وحدة الإحياءدراسات محكمةمفاهيم

أهم محددات المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية.. الفقه السياسي مثالا


تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على أهم محددات المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية من خلال التطبيق على الفقه السياسي.

لكن قبل ذلك لابد من الاستشكال عن مدى وجود منهاجية إسلامية بصيغة التعريف المفرد (الـ) أم أننا بصدد منهجيات تتعدد بتعدد المنطلقات والرؤى التصورية، والاختيارات البحثية، والحقول العلمية، والخلفيات المعرفية، والسياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية؟

هل تتعدد المنهجيات العلمية بتعدد الخلفيات الدينية والأيديولوجية والمذهبية، أم أن المعرفة العلمية معرفة موضوعية يمكن التحقق منها على أساس عقلي وتجريبي، وتبعا لذلك؛ فالمنهاجية العلمية منهاجية واحدة؟ تختلف تطبيقاتها وتكييفاتها باختلاف الموضوعات والسياقات لا باختلاف العقائد والانتماءات؟

لكن لما كان المنهج لا يكاد ينفك عن إطاره المرجعي الحاكم، وعن نظامه المعرفي؛ عن مقولاته، ومفاهيمه، ومعاييره، ونماذجه، وبارديغماته، بل ونظامه القيمي، ولما كانت هندسة البناء المنهاجي والعمارة الحضارية علاقة عضوية متكاملة لدرجة جعلت البعض يعتبر أن “منهاجية البحث ليست مفصولة عن منهج الحياة وعمرانها. فمناهج علوم الأمة مقدمة لا يمكن إغفالها لعمارة الأمة وتحقيق شروط شهودها الحضاري”، فهل لنا أن نتحدث عن منهاجية إسلامية تستمد ماهيتها وفحواها، وحقيقتها من مقومات التصور الإسلامي من مصادره التأسيسية كتابا وسنة صحيحة؟

إلى أي مدى يرتبط النظام المعرفي بالنظام العقدي والنظام القيمي بشكل يولد، حسب البعض، الصيغة المعرفية من الصبغة التوحيدية سعيا لبناء الحضارة وصياغة علوم الأمة وعلوم العمران؟

وهل ما ينطبق على العلوم الإنسانية والاجتماعية ينطبق على العلوم الحقة؟ وهل ما ينطبق عليها ينطبق على العلوم الإسلامية في هذا السياق؟

لمقاربة هذه الاستشكالات  وغيرها سوف نبدأ بتحديد أهم المفاهيم المفتاحية وبوجه خاص مفهوم المنهج والمنهاجية، والسياسة باعتبارها علما؛ ذلك أن السياسة كما تأخذ شكل فعالية إنسانية ملازمة للاجتماع البشري من خلال شتى التعبيرات السياسية تداولا، وتدافعا، وتعاونا، ومنافسة، واحتجاجا، وتكتلا.. فإنها تأخذ طابع العلم والمعرفة العلمية بمختلف الفعاليات والظواهر السياسية السالفة؛ انطلاقا من قواعد، وإجراءات، ونظريات، وأطر مؤسسية ومرجعية، وبارديغمات، ومنظومات قانونية..

أولا: مهاد نظري ومفاهيمي

يتحدد المنهج بكونه طريقة في البحث؛ استقراء، واستنباطا، واستنتاجا، ومقارنة.. انطلاقا من الالتزام بجملة القواعد والمبادئ؛ من قبيل تحري الموضوعية والتجرد ما أمكن، واعتبار العلاقات السببية.. وبناء على جملة من المفاهيم أو المعاني الكلية التي يتم بها تحويل موضوع البحث من مواد خام خالية من المعنى والمعقولية إلى معان وعلاقات لها معقوليتها، فهي بذلك تختلف باختلاف الموضوعات..[1].

ولذلك يعد المنهج (Méthode)، بحق، “من أنفس ما اهتدى إليه العقل البشري عبر قرون متتالية من الكدح والمكابدة في المجال المعرفي، وهو عبارة عن آليات متضافرة للكشف عن الحقائق المعرفية في مجالاتها المتعددة والمتنوعة؛ إذ ينصبغ المنهج دوما بصبغة المجال الذي يعمل فيه”. أما المنهجية فتحيل إلى “إطار مرجعي جامع لمجموعة آليات استنطاقية بحثية متواشجة ينتظمها ناظم موحد”[2].

فالمنهجية المعرفية، انسجما مع ما تقدم، تشير إلى جهد علمي يرمي إلى تحديد العلاقة بين الثابت والمتغير في الخبرة الإنسانية، فهي أداة لتوليد العلوم والمعارف من جهة أولى، وضابط معياري للحكم على صحة المعرفة من جهة ثانية، وتركيب اصطلاحي يحيل إلى جملة المبادئ المعرفية والإجرائية المعتمدة لتوليد مفاهيم وأحكام تصورية من جهة ثالثة. فبينما تقع المبادئ المعرفية والمبادئ العلمية، ضمن دائرة الثوابت، فإن المبادئ الإجرائية تكتسي طبيعة وضعية متغيرة[3].

ولتلافي القصور الذي يعتري المنهجيات المعرفية التراثية التي تفتقر، في الأعم الأغلب، إلى امتلاك طرائق التحليل الاجتماعي المنضبط وفق أسس علمية صارمة. وكذا القصور الذي باتت تعاني منه المنهجيات المعرفية الغربية المعاصرة بفعل إمعانها في النزعة الوضعية المادية الأحادية، وإغراقها في التجزيئ والتفتيت والتعضية، وبفعل افتقارها لناظم تركيبي مستوعب.. لتجاوز كل ذلك؛ فقد تبلورت اتجاهات علمية لتطوير منهاجية معرفية تستمد مصادرها وأسسها، حقائق وتصورات ومعايير وقيم، من الرؤية الإسلامية في انفتاح راشد وقاصد على المنهجيات الحديثة بعد نقدها وتجريبها وتمحيصها.

أما السياسة فتحيل إلى حقيقة من حقائق الوجود الإنساني لا يمكن تجنبها؛ بحيث أن كل فرد يجد نفسه منخرطا بكيفية معينة، وفي لحظة محددة في شكل من أشكال النظم السياسية. ولما كان من المتعذر على المرء أن يتلافى السياسة، فقد بات من المتعين عليه ألا يتجنب النتائج المترتبة عنها. فمع أننا قد نحاول تجاهل السياسة فإنه لا يمكننا تلافيها؛ وهو ما يمثل سببا قويا يحثنا على فهم السياسة؛ سواء من باب الفضول المعرفي، أو رغبة في امتلاك الشعور بأننا نستوعب وندرك ما يجري حولنا في هذا العالم، أو تأكيدا لطبيعتها المدنية والاجتماعية التي تقتضي منا الاهتمام بالشؤون العامة للجماعة التي ننتمي إليها، أو لأنا نسعى للوصول إلى أفضل الخيارات، أي أننا نسعى للتصرف بحكمة ومقاصدية.

وبالرغم من أن التوصل إلى أفضل الخيارات قد يكون هو الدافع الأقوى لدى معظم الناس للقيام بالتحليل السياسي بناء على منهاجية تنسجم مع تصوراتهم ومنطلقاتهم العقائدية والفلسفية، إلا أنه لا يمكننا أن ننكر أن الناس في سوادهم الأعظم يستشعرون حاجة قوية إلى فهم العالم الذي يعيشون فيه، وعلى مستوى نخبهم يسعون إلى تغييره وتحديد وجهته.

ومع أن أي شخص يستطيع أن يفهم السياسة بمقدار، إلا أن السياسة تبقى موضوعا بالغ التعقيد؛ إن لم تكن أكثر المواضيع التي يواجهها المرء تعقيدا في الفضاء الاجتماعي. وفي هذا السياق ينبهنا (روبرت أ. دال) إلى أن المرء كلما ضمرت خبرته في التعامل مع تعقيدات السياسة كلما أمعن في تبسيطها واختزالها بصورة مخلة[4].

وتعقيدها يزداد أكثر حينما نعلم أن السياسة، في أحد أبرز وجوهها، عالم منافسة وتدافع لا يهدأ بين مختلف القوى الاجتماعية، وهي منافسة لا يمكن أن تسويها التنظيمات السياسية مهما كانت شمولية، وإلا باعتماد عنصر التعاقد القائم على الحوار المدني المفضي إلى التوافق السياسي والاجتماعي، وإلا باستحضار عنصر التخليق؛ من منطلق أن الأخلاق تستوجب الثقة، والثقة تفترض قابلية الاستشراف، وقابلية الاستشراف تتطلب أنماطا منتظمة ومؤسساتية من السلوك.

ومن دون مؤسسات سياسية قوية، لا يمتلك المجتمع الوسائل الكافية لتحديد ولتحقيق مصالحه المشتركة. والقدرة على إيجاد مؤسسات سياسية تفيد القدرة على خلق مصالح عامة؛ بحيث أن المجتمع الذي يتوافر على تنظيمات حاكمة وإجراءات ذات مستوى عال من المؤسساتية يكون أكثر قدرة على استجلاء وتحديد مصالحه وتحقيقها؛ فالتجمعات السياسية المنظمة مؤسساتيا أفضل قدرة على التوصل لاتخاذ القرارات ولتطوير البرامج والخطط السياسية من التجمعات غير المنظمة.

وبناء عليه، فإن المصلحة العامة ليست أمرا موجودا بشكل بديهي في القانون الطبيعي أو حتى في إرادة الشعب، بل هي شيء تولده مؤسسات وتنظيمات الحكم. فالحكم الذي ينحط مستواه المؤسساتي لا يكون مجرد حكم واهن، بل هو حكم رديء؛ ذلك أن وظيفة الحكم هي أن يحكم. والحكم الضعيف، أي الحكم الذي يفتقر إلى السلطة، يخفق في أداء وظيفته، ويكون لا أخلاقيا، مثلما يكون القاضي الفاسد أو الجندي الجبان أو الأستاذ الجاهل لا أخلاقي، ومن هنا فإن القاعدة الأخلاقية متجذرة في احتياجات الناس ومصالحهم وبوجه خاص في المجتمعات المعقدة التكوين.

وفي هذا الإطار يؤكد علم السياسة الحديث وجود علاقة جدلية بين حضارة المجتمع ومنظومة قيمه، وبين مؤسساته السياسية؛ من منطلق أن الوظيفة الأساسية للسلطات العامة قبل تنظيم وتحقيق المنافع العمومية، وقبل توفير شروط ومقومات السلم والأمن والرخاء الاجتماعي، تكمن في “تعزيز الثقة المتبادلة السائدة في قلب الوحدة الاجتماعية”، وبالمقابل فإن فقدان الثقة في حضارة المجتمع يحدث عقبات كأداء أمام إقامة مؤسسات عامة فاعلة وذات مصداقية.

أكثر من ذلك؛ فإن المجتمعات التي يعاني فيها الحكم من عجز في الفعالية والاستقرار، تعاني كذلك من ضعف الثقة المتبادلة بين المواطنين في الولاء الوطني، وفي المهارات والقدرات التنظيمية. ومن هنا تنبع أهمية الوعي السياسي المنهاجي بأهمية الثقة، وقوة البناء المؤسسي المعبر عن إرادة وتضامن ومصالح الجماعة الوطنية، وحيوية التفكير العام وتجذر الوعي الاجتماعي، ورسوخ الولاء شورى لأولي الأمر..

وغير بعيد عن التصور الإسلامي لتدبير الشأن العام يذهب علم السياسة الحديث إلى أن “علم اللحمة الجماعية هو أصل الاجتماع السياسي، وأصل العلوم الاجتماعية؛ وتقدم كل ما عداه يعتمد على التقدم الذي أحرزه”، كما أن التنظيم أو النهج السياسي يعد بمثابة ترتيب من أجل المحافظة على النظام، وحل الخلافات، واختيار القادة الذين يحوزون على المشروعية بما يعزز مستوى الاتفاق والتراضي بين القوى الاجتماعية..

وإذا كان علم السياسة الحديث ذي النزوع الوضعي يحدد السياسة في صلتها بهذا العالم الأرضي دون سواه، فإن الفقه السياسي الإسلامي في تحديده لماهية السياسة ووظائفها ومقاصدها لا يفصل بين عالمي الغيب والشهادة؛ حيث يجري النظر إلى السياسة باعتبارها حصيلة الأفعال التي يؤدي إلى “استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل.. والأفعال التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. وتدبير المعاش على سنن العدل والاستقامة الإسلامية..”

ذلك هو “جوهر ومنطلق الخلاف بين مضمون “السياسة” في الحضارة الإسلامية، ومضمونها في الحضارة الغربية. يبدأ الخلاف حول تصور كل حضارة لـ”الإنسان”؛ أخليفة هو عن الله، سبحانه وتعالى؟ فتكون دنياه معبرا إلى الآخرة، التي هي خير وأبقى، فيسوس عمران الدنيا بشريعة الدين، قياما بتكاليف عقد وعهد الاستخلاف. على النحو الذي يجعل هذه السياسة “سياسة-شرعية”؟ أم أن هذا الإنسان هو سيد هذا الكون، الذي تقف معارفه وعلومه عند ظاهر الحياة الدنيا.. والذي تتغيا سياسته للعمران تحقيق المقاصد الدنيوية ولا شيء وراءها.. حتى ليفصل الدين عن العمران كله، وليس فقط عن الدولة باعتبارها سلطة تنفيذية”[5].

غير أن العجز أو التقصير في تحقيق هذه المصالح والمقاصد الدنيوية في حياة الناس وبما يضمن كرامة وفاعلية معاشهم في هذه الدنيا؛ تعاونا وتدافعا، بناء وتنظيما، إبداعا وإنتاجا، تخطيطا وتنفيذا، علما وتقنية، تنظيرا وتطبيقا.. لا يغني عنه كما لا يعوضه ادعاء الصدور عن مرجعية دينية مهما كانت قيمة هذه المرجعية الدينية: ﴿وأن ليس للاِنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الاَوفى﴾ (النجم: 38-40)

علما أن النجاح في تحقيق هذه المصالح والمقاصد الدنيوية، بما يعزز قيم العدل المحددة للاجتماع والعمران الإنساني، يجعل هذا الاجتماع أقرب إلى روح الدين ومقاصده من الاجتماع الذي تغيب فيه هذه المصالح والمقاصد..

ولذلك يمثل البعد العقدي القيمي بعدا تكوينيا أصيلا في تحديد مستويات التنظير للظواهر السياسية المختلفة في إطار المنهجية الإسلامية؛ المستوى التأصيلي، والمستوى النظمي المؤسسي، والمستوى الواقعي الوظيفي. وهي المنهاجية التي تقوم على الجمع بين فقه النص وفقه الواقع؛ حيث تتيح منهجية أصول الفقه جملة من الأصول والقواعد التي تسعفنا في دراسة مختلف الظواهر السياسية في سياق الواقع التاريخي المتغير. من قبيل؛ “المصلحة الشرعية”، من منطلق أن السياسة هي العمل بالمصلحة الدائرة في إطار الشرع والمحققة لمقاصده، ومدخل “الضرورة الشرعية” باعتبارها إطارا ضابطا لعملية الممارسة السياسية في الأوضاع والظروف الطارئة، والتي تقدر بقدرها. ومدخل أصل اعتبار المآل الذي عادة ما يفيد في تحديد الوسائل والمؤسسات والإجراءات السياسية المنوط بها تحقيق الأهداف والقيم السياسية المختلفة[6].

ثانيا: أهم المحددات المنهاجية للفقه السياسي الإسلامي

ـ من محددات المنهاجية الإسلامية في الفقه السياسي الإسلامي؛ النظر إلى تدبير الشأن السياسي العام للأمة بكونه شأنا اجتهاديا عقليا يقوم، بشكل أساسي، على مراعاة المصلحة العامة المنضبطة بمقاصد الإسلام الكلية من خلال التفعيل الثلاثي لعناصر التعليل في صلته بالمصلحة ومراعاة المآلات الممكنة..

ـ وتفسير ذلك أنه لما كان العمران البشرى في الدنيا هو ميدان “السياسة”، وفيه من “المتغيرات” و”المستجدات” أكثر مما فيه من “الثوابت”.. جاءت نصوص الدين والشرع الإلهي متناهية، بينما لا تتناهى متغيرات العمران الدنيوي ومستجداته.. فكان أن وقفت النصوص الشرعية، في سياسة العمران، عند الثوابت والكليات، والفلسفات، والقواعد والمبادئ، والأطر الحاكمة، تاركة للعقل الإنساني والاجتهاد البشري حرية التفريع والبناء، والتفصيل والإبداع، في إطار القواعد والمبادئ والأطر الحاكمة، تحقيقا لإسلامية العمران المتجدد، بمد فروع إسلامية من الأصول والقواعد، لتظلل الإسلام هذه المتغيرات والمستجدات.. فتتواصل الصبغة الإسلامية للعمران، دونما جمود.. ودونما قطيعة مع الكليات والثوابت والأصول[7].

ـ وهو ما ينسجم ما المفهوم المتواتر للسياسة في التراث السياسي الإسلامي باعتبارها تحيل، كما سلفت الإشارة، إلى كل فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يقل به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به الوحي الكريم. وبناء عليه فإن كل ما أبدعه المسلمون وبلوروه من السياسات والإستراتيجيات والمؤسسات والنظم تندرج ضمن الشرعية الإسلامية ما لم تتعارض مع قطعيات الدين ومقاصده الكلية..

ـ ففيما يتصل بالنظام الدستوري المنبثق عن التصور الإسلامي وبعد أن يورد الدكتور عبد الحميد متولي في مقام الشورى الآيتين الشهيرتين: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ (الشورى: 35)، ﴿وشاورهم في الاَمر﴾ (ءلل عمران: 159) يتساءل: ما هي المسائل التي يجوز أو يجب أن تكون من مواضع الشورى في الإسلام؟ وما هي الشروط الواجب توافرها في أهل الشورى؟ وما هي الإجراءات التي يجب أن تتبع في هذا المقام؟

 ليؤكد أن “كل ذلك لم يحدده القرآن تحديدا بينا معينا، وعدم التحديد لهذه التفصيلات والجزئيات هو مما يتفق مع طبيعة شريعة لها صفة الخلود والعموم؛ حتى تستطيع أن تتلاءم مع مختلف البيئات ومختلف الأزمنة”.

وتأكيدا لهذا المغزى يشير إلى أن الأحكام الشرعية في القرآن الكريم في مجال المعاملات جاءت عامة لا تعنى إلا بالكليات دون الجزئيات والتفصيلات اللهم إلا في القليل الناذر كما أنها جاءت قليلة العدد، وذلك كله حتى تستطيع الأحكام الشرعية مسايرة مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، وبذلك تكون بمنأى عن شوائب الجمود”[8].

ـ وتبعا لذلك؛ لا توجد نظرية للدولة في القرآن الكريم، وإنما هناك منظومة قيمية معيارية ومفاهيمية بالغة الغنى؛ في العدل، والمساواة، والحرية، والتعاقد، والتكافل، والتعارف، والتراحم، والتكريم، والاستخلاف.. من شأنها أن تسعف المسلمين باختلاف سياقاتهم الاجتماعية والتاريخية والحضارية في بلورة شكل الاجتماع السياسي الذي يناسبهم..

ـ من محددات المنهاجية الإسلامية في الفقه السياسي الإسلامي أولوية الأمة والجماعة على الدولة رغم أهميتها الوظيفية الكبرى؛ فالمفاضلة، هاهنا، مفاضلة معيارية لا تلغي حيوية التنظيم السياسي الذي تمثله الدولة بقدر ما تروم التشديد على أن أهمية هذا التنظيم وفاعليته وقوته وقيمته إنما تنبع من التطابق بين الأمة والجماعة وشكل الاجتماع السياسي الذي يعبر ويصدر عنهما.

ـ ومن المحددات المنهاجية في هذا الصدد أن الاجتماع السياسي كلما كان بسيطا كلما قلت حاجته إلى بناء مؤسسات سياسية ذات درجة عالية من التطور، وكلما ازدادت درجة تعقيده وتقدمه ازدادت الحاجة إلى بنائه المؤسساتي حفظا لوجوده واستمراره وتطوره. وكلما توافرت له عوامل الإجماع العام، والمصلحة المشتركة، والبناء المؤسسي الذي يعكس العمق الأخلاقي والمصلحة المشتركة كلما توافرت شروط الاستقرار والفاعلية[9].

ذلك أن الاجتماع الإنساني بوجه عام، والاجتماع السياسي الحي بوجه خاص لا يكاد يعرف الثبات؛ فهو في تطور مستمر، وفي حركة دائبة وتحول لا يعرف التوقف.. ومختلف الأنظمة تسعى جاهدة إلى ضمان استقرارها. غير أنها في سعيها إلى ذلك عادة ما تنحو منحيين متباينين[10].

منحى يعميه بحثه عن الاستقرار بأي ثمن لحفظ الأوضاع القائمة فيعمد إلى تعطيل فاعلية المجتمع من خلال سعيه إلى فرض حالة من الثبات والسكون، مستسهلا اعتماد حالة التحكم في كبح حركية القوى الاجتماعية من أعلى وتعطيل فاعليتها..

ومنحى آخر في سعيه لحفظ الاستقرار يسعى لتحقيق ذلك من خلال حفظ التوازن بين مختلف القوى والبنيات الاجتماعية السياسية بما لا يعيق فاعليتها، وباعتماده لعملية إصلاحات دستورية ومؤسسية موصولة. وبحفظه للتوازن المحفز للفاعلية، بناء على شرعية الأداء، يضمن في الآن نفسه: حفظ الاستقرار، مع ضمان اضطراد التقدم من خلال إطلاقه لقانون التدافع والتنافس والتداول في إطار الشرعية..

ولا شك أن المنهاجية الإسلامية في مقاصدها الكلية تنسجم مع المنحى الثاني.. وكذلك تجربة الحكم المعاصرة في بلدنا؛ ففضلا عن حيازة نظام الحكم الملكي في المغرب لمشروعية دينية تعاقدية قائمة على إمارة المؤمنين، بناء على اختيار الأمة وفقا لعقد بيعة شرعية مستوفية لأركانها وشروطها إيجابا وقبولا، ومشروعية تاريخية قائمة على عنصر الاستمرارية، ومشروعية نضالية في مواجهة المستعمر؛ تحقيقا للكرامة الوطنية والاستقلال، فإن الملكية بالمغرب تحوز كذلك على مشروعية معتبرة للأداء من خلال رفعها لرهان التنمية بمفهومها الشامل، وضمانها لوحدة الجماعة الوطنية واستقرارها، ومن خلال مشروعها الإصلاحي القائم على إدماج سائر القوى الوطنية بداية من اليسار أواسط السبعينيات ونهاية التسعينيات مع حكومة التناوب التوافقي بزعامة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، مرورا بالإسلاميين المعتدلين مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات حيث تم الإفساح لهم للمشاركة في المؤسسة التشريعية ابتداء، وهي المشاركة التي تم تتويجها بمشاركتهم في السلطة ولو على صهوة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”..

وهو الربيع الذي ما كان من الممكن أن يثمر في بلدنا لولا ما تم التمهيد له به من مسلسل للإصلاحات السياسية والمؤسسية والدستورية الممتدة (1992-1996-2011)، وهي الإصلاحات التي عملت على تعزيز الفصل بين السلطات والتعاون بينها.. وضمان الحقوق وكفالة الحريات كما هو متعارف عليها دوليا، بما لا يتناقض مع ثوابتنا الدينية والحضارية، وهو ما تجسد من خلال تجربة الإنصاف والمصالحة التي تعد من التجارب الرائدة في العدالة الانتقالية.. واستقلال السلطة القضائية، واحترام التعددية الثقافية بما يعزز وحدة الجماعة الوطنية ويقويها..

وهي إصلاحات انخرط فيها المغرب استجابة لمنطق التطور التاريخي، وبفعل قواه الحية ومؤسساته الشرعية، ولذلك يتعذر التراجع أو النكوص عنها، وإلا اختلت الموازين الاجتماعية والسياسية وارتجت أسس العمران..

وبفضل صدقية ما تراكم من خلال هذا الهامش الهام من الإصلاحات القانونية والدستورية والحقوقية والمؤسسية، رغم أنه لم يكن يلبي كامل تطلعات القوى الوطنية المعارضة، وما أردفها من إصلاحات اقتصادية واجتماعية.. استجاب المغاربة للمشروع الإصلاحي الذي وعد به ملك البلاد، تفاعلا مع الحراك الشعبي الذي هز المنطقة وأودى بالكثير من أنظمتها، والتزم به سياسيا وقانونيا من خلال مقتضيات دستور 2011 الذي تجاوز سقف المطالب التي تقدمت بها الأحزاب السياسية الوطنية.

ومن هنا تكمن قوة المؤسسة الملكية، في مدى قدرتها المستمرة على بلورة القواعد والآليات والنظم الكفيلة بتجددها الذاتي..

ـ تقوم المنهجية الإسلامية في الفقه السياسي على التمييز بين الوصف السياسي والمصطلح القانوني بغض النظر عن العلاقة الوظيفية القوية بينهما؛ فالوصف السياسي يعد بالأساس وصفا واقعيا يستخلص من الواقع الاجتماعي المعيش، كما يتحدد بالاستقراء على غرار باقي الظواهر الاجتماعية والطبيعية، ولذلك فهو نسبي ومتغير.. أما المصطلح القانوني فعادة ما “تتحدد به أوضاع ومراكز حقوقية أكثر ثباتا وقطعية وحسما.. ومع ذلك فهو لا يسعى للإحاطة بالظواهر بقدر ما يتغيّى كفالة الحقوق وتحديدها وتعيين الواجبات والالتزام بها. وإذا كان الوصف السياسي يصدر عن أصحاب رأي في مجتمعهم، فإن المصطلح القانوني يصدر عن ذوي ولاية بسلطانهم[11]“.

ـ من محددات المنهاجية الإسلامية في هذا الإطار الارتباط القوي بين القانون والأخلاق؛ بحيث إذا تضارب الحق الذي يؤيده القانون مع حكم الأخلاق فإن الدولة نفسها تغدو مهددة بالانقسام والانشطار، كما أن استبعاد فكرة المسؤولية الأخلاقية في النظام القانوني، يهدد بالإجهاز على المسؤولية العقلية من الأصل. فكل نظام تشريعي لأمة من الأمم يتصل بخصائصها الحضارية، مثلما يرتبط بأنساقها الأخلاقية وتقاليدها، بما لا يخل بقابلية هذا النظام التشريعي للتطور والتجدد، وكذا قابلية تلك الخصائص الحضارية والأنساق الأخلاقية للتطور والتجدد كذلك..[12].

ـ وفي هذا السياق يُظهر أحد أبرز رموز الفقه السياسي المعاصر الحركيين، كيف كان لاعتزال أهل التصوف والعرفان أثر بالغ السوء على الفاعلية السياسية للمسلمين. وفي هذا يقول: ” فقد اعتزل الخَلَف الصوفي الذي عمّ بين المسلمين ساحة السياسة، إذ هجر شيوخ المتصوفة حمى السلطان وأبوابه خوفاً أو قنوطاً مما غشيها من فتنة.. واقتداءً بما جرى لأئمة الفقه، فجفّت السياسة من الإيمانيات إذِ التهت بالجدليات والفرعيات عن أصول التدين وانقطعت عن القوى منسطحة على ظاهر الصور والأقوال، فشاعت أعراض النفاق والفساد السياسي وفرغت القلوب من النيات الحية. لابد للدين علماً وعملاً أن يتحد به الباطن والظاهر لتنشط الوجدانيات العامرة وتصدق التعبيرات الكثيفة وتتماثل تزكياً وخشوعاً وتقوى في السياسةوالإمارة، مثل الصلاة والإمامة فيها. وبلاء كل الثقافات أن تتفاصل فيها الأحكام القانونية الضابطة لظاهر السلوك والأخلاق الباطنية الموجِّهة لدوافعه”[13].

ـ من المحددات المنهاجية التي يتعين الوعي بها العلاقة الوطيدة بين الفكر التنظيمي والمؤسسي والقانوني من جهة أولى، وبين الأصول الفكرية والفلسفية والمرجعية من جهة ثانية، وبين التجربة والخبرة التاريخية والحضارية من جهة ثالثة، في صلتها جميعا بالحامل الاجتماعي الذي يعطيها فاعليتها من خلال تقبل الجماعة العام من جهة رابعة..

ـ وهو ما يعطي للبناء القانوني والدستوري والمؤسسي وحدته وانسجامه وشخصيته؛ بحيث لا ينشطر هذا البناء إلى بنيتين متناقضتين ومتجاورتين بنية تقليدية وأخرى حداثوية. وهو الانشطار الذي تعانيه مجتمعاتنا ونخبنا بدرجات متفاوتة، ويمثل عائقا من العوائق التي تحول دون تمثل منظومتنا القيمية والثقافية الخاصة للمنظومة الحديثة باعتبارها كسبا إنسانيا..

ـ قضايا الهوية والمرجعية والسيادة والشرعية والمشروعية قبل أن تتحدد بالبنية القانونية والدستورية رغم أهميتها، فإنها تتحدد، ابتداء وبالأصالة، من خلال الفاعلية التاريخية لمنظومة القيم والمعايير المحددة للشخصية الحضارية للجماعة الوطنية..

ـ ومن محددات المنهاجية الإسلامية أن البحث العلمي المنضبط يستلزم النظر إلى أية ظاهرة فكرية أو مؤسسية في سياق الأوضاع الاجتماعية العامة التي عاشتها، تم تستخرج الدلالات والوظائف الملموسة لها في الظروف الموضوعية المتعينة، بحيث يجري البحث عن تغير الوظائف مع تغير الظروف، وإدراك الوضعية الفاعلة في الظروف الملائمة..

ـ ومن محددات المنهاجية الإسلامية أن الخلافات بين المذاهب الفقهية تجد مصدرها إما في “اختلاف حجة وبرهان” بمراعاة مناهج التفسير، وإما اختلاف سياق تاريخي، وإما اختلاف زمان ومكان بمراعاة فهم النصوص قي ضوء ظروف البيئة وعادات التعامل، بحيث أن المقصد لديهم جميعا هو تحقيق مصالح الناس  وكفالة مقتضيات العدل بينهم[14]..

ـ ومن محددات المنهاجية الإسلامية أن القول بالنسبية التاريخية في كل شيء يعبر عن موقف من التاريخ والمجتمع يصدر عن موقف ورؤية فلسفية مادية تنطلق من أولوية المادة على الفكرة والمثال. خلافا للموقف الإيماني الذي يقوم على الاعتقاد بالغيب والرسالات..وبالتالي على أولوية المثال والفكرة على المادة رغم أهميتها..

ـ ومن محددات المنهاجية الإسلامية القدرة على المواءمة بين الأحكام الكلية للشريعة وبين أوضاع وظروف مختلف البيئات والسياقات والأحوال، مع المحافظة على الشريعة راسخة الأصول متنوعة الفروع.. وذلك بفضل صياغتها على أساس “إجمال ما يتغير من الأحكام وتفصيل ما لا يتغير”[15].

ـ من محددات المنهاجية الإسلامية للفقه السياسي الإسلامي إلى جانب ربط الحلول الفكرية والفقهية بوظائفها الاجتماعية؛ التمييز ضمن عملية الاجتهاد بين الثابت والمتغير.. العام والخاص.. الكلي والجزئي.. والحرص على “تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوز المهيمن، بطريقة متوازنة، على هذا الواقع المتقلب المتغير العيني المشخص؛ موازنة بين الأفعال، وترجيحا بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب؛ حتى لا تجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تفوت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى”[16].

ـ لكل حكم ديني أثر في التاريخ والمجتمع، ولذلك فإن إدراكنا للأوضاع الاجتماعية والتاريخية التي لابست الاجتهاد الفقهي السياسي تفيدنا في إدراك دلالته الواقعية وشروطه ومقتضياته التاريخية، دون الإخلال بوحدة وانسجام الحقيقة الدينية كما يتعين أن تترجمها نظرية المعرفة الإسلامية.

ـ وفي هذا السياق ينتقد اتجاه في الفقه السياسي المعاصر من يمعن في تقسيم الحكم إلى شريعة، وسياسة، وتقسيم الدين إلى شريعة، وحقيقة تارة وإلى عقل ونقل تارة أخرى، مشددا على أن كل ذلك يعد باطلا. وأن”السياسة، والحقيقة، والطريقة، والعقل، كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة، لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها.. ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان، سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.. وهذا الأصل من أهم الأصول كما ذهب إلى ذلك ابن القيم الجوزية في الجزء الرابع من “إعلام الموقعين”، وفي “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية”[17].

ـ من محددات المنهاجية الإسلامية امتلاك ملكة تركيب الواقع الاجتماعي وفقا لأحكام النصوص التأسيسية، وأن يكون الواقع على اتساق وانسجام مع هذه الأحكام، مع فسح المجال للاجتهادات المتصلة بالفقه السياسي الإسلامي بما يستوعب المتغيرات الاجتماعية والتاريخية القائمة والمحتملة من خلال عملية الاستشراف..علما أن الشريعة تؤول إلى الاضمحلال، وأن العقيدة قد تؤول إلى الضعف والضمور، إذا قامت الأوضاع الاجتماعية على تعارض وتناقض مع هذه الأحكام والأصول..

ـ مناط التجديد في الفقه السياسي الإسلامي يتأتى من قدرة الفقه على الاستجابة لمختلف التحديات التي يفرضها الواقع التاريخي على الجماعة الإسلامية، وأن تكون هذه الاستجابة بما يحفظ مصالح الإسلام والمسلمين..

ـ استجابة أحكام واجتهادات الفقه السياسي الإسلامي للتطور الحضاري ومقتضيات الواقع التاريخي من خلال عملية التجديد، يتحدد بشمول الشريعة الإسلامية واستجابة أحكامها بالأصالة للتطور من خلال إدراك عالم السياسة المسلم لعناصر الثبات والتغير فيها..

ـ غير أن إدراك الواقع في تعقيده التنظيمي والمؤسسي بات يستلزم امتلاك الكفاءة التنظيمية والمؤسسية. وهي الكفاءة التي تجد مصدرها في أسلوب القرار الجماعي، وما يتصل به من قدرة على التجريد والتمييز بين الوظيفة والموظف، بين الهيئة والشخص..

ـ الأمر الذي يستتبع التمييز بين القرار الفردي والقرار الجماعي من منظور نظمي مؤسسي؛ فرغم أن القرار الفردي قد يصدر عن مشورة موسعة واستطلاع للآراء، وتفهم للأوضاع العامة للجماعة إلا أنه يظل رأيا فرديا من الوجهة التنظيمية؛ ما دام صادرا عن فرد مخصوص ومنسوبا إليه، خلافا للقرار الجماعي الذي يصدر عن الجماعة ويعبر عن رأيها الجماعي دون أفرادها[18]..

ـ تنبثق عن القابلية للتجدد قابلية مماثلة للتنوع والاختلاف على صعيد اجتهادات الفقه السياسي الإسلامي باختلاف الشروط التاريخية واختلاف الأوضاع الاجتماعية والسياسية.. غير أن هذا التنوع ينضبط أولا؛ بالمرجعية الحاكمة لقطعيات الدين وكلياته، وثانيا بالصالح العام للجماعة الإسلامية..

ـ وفي هذا السياق، تنبع الأهمية الوظيفية للتعددية الاجتماعية لمؤسسات المجتمع الأهلي قديما، والمجتمع المدني حديثا، من خلال دورها من جهة أولى في بلورة اتجاهات الرأي العام وتعزيز أواصر الترابط والتواشج بين مختلف الجماعات الفرعية في كنف الجماعة، ومن دورها من جهة ثانية في قدرتها، تبعا لذلك، على تقدير وقياس اتجاهات الرأي العام وتوقع اتجاهاتها ومساراتها وردود فعلها الممكنة[19]..

ـ  من محددات المنهاجية الإسلامية في الفقه السياسي انفتاحه القاصد على مختلف النماذج والتنظيمات المؤسسية بغض النظر عن منبتها الحضاري؛ باعتبارها كسبا إنسانيا؛ على أن تستجيب لحاجة حقيقة لمجتمعاتنا، وأن تتم تبيئتها وتحريرها من سياقها العقدي والأيديولوجي الأصلي، وبربطها، تبعا لذلك، بسياقنا الحضاري؛ الديني، القيمي والمعياري.. وهو ما لن يتأتى إلا بالوعي بالسياقات والخلفيات الحاكمة للعلاقة بين تبلور المنهجيات الحديثة وأطرها الفلسفية والقيمية المعبرة عنها..

ـ من مقتضيات المنهاجية الإسلامية في الفقه السياسي الإسلامي أن تنطبق الأحكام الثابتة على الوقائع المتغيرة؛ من منطلق أن عملية الاجتهاد في الشأن السياسي العام يتم من خلال تحريك النص الثابت لينطبق على الوقائع المتغيرة؛ وذلك على مستويين: مستوى استخراج دلالات النص بطرق الاستدلال المعروفة في علم أصول الفقه، وفي علم المنطق، ووفقا لمذاهب التفسير المعروفة..

ومستوى تكييف الواقعة التي ينطبق عليها حكم النص؛ أي صياغة الواقعة الحادثة صياغة قانونية، باعتبارها تعبير قانوني فقهي عن الواقعة..على أن يكون الواقع مصوغا في هياكله وعلاقاته ومؤسساته على نحو يتقبل تلقي حكم النص الشرعي..

ـ الأمر الذي يقتضي العناية بعلم مقاصد الشريعة باعتباره أكثر العلوم الإسلامية صلة بالمنهج والمنهاجية؛ على أن يتم النظر للمقاصد؛ في هذا السياق المنهاجي، باعتبارها تحيل إلى رؤية ومنهاج ينتج عن تفاعلهما عقلية مقاصدية تبحث عن الكلي في ما وراء الجزئي وعن العام فيما وراء الخاص، من خلال النظر والاعتبار في المآلات، والترجيح بين الأوضاع والمصالح والمقامات..

ـ ومن مقتضيات المنهاجية الإسلامية في هذا الصدد؛ أن حركة الإصلاح المؤسسي لا تنفك عن حركة الإصلاح الفكري وإلا فقدت فاعليتها وجدواها..

على سبيل الختم

في السعي إلى رصد وبلورة أهم محددات المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية، تطبيقا على الفقه السياسي المعاصر، يلحظ الدارس أن النظرية السياسية المؤسسة للاجتماع السياسي الإسلامي استنباطا من النصوص المرجعية التأسيسية؛ كتابا وسنة،  واستلهاما من الخبرة التاريخية للأمة، واستلهاما للكسب الإنساني في هذا المجال تنهض على جملة من المقومات المتضافرة:

ـ مقومات تصورية لها صلة بمنظومة القيم السياسية تدبيرا للشأن العام للجماعة وتخليقا له..

ـ مقومات نظرية تحدد الأطر المرجعية، والرؤى المعرفية ذات الصلة بفلسفة الحكم والتشريع ومقاصدهما..

ـ مقومات منهاجية تحدد كيفيات وآليات بناء القرارات والأحكام والنظم والسياسات والإستراتيجيات..

ـ مقومات مؤسسية دستورية ونظمية لها صلة بالهياكل والأجهزة المشكلة لبنيان الدولة، وكذا لمختلف السلط التي تتكون منها والعلاقات القائمة فيما بينها..

ـ مقومات فقهية وقانونية شرعية يحتكم إليها لكفالة الحقوق والحريات وتكييف الخلافات..

ـ مقومات إجرائية مسطرية لها صلة بالتدبير الإداري..

فضلا عن المحددات التي تم التطرق إليها في متن هذه الدراسة، فإن استحضار المنهاجية الإسلامية لهذه المقومات، في تلاحمها وتفاعلها الوظيفي والبنيوي، من شأنه أن يسعف في بلورة فقه سياسي إسلامي راشد قادر على تمثل واستيعاب الكسب الإنساني في هذا المجال وتجاوزه؛ تحقيقا للذاتية الحضارية الإسلامية في بناء النظم والمؤسسات والأطر الدستورية والسياسية الحديثة.

  الهوامش

[1]. محمد عابد الجابري، “العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته”، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1990، ص8.

[2]. أحمد عبادي، الوحي والإنسان: نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي”، مكتبة حراء، القاهرة: دار النيل، ط، 2013، ص31.

[3]. لؤي صافي، “في معنى المنهجية المعرفية الإسلامية”.

[4]. روبرت أ. دال، “التحليل السياسي الحديث”، ترجمة: علا أبو زيد، مراجعة: علي الدين هلال، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط5، ص7-8.

[5]. محمد عمارة، “الإسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين”، القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 1993، ص13-16.

[6]. حامد عبد الماجد قويسي، “في التراث السياسي الإسلامي: حول نظرية السلطة وتعاملها الخارجي”، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 2009، ص38-41.

[7]. المرجع نفسه، ص10-11.

[8]. عبد الحميد متولي، “الإسلام ومبادئ نظام الحكم في الماركسية والديمقراطيات الغربية”، الإسكندرية: منشأة المعارف، ط2، 1981، ص25-27.

[9]. انظر: صموئيل هانتنغتون، “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة”، ترجمة: سمية عبود، بيروت: دار الساقي، ط1، 1993، ص17 وما بعدها.

[10]. قبل إيرادهما وجب التأكيد أن “تعاقب التاريخ امتحان لكل أمة؛ إما زادها علما وحكمة فرقيت، أو رهنها جمودا وعصبية فهوت”، انظر: حسن الترابي، “السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع”، بيروت: دار الساقي، ط1، 2003، ص14.

[11]. طارق البشري، “منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي”، القاهرة: دار الشروق، القاهرة، ط1، 2005، ص118.

[12]. طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي”، مصر: دار الشروق، مصر، ط1، 1996، ص30-33.

[13]. حسن الترابي، السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع، بيروت: دار الساقي/لبنان، ط1، 2003، ص15.

[14]. المرجع نفسه، ص39.

[15]. المرجع نفسه، ص103.

[16]. أحمد عبادي، الوحي والإنسان: نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي”، م، س، ص172-173.

[17].  انظر: محمد عمارة، “الإسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين”، م، س، ص12.

[18]. طارق البشري، “منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي”، م، س، ص14.

[19]. المرجع نفسه، ص90.

الوسوم

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق