مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

إحالةُ الضمير إلى ما بعدَه

أولاً: اسْتِحْضارُ الشَّبَكةِ الضَّميريّة لفَهْمِ العَلاقاتِ الإحالِيّة

قد تجدُ الشخصَ الواحدَ يتلبَّسُ طَوْراً بضمير الغَيْبَة وطَوراً بضمير التكلُّم وطوراً بضمير المُخاطَب: كأنْ يتكلَّمَ المُتحدِّثُ عن نفسه ويُخاطبَ غيرَه. ولَقَد اختلَفَت جهاتُ الضَّمائرِ لاختلاف المواقف والمواقع، في الكلام، ففي كل تَخطيط لموقف جديد يُبْنَى مَشهَدٌ جديدٌ بعد تَفكيك عناصر القَديم وإعادة تَركيبها. فلا تُفهم شبكة الإحالات الضميرية إلا بالعلم بالمَواقف والخُطط التي تُعيدُ تَوزيعَ العَناصر، ولكل مشهد عناصرُه المُركِّبَةُ، من الكَلِمِ والضَّمائر.

أنموذَجٌ :

«وراوَدَتْهُ التي هو في بَيْتها عن نَفسِه وغلَّقَت الأبوابَ وقالَتْ هيتَ لكَ» [يوسف/23]

الضّمائر: الهاء في “راودته” وها في “بيتها” والكاف في “لك”، والضمائر المستترة في غلقت وقالت… تُحيل على مذكور سابق “امرأة العَزيز” ونُسبَت إلى العَزيز ولم تُسمَّ باسمها. والضمير المنفصل “هو” يُحيل على يوسف، ولم يُذكَر بالاسم.

المراوَدَة مُفاعلةٌ تدل على المُعاوَدَة ولا تدل على مشارَكَة؛ لأن المراوِدَ امرأةُ العزيز وحدَها، وفي المراوَدَة تكثير للفعل أو تَكريره كلما أخفَقَت. والإخفاقُ بسبب أن المراوَدَةَ تُقابَلُ بالمُمانَعَة. وفاعل المراوَدَة اسمُ الموصول، أسند الفعلُ إلى اسم الموصول للَفت الانتباه إلى سلطة المُراوِد وتمكُّنه وإلى عفّة يوسف وعصمته.

“عن” حرفُ جر يدل على المُجاوَزَة والانصراف، والمعنى أنها تصرفُه عن نفسه وتُبعدُه عنها لتُخلصَه لَها. وفي المُجاوَزَة كنايَةٌ عَن الغَرَض من المراودَة، والكافُ في “لَكَ” لبيان المقصود من الخطاب وإخلاص اسم فعل الأمر للمُخاطَب دون غيره، واللامُ للاختصاص في الشبَكة الضميرية

« فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» [يوسف/88]

تعددت أنماط الضمائر: الغَيْبَة (دخلوا قالوا يجزي) – الذّات المتكلمة (مسَّنا – أهلنا – جئنا – لنا علينا) – المُخاطَب (يا أيها العزيز أوْفِ تصدقْ) . قد تجدُ الشخصَ الواحدَ يتلبَّسُ طَوْراً بضمير الغَيْبَة وطَوراً بضمير التكلُّم وطوراً بضمير المُخاطَب: فالذي دَخَلَ هو الذي تكلم عن نفسه وخاطَبَ غيرَه. ولَقَد اختلَفَت جهاتُ الضَّمائرِ لاختلاف المواقف والمواقع، ففي كل تَخطيط لموقف جديد يُبْنَى مَشهَدٌ جديدٌ بعد تَفكيك عناصر القَديم وإعادة تَركيبها. فلا تُفهم شبكة الإحالات الضميرية إلا بالعلم بالمَواقف والخُطط التي تُعيدُ تَوزيعَ العَناصر، ولكل مشهد عناصرُه المُركِّبَةُ، من الكَلِمِ والضَّمائر

 ثانياً : وَظيفةُ عَودِ الضَّمير

  • الأصلُ في الضمير أن يَعودَ على متقدّمٍ لفظاً ورُتبةً؛ لأنّ الأصلَ أن يَعودَ المُبهَمُ وهو الضَّميرُ على مَعلوم وهو الاسمُ الظّاهرُ، ولكن شاعَ في لسان العرب وفي الشعر العربيّ الفصيح الخُروجُ عن هذه القاعدَة، نحو: “أفي داره أخوك” فقد مَنَع النحويونَ جَعْلَ “أخوك” فاعلاً لفعل الاستقرار المُقدَّر أو مبتدأ مؤخراً، لأنه يلزم عليه عود الضمير مِن “في داره” على المتأخر لفظا ورتبة وهو “أخوك”. ومثلُه قولُنا: “يُعجبُني أنْ يكونَ صاحِبُها في الدّار، وأنتَ تقصدُ صاحِبَ الدّار، فَلا يَجوزُ عندهُم تأخيرُ الخَبر “في الدّار” عن الاسم “صاحبُها”، لئلا يلزم منه عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة.
  • وممّا خالَفَ القياسَ وشاعَ استعمالُه ممّا مَنَعَه جمهورُ النّحويّينَ، تقديمُ المفعول المشتمل على ضمير يرجع إلى الفاعل المتأخر، نحو ” خافَ رَبَّه عُمَرُ ” فقد اشتملَ المفعول على ضمير يرجع إلى الفاعل “عُمَر “، وقَد جوَّزوا تَقديمَ ما فيه الضَّمير على ما يَعود عليه ذلك الضَّميرُ لأنّ الفاعلَ مَنْوِيُّ التّقديم مُقدَّرٌ تقديمُه في النّيّة والقَصدِ، فلا يضُرُّ تأخيرُه على الاسمِ المُشتَمِلِ على ضميرِه، لأنّ الأصلَ في الفاعل أن يتصلَ بفعلِه، فهو مُتقدم رُتبةً ونيّةً، وإن تأخر لفظاً. ومن الشواهد قولُ الاعشى ميمون:

كناطحٍ صَخرةً يوماً ليُوهِنَها  ///  فَلَم يَضِرْها، وأوْهى قرنه الوعل

وجوَّزَ بعضُ النُّحاةِ أيضاً تَقديمَ المَفعولِ المُشتَمِلِ على ضَمير يَرجعُ إلى مُلابِسِ الفاعل؛ نحو “كَلَّمَ أبوها جارَ هند ” ووجَّه المُجَوِّزونَ هذا الوجهَ بأنه لما عاد الضميرُ على مُلابسِ ما رُتبَتُه التّقديمُ كانَ كَعَوْدِهِ على ما رُتبَتُه التّقديم، لأن المتصلَ بالمتقدمِ متقدمٌ.

وجوَّزَ بعضهُم -ومنَعَه الجمهورُ- عَوْدَ الضَّميرِ مِن الفاعلِ المتقَدّمِ على المفعول المتأخر، نحو “زانَ نَوْرُه الشَّجَرَ” فالضَّميرُ المتصِلُ بالفاعلِ عائدٌ على المفعول، وإنّما شذّ لأنّ فيه عَوْدَ الضّمير على متأخر لفظا ورتبة، فالشجرُ مَفعولٌ، وهو مُتأخرٌ لفظا، والأصلُ فيه أن يَنفصلَ عن الفعل، فهو متأخر رتبة، ومما ورد من ذلك قولُ أحَدِ أصحابِ مُصعب بنِ الزُّبير – رضي الله عنهما- يرثيه:

لما رأى طالبوه مُصعَباً ذُعِروا ///  وكادَ، لو ساعد المقدورُ، يَنتصرُ

أخر المفعول عن الفاعل، مع أنّ مع الفاعلِ ضميراً يعودُ على المفعول، فعاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة.  ومن الشواهدِ أيضاً قولُ الشاعر:

لَمّا عَصى أصحابُه مُصْعَباً    ///   أدّى إليه الكَيلَ صاعاً بِصاعِ

 وقول الآخر (أبو جُندُب الهُذَليّ المُسمّى المَشؤوم:

أَلا لَيتَ شِعري هَل يَلومَنَّ قَومُهُ  ///   زُهَيراً عَلى ما جَرَّ مِن كُلِّ جانِبِ

وقَول الشاعر:

كَسا حِلْمُه ذا الحِلْمِ أثوابَ سُؤدُدٍ   ///   ورقى نَداهُ ذا النَّدَى في ذُرى المجْدِ

الشاهد فيه: كسا حِلْمُه ذا الحِلم، ورَقى نَداه ذَا النَّدى، تأخَّر المفعولُ في الجُملَتَيْن عَن الفاعِل مع أن مع الفاعلَ مُلتبسٌ بِضَمير يَعودُ على المفعول، فيكون فيه عَوْدُ الضَّمير على مُتَأخّر في اللّفظ والرتبة، لا يُجَوِّزُه جُمهور النحويين، وأجازَه قليلٌ منهم.

  • وللبيت توجيه آخَر يُخرجُه من الاستدلال به، فلا يَبعُدُ أن يكونَ الضَّميرُ في حِلْمه ونَداه عائداً على اسمٍ ظاهرٍ مُدحَ في أبياتٍ سابقةٍ، وأحالَ إليه الشاعرُ بهذينِ الضَّميرَيْن، والمعنى أنَّ حِلمَ الممدوحِ كَسا غيرَه من ذَوي الحِلْمِ أثوابَ السُّؤدُدِ، وأثَّر فيهم فاقتدوا به حَتّى بَلَغوا الغايةَ، وأثَّر نَداهُ في أصحابِ الجودِ فَرَقاهُم في ذُرى المَجدِ .

وإذا صحَّ أنّ الضّميرَ يَعودُ على ممدوحٍ ذُكِرَ سابقاً ، دلَّ ذلكَ على أنّ السياقَ هو الذي يُفسِّرُ مرجعَ الضَّميرِ . ومن الأمثلَة على ذلكَ إحالةُ الضّميرِ على ما بَعده في سياقِ الهَذَيانِ :

  • إحالةُ الضّميرِ على ما بَعده في الشعرِ في سياقِ الهَذَيانِ:

لا يُتصوَّرُ مُطلَقاً تقديمُ الضّمير على الظّاهرِ، وإحالَة الضّميرِ على الاسمِ الظّاهرِ بعدَه، وإذا جاءَ ما ظاهرُه الإحالَةُ البَعديّةُ نُظِرَ في النّصّ كلِّه فمَجموعُ النّصّ يُفسِّرُ ويَرجعُ أمورَ الإحالَةِ إلى نصابِها؛ فهذا كثيّر عَزّةَ يقولُ :

أُريدُ لأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما ///  تَمَثَّلُ لي لَيلى بِكُلِّ سَبيلِ

فالظاهرُ أنّه يُحيلُ بالضمير [ذِكْرها] على الاسمِ الظّاهِرِ [ليلى] في الشطر الثاني، ولكنْ بعدَ النّظر في ما قبلَ البيتِ سيتبيَّنُ أنّ الضّميرَ سَبقَه الظّاهرُ وهو قولُه:

أَلا حَيِّيا لَيلى أَجَدَّ رَحيلي ///  وَآذَنَ أَصحابي غَداً بِقُفولِ
تَبَدَّت لَهُ لَيلى لِتَغلِبَ صَبرَهُ ///  وَهاجَتكَ أُمُّ الصَلتِ بَعدَ ذُهولِ
أُريدُ لَأَنسى ذِكرَها فَكَأَنَّما ///  تَمَثَّلُ لي لَيلى بِكُلِّ سَبيلِ
إِذا ذُكِرَت لَيلى تَغَشَّتكَ عَبرَةٌ ///  تُعَلُّ بِها العَينانِ بَعدَ نُهولِ
وَكَم مِن خَليلٍ قالَ لي لوسَأَلتَها ///  فَقُلتُ نَعَم لَيلى أَضَنُّ خَليلِ

والغَريبُ أنّ الشاعرَ كرّرَ ذكْرَ لَيْلَى في كلّ بيتٍ إلى حدِّ الهَذَيانِ. وهذيانُ كُثيّر بلَيْلى يُشبه هَذيانَ أبي نُواس بالصهباء، يَراها في كل شيء:

فَكُلُّ كَفٍّ رَآها ظَنَّها قَدَحاً /// وَكُلُّ شَخصٍ رَآهُ ظَنَّهُ الساقي

  • شَواهدُ من القُرآن الكَريم على إحالة الضَّميرِ إلى لاحقٍ، أو إلى سابقٍ بَعيدٍ:

ورَدَت إحالَةُ الضَّمير على مَذكورٍ  بَعده لا قبلَه، كما في سورة طه في قَوله تَعالى: « فأوْجَسَ في نَفسِه خِيفةً موسى »، فالضمير في “نفسه” راجعٌ إلى مَذكورٍ بعدَه لا قبلَه.

يُلاحظُ أنّ الضَّميرَ تقدَّم مُتصلاً بالاسم المجرورِ “في” على المَفعول والفاعلِ “خيفةً موسى”، ولكنّ هذه الآيَةَ استئنافٌ للآيةالتي قبلَها وصلةٌ وتكملةٌ، وقَد وردَ في الآية السابقةِ ذكْرُ الاسمِ المُظهَر “موسى”، يكونُ الضَّميرُ اللاحقُ مُشيراً إليه ومُحيلاً، ويَنتَفي بذلكَ أن تَكونَ الإحالَةُ إلى لاحقٍ، قال الله تعالى: « قالوا يا مُوسَى إمّا أنْ تُلْقِيَ وإمّا أنْ نَكونَ أوَّلَ مَنْ ألْقى قالَ بَلْ ألْقوا فَإذا حِبالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنّها تَسْعى»

أمّا رُجوعُ الضَّميرِ إلى بَعيدٍ قبلَه؛ ففي قولِه تعالى:

 « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ » [آل عمران/52-54]

انْتقلَ من حكايَة دعائهم: “ربنا آمنا…فاكتبْنا مع الشاهدين”، إلى الإخبار عن غائبينَ: “ومَكَرُوا”. والضَّميرُ في ضَميرُ “مَكَروا” عائد إلى ما عاد إليه ضمير “مِنهم” في قولِه تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ…»، وهم اليهودُ. فالإحالَةُ إلى رأس الآيَة أي إلى الضمير في “منهم” أي مَكَرَ الذينَ أحسّ عيسى منهم الكُفرَ.

فلا يَنبغي أن تَكون الإحالةُ إلى أقربِ مَذكورٍ دائماً، كما يُقالُ، لأنّ الإحالَةَ إلى أقرَب مَذكورٍ في الآيَةِ تُفسِدُ المَعْنى.

ثالثاً : عَودُ الضَّمير إلى غَير مَذكورٍ في النّصّ

قد يَعودُ الضَّمير على غَير مَذكورٍ في النّصّ لا قَبلَه ولا بعْدَه، وهذه ظاهرةٌ تركيبيّةٌ تَداوليّةٌ لا تخصُّ العربيّةَ وحدَها، بل هي من خصائص اللُّغاتٍ، وقد عرَفَها اللُّغويونَ وعَرَّفوها  واصطلَحوا عليها بالإحالةِ الخارجيّةِ Exophoric Reference ؛ فقَد صَنَّفها “مُعجم أكسفورد لنحو اللغة الإنجليزية” في مُصطلح Exophora وعرَّفها بأنّها إحالةٌ مَقاميةٌSituational Reference  ومَعناه أنّ الوحدةَ اللّغويّةَ تستمدُّ مَعناها من خارجِ الجملَة أو النَّصِّ][1]، وتُسمّى في اللسانياتِ أيضاً بالإحالَةِ السّياقيّة  (2)وهي التي تُحيلُ إلى مَرجعٍ خارجَ الجُملةِ أو النّصّ.

وتَفسيرُ هذه الإحالَةِ على مَرجعيّةٍ خارجيّةٍ أنّ المتكلّمَ والمُخاطَبَ وأطرافَ الخطابِ جميعاً يكونونَ على علمٍ بالمُشار إليه أو المُحالِ إليه، ذهناً أو عُرْفاً؛ لأنّ سياقَ الحَديثِ يَجمعُهُم وينتظمُهُم، فإذا انحَرَفَت هذه القاعدةُ أو تَخَلَّفَت حَصَل اللَّبْسُ في الإحالةِ واستشكَلَها المُخاطَب واحتيجَ حينئذٍ إلى قرائنَ أخرى مُبيِّنةٍ للمَعنى، تَرفعُ اللَّبْسَ وتُزيلُ الغُموضَ.

إذا حصرْنا حديثَنا عن وظيفَة الإحالة في الإحالة بالضمير، لَفَتَ انتباهَنا ما ذكَرَه رولان بارت عن طريقة إيميل بنفينيست في تقسيم الضمائر إلى الأنا والأنت في كتابه مشكلات في اللسانيات العامة Problèmes de Linguistique générale، وأن اللغةَ بل العالَم يَرتبطُ مفصلياً على الأنا والأنت (3) وهذا ما دَعا بارت إلى أن يَقولَ إنّ انتباه بنفنست إلى مركزية الارتباط المفصلي بين الضميرَيْن المتكلم والمُخاطَب جَعَلَ منه مؤسِّساً للسانيات التخاطُب، فقَد ركَّز على ضَميرَيْ الشخص وهما “أنا نحن” و”أنت أنتم أنتن”، وأما ضمائر الغَيْبة فهي ضمائر اللاشخص (Impersonnel) لأنه غائب عن مَقام التخاطُب، والإحالةُ إلى المُخاطب تكون في مقام التعظيم والتبجيل، أمّا الغائب فلا يتنزَّل منزلة المُخاطَب في القيمَة والتبجيل. بل يُستعَمل للغائبِ عن الذّهن والاهتمام والعنايَة ضميرُ الغائب للتنقيص وتقليل الاهتمام، فضميرُ الغائب عند بينفنيست  يُستعمل لإلغاء الشخص من المقام التخاطُبي.

أمّا في العربية فضمائرُ التكلم والخطاب ضمائرُ حُضورٍ وتؤدي دوراً تخاطُبيا في علاقات التخاطُب، أما ضمائر الغَيْبَة فتعبر عن رُكن المُتحَدَّث عنه الذي ليسَ شريكاً في وظيفة التخاطُب ولكنّه مُتحدَّثٌ عنه.

تقول الدكتورة منى الجابري في هذا السياق: « أرى أن استعمالَ مُصطلَح “ضَمير الغَيْبَة” في مَقامَي الازدراء والتبجيل له علاقةٌ بالتَّغييب  من ساحةٍ الحُضور؛ فالمتكلمُ عندَما يُبجّلُ المُخاطَبَ فيَرفعُ من شأنه مُستعمِلاً ضَمير الغَيْبَة عوضاً عَن ضَميرِ الخطابِ، فهو إنَّما يُنزّهُه عن ساحةِ الحُضور، وهو عندما يُحقِّرُه إنّما يُبعدُه عنها  ويُنزِّهُها هي عنه ولو كان في الواقعِ مَوجوداً مَعه في الحَضرةِ؛ إذ اللغةُ تعبّرُ عن الموجودِ في ذهنِ المتكلِّمِ بها وليس شرطاً أن تَعكسَ الواقعَ الموجودَ. ومن جهة فإنّ تسميةَ “ضَمير الغائب” تَلتقي –بوجه من الوُجوه- مع ثنائية ياكبسون القائمَةِ على التفريق بين الطرَف المُشارِك في أحداث القول والطرَف المُشارِك في عَمليّة التّلفُّظ. فهذه الثنائيةُ تميزُ ضمائرَ الحُضور من ضَمائرِ الغَيْبَة؛ فَضمائرُ الحُضور تدلُّ على أنّ المُشاركَ في عمليّة التّلفُّظ يُطابقُ المُشاركَ في أحداث القولِ، أما ضَمائرُ الغيبَة فينعدمُ فيها هذا التّطابُق.» (4).

أمّا دلالَة العَدَد في الضّمائر فتختلفُ بين اللغات؛ فمن اللغات ما يشتملُ على المفرد والجمع فقط ومنها ما يتسعُ ليشمل المفردَ والمثنى والجمع القليلَ والجمع الكثير ومنتهى الجموع، من غير زيادةِ كلمة مُساعدةٍ للدلالَة على الأعداد، فإذا نظرنا في ضمير المتكلم “أنا” وجدناه متكلماً مُفْرَداً وما الاختلافُ إلا في التذكير والتأنيث، أمّا ضمير “نحن” فيحتملُ جهاتٍ كثيرةً غيرَ مُتجانسةٍ، منها الحُضور لأن المتكلمَ أو المتكلمينَ بضمير نحن حاضرٌ، وقد يُدخِلُ المتكلمُ أو المتكلمونَ الغائبَ أيضاً ي ضمير “نَحْن”، ومن جهات هذه الضمير أيضاً التّذكيرُ والتأنيثُ إضافةً إلى الجَمع الحقيقي أو المَجازي للمُعظِّمِ نفْسَه أو لمَن أضافَ غيرَه إلى نفسِه. أما تصنيف الضمائر فقَد أهدَره النحاةُ العربُ حقَّ الضمائر إذا ألحقوها بقسم الأسماء، ولكنّ من المُحدَثين مَن رأى غير ما رأوا فهذا إبراهيم أنيس (من أسرار اللغة، ص:282) يُقسم الكلمَ إلى أربعة أقسام، فيُضيف إلى أقسام القُدَماء قسمَ الضَّمير ولكنّه يحشرُ فيه الضمائرَ وألفاظَ الإشارَة والموصولات والعَدَد، وأضاف إلى الحروف الظروفَ، وتحدث في موضوع تقسيم الكلم وموقع الضمائر منها كثير من اللغويين العَرَب منهم مصطفى الساقي ووتمام حَسان ومحمد حَماسة عبد اللطيف، أما الباحثُ اللساني التونسي عزالدين المجدوب في كتابه (المنوال النحوي العَرَبي) فقَد دافع عن تقسيم النحاة الثلاثي بناء على مبدأ تجانُس وحدات الكلم فيما بينها ومبدأ تجنب إقامَة الأقسام على أساس المَعْنى، ومبدأ ترتيب المقاييس ترتيباً هَرَمياً.

هذا الاهتمام بالضمائر وتقسيمها وتصنيفها وترتيبها يدل على قيمتها في اللغات، وفي العَرَبية خاصة.

ونعود إلى الإحالَة بالضمير على غَير مَذكور أو على مَذكورٍ خارجيّ غير مُمثَّل في النّصّ، ونختار أنموذجاً يجمع ظواهرَ تستحق المناقَشَة، وهو الضمير الجَمعي المُتصل في قوله تعالى:

«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ  وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ  لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ». تختلفُ بنية الإحالَة في آية سورة القَدْر  عن بنية الإحالَة في الآيَتَيْن التاليتَيْن: «حم  وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان/3]، «الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» [يوسف/2]

اختلافا راجعاً إلى الجهة التي يُشيرُ إليها الضمير هل هي إحالة مَقاليةٌ من داخل النص اللغوي قريبَة أو بعيدة أو هي إحالة مَقامية من خارج النص؛ ففي قوله تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القَدْر”، اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف ( إنَّ ) وبالإِخبار عنها بالجملة الفعلية ، وكلاهما من طرق التأكيد والتَّقَوّي . ويفيد هذا التقديم قصراً وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلاً من الله تعالى . وفي ضمير العظمة وإسناد الإِنزال إليه تشريف عظيم للقرآن . وفي الإِتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم.

صورة أخرى من عَود الضَّمير إلى غَير مَذكورٍ في النّصّ

قَد يَكونُ الضّميرُ عامَّ الدلالَة مُطلَقَ الإحالَة لا يُشيرُ إلى اسم مَخصوص ولا إلى جهةٍ مَعلومةٍ ويتحققُ ذلكَ في “ضَمير الشأنّ” في العربية، وفي حالة أخرى هي توهُّم الكاتبِ أو المتكلّمِ أنّ السامعَ يعلمُ المرجعَ، وأنّه قادرٌ على ربط آخر الكلامِ بأوله على ما بينهما من طول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش البحث:

(1)  Exophora: Situational Reference; a linguistic unit that derives part of its meaning from the extralinguistic situation. Contrasted with Endophora : Oxford Dictionnary of English Grammar, Sylvia Chalker & E.S.C. Weiner. Oxford University Press paperback 1994, p : 143

(2) Geoffrey Finch: Key Concepts in Language and Linguistics, Palgrave Macmillan Education U.K, 2005, p: 218

(3) Roland Barthes: Le Bruissement de la langue, Ed. du Seuil, Paris. 1984

Emile Benveniste: Problèmes de linguistique générale, Ed. Gallimard, 1974

(4) المُشيراتُ المقاميةُ في القُرآن، منى الجابري، البرنامج الوطني لدعم الكتاب، النادي الثقافي بمسقط سلطنة عُمان، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط.1، 2013، ص: 108-109

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق