر وجودية، مثل احتمال الأوبئة والانهيار البيئي، دون أن يكونوا موجودين معنا في نظامنا السياسي. إذ إن محنة المواطنين في المستقبل، الذين قد يعانون، أو يستفيدون من قراراتنا السياسية الحالية، لا يمكن أن نزنها بشكل صحيح.

لذا، فنحن بحاجة إلى منحهم صوتاً، إذ كيف لنا أن نقوم بذلك؟ بعد كل شيء، أنهم لا يستطيعون فعلاً التحدث إلينا. ولكن حتى لو لم نتمكن من معرفة ما يقيمه مواطنو المستقبل فعلاً ويؤمنون به، لا يزال بوسعنا أن ننظر في تقدير مصالحهم، على افتراض معقول أنها سوف تشبه إلى حد ما مصالحنا؛ فالجميع يحتاج تنفس الهواء، على سبيل المثال. إلى جانب أن حساب المصالح هو أسهل بكثير من مجرد إبداء الرغبات، ومناسبة تماماً للتمثيل من قبلنا كوكلاء لهم[51].

التحدي الأكبر للعولمة، إذن، هو لوجستي وسياسي وقيمي: كيف يمكننا تطوير الهياكل التنظيمية والاجتماعية، التي تحقق قدراً أكبر من المساواة على الصعيد العالمي، أي معاملة الأشخاص، الذين يمثلون ندية ومساواة أكثر، ويتفاعلون مع بعضهم البعض على قدم المساواة؟ سوف يتحقق الحل النهائي لهذه المشكلة على مدى القرون القليلة القادمة. سنعرف أن الحل قد تم التوصل إليه عندما نشعر أن لا أحد منا هو أفضل حظاً من غيره من حيث الهياكل التنظيمية والاجتماعية، والتي ننتمي إليها. وعلى العكس من هيراقليطس، نعتقد أن ما هو مهم حقاً هو ليس فقط أن نحاول أن نعامل الآخرين أكثر مما نعامل أنفسنا، ولكن أيضاً أن يُعاملنا الآخرون أكثر مما نُعامل أنفسنا. وهذا هو السؤال السياسي، وأنه من غير الواضح ما إذا كانت العولمة تُحرك الإنسانية في الاتجاه، الذي أوصي به هيراقليطس، أو ذلك الذي نريده نحن.

مقاربة نقدية للامبالاة

بدءاً، لننظر لمثالٍ شارح فاضح ينمذج انحراف القيمة الأخلاقية للامبالاة، إذ اهتزت الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، وربما والعالم بأثره، في 21/6/2014، بسبب قيام شرطي أمريكي اسمه “جيفري بولغز” بقتل كلبه لأنه عض امرأة في يدها، حيث اعتبرت فعلة هذا الشرطي انتهاكاً خطيراً لبرتوكول حقوق الحيوان. وظل هذا الخبر لأكثر من أسبوع يتصدر كبريات الصحف الأمريكية والأوروبية، والعربية أيضاً، إضافة إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة الأخرى، ويزاحم أخبار القتل الجماعي والحروب، التي تفتك بالعالم.

 وفي خبر مماثل، فتحت الهيئة الأمريكية للأسماك والحياة البرية تحقيقاً في حادث قتل أسد زيمبابوي المحبوب “سيسيل” بعدما اعترف طبيب الأسنان الأمريكي “والتر جيمس بالمر” بقتله بهدف الصيد. وقوبل قتل “سيسيل”، وهو أسد بري في زيمبابوي ويحظى بشعبية بين السكان المحليين والسياح، بغضب عالمي ما دفع طبيب الأسنان المقيم في مينيسوتا إلى الاختباء بعدما واجه وابلاً من الرسائل الغاضبة عبر الإنترنت، وفي الوقت نفسه، تصاعد الغضب عبر الإنترنت بشأن قتل سيسيل، حيث تصدر اسم بالمر موقع تويتر، وتُرِكَت ملاحظات في عيادته تندد بهذا الفعل. وكتبت الهيئة الأمريكية للأسماك والحياة البرية على موقع تويتر تقول: نحن نحقق في مقتل الأسد سيسيل، وسنذهب حيثما تقودنا النتائج، ونطالب الدكتور بالمر، أو ممثله، أن يتصل فوراً بالهيئة. بل ووصلت القضية إلى الأمم المتحدة، التي مررت، يوم الخميس 30 يوليو 2015، أول قرار لها على الإطلاق بشأن جريمة حياة برية[52].

وإذا أردنا أن نتذكر أحداثاً غسل فيها الغرب ذنب قتل الملايين في العراق وأفغانستان وباكستان، فما علينا إلا استرجاع قصة الطفل العراقي علي عباس (10 سنوات)، الذي فقد ذراعيه في الحرب فأصبح “نموذجاً” ووجهاً مؤلماً للحرب في بلاده[53]، أو مأساة الصبية الباكستانية ملَّالة يوسفزي (14 سنة)، التي أصابها معتوهان من طالبان بإطلاق الرصاص عليها[54]، “فنمذجت” العطف الغربي والعالمي، حتى نالت جائزة نوبل للسلام، دون أن يغشى هذا السلام ربوع بلادها وأفغانستان. وبالقطع لا ننسى، في حمأة الأزمة السورية، صورة الطفل السوري أيلان كردي (3 سنوات)، الذي توفى غرقاً، وقذفته الأمواج إلى أحد الشواطئ التركية، والذي صدم العالم أكثر من المأساة السورية ذاتها[55]. إنها “اللامبالاة” والتجزئة الأخلاقية، التي تختصر العاطفة الإنسانية وتختزلها في نموذج واحد صغير؛ يسهل تعريفه والانتماء إليه.

لقد كانت للراحل “نلسون منديلا”، رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، مقولة يُكثر من ترديدها تقول: هناك مرض يُؤلمنا كثيراً في هذه الأيام، واسم هذا المرض “عولمة اللامبالاة”[56]. وقد تعاظمت هذه اللامبالاة حتى أصبحت ظاهرة سلبية تصيب الفرد والمجتمع على حد سواء، وذلك نتيجة لعدم الشعور بالمسؤولية والاهتمام، ولعلها نوع من أنواع الكآبة واليأس، وهي أسوأ استعمال للحّرية، كما وصفها الفيلسوف ديكارت: “حريّة ممارسة اللامبالاة أوطأ درجات الحريّة”[57]. ومن هنا، تقف اللامبالاة والسلبية عقبة أمام تقدم المجتمع، والتي تؤدي إلى عواقب اجتماعية وخيمة. فمعظم فواجع العالم من جوع وفقر، واستبداد وظلم، وهروب ونزاعات، تعود أسبابها إلى اللامبالاة والأنانية. ومن هذا المنطلق، جاءت رسالة قداسة البابا فرنسيس، ليوم السلام العالمي في 1/1/2016، وعنوانها: “تغلّب على اللامبالاة وأصنع السلام”[58].

يقول قداسة البابا إن أول أشكال اللامبالاة في المجتمع البشريّ هي اللامبالاة بالله، وعنها تنجم اللامبالاة بالقريب والخليقة. إنها إحدى النتائج الخطيرة لأنسنة مزيّفة، ولماديّة مستشرية، تمتزجان بفكر نسبيّ وعدميّ. ويؤكدّ أنّ السلام أصبح في خطر من جراء “عولمة اللامبالاة”. إذ إنّ اللامبالاة بالآخر وكرامته وحقوقه الأساسية وحرّيته، إذا اقترنت بثقافة مطبوعة على الربح واللذة، وشملت الصعيد المؤسساتي، فإنّها تعزز وتبررّ تصرفات وسياسات تؤدي في نهاية المطاف إلى تهديد السلام. وموقف اللامبالاة هذا بإمكانه أن يقود إلى تبرير بعض السياسات الاقتصادية الدنيئة، التي تُفضي إلى الظلم والخلافات والعنف، في سبيل تحقيق الرفاهية الخاصة، أو رفاهيّة الأمّة[59]. ولمواجهة هذا الفهم الذاتي الخاطئ للشخص البشري، ذكّر بندكتس السادس عشر بأنّ لا الإنسان ولا نموّه بإمكانهما أن يعطيا لنفسيهما معنى لوجودهما. وقبله أكّد بولس السادس أنه “لن تكون أنسنةٌ حقيقيةٌ إلا المنفتحة على المطلق، مع الاعتراف بدعوة تعطي الفكرة الحقة عن الحياة الإنسانية”[60].

إن “اللامبالاة”، التي وسمت الاتصال العولمي بحالة “اللامعنى”، قد أطلقت نسقاً معوجاً من خطابات الحياة، الذي خلّف من آثار الشقاء الوجودي للإنسان أعمق مما خلفته الحروب التقليدية، والتي مهما بلغت فداحتها فبإمكان العديد من تدابير المواجهة ردها وحصارها، فضلاً عن إمكان الوقاية منها واجتنابها بالمعاهدات والاتفاقات والتعاونات، وغير ذلك. أما الحرب الاتصالية العولمية، فلا أطراف مسؤولة يمكن معاهدتها، أو مواثقتها؛

 فالعولمة الاتصالية أشبه بحرب عبثية، وقد تبدو عدمية بمقياس “المعنى”، فهي تجعل متلقيها في حالة إغراق لا يكاد يجد متنفساً للمراجعة، وتكاد تغطي حالات التزيين الصارفة للإنسان عن حقيقة مطلوباته الوجودية، وكأنها نائب الفاعل المجهول في: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ﴾ (آل عمران: 14). فالآية لم تمنع المطلب الفطري للمذكورات لأن المطلب الفطري يرتبط بـ”المعنى” الوجداني، وإنما منعت المطلب الشهواني الغريزي، الذي يجعلها مطلوبة في ذاتها، لا لمعناها، وهذا مثال واحد فقط لاختلاف الاحتياج الوجودي بحضور “المعنى”، وبغيابه. فحين تسود نزعة الشهوة في المال، يسود الظلم، والأثرة، والأنانية، وتُسْتَحل الحروب، وتضيع الأمانة ويغيب العدل، وتشقى الحياة الاجتماعية، وعلى ذلك يقاس النظر في الشهوات الأخر.

وتتدخل “اللامبالاة المعولمة” في تنميط الحياة الاجتماعية، وتتغول على تشكيل اختيارات الفرد وتخييلها، وتُغَرِّبْهُ عن ذاته، وترسخ استهلاكيته على حساب دفعه للإنتاج. وتعمل على تنميط نظم التعليم والثقافة، بل وحتى خطابات التدين والإفتاء غير الفقيه راجت بسببها. فقد أفقرت مادة التشكيل الثقافي للأطفال من “المثال” الرصين، فأنشأت جيلاً يستأنس الكائنات الغرائبية وينزع إلى التعانف، وكاد نموه الوجداني والقيمي أن يختل بسبب إرهاق حواسه وإشغاله بما لا يناسب التدرج الطبيعي لأطواره.

 ولأنها حولت الأخبار إلى تجارة، والبرامج السياسية المصنوعة إلى تضليلات في الرأي والمعلومات، صارت الحروب السياسية والعسكرية تشتعل بتدخلاتها. وباختصار كادت “عولمة اللامبالاة” أن تُرجع بالإنسان إلى بدائيته لولا أن سنة الله، التي خلت في الناس، وجعلت التدافع مانعاً دائماً لإفساد الأرض، فانتبه المفكرون واستدرك الفلاسفة المصلحون، أن استعادة “المعنى” هي مطلوب الراهن الاتصالي العصري، حتى تعود الاستقامة المعرفية إلى محتوى “حركة” الناس، وإلى صراط وجهتهم.

ومن المؤكد أن العولمة ظاهرة متعددة التراكيب والمكونات، وأن التجلي الإعلامي فيها يمثل أداء تنفيذياً لسلطان الرؤية، التي تدخل فيها عناصر غلبة الطاقة الحضارية المعاصرة، بقوة المعرفة المادية، والتي شكلت عليها ثقافة الحركة العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبنت عليها الحكومات القابضة على زمام العولمة نظاماً متعولماً من الناحية المؤسسية، لتجعل العلاقات بين الدول والمجتمعات محكومة بتبعية غير معلنة، لمركزية تُصدر وتفرض نمطاً للحياة مثقلاً بحالات “اللايقين”، واللااستقرار.

وبفعل اختلال موازين القدرات المعرفية والاقتصادية، يُصبح الواقع الاجتماعي مستهلكاً، طوعاً أو قسراً، لمعطى الغلبة الثقافي، الذي إن تمكن من سلوك الأفراد والجماعات حولها إلى توابع بلا “معنى” مضاف لحيوية الوجود الغَالِب. وهذا الحال لا ينطبق بالضرورة على إنسان المجتمعات والدول الأقل نمواً واستقلالاً وحسب، بل أن إنسان المركز الحضاري العولمي نفسه يعاني بأفدح ما يعاني أحياناً إنسان العوالم الفقيرة المستهلكة.

لذلك، فإن الحديث عن أبعاد تأثير العولمة اللامبالي هو حديث عن أزمة الإنسان الوجودية في كل مستويات أحواله وأوضاعه الحضارية. ولئن كان تفكيك ظاهرة العولمة إلى عناصر تشكيلها الأولية الضاربة في تاريخ ثقافة الحروب والسلطة، والاستغلال والاحتلال، صبغت ثقافة العولمة الاتصالية، فإن ذلك يعود لاتصال ذلك بجذور الرؤية الفلسفية المادية، التي حكمت المنتج الحضاري الغربي المعاصر. ويتقفى أثره في تفريعات متعلقة حتى بطبيعة النظرة للإنسان في اختلافاته وألوانه، منذ نظرية الأحياء والتطور، التي اقترحت فكرة البقاء للأقوى. فتشربَ منها الخيال السلطوي اتجاهات السيطرة والاسترقاق لإنسان المجتمعات الأفقر إنتاجاً والأغنى موارداً. ثم أغرت حالة التغلّب العسكري والسياسي والاقتصادي، بصناعة ضمانة مُلَحقة متكاملة، أقل تكلفة وأبلغ أثراً، وهي الملحقة الثقافية والحضارية، التي تجعل المجتمعات بدويلاتها ونظمها، تخضع بشكل، إن لم يكن كاملاً، فعلى الأقل كافياً لبقاء دور التابع والمتبوع حضارياً قائماً.

خاتمة

إن فهم “المعنى” من خلال سياق تطور الاتصال الإنساني، وتَنَزُّل الوحي الإلهي، من المهام، التي لا يمكن استكشافها بالكامل في النطاق المحدود لهذه المساهمة. رغم أننا حاولنا عرض موضوعين مترابطين أشبه بما يكونان بالوسيلة والرسالة: أولهما؛ التفسير الرمزي لمراحل نشوء وسائل الاتصال، التي قد تتطلب تحليلاً أدق مما قدمنا لهذه المراحل، وأيضاً استكشاف السياق الثقافي المُنْتِج لها في العمق الحضاري الإنساني. وثانيهما؛ تعريف “الوحي” والنص المقدس باعتبارهما مُبَلِّغ وبلاغ في سياق أخلاقي ذي معنى مطلق؛ حاكم بالقيم، وموجه لحركة الكون والإنسان، ولعالم التدين الرمزي، الذي هو أكثر صعوبة عندما يتعلق الأمر بنمذجته. ورغم رؤيتنا وجود علاقة متأصلة بين مراحل الانتقال الاتصالي للتجربة البشرية المنتجة لمعارف البيئة الثقافية، التي هيأت بأمر الله للوحي نقل المعنى للناس، إلا أن الإشكالية تبقى في كيفية إثبات مثل هذه “الرؤية” في حالة عدم وجود تأثيرات ملموسة قابلة للإثبات في عالم يتعولم باللامبالاة.

ويتعلق الأمر، في حالة هذه الإشكالية الأخيرة، ليس فقط بالنسبة لمعضلة الإثْبَات، ولكن أيضاً بالنسبة لجوهر المعنى ككل. وكل محاولة من هذا القبيل سوف تواجه نفس الموقف الفلسفي القديم؛ لأنه عند محاولة إيجاد أوجه شبه بين الرسالات السماوية والرسائل الإعلامية، ستستبين المفارقة الهائلة، التي هي بحجم المسافة بين السماء والأرض، وباليقين أكبر. ففي حين أن معنى تأثير الرسائل الإعلامية واضح وصريح في بعض الجوانب المُقَرِّرَة لأسلوب حياتنا المادية، وإلى حد ما، في المفاهيم الجمالية العالمية فيما يتعلق بالبيئة الثقافية، التي لا تستطيع أن تقاوم إغراء التجسيد المادي للمعنى. في حين أن محاولة الكشف عن أسرار المعنى الإلهي، من ناحية الأفكار الرمزية الأساسية للوحي، سَتُدخلنا، من جهة أخرى، في تعقيدات معالجة مشكلة العثور على السياق، الذي يجسد هذه الرموز.

واستنتاجاتنا تبقى بالضرورة مجزأة، أو في أحسن الفروض منمذجة بأمثلة على كيفية شكل بحثنا عن “المعنى” من خلال الأسئلة، التي طرحناها، وانتهت بأمثلة حول كيفية تأثر بحثنا عن هذا “المعنى” بأسئلة الآخرين، والتي تُطلب مِنَّا الإجابة على ما يصعب تفسيره منها. فنحن إذن، نتشارك في عالم يعيش الجميع فيه وسط نوبات من الحيرة والإحباط، التي تعود لمشكلة لامبالاة العولمة بـ”المعنى”.

 وفي ظل السيادة الشاملة للمادة، يمكن للامبالاة أن تفضح الحساسيات الخاصة بسلوك الحافزين لعمليات هذه العولمة، وذلك بالإساءة للتصورات الخاصة بـ”المعنى”، وما هو صواب وما هو خطأ، في سياق الوجهة والحركة. لذلك، نُجَدِّد التساؤل، في هذه الخاتمة، حول كيف يمكننا البقاء على قيد الحياة في عالم يتحدى التوقعات الخاصة بِنَا في كل ما يتعلق الحق والباطل؟ فالوحي يوجهنا أن حركة الحياة اليومية تتشكل من حِكمة الوحي؛ لأن الحكمة تنتج التوازن الروحي، والقوة الداخلية للوجهة، والفِطنة العملية للحركة.

الهوامش

[1]. Klaus G. Troitzsch, Nigel Gilbert, Simulation For The Social Scientist, Published by Open University Press, January 1st 1999, pp 97-115.

[2]. 0 W. Balzer, C. U. Moulines and J. D. Sneed, An Architectonic for Science. The Structuralist Program, 1987, p 153.

[3]. GIDDENS A., Studies in Social and Political Theory. Basic Books, New York, NY, 1977, p 120.

[4]. GIDDENS A., Opt, p 121.

[5]. Mouline, Blazer and Snead, Ibid, p 158.

[6]. Ibid, 141.

[7]. كونفوشيوس، المختارات 13.3.

http://www.hekams.com

[8].https://www.researchgate.net/publication/256035331_Meaning_Production_Modelling_Mental_Architecture_and_Blending

[9]. Collins English Dictionary – Complete and Unabridged, Harper Collins Publishers, 12th Edition 2014.

[10]. http://www.businessdictionary.com/definition/model.html

[11].http://www.digitalhumanities.org/companion/view?docId=blackwell/9781405103213/9781405103213.xml&chunk.id=ss1-3-7

[12]. Ludwig Wittgenstein (Author), G. E. M. Anscombe (Translator), Philosophical Investigations, Publisher: Pearson; 3rd edition, (March 11, 1973), pp 112-123.

[13]. Behav Anal. 2009 Spring; 32(1): 85–103.

[14]. Hayes S.C, Wilson K.G. Some applied implications of a contemporary behavior-analytic account of verbal events. The Behavior Analyst. 1993;16:283–301.

[15]. http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2686995

[16]. ولاء رشدي، “إشكالية الزمان”.

 24/12/2013. http://fikr.com/article /

[17]. المصدر السابق.

[18]. Skinner B.F. Walden, In Search of Meaning: Values in Modern Clinical Behavior Analysis, New York: MacMillan; 1948, pp 18.

[19]. Phillip Moffitt, http://dharmawisdom.org/teachings/articles/search-meaning#sthash.Unn5X2m1. Dpuf.

[20]. http://www.aqaed.com/faq/5268/

[21]. هذا في التصور المسيحي للكتاب المقدس..

http://www.kalimatalhayat.com/doctrine/92-inspiration-bible/1558-chapter01.html

[22].http://www.christusrex.org/www1/ofm/1god/documenti/giovanni-paolo-ii/fides-et-ratio/71-79.htm

[23]. سناء الطويلة، “بابا الفاتيكان بنديكتوس السادس.. بداية معادية للإسلام واستقالة يلفها الغموض”، 2013-02-24.

http://gololy.com/2013/02/24/77843/.html

[24]. سناء الطويلة، المصدر السابق.

[25].http://www.christusrex.org/www1/ofm/1god/documenti/giovanni-paolo-ii/fides-et-ratio/71-79.htm

[26]. المصدر نفسه.

[27]. عبدالعزيز بوالشعير، “أزمة الحداثة الغربية: انتقال العقل الإسلامي من التقويض إلى البناء”، مجلة إسلامية المعرفة، الناشر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي-مكتب الأردن، السنة التاسعة عشرة، العدد 76، ربيع 1435ﻫ، 214م، ص 45.

[28]. المصدر نفسه.

[29]. المصدر نفسه.

[30]. المصدر نفسه.

[31] المصدر السابق.

http://www.christusrex.org/www1/ofm/1god/documenti/giovanni-paolo-ii/fides-et-ratio/71-79.htm

[32]. محمد راتب النابلسي، ندوات تلفزيونية – قناة سوريا الفضائية – الإيمان هو الخلق – الدرس (15-95) – “مقومات التكليف: العقل-العلاقة بين العقل والوحي علاقة تكاملية”، بتاريخ: 2006-01-30.

http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=3388&id=194&sid=0&ssid=0&sssid=826

[33]. القديس أوغسطينوس، في مصير القديسين، 2، 5: الآباء اللاتين 44، 963.

[34]. نفس المؤلف، في الإيمان والرجاء والمحبة، 7: 64CCL، ص 61.

[35]. حسن سالم الدوسي، “العلاقة بين العقل والوحي”، ملتقى أهل الحديث، بتاريخ 25/8/2007.

http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=109546

[36]. مجلة البحوث الإسلامية، “مصادر العقيدة الإسلامية ودور العقل: العلاقة بين الوحي والعقل”، العدد السادس والأربعون – الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة 1416ﻫ، الجزء رقم: 46، الصفحة رقم: 295.

[37]. http://www.alukah.net/culture/0/78762/#ixzz4ViNLkXgZ

[38]. توشيهيكو ايزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة: هلال محمد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2007، ص213.

[39]. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف: محمد نعيم العرقسُوسي، بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع/لبنان، ط8، (1426ﻫ/2005م)، ص1737.

[40]. دكتور عبد العزيز شرف، نماذج الاتصال في الفنون والإعلام والتعليم وإدارة الأعمال، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 2003م، ص7.

[41]. المهدي المنجرة، حوار التواصل من أجل مجتمع معرفي عادل، ط10، 2004م، ص12.

[42]. المرجع نفسه، ص13–14.

[43]. لومان؛ ترجمتي، 1996، 9.

[44]. Marshall McLuhan, The Gutenberg Galaxy (1962), Understanding Media (1964), The Medium is the Massage (1967), Hot & Cool (1967).

[45]. فرانك فوريدي، هو عالم الاجتماع والمعلق الاجتماعي. عمل سابقاً أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة كينت في كانتربري، وهو مؤلف لـ17 كتاباً، كان آخرها “قوة القراءة”، الذي صدر في عام (2015).

 Frank Furedi, “The Ages of Distraction”, https://aeon.co/essays/busy-and-distracted-everybody-has-been-since-at-least-1710.

[46]. سعد محمد رحيم، “تكيف الرواية: مقتضيات عصر ما بعد الحداثة”، الحوار المتمدن-العدد: 1787 – 2007 / 1 / 6 – 11:08، المحور: الأدب والفن.

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=85237

[47]. انظر المصدر السابق.

[48]. أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، محاضرات ألقاها عام 1953–1954م، دار إحياء الكتب العربية عيسي البابي الحلبي وشركاه، ط 1، 1954م.

[49]. حسن كامل إبراهيم، “التغير: مفهومه وطبيعته في فلسفة هيراقليطس وأثره على الفكر السفسطائي” انظر الرابط الإلكتروني:

 http://www.maaber.org/issue_october14/spotlights3.htm#_ftn1

[50]. David V. Johnson, http://ideas.aeon.co/viewpoints/david-v-johnson-on-what-is-the-greatest-problem-with globalization?utm_source=Aeon+newsletter&utm_campaign=4984406097, Weekly_Newsletter_03_July7_3_2015&utm_medium=email&utm_term=0_411a82e59d-4984406097-68739361

[51].Thomas Wells, “Votes for the future”, 8 May 2014, http://aeon.co/magazine/society/a-mechanism-to-give-future-citizens-the-vote/

[52]. http://mz-mz.net/516886/

[53]. https://www.youtube.com/watch?v=huwKKUeV8A4

[54].http://www.alhurra.com/a/pakistan-mallala-attacked-taliban/213346.html

[55]. http://www.skynewsarabia.com/web/article/772099/

[56]. عودة عودة، “عولمة اللامبالاة”، صحيفة الرأي، المملكة الأردنية الهاشمية، الثلاثاء – 22-07-2014.

 http://alrai.com/article/660190.html

[57]. الأب: نادر سليم ساووق، “منْ اللامبالاة إلى الرحمة”، صحيفة الرأي، المملكة الأردنية الهاشمية، تاريخ النشر: الخميس 7/4/2016.

 http://alrai.com/article/775155/

[58]. رسالة البابا فرنسيس، “تغلّب على اللامبالاة وأصنع السلام”، بمناسبة اليوم العالمي للسلام، ظهر اليوم الثلاثاء 1/1/20161. قال البابا، في رسالته، “إن موقف اللامبالاة هو بالتأكيد موقف الذي يغلق قلبه لكي لا يأخذ الآخرين بعين الاعتبار، والذي يغلق عينيه لكي لا يرى ما يحيط به، أو يتنحّى لكي لا تلمسه مشاكل الآخرين ويميّز نموذجيّة بشريّة منتشرة وحاضرة في كل مرحلة من التاريخ. لكن هذا الأمر قد تخطّى في أيامنا الإطار الفردي ليتّخذ بعدًا عالميًّا ويُسبّب ظاهرة “عولمة اللامبالاة”. إن أول أشكال اللامبالاة في المجتمع البشري هي اللامبالاة تجاه الله، والتي منها تنبع اللامبالاة تجاه القريب والخليقة. إنها إحدى النتائج الخطيرة لأنسنة مزيّفة ولماديّة ممارسة، تمتزجان بفكر نسبيّ وعَدَمي. فالإنسان يعتقد بأنه صانع ذاته وصانع حياته والمجتمع؛ ويشعر بأنه مكتفٍ ولا يتطلّع فقط إلى أن يأخذ مكان الله وإنما لكي يستغني عنه بالكامل. ولذلك يعتقد أنه لا يدين لأحد بشيء إلا لنفسه ويدّعي بأنه يملك حقوقًا فقط.

[59].http://petra.gov.jo/Public_News/Nws_NewsDetails.aspx?Site_Id=&lang=1&NewsID=247400&CatID=19&Type=Home&GType=1

[60]. http://ar.radiovaticana.va/news/2015/12/15/

الوسوم

د. الصادق الفقيه

سفير جمهورية السودان بالأردن/الأردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق