مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أَهْلُ الله وَخَاصَّتُه

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد؛ 

فإن كتاب الله عز وجل؛ معدن الهداية ومنبع الحكمة، وملاذ الورى ونبراس الأمة، وأَحْدث الكتب عهْداً بالرحمان، تَفَنَّنتْ منه أسماء عَليَّة، وتسَـرْبلتْ بمعاني أنواره صفات جليَّة؛ فسماه الله سبحانه قرآنا وفرقانا وهدى ونورا، كما جعله عز وجل كتابا مبينا وصراطا مستقيما وذكرا حكيما، فأشاد بمنزلة حملته من حفظته، ونوَّه بمرتبة وُعاته وسَدَنته، فقال عز في عليائه: (كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران/ 79]، إذْ وصْف الربانية [1] أخص ما ينتسب به العبد إلى مولاه جل وعلا من بعد النبوة، فلأجل ذلك خُصَّ أصحابه ومُتعاطوه من بين الخلْق، فكانوا أهل الله وأشراف أمته، اجتباهم من بريّته وأكرمهم بمنقبة الانتماء إلى أفضل رسله، فقال سبحانه في محكم تنزيله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ  لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله) [فاطر / 32]، والتوريث هنا بمعنى الإعطاء والتمليك، وذلك لأنَّ الأمة المحمدية لم ترث القرآن عن أمة تقدمتْها، وإنما خصها الله سبحانه به، فعبر هنا عن ذلك بصيغة الماضي لتحققه والإشارة به إلى حسن منقلب أهله، كما عبّر سبحانه في غير الأمة المحمدية بمثل (وَرِثُواْ الْكِتَابَ) [الأعراف / 169] وما إليه، وبصَـرُ الفرْق بين الإطلاقين دالٌّ على فَرْق ما بين المقاميْن وعُظْم ما بين المنزلتيْن، قال برهان الدين البقاعي (ت‍ 885 ه‍): (وهذا الإيراث للمجموع؛ لا يقتضـي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن، بل يشمل من يحفظ منه جزءا، ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن، ونحن على القطع بأنهم مصطفون) [2]، ولذلك فإنَّ من لطيف بلاغات القرآن الكريم في النظم؛ أن قدم الظالم على السابق، وإن كان أضعف في التقدمة والأحقِّية في ترتيب الذكر أو التنويه، وذلك إظهارا للكرم مع الظالم، لأنه كسيف البال منكسـر القلب ولا يحتاج وقته طول مدافعة، إذ النقص والتقصير غير مُنفكَّيْن عن جبلَّة الإنسان، لأنهما مُستولييْن على طبيعته – ابتداءً – مهْما علم أو فقه، وذلك سرّ تقديم الأدنى (الظالم لنفسه)، لأنه الأكثر الأغلب، كيلا يَحْصل اليأس ويَسْتطيل حبْل القنوط، وهذا النوع، أي المفرّط المتهاون في توفية ما لزمه من واجب الحق والتنزُّه عن سُبل الكبائر أو ماشابه، فهذه طائفة المرجَئون لأمر الله، ومنهم (المقتصد) أي الذي خلط صالح العمل بالسيّء، أي استوى على جهة التوسط بمنزلة بين المنزلتين، وذلك لأنه لم يبذل الجهد كله للبعد عن النوع الأول والتجافي عن ساحته، ولكنه اجتنب سبيل الكبائر ونَكَب عن صراطه، ومنهم (سابق بالخيرات)، فأولئك السابقون بالقربات والطاعات، الموفون المقام حقه العارفون لقدْره وغايته، إذ كلما ازدادوا قربا سَمَتْ بهم هممُهم في الازدياد من صالح العمل وخالصه، قال البرهان البقاعي (ت‍ 885 ه‍): (وختم بالسابقين؛ لأنهم الخلاصة، وليكونوا أقرب إلى الجنات، كما قدم الصوامع في سورة الحج، لتكون أقرب إلى الهدم، وأخَّر المساجد لتقارب الذكر، وقدم في التوبة السابقين، عقيب أهل القربات من الأعراب، وأخر المرجئين، وعَقَّبهم بأهل مسجد الضِّرار، وقدم في الأحزاب المسلمين، ورقَّى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيرا، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى؛ بحسب ما يقتضيه الحال) [3]، ثم هؤلاء أهل الخلاصة السابقون؛ ليس في قوتهم – فيما جرت به العادة – أو في كسبهم واجتهادهم أن يَبْلغوا ما بلغوا أو يُدركوه، إلا بإذن الله سبحانه، فهو صاحب القدرة التامة والعظمة العامة، والفعل بالاختيار وجميع نعوت الكمال، ثم لأنَّ السابق كلَّما علا مقامه في السَّبْق؛ قَلَّ حظُّه من الدنيا والتعلُّق بحُطامها، حتى يرى الجاهلون أنه مضيِّع لنفسه قاهرٌ لها أو ما شابه.وعليه؛ ففواضل كتاب الله تعالى وعوائده، أشهر من أن تُذكر، ثم منزلة أهل القرآن المُديمين النظر في ظاهره وبباطنه، والمُمْعنين في إقامة حروفه ولزوم جادَّة حدوده؛ أَعَزُّ من أن تُحْصر، تكاثرت تآليف العلماء في لفِّها ونشرها، وبسطها وتعريفها، منذ القرون الأولى، استقلالا وتضمينا، تلخيصا وتوسيطا وتطويلا، رعْياً لمقتضـى الحال، وجرْيا مع متقلِّب الشأن والبال، ك‍ فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت‍ 224 ه‍)، وفضائل القرآن وتلاوته لأبي الفضل الرازي (ت‍ 454 ه‍)، وغيرهما عَديدٌ مَديد، ليس غرضنا التقصِّـي  لتفصيل تحصيله، وإنما حظُّنا التنبيه بما تحصل معه الغُنية والكفاية للمريد، وإلى الله عناية المقصود، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابع. 


[1]فضائل القرآن للرازي 1/32، طبعة حسن صبري.

[2]نظم الدرر 16/54.

[3] نظم الدرر 16/56.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق