وحدة الإحياءدراسات عامة

أهمية تمييز مقامات النبي، صلى الله عليه وسلم، عند الاستنباط من السنة

ليس كل ما صدر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، سبيله التشريع العام للأمة، بل فيه ما هو صادر عنه بمقتضى العادة والجبلة، والخبرة والتجربة الدنيوية.. ومنه ما صدر عنه باعتباره إماما للمسلمين، أو قائدا حربيا لهم، أو قاضيا يفصل في نزاعات خاصة ببعضهم، لها حيثياتها وأسبابها وظروفها، ووفق حجج المتخاصمين ودعاواهم.. وقد يخصص أشخاصا معينين بأحكام خاصة بهم لا تتعدى إلى غيرهم..

وقبل أن أُفصّل هذه الجملة التي قدمت بها لابد من تقرير قضية أجمع عليها علماء المسلمين، وهي أن الأصل في أقواله وأفعاله، صلى الله عليه وسلم، هو التشريع العام؛ لأن الوظيفة التي أرسله الله من أجلها هي الفتيا والتبليغ، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)؛ وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل: 64).

وقرن الله سبحانه وتعالى طاعته بطاعته فقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران: 132)؛ وقال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 32)؛ وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾(الأنفال: 20-21). وحذرنا من مخالفة أمره فقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(النور:61)؛ وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب: 36) ؛ وقال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 64)..

وأخبر عن عصمته فقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3-4)..

واعتبارا بالآيات السابقة وغيرها، وهي كثيرة جدا، أجمع المسلمون على أن السنة النبوية أصل من أصول التشريع؛ كما أجمع العلماء على أن السنة مبينة للقرآن، تخصص عامه، وتقيد مطلقه، وتفسر مجمله؛ وأنها قد تستقل بالتشريع بسن أحكام ليست في القرآن.

والذي دعا العلماء إلى التمييز بين ما هو من قبيل التشريع العام وما هو ليس كذلك أمور:

الأول: كون الرسول بشرا تصدر عنه تصرفات بحكم بشريته وخبرته في الحياة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ (الكهف: 105)؛ وقال: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الفرقان: 7).

وقال صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فَأَيُّمَا أحدٍ دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة يُقرِّبُه بها منه يوم القيامة”[1].

فبيَّن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث أنه قد يتصرف أحيانا بباعث الجبلة.

ومثل هذا الحديث ما وقع لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع عائشة، رضي الله عنها، في حادث الإفك عندما كثر عليه القيل والقال، حيث تغيرت معاملته، صلى الله عليه وسلم لها، وهي مريضة، ولم تعرف منه اللطف الذي كانت تراه منه حين تشتكي، مما جعلها تطلب منه أن يأذن لها في الذهاب إلى بيت أبويها، فأذن لها من غير تردد[2].

وقد روى أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر بقوم يلقحون فقال: “لو لم تفعلوا لصلح”. قال: فخرج شِيصاً[3]. فمر بهم فقال: “ما لنخلكم؟” قالوا: قلت كذا وكذا. قال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”[4].

ففي هذا الحديث دليل على أنه، صلى الله عليه وسلم، قد يتصرف اعتمادا على خبرته في الحياة وعلى تقديره الشخصي[5].

الأمر الثاني: مراجعةُ الصحابة النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، بعضَ تصرفاته في حياته، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: “وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول صادرا في مقام التشريع، وما كان صادرا في غير مقام التشريع، وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه”[6].

من أمثلة ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: “لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا[7] فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “افعلوا”، قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله: إن فعلوا قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم عليه بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم”[8].

ومنها ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: “لما خيرت بريرة يوم أعتقت قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “لو راجعته، فإنه أبو ولدك”. قالت: يا رسول الله: أتأمرني؟ قال: “إنما أنا شفيع”. قالت: فلا حاجة لي فيه[9].

ومن يقرأ أخبار النبي مع أصحابه في كتب السير والمغازي يجد من ذلك أمثلة كثيرة.

الأمر الثالث: تمييز الصحابة بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم، بين ما كان صادرا عنه في مقام التشريع العام وما كان غير ذلك.

مثاله ما رواه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر “أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أناخ[10] بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى بها”. قال نافع: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك[11].

قالت عائشة رضي الله عنها: “نزول الأبطح[12] ليس بسنّة، إنما نزله رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج”[13].

قال النووي: “وعائشة وابن عباس كانا لا ينزلان به؛ ويقولان: هو منزل اتفاقي لا مقصود[14].

ومثاله أيضا حكم ضوال الإبل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجدها ربها”[15].

وعلى هذا استمر العمل في زمن أبي بكر ثم عمر؛ إلى أن جاء زمن عثمان، وتغيرت الظروف، فتصرف عثمان، رضي الله عنه، بما يحقق حفظها لصاحبها. قال ابن شهاب: “كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب إبلا مُؤبَّلة[16] تَنَاتَج[17] لا يمسها أحد؛ حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان أمر بتعريفها ثم تُباع. فإذا جاء صاحبها أُعطي ثمنَها[18].

وفي خلافة علي رضي الله عنه بنى للضوال مربدا يعلفها فيه، لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال. فمن أقام بينة على شيء منها أخذه وإلا بقيت على حالها لا يبيعها[19].

قال الدكتور يوسف القرضاوي تعقيبا على تصرف عثمان وعلي رضي الله عنهما: “ما فعله عثمان وعلي، رضي الله عنهما، لم يكن مخالفة منهما للنص النبوي، بل نظرا إلى مقصوده؛ فحيث تغيرت أخلاق الناس ودب إليهم فساد الذمم، وامتدت أيديهم أو بعضهم إلى الحرام كان ترك الضوال من الإبل والبقر إضاعة لها، وتفويتا لها على صاحبها، وهو ما لم يقصده النبي، صلى الله عليه وسلم، قطعا حين نهى عن التقاطها، فكان درء هذه المفسدة متعينا[20].

وأخرج مسلم وأبو داود عن أبي الطفيل قوله: “قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طاف بين الصفا والمروة على بعيره، وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا: فقلت: ما صدقوا وما كذبوا؟ فقال: صدقوا: قد طاف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا: ليس بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا كلامه، ولا تناله أيديهم”[21].

ومن ذلك ما رواه أبو عبيد عن عمر بن الخطاب في شأن الأراضي المفتوحة في عهده، قال عمر: “لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خيبر”[22].

وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قسم أرض خيبر “على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم منها مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين..”[23].

وهكذا لما افتتحت مصر قال الزبير لعمرو بن العاص: اقسمنها. فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: لتقسمنها كما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خيبر. فقال عمرو: لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر. فكتب إليه عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة[24].

وكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص يوم افتتح العراق: “أما بعد، فقد بلغني كتابك: أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم. فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كُراع[25] أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء”[26].

وفي رواية أخرى لأبي عبيد أن عمر بن الخطاب “أراد أن يقسم السواد[27] بين المسلمين، فأمر أن يحصوا. فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين. فشاور في ذلك. فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين. فتركهم..[28].

وروى أبو عبيد أيضا أن عمر بن الخطاب لما قدم الجابية[29] أراد “قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره. إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة. ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا. فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم”. فصار عمر إلى قول معاذ[30].

ومن ذلك ما رواه مالك أن أبا بكر الصديق نهى أحد أمرائه في الحرب أن لا يقطعن شجرا مثمرا، ولا يخربن عامرا، ولا يعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمـَأْكَلَةٍ، ولا يحرقن نحلا[31] يفرقَنَّه[32].. مع علم أبي بكر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، “حرق أموال بني النضير، وقطع وهدم لهم، وحرق وقطع بخيبر، ثم قطع بالطائف..”[33].

الأمر الرابع: اتباع الأئمة الفقهاء قبل الشافعي منهج الصحابة في ذلك.

من ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “من أحيى أرضا ميتة فهي له..”[34]. فذهب أبو حنيفة إلى أن ليس لأحد أن يحيي مواتا من الأرض إلا بإذن الإمام، وليس له أن يملك منه شيئا إلا بتمليك الإمام له إياه[35].

ومن ذلك أن مالكا روى في حديث طويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلَبُه”. وقال “لا يكون ذلك لأحد بغير إذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد”[36].

جماع القول في كل ما سبق أن تمييز السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم من الفقهاء بين ما صدر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، على سبيل الإفتاء والتبليغ وبين ما كان غير ذلك أمر واقع ومجمع عليه، وإن اختلفوا في آحاد الأحاديث[37].

كذلك نجد الأصوليين قد تعرضوا في مسائل السنة النبوية إلى ما صدر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدافع الجبلة، وأنه غير داخل في التشريع. قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “وما ذلك إلا لأنهم لم يهملوا ما كان من أحوال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أثرا من آثار أصل الخلقة، لا دخل للتشريع والإرشاد فيه”[38].

إلا أن من أوائل من رأيناه من الأصوليين توسع في الحديث عن هذا التمييز، واجتهد في بيانه والتأصيل له: الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي في كتابه “الفروق”، وكتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”، وغيرهما من كتبه[39].

يقول القرافي: “اعلم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم.. فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته؛ وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة. فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة. غير أن غالب تصرفه، صلى الله عليه وسلم، بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه. ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم: منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا؛ ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء؛ ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة؛ ومنها ما يختلف العلماء فيه، لتردده بين رتبتين فصاعدا: فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى. ثم تصرفاته، صلى الله عليه وسلم، بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة: فكل ما قاله، صلى الله عليه وسلم، أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين[40] إلى يوم القيامة: فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكل ما تصرف فيه، عليه السلام، بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام، اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ لأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك. وما تصرف فيه، صلى الله عليه وسلم، بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم، اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ لأن السبب الذي لأجله تصرف فيه، صلى الله عليه وسلم، بوصف القضاء يقتضي ذلك. وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث”.

ثم أعطى القرافي أمثلة فقال:

“ويتحقق ذلك بأربع مسائل: المسألة الأولى: بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج ومن تعين قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة العامة، وقسمة الغنائم، وعقد العهود للكفار ذمة وصلحا[41]. هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم، فمتى فعل، صلى الله عليه وسلم، شيئا من ذلك علمنا أنه تصرف فيه بطريق الإمامة دون غيرها، ومتى فصل، صلى الله عليه وسلم، بين اثنين في دعاوى الأموال، أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الأيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنه، صلى الله عليه وسلم، إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة وغيرها؛ لأن هذا شأن القضاء والقضاة. وكل ما تصرف فيه، صلى الله عليه وسلم، في العبادات بقوله أو بفعله، أو أجاب به بسؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه، فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ. فهذه المواطن لا خفاء فيها. وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل”.

ثم ذكر هذه المسائل التي اختلف فيها العلماء، فمنهم من عدها تشريعا عاما، ومنهم من لم يعدها كذلك. وهذه المسائل هي:

الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحيى أرضا ميتة فهي له”: سبق أن قررنا أن أبا حنيفة رأى أن ذلك تصرف منه، صلى الله عليه وسلم، بالإمامة: فلا يجوز لأحد أن يحيي أرضا إلا بإذن الإمام. وخالفاه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، والشافعي، وغيرهم، فرأوه من قبيل التبليغ، وأن ذلك منه، صلى الله عليه وسلم، فتوى عامة.

الثانية: قوله، صلى الله عليه وسلم، لهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لما قالت له صلى الله عليه وسلم: “إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني”: “خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف”[42]. من العلماء؛ كالشافعي، من ذهب إلى أن هذا القول فتوى عامة، فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به. ومن العلماء؛ كمالك، من ذهب إلى أنه تصرف بالقضاء: فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنس حقه من الغريم إلا بقضاء قاض..

الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلَبُه”. سبق أن قررنا أن من العلماء من ذهب إلى أنه تصرف بالإمامة: فلا يجوز أخذ السلب إلا بإذن الإمام. وهذا رأي مالك وأبي حنيفة. ومنهم من ذهب إلى أن له ذلك ولو لم يأذن الإمام. وهذا مذهب الشافعي.

ثم ختم القرافي كلامه النفيس هذا قائلا: “وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم. فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية”[43].

ما قاله القرافي في الفرق السادس والثلاثين من الفروق فصله بعض التفصيل في كتابه “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام..”.

ومما قاله: “إن تصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى.. وتصرفه، صلى الله عليه وسلم، بالتبليغ هو مقتضى الرسالة. والرسالة هي أمر الله تعالى له بذلك التبليغ؛ فهو، صلى الله عليه وسلم، ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى؛ فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالى”[44].

ويقول في مكان آخر: “.. تصرفه عليه السلام بالفتيا أو الرسالة والتبليغ.. شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام؛ لأنه عليه السلام مبلغ لنا ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلى بين الخلائق وبين ربهم. ولم يكن منشئا لحكم من قبله ولا مرتبا له برأيه على حسب ما اقتضته المصلحة، بل لم يفعل إلا مجرد التبليغ عن ربه كالصلاة، والزكاة، وأنواع العبادات، وتحصيل الأملاك بالعقود من البياعات والهبات، وغير ذلك من أنواع التصرفات، لكل أحد أن يباشره ويحصل سبَبَه، ويترتب له حكمه من غير احتياج إلى حاكم ينشئ حكما وإمام يجدد إذنا”[45].

وأما تصرفه، صلى الله عليه وسلم، بالقضاء فيقول فيه القرافي: “.. تصرفه، صلى الله عليه وسلم، بالحكم.. مغاير للرسالة والفتيا؛ لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف. والحكم إنشاء وإلزام من قبله، صلى الله عليه وسلم، بحسب ما نتج من الأسباب والحجاج؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّكم تَختَصمُون إلَيَّ، ولعلَّ بعضَكُم أَن يكون ألحَن بحجّته من بعض؛ فمن قَضَيتُ له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذه؛ إنما أقتطع له قطعة من النار”[46]؛ دل ذلك على أن القضاء يتبع الحجاج وقوة اللحن بها، فهو، صلى الله عليه وسلم، في هذا المقام منشئ، وفي الفتيا والرسالة متبع مبلغ، وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب؛ لأنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى؛ لأن ما فوض إليه من الله لا يكون منقولا عن الله..”[47].

وأما تصرفه بالإمامة فيقول فيه القرافي: “وصفه عليه السلام بالإمامة.. وصف زائد على.. الرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس. وهذا ليس داخلا في مفهوم الفتيا ولا الحكم[48] ولا الرسالة.. لتحقق الفتيا بمجرد الإخبار عن حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقق الحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة..” [49].

هذا أهم ما ذكره القرافي في الموضوع. وقد تكلم فيه ولي الله الدهلوي في كتابه “حجة الله البالغة”، ووقع في كلامه أقسام أخرى لما صدر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مما لم يذكره القرافي ومن تبعه في ذلك[50]. وهذا نصه:

“اعلم أن ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، على قسمين:

أحدهما: ما سبيله تبليغ الرسالة. وفيه قوله تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7) منه: علوم المعاد، وعجائب الملكوت. ومنه: شرائع، وضبط للعادات والارتفاقات. ومنه: حكم مرسلة، ومصالح مطلقة، لم يوقتها ولم يبين حدودها: كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها. ومنه: فضائل الأعمال، ومناقب العمال.

وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أَمَرتُكم بشَيء من رَأيٍ فإنَّما أنا بَشَر”[51]. وقوله، صلى الله عليه وسلم، في قصة تأبير النخل:” فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله”[52]. فمنه: الطب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالأدهم الأقرح”[53]، ومستنده التجربة. ومنه: ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، على سبيل العادة دون العبادة، وبحسب الاتفاق دون القصد. ومنه: ما ذكره كما كان يذكره قومه: كحديث أم زرع[54]،.. ومنه قول زيد بن ثابت، حيث دخل عليه نفر فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: “كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا؛ وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا؛ وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”. ومنه: ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليست من الأمور اللازمة لجميع الأمة. وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار؛ وهو قول عمر رضي الله عنه: “ما لنا وللرَّمَل؟[55] كنا نتراءى به قوما قد أهلكهم الله. ثم خشي[56] أن يكون له سبب آخر. وقد حمل كثير من الأحكام عليه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلا فله سلَبُه”. ومنه حكم وقضاء خاص؛ وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان. وهو قوله، صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه: “الشاهد يرى ما لا يراه الغائب”[57].

ومن وراء ولي الله الدهلوي عدَّ محمد الطاهر بن عاشور اثنتي عشرة حالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منها ما ذكره ولي الله الدهلوي، ومنها ما لم يذكره وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي (أو الإرشاد)، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد.

ثم تكلم عن كل حال وبينها بالمثال[58]. وإنا ناقلون لك أهم ما قاله:

أما “حال التشريع فهو أغلب الأحوال على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن وظيفته الأساس هو تبليغ ما أنزل إليه. وقرائن الانتصاب للتشريع ظاهرة، مثل خطبة حجة الوداع، وكيف أقام مسمعين يسمعون الناس ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقوله عقب الخطاب: ليبلغ الشاهد منكم الغائب”.

“وأما حال الإفتاء فله علامات، مثل: ما ورد في حديث الموطأ والصحيحين عن عبد الله بن عمرو، وعن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقف في حجة الوداع على ناقته بمنى للناس يسألونه؛ فجاء رجل فقال: لم أشعر[59] فحلقت قبل أن أنحر. فقال: “انحر ولا حرج”. ثم جاء آخر فقال: نحرت قبل أن أرمي. قال: “ارم ولا حرج”. ثم أتاه آخر فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي. قال: “ارم ولا حرج”. فما سئل عن شيء قدم ولا أخر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض إلا قال: “افعل ولا حرج”[60].

وأما حال القضاء فيكون في الفصل بين المتخاصمين المتنازعين، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “اسق يا زبير، ثم يبلغ الماء الجَدْر[61]، ثم أَمْسِك”[62].

“فكل تصرف كان بغير حضور خصمين فليس بقضاء”[63].

ثم قال محمد الطاهر بن عاشور: “وهذه الأحوال الثلاثة[64] كلها شواهد التشريع. وليست التفرقة بينهما إلا لمعرفة اندراج أصول الشريعة تحتها. والفتوى والقضاء كلاهما تطبيق للتشريع. ويكونان في الغالب لأجل المساواة بين الحكم التشريعي والحكم التطبيقي؛ بحيث تكون المسألة أو القضية جزئيا من القاعدة الشرعية الأصلية بمنزلة لزوم المقدمة الصغرى للكبرى في القياس. وقد يكونان لأجل عموم وخصوص وجهي بين الحكم التشريعي العام وبين حكم المسألة أو القضية، بأن يكون المستفتي قد عرض لفعله عارض أوجب اندراجه تحت قاعدة شرعية، لا لكون الفعل نفسه مندرجا تحت قاعدة شرعية، بمنزلة لزوم إحدى القضيتين للأخرى في قياس المساواة المنطقي بواسطة مقدمة غريبة”.

ثم بين ابن عاشور كلامه هذا بالمثال فقال: “مثاله في الفتوى النهي عن الانتباذ في الدُّبَّاء والحَنتم والمُزفَّت والقُبَر؛ فإن هذا النهي تعين كونه لأوصاف عارضة توجب تسرع الاختمار لهذه الأنبذة في بلاد الحجاز، فلا يؤخذ ذلك النهي أصلا يحرم لأجله وضع النبيذ في دباءة أو حنتمة، مثلا، لمن هو في قطر بارد. ولو قال بعض أهل العلم بذلك لعرض الشريعة للاستخفاف. وكذلك القول في الأقضية، مثل قضاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشفعة للجار، فإن ذلك يحمل على أن الراوي رأى جارا قضى له بالشفعة ولم يعلم أنه شريك”[65].

وأما حال الإمارة فإن التمييز بينها وبين حال التشريع يكون سهلا في الغالب الأعم، “إلا فيما يقع في خلال أحوال بعض الحروب مما يحتمل الخصوصية”. وذلك مثل نهيه، صلى الله عليه وسلم، عن أكل لحوم الحمر الأهلية في غزوة خيبر: هل كان ذلك تشريعا عاما أو كان نهي إمرة دعت إليه مصلحة الجيش؛ لأن حمولتهم في تلك الغزوة كانت الحمير؟ ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلا، له عليه بينة، فله سلَبُه”، وقوله: “من أحيى أرضا ميتة فهي له”.

وأما حال الهدي والإرشاد فيقول فيه ابن عاشور: “.. الهدي والإرشاد أعم من التشريع؛ لأن الرسول، عليه الصلاة والسلام، قد يأمر وينهى وليس المقصود العزم، ولكن المقصود الإرشاد إلى طريق الخير، فإن المرغبات وأوصاف نعيم الجنة وأكثر المندوبات من قبيل الإرشاد. فأنا أردت بالهدي والإرشاد هنا خصوص الإرشاد إلى مكارم الأخلاق، وآداب الصحبة، وكذلك الإرشاد إلى الاعتقاد الصحيح”[66].

وأعطى ابن عاشور مثالا لذلك، وهو أن رجلا لقي أبا ذر وغلاما له، وعلى غلامه حلة، فقال لأبي ذر: ما هذا؟ فقال أبو ذر: تعال أحدثك. إني ساببت عبدا لي فَعيَّرته بأمه. فشكاني إلى رسول الله. فقال رسول الله: “أَعَيَّرْتَهُ بأمِّهِ يا أبا ذر؟” قلت: نعم. قال: “إنّك امرُؤٌ فيك جاهلية، عبيدكم خَوَلُكم، جَعَلهُم الله تَحتَ أَيْدِيكم. فمن كان أَخُوهُ تحت يَدِه فَليُطعِمهُ ممّا يَأكُلُ، وليُلبِسْهُ ممَّا يَلبَسُ، ولا يُكلّفهُ من العَمل ما لا يُطيق، فإن كلّفَه فلْيُعِنْهُ”[67].

وأما حال المصالحة بين الناس، فهو حال يخالف حال القضاء. وذلك مثل تصرفه، صلى الله عليه وسلم، حينما اختصم إليه الزبير وحميد الأنصاري في سيل ماء كانا يسقيان به؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للزبير: “اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك”. فلما غضب حميد الأنصاري ولم يرض بهذا الحل قال رسول الله، صلى الله عليه مسلم، للزبير: “اسق ثم احبس حتى يبلغ الماء الجدر”. قال عروة بن الزبير: وكان رسول الله أشار برأي فيه سعة للزبير وللأنصاري؛ ثم استوعى رسول الله للزبير حقه في صريح الحكم”[68].

وأما الإشارة على المستشير فمن أمثلته ما رواه مالك في الموطأ عن عمر بن الخطاب أنه قال: حملت على فرس عتيق[69] في سبيل الله. وكان الرجل الذي هو عنده قد أضاعه، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص. فسألت عن ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: “لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه”[70].

قال ابن عاشور: “فهذه إشارة من رسول الله على عمر. ولم يعلم أحد أن رسول الله نهى عن مثل ذلك نهيا علنا. فمن أجل ذلك اختلف العلماء في محل النهي. فقال الجمهور: هو نهي تنزيه كيلا يتبع الرجل نفسه ما تصدق به فجعله لله. وحمل على هذا قول مالك في الموطأ والمدونة، لجزمه بأن ذلك البيع لو وقع لم يفسخ..”[71].

وأما حال النصيحة فمثاله حديث فاطمة بنت قيس؛ وفيه أنها أخبرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم بن هشام خطباها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأما معاوية فصعلوك لا مال له. انكحي أسامة بن زيد”[72].

فقوله صلى الله عليه وسلم: “وأما معاوية فصعلوك لا مال له” لا يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتزوج برجل فقير، ولكنها استشارت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشار عليها بما هو أصلح لها. ولذلك قال لها: “انكحي أسامة..” قالت: فكرهته. ثم قال: “انكحي أسامة..” قالت: فنكحته، فجعل الله في ذلك خيرا كثيرا، واغتبطت به[73].

وأما حال طلب حمل النفوس على الأكمل من الأحوال فقد بينه محمد الطاهر بن عاشور بقوله: “.. ذلك كثير من أوامر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونواهيه الراجعة إلى تكميل نفوس أصحابه وحملهم على ما يليق بجلال مرتبتهم في الدين من الاتصاف بأكمل الأحوال، مما لو حمل عليه جميع الأمة لكان حرجا عليهم. وقد رأيت ذلك كثيرا في تصرفات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورأيت في غفلة بعض العلماء عن هذا الحال من تصرفاته وقوعا في أغلاط فقهية كثيرة، وفي محمل أدلة كثيرة من السنة على غير محاملها، وبالاهتداء إلى هذا اندفعت عني حيرة عظيمة في تلك المسائل..”[74].

ثم ذكر ابن عاشور أمثلة لبيان هذا الحال. من ذلك ما رواه البخاري عن البراء بن عازب قال: “أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي. ونهانا عن خواتم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المَيَاثِر[75] الحمر، والقسية[76]، والإستبرق[77]، والديباج[78]، والحرير”[79].

قال ابن عاشور: “فجمع[80] مأمورات ومنهيات مختلطة؛ بعضها مما علم وجوبه: في مثل نصر المظلوم مع القدرة، وتحريمه: في مثل الشرب في آنية الفضة؛ وبعضها مما علم عدم وجوبه في الأمر: مثل تشميت العاطس، وإبرار المقسم، أو عدم تحريم في النهي، مثل المياثر، والقسية. فما تلك المنهيات إلا لأجل تنزيه أصحابه عن التظاهر بمظاهر البذخ والفخفخة للترفه والتزين بالألوان الغريبة، وهي الحمرة. وبذلك تندفع الحيرة في وجه النهي عن كثير مما ذكر في هذا الحديث، مما لم يهتد إليه الخائضون في شرحه. ويشهد لهذا ما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب أنه قال: “نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن لبس القسى، وعن لبس المعصفر، وعن تختم الذهب، وعن القراءة في الركوع والسجود. ولا أقول نهاكم”[81]. “يعني أن بعض هذه المنهيات لم ينه عنها جميع الأمة، بل خص بالنهي عليا”[82].

ومن أمثلة هذا الحال عند ابن عاشور حديث أبي رافع مرفوعا: “الجار أحق بصقبه”، “أي: ما يليه، أي: أحق بشرائه إذا باعه جاره. فما هو إلا لحمل أصحابه على المواساة والمؤاخاة. ولذلك جعل الجار منهم أحق بالشفعة لأجل الصقب، أي: القرب؛ ولولا كلمة “أحق” لجعلنا الحديث لمجرد الترغيب. فلما وجدنا كلمة أحق علمنا أنه يعني الجار من الصحابة أحق بشفعة عقار جاره. فلا تعارض بينه وبين حديث جابر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “الشفعة فيما لم يقسم، فإذا حددت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة”[83][84].

ومن الأمثلة كذلك ما رواه مالك في الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره”. ثم يقول أبو هريرة: “ما لي أراكم معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم”[85]. قال ابن عاشور: “فحمل ذلك أبو هريرة على التشريع، وحمله مالك على معنى الترغيب، فقال في الموطأ: أن لا يقضى على الجار بذلك، أي لأنه يخالف قاعدة إطلاق تصرف المالك في ملكه، وأن لا حق لغيره فيه”[86].

ومن أمثلته أيضا حديث رافع بن خَديج عن عمّه ظهير بن رافع أنه قال: “لقد نهانا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، عن أَمْر كان بِنَا رَافقاً. قال رافع: قلت: ما قال رسول الله فهو حق. قال: دعاني رسول الله فقال: “ما تصنعون بمحاقلكم؟” قلت: نُؤاجرُها على الرُّبُع وعلى الأوسق من التمر والشعير؟ فقال: “لا تَفعَلُوا، ازْرَعُوها، أو أَزْرِعُوها، أو أَمْسِكُوها”. قال رافع: قلت: سمعا وطاعة[87]. قال ابن عاشور: “فتأوله معظم العلماء على معنى أن رسول الله أمر أصحابه أن يُواسِي بعضهم بعضا؛ ولذلك تَرجَم البخاري هذا الحديث بقوله: باب ما كان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة”[88].

وأما حال تعليم الحقائق العالية فمثاله قول أبي ذر: قال لي خليلي[89]: “أتبصر أحدا؟”[90]. قلت: نعم. قال: “ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير”[91]. قال الطاهر بن عاشور: “فظن أبو ذر أن هذا عام للأمة، فجعل ينهى عن اكتناز المال. وقد أنكر عليه عثمان رضي الله عنه قول ذلك..” [92].

وأما حال التأديب فقال فيه الطاهر: “ينبغي إجادة النظر فيه؛ لأن ذلك حال قد تحف به المبالغة لقصد التهديد. فعلى الفقيه أن يميز ما يناسب أن يكون القصد منه بالذات التشريع، وما يناسب أن يكون القصد منه بالذات التوبيخ والتهديد. ولكنه تشريع بالنوع، أي بنوع أصل التأديب”[93].

ومثاله ما رواه مالك عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم..”[94]. قال ابن عاشور: “فلا يشتبه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كان ليحرق بيوت المسلمين لأجل شهود صلاة العشاء في الجماعة، ولكن الكلام سيق مساق التهويل في التأديب[95]، أو أن الله أطلعه على أن أولئك من المنافقين، وأذن له بإتلافهم إن شاء”[96].

ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أبي شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن”. فقلنا: ومن هو يا رسول الله؟ قال: “من لا يأمن جاره بوائقه”.[97] الكلام هنا خرج “مخرج التهويل لمن يسيء إلى جاره حتى يخشى أن لا يكون من المؤمنين. والمراد: نفي الإيمان الكامل”[98].

وأما حال التجرد عن الإرشاد فإنه أمر يتعلق بالجبلة ودواعي الحياة المادية، وبالتجربة البشرية فيها، والخبرة والممارسة؛ وذلك “كصفات الطعام، واللباس، والاضطجاع، والمشي، والركوب، ونحو ذلك؛ سواء كان ذلك خارجا عن الأعمال الشرعية كالمشي في الطريق، والركوب في السفر، أم كان داخلا في الأمور الدينية كالركوب على الناقة في الحج..”، وكنزوله في حجة الوداع بالأبطح، وصلاته فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكاضطجاعه على الشق الأيمن بعد صلاة الفجر.

ويدخل في هذه الحال إشارته على بعض أصحابه أن يتركوا تأبير نخلهم..[99]

والحق أن هذا الحال لم يغفله الأصوليون القدماء، بل ذكروه في مؤلفاتهم وقرروا أن ما كان صادرا عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدافع الجبلة والحاجة البشرية لا يدخل في التشريع العام الذي يؤخذ الناس باتباعه.

ولأهمية هذا الحال واتفاق الأصوليين على اعتباره نحب أن نزيده وضوحا وبيانا. ونختار إيراد أهم ما كتبه الشيخ علي الخفيف في بحث بعنوان: “السنة التشريعية”[100].

قال: “.. ولا تكون[101] فيما كان يأتيه، صلى الله عليه وسلم، بطبيعته وإنسانيته، مما لا اختيار له فيه أو فيما كان يأتيه اختيارا بحكم العادة والميل الطبيعي الوقتي. وعلى الجملة: لا تكون فيما يأتيه كل الناس بحكم خلقتهم وطبائعهم، مما يعد من مقومات الحياة، وضرورات الوجود والعادات، كالأكل والشرب والنوم واللباس والحركة والتخاطب والتفاهم والسعي إلى الطعام واتخاذ المسكن، ونحو ذلك. فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشرا كسائر البشر.. يحيى كما يحيى الناس.. ويعيش في مجتمعهم، يزور ويزار، ويرضى ويغضب، ويسر ويحزن، ويمشي إلى المتاجر والأسواق، ويساوم ويساوَم، ويمرض ويصح، ويطلب العلاج كما يطلبه الناس، ويشفع بين المتنازعين ويصالح بينهم، له وزنه وحكمه، وله عادته..”.

ثم قال مشيرا إلى صعوبة التمييز أحيانا بين ما هو تشريعي وما هو غير تشريعي في هذه الحال: “.. أما ما يتعلق بهذه الأفعال والعادات وما يتصل بها من كيفيات وأوضاع وأشكال ووسائل ونحو ذلك، فإن منه ما قد يعد سنة تشريعية يؤخذ الناس باتباعها، إذا كان له، صلى الله عليه وسلم، فيه اختيار كان من أثره تفضيل وضع على وضع، وصورة على صورة، وطريقة على أخرى، قصدا إلى فعل ما هو الأفضل والأنفع الذي يرجى منه الصلاح. وهذا منه، صلى الله عليه وسلم، إرشاد وهداية وتشريع، وبخاصة إذا اقترن بأمر أو نهي، ما دام لم يتبين أنه، صلى الله عليه وسلم، قد فعله بحكم العادة الجارية والإلف الوقتي، انقيادا للعادة والظروف والملابسات، مما يبعده عن أن يكون من قبيل الإرشاد والتشريع. وذلك موضوع خطير، وأمر جليل، جدير بالتأني والتريث والعمق في النظر. وقد يضل من لا علم له بما كان في زمنه، صلى الله عليه وسلم، من أعراف وعادات لها سلطانها ورسوخها وعمومها، وبما كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من سيرة وطريقة وخلق ومنهج. وإنما يعرف ما يراد منه التشريع بالنظر، والاجتهاد، وسعة الاطلاع، والتعرف على شمائله صلى الله عليه وسلم”.

ويقول في مكان آخر: “.. التمييز بين ما يعد من أمور الدنيا التي لا يعتبر تنظيمها وتدبيرها تشريعا، وما ليس كذلك مما يعد التدبير فيه تشريعا يجب على الناس مراعاته واتباعه: فذلك ما يرجع فيه إلى النظر والاجتهاد؛ ومن ثم يكون الخلاف فيه بين الفقهاء، وكان من المواضيع الخطيرة الجديرة بإمعان النظر فيها”[102].

حالان أخريان سبق ذكرهما، لكن للشيخ علي الخفيف كلام يزيدهما بيانا وإيضاحا. وملخصه أن القضاء من الرسول قسمان:

قسم يعد من قبيل التشريع العام، وهو كل ما قضى به الرسول، صلى الله عليه وسلم، من حقوق رتبها على أسبابها الشرعية التي استوجبتها.

وقسم لا يعد قضاء النبي “فيه إلا عملا إجرائيا تنظيميا إداريا، يؤسس على التوثيق أين يوجد الحق. وهذا يعتمد على الظاهر الذي يبدو، وعلى ما يقدم من وسائل الإقناع. ويتمثل في اختصاص أحد الخصمين بالحكم له دون صاحبه، وذلك لظهور أن الحق في جانبه بتكئة من إقناع من يسمعه؛ لأنه ألحن بحجته وأقدر على البيان والتأثير من صاحبه. وقد لا يكون الحق مع ذلك في جانبه..”[103].

ثم قال الشيخ الخفيف: “.. الجانب التشريعي من قضائه أو من فتاويه هو إلى تطبيق ما نزل عليه على الوقائع والحوادث أقرب، وأن ذلك لا يتم إلا مع مراعاة الظروف الحادثة المعروضة وملابساتها واتصالها بالعادات والأعراف؛ فإن للعرف والعادة أثرهما في معاملات الناس وتصرفاتهم إطلاقا وتقييدا، وإجازة ومنعا. ولا يتم العدل في القضاء ولا الإصابة في الفتيا إلا بمراعاة ذلك وملاحظته.. وبناء على ذلك فإن قضاءه، صلى الله عليه وسلم، أو فتياه في حادثة معينة عرضت عليه: قضاء أو رأي روعي فيه ظروفها على ما بينا.. ومن هذا يجب على الراوي الذي يقوم برواية مثل هذا أن يكون شديد الملاحظة ملما بظروف الحادثة، عالما بملابساتها، وألا يغفل في روايته إياها ما يدل على ذلك مهما رآه أمرا ظاهرا واضحا؛ إذ قد يخفى هذا الظهور بمضي الزمن وتغير العادات وتطور الأحداث. وهذا ما يضع تطبيق قضائه وفتاويه، صلى الله عليه وسلم، موضع النظر والحذر و[التثبت) من المماثلة بين ما عرض على الرسول صلوات الله عليه وما أريد الحكم له، حتى لا يقضى في شيء بغير ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

ثم عضد كلامه هذا بالمثال فقال: “ألا ترى أنه، صلى الله عليه وسلم، حين سأله شاب عن تقبيل زوجته[104] أجابه بالمنع، وحين سأله آخر -وكان شيخا- أجابه بأن لا حرج؟!..”[105].

ضوابط التمييز بين السنة التشريعية وغير التشريعية

ما قاله الشيخ علي الخفيف ومعاصره الشيخ الطاهر بن عاشور وقبلهما العلامة القرافي من أنه يصعب أحيانا التمييز بين ما هو من قبيل التشريع الذي يؤخذ الناس باتباعه، وما هو دون ذلك: لا يعني أن عناصر هذا الموضوع لا تنضبط؛ لأنه يكفي من خلال ما سبق أن نقرر أن على الناظر في السنة النبوية أن يتريث، ويمعن النظر عند الاستنباط منها أكثر من تريثه وإمعانه النظر عند الاستنباط من القرآن.

ومع ذلك فإننا نستطيع أن نضع ضوابط لتمييز مقامات رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

أولا: ضوابط عامة

  1. الأصل في أفعال الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأقواله التشريع العام؛ لأنه الغالبُ على أقواله. قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾. (آل عمران: 144). والغالب كالمحقق، كما يقول الفقهاء. فما دام قولُه، صلى الله عليه وسلم، أو فعله لا يعارض مقتضاه أصلا ثابتا من أصول الشريعة، ولا يترتب على الأخذ به حرج عامٌ أو خاصٌ مُتيقَّن، ولا يُعرِّض الشريعة للاستخفاف.. فالاحتياط الذي تفرضه أصول الشريعة اعتباره والأخذ بما تَضمَّنَه من أحكام دون النظر في الأحوال التي ذكرناها، إلا إذا ثبت بدلالة واضحة أن المقصد به غير التشريع.
  2.  للاستعانة على الفهم الصحيح لأي حديث نبوي لابد من فحصه قبل استنباط الأحكام منه؛ وذلك بجمع ما يتعلق بالموضوع الذي ورد فيه الحديث موضع الفحص من أحاديثَ ونصوصٍ قرآنية، وأخذِ رأي الصحابة وأئمة الفقه فيه بالاعتبار.
  3. ومن أسباب الاستعانة على الفهم الصحيح للحديث النبوي “النظر فيما بني من الأحاديث على أسباب خاصة، أو ارتبط بعلة معينة، منصوص عليها في الحديث أو مستنبطة منه، أو مفهومة من الواقع الذي سيق فيه الحديث”[106]، فيحكم على الحديث الذي هذه صفته بأنه تشريع خاص مرتبط بأسبابه وملابساته ومقاصده.
  4. لا يكاد يوجد حديث يحتمل أن لا يقصد به التشريع العام إلا تجد علماء الصحابة ومن أتى بعدهم من الأئمة قد تكلموا فيه بالاختلاف أو الاتفاق؛ لذا لابد من اعتبار شرط هام في الحكم على الحديث بأنه لا يقصد به التشريع العام: وهو أن لا يتفق العلماء على أنه قصد به التشريع العام.

ثانيا: ضوابط السنة التشريعية

الضابط الأول: كل ما صدر عنه، صلى الله عليه وسلم، بوصفه رسولا مبلغا لما أوحي إليه من بيان مجمل كتاب، أو تخصيص عامه، أو تقييد مطلقه، أو تفصيل عبادة، أو أمر بشيء علم أنه واجب، أو نهى عن شيء علم أنه منكر، فذلك شرع يجب الأخذ به؛ وهو شريعة باقية إلى يوم القيامة.

الضابط الثاني: كل ما كان بيانا لعقيدة، أو تعليما لعبادة، أو إرشادا إلى قربة، أو تهذيبا لخلق، أو ضبطا لعادة أو انتفاع[107]، أو تصحيحا لمعاملة، أو تحذيرا من أمر علم أنه فساد وسوء، فذلك شريعة يتعين على الناس اتباعها.

الضابط الثالث: كل أمر من الأمور العادية تبين لنا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فعله أو أمر بفعله للحفاظ على خلق أو مروءة، أو لتجنب فساد أو ضرر أو إثم: فهو من قبيل التشريع العام.

الضابط الرابع: كل أمر اهتم به النبي، صلى الله عليه وسلم، وبلغه إلى العامة والخاصة، وحرص على العمل به، أو أَبْرزَه في قضايا كلية، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا لا وصية لوارث”؛ وقوله: “إنما الولاء لمن أعتق”: فهو تشريع عام.

الضابط الخامس: كل “ما قضى به الرسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حقوق رتبها على أسبابها الشرعية التي استوجبتها” فهو سنة تشريعية..[108].

ثالثا: ضوابط السنة غير التشريعية

الضابط الأول: كل ما صدر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الأقوال والأفعال العادية المتكررة المباحة التي تدعو إليها طبيعة الإنسان وغايات البشر: فهو سنة غير تشريعية. وبعبارة أخرى: كل ما يأتيه الرسول بحكم خلقته وجبلته، مما يعد من مقومات الحياة وضروراتها، ومما يعد من العادات: كالأكل، والشرب، والنوم، واللباس، والحركة، والتخاطب، والتفاهم، والسعي إلى الطعام، واتخاذ المسكن، والمشي إلى الأسواق.. وكذلك كل ما يأتيه من تصرفات مع أزواجه وذريته وأقاربه مما يشبه ما يأتيه كل إنسان: فليس بشرع.

الضابط الثاني: كل ما صدر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكان سبيله التجربة والخبرة في الحياة: كالصناعة، والفلاحة، والخطط الحربية، ونحو ذلك: فهو ليس شرعا عاما.

الضابط الثالث: كل ما صدر عنه، صلى الله عليه وسلم، وكان وسيلة إلى غاية خاصة وهدف محدد اقتضته ظروف الزمان والمكان، وتطلبته المصلحة: فهو سنة مؤقتة، يجوز تبديلها وتغييرها إذا تغيرت الأوضاع وتبدل الزمان، وأصبحت لا تحقق الغاية المرجوة، أو المصلحة الشرعية من سنّها أول مرة.

الضابط الرابع: كل تصرف من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الشأنُ فيه أن يتولاه الأئمة والأمراء، مثل: إعلان الحرب، أو الجنوح إلى السلم، وعقد العهود، وصرف أموال الدولة وجمعها، وتولية القضاة والولاة.. فهو ليس من التشريع العام. بل هو منوط بالمصلحة العامة التي يجب أن يرعاها ولاة الأمور في الدولة.

الضابط الخامس: كل ما يؤدي إلى الخصام، أو التشاجر والفتن، أو إدخال الضرر.. فنظره إلى ولاة الأمور والمسؤولين في الدولة دون غيرهم.

الضابط السادس: كل قضاء من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اتبع فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البينات والأيمان: فهو ليس من قبيل التشريع العام.

المصادر والمراجع

  • الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام” شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684هـ). دار الكتب العلمية، بيروت، ط. 1/1425- 2004م).
  • الاختيار لتعليل المختار” عبد الله بن محمود الموصلي (ت 683هـ). دار المعرفة، ط.3، 1395هـ/ 1975م.
  • الاستذكار” أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر (ت 463هـ). دار الكتب العلمية، ط. 1/1421هـ- 2000م.
  • “الأم” محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ). دار الفكر، ط. 1410هـ/ 1990م.
  • “الأموال” أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ). دار الحداثة، بيروت، ط. 1/1986م.
  • “التصرفات النبوية وتطبيقاتها من خلال كتب الإمام شهاب الدين القرافي” أطروحة أعدها: الأستاذ أناس لغبسي لنيل الدكتوراه بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا. السنة الجامعية: 1423- 1424هـ/2002- 2003م.
  • “زاد المعاد في هدي خير العباد” أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت751هـ) بتحقيق: الأرنؤوطين، مؤسسة الرسالة، ط. 1/1419هـ / 1998م.
  • “السنة التشريعية وغير التشريعية” لمجموعة من العلماء، جمع: د. محمد عمارة، نهضة مصر، ط. 2/2005م.
  • “سنن ابن ماجة” أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت 273هـ). تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر– بيروت.
  • “سنن أبي داود” أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ). تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.
  • “شريعة الإسلام” يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان، ط. 3/ 1403هـ- 1983م.
  • “صحيح البخاري” أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ). تحقيق: محمد علي القطب، المكتبة العصرية، ط. 1411هـ / 1991م.
  • “صحيح مسلم” أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261هـ). باعتناء: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، ط. 1/1412هـ / 1991م.
  • “الفروق” شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684هـ). المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط. 1424هـ / 2003م.
  • “في التراث الاقتصادي الإسلامي” دار الحداثة، بيروت، ط. 1/1990م.
  • “كيف نتعامل مع السنة النبوية” يوسف القرضاوي، دار الشروق ط.3/ 1426هـ / 2005م.
  • “المسند” أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241هـ). مؤسسة قرطبة، القاهرة (د.ت).
  • “معجم البلدان” أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626هـ). دار صادر.
  • “المعجم الوسيط” مجمع اللغة العربية. دار الدعوة، تركيا.
  • “الموطأ” مالك بن أنس (ت 179هـ). باعتناء: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث (د.ت).
  • “الواضحة” مجلة محكمة تصدرها مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط. العدد الثالث،1426هـ- 2005

الهوامش

  1. من حديث طويل في صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبي، صلى الله عليه وسلم.. (ح2603).
  2. صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المومنون والمومنات بأنفسهم خيرا…) ح 4750.
  3. الشِّيص: -بكسر الشين المعجمة-: تَمْر لم يتم نضجه لسوء تأبيره أو لفساد آخر. انظر المعجم الوسيط، ص: 503 (أشاصت النخلة..). مجمع اللغة العربية. دار الدعوة، تركيا.
  4. صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره، صلى الله عليه وسلم، من معايش الدنيا على سبيل الرأي، (ح 2363).
  5. انظر مزيدا من التفصيل والأمثلة في بحث “التصرفات النبوية وتطبيقاتها من خلال كتب الإمام شهاب الدين القرافي” ص: 33 وما بعدها. أطروحة أعدها الأستاذ أناس لغبسي بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا. السنة الجامعية: 1423- 1424هـ /2002- 2003م.
  6. السنة التشريعية وغير التشريعية، ص: 16. لمجموعة من العلماء. جمع محمد عمارة. نهضة مصر، ط. 2/2005م.
  7. النَّوَاضِح: جمع نَاضِحة: الدابة يستقى عليها. المعجم الوسيط، ص: 928، مادة (ن ض ح).
  8. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، (ح 27).
  9. صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي، صلى الله عليه وسلم، في زوج بريرة، (ح 5283).
  10. أناخ: أي برك راحلته.
  11. الموطأ، كتاب الحج، باب صلاة المُعَرَّس والمُحَصَّب1 / 405.
  12. يعني البطحاء المذكورة في حديث مالك الذي قبل هذا الأثر.
  13. صحيح البخاري، كتاب الحج، باب المحصب (ح 1765)؛ ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة به، (ح1311)، واللفظ له.
  14. شرح النووي على مسلم 9/59.
  15. صحيح البخاري، كتاب اللقطة، باب من عرف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، (ح 2438) واللفظ له؛ ومسلم، كتاب اللقطة، (ح 1722).
  16. أي: هي كالمؤبلة المقتناة في عدم تعرض أحد إليها واجتزائها بالكلأ.
  17. تَناتَج: بحذف إحدى التاءين، تتناتج: تتوالد.
  18. أخرجه مالك عن ابن شهاب في موطئه، كتاب الأقضية، باب القضاء في الضوال 2/759. وقال ابن عبد البر: “روى هذا الخبر سفيان بن عيينة، عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب تناتج، هملا، لا يعرف لها أحد. فلما كان عثمان وضع عليها ميسم الصدقة”. ينظر الاستذكار 7/255.
  19. انظر المنتقى للباجي 6/ 143-144؛ والتصرفات النبوية ص: 42.
  20. شريعة الإسلام، ليوسف القرضاوي. المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان. ط. 3/ 1403هـ / 1983م.
  21. صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة.. (ح 1264)؛ وسنن أبي داود، كتاب المناسك، باب في الرمل (ح 1885) واللفظ له.
  22. انظر كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص: 66. دار الحداثة– بيروت، ط. 1/1986م.
  23. كتاب الأموال ص: 65.
  24. قال أبو عبيد: “أراه أراد: أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا، يرثه قرن بعد قرن، فتكون قوة لهم على عدوهم”. انظر كتاب الأموال ص: 67- 68.
  25. الكُراع – بضم الكاف -: اسم لجميع الخيل والسلاح.
  26. كتاب الأموال ص: 68.
  27. يعني أرض العراق المفتوحة.
  28. انظر كتاب الأموال ص: 68.
  29. الجابية: كانت قرية من أعمال دمشق.. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/91. دار صادر (د.ت).
  30. كتاب الأموال ص: 69، وخالف في هذا كله: بلال بن أبي رباح، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف.. فرأوا القسمة كما كان الأمر على عهد رسول الله،صلى الله عليه وسلم، وكان على رأي عمر: عثمان، وعلي، ومعاذ، وطلحة.. رضي الله عن الجميع. انظر كتاب الأموال ص: 69 -70؛ وكتاب الخراج لأبي يوسف، ضمن كتاب “في التراث الاقتصادي الإسلامي” ص: 139- 140. دار الحداثة- بيروت، ط. 1/1990م.
  31. بالحاء المهملة: حيوان العسل المعروف.
  32. انظر الموطأ، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء.. 2/447- 448. وانظر معه الاستذكار 5/23 وما بعدها.
  33. الاقتباس من الأم للشافعي، كتاب اختلاف مالك والشافعي، باب في الجهاد 7 /241- 242.
  34. رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في عمارة الموات 2/ 743، عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا. وتمامه: “وليس لعرقٍ ظالمٍ حق”. وقال ابن عبد البر في الاستذكار 7/185: “والحديث صحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد تلقاه العلماء بالقبول”.
  35. ينظر الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود الموصلي 3/66. دار المعرفة ط 3/1395هـ- 1975م؛ والاستذكار 7/187.
  36. انظر الموطأ، كتاب الجهاد، باب ما جاء في السلب في النفل 2/455. وانظر تفصيل ذلك في “مابين مالك والشافعي…” للناجي لمين. مجلة الواضحة ص: 237- 241. العدد الثالث 1426هـ / 2005م.
  37. ومن أوائل من وجدناه خالف هذا النهج ودافع عن ذلك في كتبه: الإمام الشافعي.
  38. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 17.
  39. قام الباحث أناس لغبسي بإعداد بحث لنيل الدكتوراه بعنوان: “التصرفات النبوية وتطبيقاتها من خلال كتب شهاب الدين القرافي”، بمؤسسة دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط (المغرب). السنة الجامعية 1423-1424 / 2002-2003.
  40. يعني الإنس والجن.
  41. ونص القرافي في كتاب “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام..” (دار الكتب العلمية- بيروت، ط. 1/1425- 2004م). على أن من اختصاص الإمام أيضا المتفق عليها: الإقطاع، وإقامة الحدود.
  42. أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب مَن أَجْرَى أَمْر الأمصار على ما يَتَعَارفُون بَيْنَهم: في البيوع والإجارة والمِكيال والوزن، وسُننِهم على نيَّاتهم ومذاهبهم المشهورة (ح2211)، وكتاب النفقات والأحكام؛ ومسلم في الأقضية، باب قضية هند (ح 1714).
  43. الفروق، للقرافي 1/221-223، الفرق السادس والثلاثون. المكتبة العصرية، صيدا- بيروت ط. 1424هـ- /2003م.
  44. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام.. ص: 29.
  45. نفسه ص: 32.
  46. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب من أقام البينة بعد اليمين، (ح 2680)؛ ومسلم، كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، (ح 1713).
  47. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام… ص: 29.
  48. يعني القضاء.
  49. نفسه ص: 30-31.
  50. كابن القيم في زاد المعاد 3 / 429 – 430. بتحقيق الأرنؤوطين، مؤسسة الرسالة، ط. 1 / 1419 هـ / 1998 م.
  51. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم، من معايش الدنيا على سبيل الرأي، (ح 2362).
  52. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم، من معايش الدنيا على سبيل الرأي، (ح 2361).
  53. الأدهم: الأسود، والأقرح: ما كان في جبهته قُرْحَة، وهي بياض بين عيني الفرس بقدر الدرهم فما دونه انظر المعجم الوسيط، مادتي (د هـ م) و (ق ر ح). والحديث في سنن الترمذي، كتاب الجهاد.. (ح 1696)؛ وسنن ابن ماجة، كتاب الجهاد (ح 2789).
  54. صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل، (ح 5189). وانظر ما يتعلق بوقفه على عائشة ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في فتح الباري 10 / 319 – 322، بتحقيق: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الفكر، ط. 1416هـ / 1996م.
  55. الرَّمَل –بالتحريك-: الهرولة الخفيفة في الطواف.
  56. أي: عمر.
  57. رواه أحمد في المسند 1/83، عن علي بن أبي طالب، (ح 628).
  58. انظر السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 17 -31.
  59. أي: لم أفطن.
  60. نفسه ص: 18. والحديث رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كتاب الحج، باب جامع الحج 1/421؛ والبخاري في كتاب الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة؛ ومسلم في كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي.
  61. الجدر: بفتح الجيم المعجمة وسكون الدال المهملة: حائط الحَوض.
  62. أخرجه البخاري، كتاب المساقات، باب شرب الأعلى قبل الأسفل، ح 2361، وباب شرب الأعلى إلى الكعبين، ح 2362، ونص الحديث الثاني كاملا: حدثنا محمد: أخبرنا مخلد: قال: أخبرني ابن جريج قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أنه حدثه: أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شِرَاجٍ من الحَرّة، يسقي بها النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اسق يا زبير -فأمره بالمعروف- ثم أَرْسِل إلى جارك”. فقال الأنصاري: أنْ كان ابن عمتك ؟ فتلوَّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “اسْقِ ثم احْبِس، حتى يرجع الماء إلى الجَدر”. واستوعى له حقه، فقال الزبير: والله إن هذه الآية أُنزلت في ذلك: (فلا وربك لا يومنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم). قال لي ابن شهاب: فقدَّرَت الأنصار والناسُ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: “اسق، ثم احبس حتى يرجع إلى الجدر”. وكان ذلك إلى الكعبين؛ وأخرجه أيضا مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه، صلى الله عليه وسلم، (ح 2357).
  63. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 18. هذا وقد ألف محمد بن فرج مولى ابن الطلاع القرطبي كتابا جمع فيه معظم أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم. نشره محققا الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي بعنوان: “أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم”. دار الكتاب العربي ودار الكتاب المصري- بيروت، والقاهرة.
  64. يعني: التشريع، والإفتاء، والقضاء.
  65. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 20. وفي كلامه إشارة إلى رأي الأحناف في إعطاء الشفعة للجار.
  66. نفسه، ص: 21- 20.
  67. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يُكَفَّر صاحبُها بارتكابها إلا بالشِّرك (ح 30)؛ ومسلم، كاتب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (ح 1661).
  68. الحديث تقدم تخريجه.
  69. حملت على فرس عتيق، أي: تصدقت بفرس كريم على رجل، ووهبته له ليقاتل عليه.
  70. الموطأ، كتاب الزكاة، باب اشتراء الصدقة والعود فيها؛ وأخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب هل يشتري صدقته؛ ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه.
  71. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 22. وعدم حمل الجمهور النهي على التحريم لمعارضته لأصل مقرر، وهو أن الرجل إذا ملك شيئا باعه ممن شاء.
  72. نص الحديث بكامله في الموطأ، كتاب الطلاق، باب ما جاء في نفقة المطلقة؛ وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
  73. اغتبطت به: أي حصل لي منه ما قرت عيني به..
  74. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 25.
  75. المياثر: جمع ميثرة -بكسر الميم-: فراش صغير بقدر الطنفسة، تحشى بقطن، ويجعلها الراكب على الرحل تحته فوق الرحل لتكون ألين له.
  76. القسية- بفتح القاف وتشديد السين المهملة- واحدها قسى: ثياب مصرية فيها أضلاع ناتئة كالأترج من حرير.
  77. الإستبرق: ثياب من حرير غليظ.
  78. الديباج: ثياب رقيقة من حرير.
  79. رواه البخاري، كاتب النكاح، باب حقّ إجابة الوليمة والدّعوة ومَن أَوْلَم سبعةَ أيّام ونحوه (ح 5175)؛ ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع (ح 2066).
  80. يعني الحديث.
  81. الحديث في موطأ مالك، كتاب الصلاة، باب العمل في القراءة (ح 176)؛ ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (ح 2078).
  82. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 26.
  83. الموطأ، كتاب الشفعة، باب فيما تقع فيه الشفعة (ح 1395).
  84. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 26-27.
  85. الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق 2/745؛ وأخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره؛ ومسلم، كتاب المساقات، باب غرز الخشب في جدار الجار.
  86. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 27.
  87. رواه البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة (ح 2339)؛ ومسلم كتاب البيوع، باب كراء الأرض بالطعام (ح 1547).
  88. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 27.
  89. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  90. يعني جبل أحد.
  91. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب ما أُدّيَ زكاتُه فليس بِكَنْز (ح 1407)؛ ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (ح 993).
  92. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 28.
  93. نفسه.
  94. الموطأ، كتاب صلاة الجماعة، باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ؛ وأخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة؛ ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.
  95. ولعل هذا هو الفهم الذي فهمه النووي عند ترجمة الباب الذي جاء تحته هذا الحديث، كما هو ظاهر في الإحالة السابقة على مسلم.
  96. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 28.
  97. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يَأمَن جاره بوائقه (ح 6016).
  98. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 29.
  99. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 29-30.
  100. أنظر المرجع السابق ص: 38-39.
  101. أي: السنة.
  102. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 41. وانظر الأمثلة في ص: 42- 46.
  103. السنة التشريعية وغير التشريعية ص: 48.
  104. أي: وهو صائم.
  105. نفسه ص: 49.
  106. الاقتباس من كتاب “كيف نتعامل مع السنة النبوية” ص: 145، للشيخ القرضاوي. دار الشروق ط. 3/ 1426هـ / 2005م.
  107. وهو ما عبر عنه ولي الله الدهلوي بالارْتِفاق.
  108. الاقتباس من الشيخ علي الخفيف. وقد تقدم كلامه.
الوسوم

الدكتور الناجي لمين

• دكتوراه الدولة في العلوم الإسلامية والحديث من دار الحديث الحسنية بالرباط 2000.
• أستاذ الفقه والأصول بدار الحديث الحسنية، الرباط.
• أستاذ زائر بكليتي الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية والقنيطرة.
• من أعماله:
ـ القديم والجديد في فقه الشافعي، إصدار دار ابن القيم ودار ابن عفان، 2007.
ـ تحقيق كتاب "مناسك الحج" للشيخ خليل المالكي(ت776هـ) ضمن منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء.
ـ الفقه المالكي بالدليل، باب الوصايا وباب المواريث، عن دائرة الأوقاف بدبي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق