مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةشذور

أُقَسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرة

من الأبيات المشهورة الدالة على الإيثار، وتقديم الغير على النفس عند الشدة والفاقة بيت عروة بن الورد:

أُقَسِّمُ جسمي في جُسومٍ كثيرةٍ                 وأَحْسُو قَرَاحَ الماءِ، والماءُ بارد

        ورأي القدماء في البيت أن الجسم لا يقسم، وإنما يقسم قوت الجسم، فكأنه قال: أقسم قوت جسمي، وأجود به على غيري، وأوثره على نفسي. وذلك في فصل الشتاء وزمنَ البرد، وهو قوله: والماء بارد، وزمنُ الشتاء في جزيرة العرب، هو زمن الشدة والفاقة والجدب. فقوله: وَالْمَاء بَارِد، كِنَايَة عَن زمن الشتَاء الَّذِي يشْتَد فِيهِ الجدب.

فهذا المعنى الأول في هذا البيت، وهو معنى الإيثار.

وأما المعنى الثاني فهو معنى الصبر، والاستعانة عليه بالتوهم، لأنه يذكر اجتزاءه بقراح الماء عَن الْقُوت، وهو المَاء الَّذِي لم يخالطه غَيره، مع شدة حاجته إلى الطعام، ورغبته فيه. وآية ذلك عندي أنه قال: وأحسو قراح الماء. فإن في الحسو معنيين، هما:

أولا: العمل في مهلة. قال سيبويه: التحسي عمل في مهلة.

ثانيا: قلة الشرب. وذلك تشبها بالطائر، فإن الحسو للطائر كالشرب للإنسان.

فكأنه كان يُقِلُّ الشرب، ويتمطق به، فِعْلَ من يتوهم شربَ اللبن.

وأما المعنى الثالث فهو معنى القناعة التي ليس بعدها قناعة، ذلك أنه لو ذكر أنه اقتنع بشيء قليل لصح أن يقال عنه: قنوع، ولكنه ذكر أنه قَنِعَ بالتوهم، واجتزأ بما لا يغني، وجعل ما نقص من لحم جسم نفسه زيادةً في جسوم المحتاجين.

        وظني أن شرح القدماء لا يسعف في إدراك معنى الاجتزاء بالتوهم، مع أنه من المعاني التي تقع تحت العبارة وقوعا عليه دليل من معنى لفظ (الحسو)، كما بينا، وأيضا فإن طريقتهم في التحليل البلاغي القائمة على ضرورة تقدير حذف المضاف في مثل هذا الموضع، لأن المعنى، في نظرهم، يفسد إذا قلنا بإمكان تقسيم جسم على جسوم كثيرة على الحقيقة، تخفي عنا أقوى ما في هذا الشعر. وهو كون الشاعر ينظر إلى الناس تسعى حوله وقد تخيل جسمه موزعا بينها، فهو حي في غيره، قوي به، يرى جسوما كثيرة تحيى بما أعطاها من جسمه. فتخييله للجسم الموزع في جسوم يضمر عند قولنا بأنه يقصد: قوت جسمه، لا غير. وإن كنا لا ندفع أن حذف المضاف في كلام العرب وأشعارها، وفى الكتاب العزيز أكثر من أن يحصى، أو كما قال ابن جني: «حذف المضاف في القرآن والشعر وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة». ولكننا نقول ما قاله ابن الشجري: “وأحسنه ما دل عليه معنى، أو قرينة، أو نظير، أو قياس”. ومعنى ذلك أنه إذا كان المعنى يكون أقوى بإسقاطه، فإسقاطه أولى.

        وعلى هذا فإن هذا البيت قد جمع من المعاني: الإيثار، والصبر، والقناعة. وقد كان قدامة يرى أن الصبر يتركب من فضيلتين، هما: العقل والشجاعة، وأن الاقتصار على أدنى معيشة ناتج عن تركيب العقل مع العفة، وأن الإيثار ناتج عن تركيب السخاء مع العفة. ومعنى ذلك أنه يرى في مثل هذا البيت من الفضائل أكثر مما رأينا، فهي عنده: العقل، والعفة، والسخاء، والشجاعة. وهذه تكاد تكون هي أصول الفضائل عنده مجتمعة، لأنه يرى أن أصول الفضائل هي: العقل والعفة والعدل والشجاعة. وقد ذُكِرَ هنا السخاء، وهو من أقسام العدل عنده. وقد كان قدامة يبحث عن اجتماع الفضائل أو بعضها في قصيدة كاملة، فكيف إذا اجتمع ذلك كله في بيت واحد. ومع ذلك فإنك لا ترى هذا البيت في كتابه “نقد الشعر”. ولم يكن ذوق قدامة في الاستشهاد كذوقه في التقسيم، والنظر المجرد.

        ولهذه المعاني مجتمعة ود عبد الملك بن مروان لو كان من ولد عروة، كما في العقد الفريد وغيره. فهذا الرجل كان يعيش في غيره، ويعيش غيره به. وهذا المعنى أقرب من كل معنى شُرِحَ به هذا البيت. ولعل الكلمة التي تنسب للمغيرة بن شعبة مرة، ولوهب بن منبه أخرى، وهي قوله: أحسنُ الناس عيشاً من عاش بعيشهِ غيرُه، أقرب إلى معنى هذا البيت من كل ما ذكره القدماء في شرحه.

        وهذا معنى فاخر لو ترجم إلى لغة أجنبية لظل على قوته، مع أن الشعر يضعف بالترجمة. وذلك أنك تجد قوته في جهتين: جهة الشعور الإنساني السامي، وجهة التعبير الشعري. فإن التعبير الشعري، وإن ضعف بالترجمة، فإن المعنى الإنساني لا يضعف بها. وأيضا فإنك غير محتاج إلى سياق ثقافي خاص لفهم هذا المعنى. ويظهر هذا بترجمة الشطر الأول إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، فتقول، مثلا، بالفرنسية:

Je fragmente mon corps en moult corps.

وتقول بالإنجليزية:

I divide my body into the bodies of others,

فيظل المعنى قويا في اللغة المنقول إليها كما كان قويا في العربية.

فإذا حاولت أن تجرب مثل ذلك في الشطر الثاني، ظهرت الحاجة إلى الشرح، ومعرفة السياقين الثقافي والاجتماعي.

فلك أن تقول بالفرنسية مقربا المعنى دون الالتزام بالترجمة الحرفية:

Et, telle une soupe, je bois de l’eau plate, alors qu’elle est froide.

فلا يفهم من هذا كبير شيء مما له علقة بالجدب المقترن بفصل الشتاء، كما عرفته العرب في جزيرتها.

ولك أن تقول بالإنجليزية:

Supping but mere water, though winter hovers

أو:

Supping but mere water, though a [bare] winter hovers

فتكون قد ذكرت فصل الشتاء وقربت المعنى به، دون أن يفهم منك القارئ الإنجليزي كبير شيء مما يفهمه القارئ العربي من بيت عروة.

        فهذا يدلك على ما بين الشطرين من فرق.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لماذا لم تكمل شرح البيت الثاني:
    اتعجب مني ان سمنت وانت ترى……….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق