مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

إثبات كلامه تعالى عند أعلام الأشاعرة

قال أبو الحسن الأشعري في الإبانة: [1] في الباب الثاني وهو الكلام في أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق: إن سأل سائل عن الدليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
 قيل له الدليل على ذلك قوله تعالى: ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) من الآية ( 25 / 30 ) وأمر الله كلامه فلما أمرهما بالقيام فقامتا لا يهويان ؟ كان قيامهما بأمره.
 وقال عز و جل: ( ألا له الخلق والأمر ) من الآية ( 54 / 7 ) فالخلق جميع ما خلق داخل فيه لأن الكلام إذا كان لفظه عاما فحقيقته أنه عام ولا يجوز لنا أن نزيل الكلام عن حقيقته بغير حجة ولا برهان فلما قال: (1/64): (ألا له الخلق) كان هذا في جميع الخلق ولما قال: (والأمر) ذكر أمرا غير جميع الخلق فدل ما وصفنا على أن أمر الله غير مخلوق.
 فإن قال قائل: أليس قد قال الله تعالى في كتابه: ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل ) من الآية (98 / 2).
 قيل له: نحن نخص القرآن بالإجماع وبالدليل، فلما ذكر الله عز و جل نفسه وملائكته ولم يدخل في ذكر الملائكة جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة ثم ذكرهما بعد ذلك كأنه قال: الملائكة إلا جبريل وميكائيل ثم ذكرهم بعد ذكر الملائكة فقال: وجبريل وميكائيل.
 ولما قال: ( ألا له الخلق والأمر ) من الآية ( 54 / 7 ) ولم يخص قوله الخلق دليل كان قوله ألا له الخلق في جميع ( 1 / 65 ) الخلق ثم قال بعد ذكره الخلق ” والأمر ” فأبان الأمر من الخلق وأمر الله كلامه وهذا يوجب أن كلام الله غير مخلوق.
 وقال سبحانه: ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) من الآية ( 4 / 30 ) يعني من قبل أن يخلق الخلق ومن بعد ذلك وهذا يوجب أن الأمر غير مخلوق.
 دليل آخر:
 ومما يدل من كتاب الله على أن كلامه غير مخلوق قوله سبحانه: ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ( 40 / 16 ) فلو كان القرآن مخلوقا لوجب أن يكون مقولا له: ( كن فيكون ).
 ولو كان الله عز و جل قائلا للقول: ” كن ” لكان للقول قولا وهذا يوجب أحد أمرين:
 إما أن يؤول الأمر إلى أن قوله تعالى غير مخلوق.
 أو يكون كل قول واقع بقول لا إلى غاية وذلك محال وإذا استحال ذلك صح وثبت أن لله عز و جل قولا غير مخلوق. ( 1 / 66 ).
 سؤال:
 فإن قال قائل: معنى قول الله: ( أن يقول له كن فيكون ) إنما يكون فيكون.
 قيل: الظاهر أن يقول له ولا يجوز أن يكون قول الله للأشياء كلها كوني هو الأشياء لأن هذا يوجب أن تكون الأشياء كلها كلاما لله عز و جل ومن قال ذلك أعظم الفرية لأنه يلزمه أن يكون كل شيء في العالم من إنسان وفرس وحمار وغير ذلك كلام الله وفي هذا ما فيه.
 فلما استحال ذلك صح أن قول الله للأشياء كوني غيرها وإذا كان غير المخلوقات فقد خرج كلام الله عز و جل عن أن يكون مخلوقا ويلزم من يثبت كلام الله مخلوقا أن يثبت الله غير متكلم ولا قائل وذلك فاسد كما يفسد أن يكون علم الله مخلوقا وأن يكون الله غير عالم.
 فلما كان الله عز و جل لم يزل عالما إذ لم يجز أن يكون لم يزل بخلاف العلم موصوفا استحال أن يكون لم يزل بخلاف الكلام موصوفا لأن خلاف الكلام الذي لا يكون معه كلام سكوت أو آفة كما أن خلاف العلم الذي لا يكون معه علم جهل أو شك أو آفة ويستحيل أن يوصف ربنا (1/67) جل وعلا بخلاف العلم.
 وكذلك يستحيل أن يوصف بخلاف الكلام من السكوت والآفات فوجب لذلك أن يكون لم يزل متكلما كما وجب أن يكون لم يزل عالما.
 دليل آخر:
 وقال الله تعالى: ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) من الآية ( 109 / 18 ) فلو كانت البحار مدادا للكتبة لنفدت البحار وتكسرت الأقلام ولم يلحق الفناء كلمات ربي كما لا يلحق الفناء علم الله تعالى ومن فني كلامه لحقته الآفات وجرى عليه السكوت فلما لم يجز ذلك على ربنا سبحانه صح أنه لم يزل متكلما لأنه لو لم يكن متكلما وجب السكوت والآفات تعالى ربنا عن قول الجهمية علوا كبيرا. ( 1 / 68 ).
 وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في الباب الثاني  من كتابه اللمع وهو باب الكلام في القرآن والإرادة: [2] [الله تعالى لم يزل متكلماً وكلام الله غير مخلوق ]
إن قال قائل: لم قلتم أن الله تعالى لم يزل متكلماً، وأن كلام الله تعالى غير مخلوق ؟.
قيل له: قلنا ذلك لأن الله تعالى قال: (( إنما قولنا لشيءٍ إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل: 40 ]، فلو كان القرآن مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له: كن، والقرآن قوله ويستحيل أن يكون قوله مقولاً له، لأن هذا يوجب قولاً ثانياً، والقول في القول الثاني وفي تعلقه بقول ثالث كالقول في القول الأول وتعلقه بقول ثانٍ وهذا يقتضي مالا نهاية له من الأقوال، وذلك فاسد وإذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن مخلوقاً.
ولو جاز أن يقول لقوله لجاز أن يريد إرادته وذلك فاسد عندنا وعندهم إذا بطل هذا استحال أن يكون مخلوقاً.
فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون معنى قوله تعالى: (( أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل: 40 ] أي نكونه فيكون من غير أن نقول له في الحقيقة ( ولا أن تقول له في الحقيقة ) شيئاً. قيل له: قال الله تعالى: (( إنما قولنا لشيءٍ إذا أردنه أن نقول له كن فيكون (40) )) [ النحل: 40 ].
فلو جاز لقائل أن يقول: لم يكن الله تعالى قائلاً لشيء في الحقيقة كن وإنما المعنى أن يكونه فيكون، لجاز لزاعم أن يزعم أن الله تعالى لا يريد شيئاً في الحقيقة وإنما معنى أردناه فعلناه من غير أن يكون إرادة في الحقيقة على وجه من الوجوه.
فإن قال قائل: إنه يكون معنى أن الله تعالى أراد الشيء أنه فعله وهو مريد له في الحقيقة بمعنى أنه فاعل له.
قيل له: لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن الله عز وجل قائل للشيء في الحقيقة كن ويزعم أن معنى ذلك أن يكونه فيثبت لله تعالى قولاً في الحقيقة هو المقول له كما زعمتم أن لله تعالى إرادة  في الحقيقة هي مراده، ولو جاز لزاعم أن يزعم هذا، لجاز لآخر أن يقول إن علم الله تعالى بالشيء هو فعله له.
قال الباقلاني في الانصاف:[3] «وأن يعلم: أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفاً به، وأنه قائم به ومختص بذاته، ولا يصح وجوده بغيره، وإن كان محفوظاً بالقلوب ومتلواً بالألسن، ومكتوباً في المصاحف، ومقروءاً في المحاريب، على الحقيقة لا على المجاز وغير حال في شيء من ذلك، وأنه لو حل في غيره لكان ذلك الغير متكلماً به، وآمراً وناهياً ومخبراً وقائلاً: ” إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني ” وذلك خلاف دين المسلمين، وأن كلامه سبحانه لا يجوز أن يكون جسماً من الأجسام، ولا جوهراً،، ولا عرضاً، وأنه لو كان كذلك لكان من جنس كلام البشر، ومحدثاً كهو: يتعالى الله سبحانه أن يتكلم بكلام المخلوقين…»(ص:23).
وقال: وأن يعلم: أن كلامه مسموع بالآذان، وإن كان مخالفاً لسائر اللغات، وجميع الأصوات، وأنه ليس من جنس المسموعات، كما أنه مرئي بالأبصار، وإن كان مخالفاً لأجناس المرئيات، وكما أنه موجود مخالف لسائر الحوادث الموجودات، وأن سامع كلامه منه تعالى بغير واسطة ولا ترجمان. كجبريل، وموسى، ومحمد عليهم السلام حق، سمعه من ذاته غير متلو ولا مقرره، ومن عداهم ممن يتولى الله خطابه بنفسه إنما يسمع كلامه متلواً ومقروءاً، وكذلك قال الله عز وجل: ” وكلم اللّه موسى تكليماً ” وقال: ” منهم من كلم اللّه ” وأن قراءتنا القرآن كسب لنا نثاب عليها، ونلام على تركها، إذ وجبت علينا في الصلوات. وأنه لا يجوز أن يحكي كلام الله عز وجل ولا أن يلفظ به لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه وكلام الله تعالى لا مثل له من كلام البشر، ولا يجوز أن يلفظ به بتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون كلام الله تعالى قائماً بذاتين قديم ومحدث وذلك خلاف الإجماع والمعقول. وأن كلام الله تعالى غير متبعض ولا متغاير، وأن الصفة هي ما قامت بالشيء وأن الوصف قول الواصف الدال على الصفة خلاف ما يذهب إليه القدرية… (ص:24).
وقال في صفة الكلام: «ويجب أن يعلم: أن الله تعالى متكلم، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث. والدليل عليه قوله تعالى: ” منهم من كلم اللّه ” وقوله تعالى: ” وكلم اللّه موسى تكليماً ” وقوله تعالى: ” وتمت كلمة ربك “. وقوله صلى الله عليه وسلم: فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق. ولا يتصف ببداية ولا نهاية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة العامة. ومحال أن يعوذ مخلوق بمخلوق، فثبت أنه عوذ مخلوقاً بغير مخلوق، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ولأنه لو لم يكن متكلماً لوجب أن يوصف بضد الكلام؛ من الخرس والسكوت والعي، والله يتعالى عن ذلك» [4] .
قال الإمام الجويني في النظامية: مما يجب لله تعالى: الاتصاف بالكلام، وقد تقطعت المهرة في إثبات العلم بوجوب وصف الباري سبحانه بالكلام، وهو خارج عن القاعدة التي هي مستند هذه العقيدة، فنقول، كما نعلم بعقولنا أن تردد الخلق على صنوف التغاير من الجائزات، فكذلك تصرفهم تحت أمر مطاع، ونهي متبع ليس من المستحيلات، وإذا قطع بجواز ذلك، كما قضى بجواز جريان الخلائق على اختلاف الأحوال والطرائق، فكل جائز من صفات الخلق يستدل إلى صفة واجبة للخالق، فيجب انسلاكهم في الأوامر والزواجر، اتصاف ربهم بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وهو الملك حقا، ولا يتم وصف الملك دون الاتصاف بالاقتدار على تغيير الخلق قهرا، وإن كان توجيه الأمر والنهي عليهم تعبدا وتكليفا، فتقرر بدلك وجوب كونه تعالى وتقدس متكلما» [5] .
وقال أيضا: ثم معتقد أهل الحق أن كلام الله ليس بحروف منتظمة، ولا أصوات منقطعة، وإنما هو صفة قائمة بذاته تعالى يدل عليها قراءة القرآن كما يدل قول القائل على الوجود الأزلي، ويعتبر المسمى أصوات والمفهوم منه الرب تبارك وتعالى…[6].
وقال أبو حامد الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد في صفة الكلام: [7] ندعي أن صانع العالم متكلم كما أجمع عليه المسلمون، واعلم أن من أراد إثبات الكلام بأن العقل يقضي بجواز كون الخلق مرددين تحت الأمر والنهي وكل صفة جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخالق، فهو في شطط، إذ يقال له: إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهة الخلق الذين يتصور منهم الكلام، فمسلم، وإن أردت جوازه على العموم من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع مسلماً في نفس الدليل وهو غير مسلم، ومن أراد إثبات الكلام بالإجماع أو بقول الرسول فقد سام نفسه خطة خسف لأن الإجماع يستند إلى قول الرسول عليه السلام ومن أنكر كون الباري متكلماً فبالضرورة ينكر تصور الرسول، إذ معنى الرسول المبلغ لرسالة المرسل، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟ ومن قال أنا رسول الأرض أو رسول الجبل إليكم فلا يصغى إليه لاعتقادنا استحالة الكلام والرسالة من الجبل والأرض، ولله المثل الأعلى، ولكن من يعتقد استحالة الكلام في حق الله تعالى استحال منه أن يصدق الرسول إذ المكذب بالكلام لا بد أن يكذب بتبليغ الكلام، والرسالة عبارة عن تبليغ الكلام، والرسول عبارة عن المبلغ، فلعل الأقوم منهج ثالث وهو الذي سلكناه في اثبات السمع والبصر في أن الكلام للحي أما أن يقال هو كمال أو يقال هو نقص، أو يقال لا هو نقص ولا هو كمال، وباطل أن يقال هو نقص أو هو لا نقص ولا كمال فثبت بالضرورة أنه كمال، وكل كمال وجد للمخلوق فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى كما سبق.
قال الشهرستاني في نهاية الأقدام: [8] في كون الباري متكلماً بكلام أزلي:
ولما لم نجد في الملة الإسلامية من يخالفنا في كون الباري تعالى متكلماً بكلام قدمنا هذه المسئلة وإن جرت العادة بتقديم المسئلة الأخيرة ولم يخالفنا في ذلك إلا الفلاسفة والصابية ومنكرو النبوات وطرق متكلمي الإسلام تختلف.
فطريق الأشعرية أن قالوا دل العقل على كون الباري تعالى حياً والحي يصح منه أن يتكلم ويأمر وينهي كما يصح منه أن يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر فلو لم يتصف بالكلام أدى إلى أن يكون متصفاً بضده وهو الخرس والعي والحصر وهي نفائس ويتعالى عنها.
والذي يحقق هذه الطريقة قولهم قد ثبت بدليل العقل أنه ملك مطاع ومن حكم الملك أن يكون منه أمر ونهي كما دل تردد الخلق في صنوف التغايير والحوادث والجائزات على كون الباري تعالى قادراً عالماً دل تردد الخلق في صنوف الأمر والنهي على أمر الباري ونهيه وكما جرى في ملكه تقديره جرى على عباده تكليفه وكما تصرف في الموجودات الجبرية جبراً وقهراً تصرف في الموجودات الاختيارية تكليفاً وتعريفاً.
وقال: في أن كلام الباري واحد:
ذهبت الأشعرية إلى أن كلام الباري تعالى واحد وهو مع وحدته أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد….
وقال أيضا: وصار أبو الحسن الأشعري إلى أن الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانية وبذات المتكلم وليس بحروف ولا أصوات وإنما هو القول الذي يجده العاقل من نفسه ويجيله في خلده وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز وإن كان على طريق الحقيقة فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك.
وقال الرازي في المعالم: [9] في المسألة الخامسة عشرة الكلام صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات.
والدليل عليه هو أن الألفاظ الدالة على الأمر مختلفة بحسب اختلاف اللغات وحقيقة الأمر ماهية واحدة فوجب التغاير.
وأيضا اللفظ الذي يفيد الأمر إنما يفيده لأجل الوضع والاصطلاح وكون الأمر أمرا ماهية ذاتية لا يمكن تغيرها بحسب تغير الأوضاع فوجب التغاير فثبت أن الأمر ماهية قائمة بالنفي يعبر عنها بالعبارات المختلفة.
إذا ثبت هذا فنقول تلك الماهية ليست عبارة عن إرادة المأمور به لأنه تعالى أمر الكافر بالإيمان وسنقيم البراهين اليقينية على أنه تعالى يمتنع أن يريد الإيمان من الكافر فوجدنا ههنا ثبوت الأمر بدون الإرادة فوجب التغاير فثبت أن الأمر والنهي معاني حقيقية قائمة بنفوس المتكلمين ويعبر عنها بألفاظ مختلفة.
المسألة السادسة عشرة كلام الله تعالى قديم
ويدل عليه المنقول والمعقول أما المنقول:فقوله تعالى {لله الأمر من قبل ومن بعد} فأثبت الأمر لله من قبل جميع الأشياء فلو كان أمر الله مخلوقا لزم حصول الأمر من قبل نفسه وهو محال.
والثاني: قوله تعالى {ألا له الخلق والأمر} ميز بين الخلق وبين الأمر فوجب أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق.
والثالث: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (أعوذ بكلمات الله بالتمام) والمحدث لا يكون تاما.
والرابع: أن الكلام من صفات الكمال فلو كان محدثا لكانت خالية عن صفات الكمال قبل حدوثه والخالي عن الكمال ناقص وذلك على الله محال.
والخامس: أنا بينا أن كونه تعالى آمرا وناهيا من صفات الكمال ولا يمكن أن يكون ذلك عين هذه العبارات بل لا بد وأن تكون صفات تدل عليها هذه العبارات فلو كانت تلك الصفات حادثة لزم أن تكون ذاته محالا للحوادث وهو محال.
السادس: أن الكلام لو كان حادثا لكان إما أن يقوم بذات الله أو بغيره أو لا يقوم بمحل فلو قام بذات الله تعالى لزم كونه محلا للحوادث وهو محال وإن قام بغيره فهو أيضا محال لأنه لو جاز أن يكون متكلما بكلام قائم بغيره لجاز أن يكون متحركا بحركة قائمة بغيره وساكنا بسكون قائم بغيره وهو محال وإن وجد ذلك الكلام لا في محل فهو باطل بالاتفاق.
واحتجوا على أن كلامه مخلوق بوجوه.
أحدها: أن حصول الأمر والنهي من غير حضور المأمور والمنهي عبث وجنون وهو على الله محال.
الثاني: أنه تعالى إذا أمر زيدا بالصلاة فإذا أداها لم يبق ذلك الأمر وما ثبت عدمه امتنع قدمه.
الثالث: أن النسخ في الأوامر والنواهي جائز وما ثبت زواله امتنع قدمه.
الرابع: أن قوله تعالى {إنا أرسلنا نوحا} وإنا أنزلناه في ليلة القدر أخبار عن الماضي وهذا إنما يصح أن لو كان المخبر عنه سابقا على الخبر فلو كان الخبر موجودا في الأزل لكان الأزلي مسبوقا بغيره وهو محال.
والجواب أن كل ما ذكرتم في الأمر والنهي معارض بالعلم فإن الله تعالى لو كان عالما في الأزل بأن العالم موجود لكان ذلك جهلا ولو كان عالما بأنه سيحدث فإذا أوجده وجب أن يزول العلم الأول فحينئذ يلزم عدم القديم.
وبالجملة فجميع ما ذكروه من الشبهات معارض بالعلم.
وقال الآمدي في أبكار الأفكار: [10] المسألة الخامسة في إثبات صفة الكلام لله تعالى.
وقد أجمع المسلمون قاطبة على اتصاف الرب تعالى بكونه متكلما وأنه تكلم، ويتكلم، غير الإسكافى  من المعتزلة فإنه نازع في كونه يتكلم. متحكما في الفرق بين تكلم، ويتكلم.
لكن معنى كونه متكلما عند أصحابنا: أنه قام بذاته كلام، قديم، أزلى نفسانى، أحدى الذات، ليس بحروف، ولا أصوات، وهو مع ذلك متعلق بجميع متعلقات الكلام.
لكن اختلفوا في وصف كلام الله تعالى فى الأزل بكونه أمرا ونهيا، مخاطبة تكلما.
فأثبت ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرى.

                                                                    إعداد الباحث: يوسف الحزيمري

 

الهوامش:

[1] الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري، تحقيق: د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار – القاهرة، الطبعة الأولى، 1397، (ص: 63).
[2] اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، أبو الحسن الأشعري صححه وقد له وعلق عليه محمود غرابة، مطبعة مصر 1955م، (33-46).
[3] الإنصاف، لأبي بكر الباقلاني، تقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، عناية عزت العطار الحسيني، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1369هـ-1950م، (ص:23-24).
[4] الإنصاف، لأبي بكر الباقلاني، تقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، عناية عزت العطار الحسيني، مكتب نشر الثقافة الإسلامية، 1369هـ-1950م، ص(33).
[5] العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية لإمام الحرمين الجويني، تحقيق وتعليق محمد زاهد الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، 1412 هـ-1992م، ص: (25-26).
[6]نفسه ص: (27-28 ).
[7] الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي، وضع حواشيه عبد الله محمد الخليلي دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1424هـ-2004م، (ص:67).
[8] نهاية الأقدام في علم الكلام لعبد الكريم الشهرستاني، حرره وصححه ألفريد جيوم، مكتبة الثقافة الدينية الطبعة الأولى، 2009م (ص:256 ومابعدها).
[9] معالم أصول الدين، لفخر الدين الرازي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي – لبنان، (ص: 65 ومابعدها).
[10] أبكار الأفكار في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي، تحقيق: أ. د. أحمد محمد المهدي، مطبعة دار الكتب والآثار القومية بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1424 هـ – 2004 م، (1/353-354).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق