مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أنماط الأساليب وأنواع البلاغات: المدخل إلى فهم الأسلوب العربي والتمييز بين أنماطه

بسم الله الرحمن الرحيم.

 1 ـ مدخل: 

 أ – تحديد الإشكال:

يجد طلبتنا اليوم صعوبة بالغة في الكتابة بأسلوب عربي سليم، ويجدون صعوبة مثلها في فهم الأساليب العربية القديمة، وفي القدرة على تذوقها، والموازنة بينها، والتمييز بين أنماطها، وتحليلها. وقد قمنا بتجربة تقوم على أساس عرض نص قديم على مجموعة من الطلبة دون ذكر صاحبه ثم تكليفهم بتعيين صاحب النص، أو الفترة الزمنية التي يمكن أن يكون النص قد كتب فيها، واخترنا أن يكون النص لبعض الأعلام ممن تميز بطريقة مشهورة في الكتابة كالجاحظ، وابن العميد، وبديع الزمان الهمذاني. فكانت النتيجة أن اكتشفنا أن الطلبة يستوي عندهم هؤلاء جميعا في نمط الكتابة وطريقة الأسلوب، فكلهم عندهم مؤلف قديم لا غير. واتضح هذا عندنا أكثر عندما طلبنا منهم الموازنة بين نصين مختلفين لكاتبين من مرحلتين زمنيتين متباعدتين، إذ ظهر لنا أن ما كان يعتبره القدماء اختلافا بينا بين طريقتين مختلفتين لا يكاد يظهر لطلبة اللغة اليوم إلا بمجهود يقوم به الأستاذ في الشرح والتحليل، وإيراد الأمثلة وتكثيرها. وبين أنه إذا كان الأمر على هذا النحو فإنه لا سبيل إلى تحديثهم عن تطور أنماط الأساليب لأنهم لا يتصورون وجود هذا التطور أصلا، إذ إن تصوره قائم على القدرة على التمييز، وهذه القدرة معدومة عندهم، فالتمييز تابع للقدرة على الفهم والتحليل، والفهم محتاج إلى وجود رصيد لغوي، وهذا الرصيد اللغوي عند طلبتنا اليوم بين الضعف. وقد قمنا بتجربة ثانية نختبر بها هذا الرصيد فألزمنا الطلبة بمحاولة شرح مقامة للسرقسطي هي مقامة الشعراء فلم يقم بذلك أحد منهم إلا طالب واحد استطاع أن يجارينا في شرحها مجاراة محمودة.

 بـ أهداف العرض وغاياته:

 بناء على هذا الإشكال الذي ذكرناه تتبين لنا أنواع القدرات الأسلوبية التي يفتقدها جل طلبتنا اليوم، وهذه القدرات هي:

 أولا: القدرة على الفهم.

 ثانيا: القدرة على التذوق.

 ثالثا: القدرة على التمييز بين الأنماط والموازنة بينها.

 رابعا: القدرة على التحليل.

خامسا: القدرة على الاحتذاء.

 سادسا: القدرة على الإضافة والعطاء.

 سابعا: القدرة على تصور تطور الأنماط الأسلوبية ومعرفة سر ذلك.

 والغاية من هذا العرض هو اقتراح برنامج عملي يمكن من خلاله إعادة اكتساب هذه القدرات المفقودة، وذلك بتبيين أنماط الأساليب وأنواع البلاغات، وتحديد برنامج واسع، يمكن الرجوع إليه لاكتساب هذه المهارات، يقوم على تعيين أصناف الكتب الموصلة إلى تذوق كل نمط نمط وفهمه، لتتركب بعد ذلك في الذهن قدرة شاملة على تذوق تلك الأنماط مجموعة وفهمها، ثم قدرة أخرى على التمييز بين الأشباه والنظائر والموازنة بينها. ليتوصل السالك في هذا الطريق في الأخير إلى اكتساب قدرتين هامتين، إحداهما سابقة في الزمن على الأخرى: أما الأولى فهي القدرة على الاحتذاء، وأما الثانية وهي الغاية المقصودة من هذا البرنامج، والثمرة التي يجنيها السالك فيه، فهي: القدرة على الإضافة والعطاء ؛ مع الأخذ بمهيع العربية الواسع، والتمكن من ناصيتها تمكنا يسمح لصاحبه بأن يصور معانيه التي يودعها كتابته صورا شتى تتنوع بتنوع المقامات، وتختلف باختلاف الأغراض، وتُـفَـصَّل على أنواع المخاطبين. وذلك هو الهدي النبوي في هذا المجال. قال في ” مواد البيان “: “..وكذلك إذا كانت أمة من الأمم الأعجمية فليعتمد تصوير المعاني التي يُودِعها كتابه في صور يتهيأ نقلها إلى لغة المكَاتَبين على حقائقها ولا يعتاص على المترجم لها، فبهذا جرت عادة بلغاء الكتاب، وأول من سلك هذه السبيل في كتبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  “(1).

2 ـ أنماط الأساليب وأنواع البلاغات: 

أ ـ أنماط الأساليب: 

اعتاد القدماء أن يقسموا أنواع الأساليب باعتبارات جزئية كأن ينسبوا الطريقة إلى إمام فيها، ومثال ذلك حديثهم عن طريقة الإمام علي كرم الله وجهه حيث جعلوا ممن اقتفى أثره فيها من فرسان الكلام: ابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبا عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء(2).     وتتميز هذه الطريقة بأن كلمات أصحابها ” متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة ” (3).

وواضح أن هذا التحديد ليس بالبالغ الدقة، كما أن أصحابه افترضوا وجود مقتد ومقتدى به في كل مذهب ضرورة. وهذا إذا صح فإنه كان لبعض هؤلاء المقتدين من اقتدى بهم أيضا، ولو أنهم كانوا لم يتجاوزوا مرتبة الاقتداء لكان الاقتداء بالإمام الأول في هذا المذهب الأسلوبي أولى، غير أن هذا لم يكن، فإن حديثهم عن الطريقة الجاحظية في الكتابة، مثلا، كان أبرز من حديثهم عن أسلوب الإمام علي كرم الله وجهه في الخطابة، فقد شاع عندهم الحديث عن سلوك طريقة الجاحظ(4)،    ولم يشع عندهم الحديث عن سلوك طريقة الإمام علي كرم الله وجهه، لا أستثني من ذلك إلا أئمة الشيعة.

وقد تقسم الأساليب عندهم بتنوع الأغراض ومقاصدها، كانقسام السلطانيات إلى كتب في الدعاء إلى الدين، وكتب في الحث على الجهاد، وكتب في الحض على لزوم الطاعة، وكتب في التنبيه على مواسم العبادة، وكتب في الهدن والعقود، وكتب بالتنويه والتلقيب، وكتب بالأوامر والنواهي إلى آخر هذه التقسيمات التي تطلب في مظانها (5).

وهي تقسيمات وضعت ليستفيد منها الكتاب في صناعتهم لا غير، لإغفالها ما لا يحتاجه الكاتب منها.

وقد اقتضى النظر أن نعمل الرأي في هذه التقسيمات برجعها إلى أصول جامعة تراعى فيها الفائدة من تحصيلها مجموعة، مغفلين فيها الغايات الصناعية القديمة، وولع القدماء بتصنيف الكتاب في طبقات. آخذين في الاعتبار أن كل نمط قابل أن تتنوع الطرائق الأسلوبية فيه. فإن التقسيم باعتبار الكتاب وطرائقهم مغفل لكثير من الأنماط، فإن فيهم من لم يكتب في كل الأنماط، ولكن التقسيم باعتبار الأنماط شامل لكل الطرائق ضرورة. ونقصد بالأنماط الصفات التي يكون فيها الأسلوب، ونقصد بالطرق الصفات التي يكون بها الأسلوب. فالنمط، إذن، هو ما تسخر له الطرق الأسلوبية. وهذه الأنماط في رأيي هي:

أولا: النمط القرآني.

ثانيا: النمط النبوي.

ثالثا: النمط الديني.

رابعا: النمط الوصفي.

خامسا: النمط السردي.

سادسا: النمط البديعي.

سابعا: النمط الخطبي.

ثامنا: النمط التخييلي.

تاسعا: النمط الجامع لأنماط مختلفة، والنمط الذي تتداخل فيه الأنماط.

وقد تنقسم بعض هذه الأنماط تقسيمات نذكرها في مكانها من العرض. وبيان القول في هذه الأنماط نذكره في ما يلي:

أولا: النمط القرآني. وهو نمط خاص، لا شبيه له ولا نظير، وإن كان فيه من الحجاج والسرد والبديع وغير ذلك مما قد يتوهم معه المتوهم أنه يمكن إدراجه تحت بعض تلك الأنماط. وذلك أنه يتميز بصفة الإعجاز التي تجعل منه نصا غير قابل للمضاهاة والاحتذاء. وإنما يستفاد من حفظه وكثرة قراءته تشرب الطبع لما يسميه الرافعي: الجملةَ القرآنية (6).     وإدراك العقل لأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز.

والذي نقترحه في هذا البرنامج من الكتب الموصلة إلى فهم هذا النمط من جهة بلاغة الأسلوب ثلاثة كتب هي: 1 ـ كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لجار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري ( 467 ـ 538 هـ ).

2 ـ وكتاب تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد المشهور بالتحرير والتنوير من التفسير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ( 1296 ـ 1394 هـ / 1879 ـ 1973 م ).

3 ـ وكتاب كفاية الألمعي في آية يا أرض ابلعي لشمس الدين أبي الخير محمد بن محمد بن الجَزَرِي. ( 751 ـ 833 هـ ).

فالأول أصل من أصول البلاغة، والثاني جامع لما سجله الأقدمون في هذا الباب، ومنهم من كتب على الكشاف كالطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني، مضيف أشياء خلت منها التفاسير لها علقة بإعجاز القرآن، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال(7).     والثالث ضرب من التأليف تــُتَـعلم منه كيفية استخراج وجوه بلاغية وإعجازية كثيرة من آية واحدة أو آيات قليلة. فإنه ألف هذا الكتاب كله في استخراج ما في آية واحدة من وجوه بلاغية، وهي قولـه تعالى في سورة هود: { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين }. هود: 44.

ثانيا: النمط النبوي.وهو تال في الرتبة للنمط القرآني، فهو ينزع من مشكاته، وإن اختلف عنه اختلافا يدل على أن صاحب الكلامين ليس واحدا. فالإكثار من قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والإدمان على ذلك موصل صاحبه إلى تمثل نسق بلاغي ” يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء، وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها، إلا وجدته في هذا النسق على مقدار من الاعتبار يفرده بالميزة، ويخصه بالفضيلة، لأن كلامه صلى الله عليه وسلم في باب التمكين لا يعدله شيء من كلام الفصحاء.. (8)”.

والذي نقترحه في هذا الباب أربعة كتب:

أولها: بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي. ( 476 ـ 544 هـ ).  فقد تحدث القاضي عياض في هذا الكتاب عما في هذا الحديث من ضروب الفصاحة، وفنون البلاغة، وأبواب البديع، وما فيه من العربية والمعاني والغريب، فأحسن ما شاء.

وثانيها: كتاب ” روائع من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم “. لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. وقد وقف فيه على خمسة وعشرين حديثا، واستخرج ما فيها من لغة وبلاغة وإعراب ومعان وفكر، مع دقة وإتقان. فكان بذلك نموذجا تعليميا جيدا يستفيد منه الطالب في هذه الأبواب فوائد شتى.

وثالثها: كتاب ” إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ” وهو الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب للرافعي.وهو على صغره عمدة في معرفة فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم .

ورابعها: كتاب شيخنا وأستاذنا العلامة اللغوي الدكتور عبد الرحمن بودرع الذي سماه: جوامع الكلم في البيان النبوي: نحو دراسة لغوية لبلاغة الجمع والإيجاز في الحديث النبوي. فإن فيه فائدةً جليلة من جهة التطبيق خاصة.

ثالثا: النمط الديني. ونقصد بالنمط الديني هذا النمط الذي تَـمَـلأ أصحابه من القرآن والحديث، ونظروا في كلام العرب، وأتقنوا فنون البلاغة ثم مزجوا كل ذلك مزجا وصاغوا منه أسلوبا جديدا موضوعه مستوحى من قصة قرآنية، كقصة يوسف  عليه السلام، أو قصة الخليل عليه السلام، أو قصة الذبيح عليه السلام، أو موضوعه وعظ، أو موضوعه مقدمة كتاب من كتب السيرة ممن عرف أصحابها بالتفنن في طرق الفصاحة، وذلك كالشفا، والمواهب اللدنية. وأظن أن أفضل من كتب في هذه المواضيع أبو الفرج جمال الدين بن علي بن محمد بن جعفر الجوزي ( ت: 597 هـ ). لذلك كان المقترح في هذا الباب: الباب الخامس من كتابه: المدهش.

ويُحتاج لفهم هذا الأسلوب إلى معرفة دينية واسعة، وإلى حفظ للقرآن الكريم، وإلى معرفة بأنواع البديع. ومثاله قول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ في قصة قارون: “.. سحب ذيل { فبغى } فقام قومه قومةً بزجر { لا تفرح }، وألقوا إليه نصائح { وابتغ }، { ولا تنس }، { وأحسن }، { ولا تبغ } فركب يوما في وقت اقتداره في أربعة آلاف مقاتل، وسُمُّ الهوى يَعمل في المقاتل، وركب معه في معمعته ثلثمائة جارية، وقد أنساه سفه الأمل أن سفينة الأجل جارية، فلما غلا وعلا حط إلى حضيض { فخسفنا به }.. (9)”.

رابعا: النمط الوصفي. ويقوم هذا النمط، في الغالب، على وصف شخص أو وصف حالة اجتماعية. فيستقصي الوصفَ من جميع جوانبه. والذي يتعلمه طالب العلم من هذا الأسلوب في الكتابة هو: طرق الاستقصاء في الوصف، والتغلغل في معانيه باستعمال العبارات المختلفة الدالة على أمر يمكن اختصار القول فيه لولا الحاجة إلى أن يُقلب المعنى من جميع جوانبه تقليبا لا يسمح للقارئ أن يغفل عن بعضه فضلا عن كله. مع العلم أن هذين النوعين وهما: وصف الشخص ووصف الحالة يتداخلان كثيرا فلا يتميزان إلا بإعمال النظر، وطول التأمل.

وقد دل على هذا المذهب التوحيدي بقولـه: ” هذا عمرو بن بحر أبو عثمان، وهو واحد الدنيا، كتب رسالة طويلة في ذم أخلاق محمد بن الجهم، ومدح أخلاق ابن أبي دُواد، وبالغ في الوصفين، وخطب على الرَّحْلَيْن، ولم يترك قبحية إلا أعلقها محمدا، ولا حسنة إلا منحها أحمد، وحتى جعل ابن الجهم مع إبليس في نصاب واحد، وابن أبي دواد مع ملك في نقاب واحد ؛ وهكذا ” عملُ من طَبَّ لمن حَبَّ ” إذا غضب فسب، أو رضي فمدح وأطنب(10).”

والذي نقترحه في هذا البرنامج، من الكتب التي يكتسب الطالب بقراءتها هذه القدرة، كتابان:

أولهما: كتاب البخلاء للجاحظ ( ت: 255 هـ ). فإن في كثير من نصوصه جملة صالحة من هذا الأسلوب الذي ذكرناه.

وثانيهما: كتاب أخلاق الوزيرين أو مثالب الوزيرين لأبي حيان التوحيدي ( ت: 414 هـ ). وهو كتاب جعله صاحبه في وصف مثالب الوزيرين الصاحب بن عباد وابن العميد.

خامسا: النمط السردي. وينقسم في جملته إلى خمسة أنواع، أربعة يتعلم منها الأسلوب البليغ وواحد قليل الفائدة في هذا المجال. فالأربعة المفيدة هي: النمط التعليمي، والنمط الحكمي، والنمط الذي نجده في أدب الرحلة، والنمط العلمي. والذي فائدته قليلة: النمط الفلسفي.

أ ـ نمط تعليمي بديعي: وهو نمط أنشأه أصحابه لكي يتعلم منه شداة الأدب طريقة الكتابة البديعية فصاغوه قصصا جعلوا موضوعها الكدية، ووصفوا فيها أحوالا اجتماعية، وجمعوا فيها آراء نقدية. فكانت على جانب عظيم في البلاغة. والذي نقترحه من الكتب المؤلفة في هذا الباب ثلاثة كتب هي:

أولا: مقامات بديع الزمان الهمذاني ( ت: 398 هـ )، بأحد شرحين هما: شرح الإمام محمد عبده، وشرح محمد محيي الدين عبد الحميد.

ثانيا: مقامات الحريري ( 446 ـ 516 هـ )، بشرح أبي العباس أحمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي ( 577 ـ 619 هـ ). وقد بلغ من شهرة هذه المقامات وجودتها أن الحريري ـ رحمه الله تعالى ـ وقع بخطه في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة على سبعمائة نسخة، وأن فريقا من علماء الأندلس وفدوا عليه ببغداد لقراءتها عليه منهم: الحسن بن علي البطليوسي، والحجاج بن يوسف القضاعي، وأبو القاسم عيسى بن جهور(11).

ثالثا: المقامات اللزومية للسرقسطي ( ت: 538 هـ ). وقد أنشأ السرقسطي هذه المقامات بعد اطلاعه على ما أنشأه الحريري، ولزم في نثرها ونظمها ما لا يلزم. وقد طبعت بتحقيقين: أولهما لشيخنا الدكتور حسن بن عبد الكريم الوراكلي، وثانيهما للدكتور بدر أحمد ضيف. والأول أجود لا محالة.

ب ـ نمط حكمي:وهو النمط الذي استعمله رجال من كبار الكتاب الذين اشتهروا بالبلاغة والتمكن من ضروب الكلام  لعرض ضروب من الحكمة على ألسنة الحيوان. والذي نقترحه في هذا الباب كتابان، هما: 

أولا: كتاب كليلة ودمنة لعبد الله بن المقفع ( ت: 137 هـ ).

ثانيا: كتاب النمر والثعلب لسهل بن هارون ( ت: 215 هـ ).

ج ـ النمط الذي نجده في أدب الرحلة: والمختار في هذا الباب ما كتب في أدب الرحلات من قِبل أدباء معتبرين. وذلك ككتاب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار الذي أملاه أبو عبد الله ابن بطوطة ( 703 ـ 779 هـ ) ونقحه وهذبه محمد بن محمد ابن جزي الكلبي ( ت: 756 هـ ).

وكرحلة ابن جبير ( 539 ـ 614 هـ ) الذي وصفه ابن الخطيب في الإحاطة بأنه ” كان أديبا بارعا، شاعرا مجيدا ” (12).

د ـ نمط علمي: وهو النمط الذي استحدثه المعري ( 363 ـ 449 هـ ) في رسالته: رسالة الغفران. حيث عرض جملة من القضايا اللغوية والنقدية والعروضية والتاريخية في أسلوب هو أقرب إلى أسلوب المسرح في العصر الحديث ؛ مع صياغة ذلك كله في لغة غاية في الفخامة والقوة والمتانة. وقد حققت هذا الكتاب الدكتورة عائشة عبد الرحمن ” بنت الشاطئ “، فيسرت قراءته على الراغبين.

هـ ـ نمط فلسفي: وقد ذكرنا أن هذا النمط قليل الفائدة، لضعف أسلوب الفلاسفة، وركة عباراتهم. وأجود هذه الكتب من جهة الأسلوب كتاب حي بن يقظان لأبي بكر محمد بن طفيل ( ت: 581 هـ ). قال عنه ابن الأبار ( 595 ـ 658 هـ ) في تحفة القادم: ” وشعره في غاية الجودة ” (13).   . ووصفه ابن الخطيب في الإحاطة بأنه ” كان بارع الأدب، ناظما، ناثرا (14)”   .

سادسا: النمط البديعي. ويتميز هذا النمط عن النمط الذي هو فرع عن النمط السردي وهو: النمط التعليمي البديعي بكونه لا سرد فيه ولا قصة، وبكونه يقوم من جهة الشكل على النظم، ومن جهة المضمون على مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن جهة المقصد والغاية على بيان أنواع من البديع بجعل كل بيت متضمنا لنوع، وقد يتضمن البيت استعارة أو تشبيها أو مجازا مما يدرس عادة في علم البيان. ومخترع هذه الطريقة، فيما نعلم، هو صفي الدين الحلي ( 677 ـ 750 هـ )، وقد سمي هذا النوع بالبديعيات. والذي نقترحه في هذا البرنامج منها بديعيتان، هما:

أ ـ بديعية صفي الدين الحُلي ( 677 ـ 750 هـ ) بشرحها لـه المسمى النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية. وقد طبعت تحت عنوان: شرح الكافية البديعية في علوم البلاغة ومحاسن البديع، بتحقيق الدكتور نسيب نشاوي. طبعها مجمع اللغة العربية بدمشق. وبشرح محمد ابن زاكور الفاسي ( 1075 ـ 1120 هـ ) المسمى: الصنيع البديع في شرح الحلية ذات البديع. وقد حققته الباحثة: بشرى البداوي، وطبعته كلية آداب الرباط.

ب ـ والحلة السيرا في مدح خير الورى لأبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي ( ت: 780 هـ ) المشهورة بمديحية العميان، بشرح أبي جعفر شهاب الدين الرعيني ( ت: 779 هـ )، المسمى: طراز الحلة وشفاء الغلة. وقد حققته رجاء السيد الجوهري وطبع بمصر.

سابعا: النمط الخطبي. ويقوم على الإقناع، وتختلف نماذجه بين أمر ونهي وحث ووصايا وأمثال وحجاج واستعطاف وسؤال. وهي متفرقة في المصادر القديمة ؛ غير أن بعض الأدباء جمع أجودها في ثلاثة أجزاء تحت عنوان: جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، فأحسن ما شاء، وهو أحمد زكي صفوت. وقد جعل الجزء الأول في بابين أولهما في خطب الجاهلية، وثانيهما في خطب صدر الإسلام. وجعل الجزء الثاني خاصا بخطب العصر الأموي، والثالث في خطب العصر العباسي الأول، وذيل الكتاب بخطب متفرقة. فأغنى المبتدئ بذلك عن الرجوع لدواوين الأدب. ولـه بعد ذلك، إن شاء، أن يرجع إلى مثل كتاب الشريف الرضي الذي جمع فيه خطب الإمام علي، كرم الله وجهه، والذي سماه نهج البلاغة، وإلى مثل كتاب ابن طيفور الذي سماه: بلاغات النساء، وجمع فيه طائفة قيمة من كلام بليغات النساء، وطرائف أقوالهن.

ثامنا: النمط التخييلي.وهو النمط الذي قوامه الشعر، وهو أوسع هذه الأبواب، فقد كانت العناية به عندهم أكبر من عنايتهم بكل هذه الأنماط التي ذكرناها مجتمعة. والذي نقترحه، في هذا البرنامج مما يدخل تحت هذا الباب، أصناف من الكتب:

أولها: كتب الاختيارات المشهورة التي وضعت لغاية تعليمية، ونختار منها:

أ ـ الأصمعيات. وهي اختيار أبي سعيد عبد الملك بن قُرَيــْب الأصمعي ( 122 ـ 216 هـ ).

ب ـ والمفضليات. وهي اختيار المفضل بن محمد بن يَعْلَى الضَّبي ( ت: حوالي 178 هـ ) وهي أقدم مجموعة صُنعت في اختيار الشعر العربي.

وثانيها: كتب الاختيارات التي شهد الناس بجودة اختيار أصحابها، فأكثروا الاهتمام بها شرحا وحفظا وتعليقا. ونختار منها:

أ ـ ديوان الحماسة لأبي تمام. بشرح الخطيب التبريزي ( 421 ـ 502 هـ )، أو بشرح أبي علي المرزوقي ( 421 هـ )، أو بشرح الأعلم الشنتمري ( 410 ـ 476 هـ ) المسمى بتجلي غرر المعاني عن مثل صور الغواني والتحلي بالقلائد من جوهر الفوائد في شرح الحماسة، أو بشرح ابن مرقد (15)  . وللمبتدئ ، إن شاء، أن يقتصر على الشرح الذي وضعه محمد عبد القادر سعيد الرافعي ملخِّصا لشرح التبريزي.

ب ـ وكتاب الوحشيات له، وهو الحماسة الصغرى. وقد علق عليه وحققه العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي ثم زاد في حواشيه شيخ العربية في العصر الحديث محمود محمد شاكر، فخرج غايــة في الإتقان والجودة.

وثالثها: كتب اهتم أصحابها بشرح قصيدة واحدة مشهورة، والذي نختاره من هذا النوع:

أ ـ حاشية على شرح بانت سعاد لابن هشام لعبــد الـقـادر بن عـمـر الـبـغـــدادي ( 1030 ـ 1093 هـ ).

ب ـ والذخر والعدة في شرح البردة  لمحمد علي بن علان الصديقي المكي ( ت: 1057 هـ ). وهي شرح لبردة البوصيري في المديح النبوي.

ج ـ ورفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة لأبي القاسم محمد الشريف السبتي ( 697 ـ 760 هـ ). وهي شرح لمقصورة حازم القرطاجني.

د ـ والغيث المنسجم في شرح لامية العجم لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ( ت: 764 هـ ). وهي شرح للامية العجم للطغرائي ( ت: 514 هـ ).

هـ ـ والفريد في تقييد الشريد وتوصيد الوبيد لأبي القاسم بن محمد بن عبد الجبار الفجيجي ( ت: 986 هـ ). وقد شرح فيها قصيدة عمه أبي إسحاق الفجيجي في الصيد المسماة: روضة السلوان.

و ـ والمسلك السهل في شرح توشيح ابن سهل لمحمد الصغير بن محمد الإفراني المراكشي ( ت: بعد 1155 هـ ).

ورابعها: كتب وضعت في شرح قصائد مشهورة. والذي نختاره منها:

أ ـ شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري ( 271 ـ 328 هـ ).

ب ـ وشرح أشعار الهذليين صنعة أبي سعيد الحسن بن الحسين السكري ( 212 ـ 275 هـ ).

وخامسها: كتب وضعت في شرح دواوين مشهورة أو جزء منها، والذي نقترحه منها:

أ ـ شرح ديوان المتنبي لعبد الرحمن البرقوقي ( 1293 ـ 1363 هـ / 1876 ـ 1944 م ).

ب ـ وشروح سقط الزند للمعري وهي ثلاثة شروح أولها: لأبي زكريا يحيى بن علي التبريزي ( 421 ـ 502 هـ )، وثانيها: لأبي محمد عبد الله البطليوسي ( 444 ـ 521 )، وثالثها: لأبي الفضل قاسم بن حسين الخوارزمي ( 555 ـ 617 هـ ). وقد طبعت جميعا في كتاب واحد بإشراف الدكتور طه حسين.

ج ـ وشرح هاشميات الكميت بن زيد الأسدي لأبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي ( ت: 339 هـ ).

تاسعا: النمط الجامع لأنماط مختلفة، والنمط الذي تتداخل فيه الأنماط.

والأول ضرب من الـتأليف فيه من كل الأنماط التي ذكرناها، ففيه من الشعر، ومن الخطبة، ومن الرسالة، ومن الوصية، ومن القصة، ومن المثل، ومن الوصف، ومن القرآن والحديث. ينتقل المؤلف فيها من نمط إلى نمط، مع تعدد المواضيع، وذلك ككتاب البيان والتبين لأبي عثمان عمرو بن بحرو الجاحظ ( ت: 255 هـ )، وكتاب الحيوان له، وكتاب البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي ( ت: 414 هـ ).

والثاني كالأول في تعدد الأنماط غير أن موضوع الكتاب يكون واحدا، فليس ينتهي فيه المؤلف من نمط ليستعمل نمطا آخر، وإنما تجد في الموضوع الواحد أنماطا شتى. وذلك ككتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف لابن حزم الأندلسي ( 384 ـ 456 هـ )، وكتاب الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ( ت: 414 هـ ).

وقد يجتمع الوصف والتخييل والإشارات السردية في كثير من الرسائل، فتكون من هذا الباب، والذي نقترحه منها: الرسالة الهزلية لابن زيدون ( 394 ـ 463 هـ ). تُقرأ بشــرح جـمــال الدين ابن نبـاتــــة المصـــري ( 686 ـ 768 هـ ) المسمى: سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.

ب ـ أنواع البلاغات:

يظهر من العرض الذي قدمناه عند الحديث عن أنماط الأساليب، ومن الكتب التي اقترحنا الرجوع إليها لاكتساب القدرة على الكتابة في كل نمط نمط، أنه يمكن رَجْعُ أنواع البلاغات إلى قدرات ثلاث هي:

1 ـ القدرة على الوضع والتأليف، أو بلاغة الوضع والتأليف. وهي بلاغة قائمة على الابتكار والاختراع والإنشاء ابتداء، وهي على مرتبتين: الإنشاء ابتداء من غير اعتماد مثال سابق. ومثال ذلك: مقامات البديع الهمذاني. والإنشاء ابتداء واحتذاء. ومثال هذا النوع مقامات الحريري والسرقسطي وغيرهما ممن كتب في هذا الفن.

2 ـ القدرة على التصرف في كلام الغير، وهي بلاغة النقل والأخذ. ومثالها: كتاب البصائر والذخائر للتوحيدي ( ت: 414 هـ )، وكتاب زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني ( ت: 453 هـ ). وعمادها جملة أمور هي:

أولا: جودة الاختيار.

ثانيا: حسن وضع الكلام المختار في سياقه.

ثالثا: حسن اختيار نظائره.

رابعا: جودة الاحتجاج به، عند الحاجة إلى ذلك.

خامسا: القدرة على شرحه وبيان غوامضه، إذا كان محتاجا إلى شرح وبيان.

سادسا: القدرة على تحليله واستنباط ما فيه.

سابعا: القدرة على رده وبيان تهافته، إذا كان قولا يرى المؤلف خلافه.

3 ـ القدرة على الاختيار، وهذا يكاد يكون خاصا بالشعر، وقد جعلوه علامة على بلاغة الرجل، حتى قالوا عن أبي تمام: هو في اختياراته أشعر منه في شعره. والاختيار أنواع هي:

أولا: الاختيار من كلام شخص واحد. ومثاله كتاب: دَرج الغرر ودُرج الدرر لعمر بن علي بن محمد المطَّـــوِّعي ( ت: نحو 440 هـ ).  جمع فيه طَرفا من طُرف نظم ونثر أبي الفضل الميكالي ( ت: 436 هـ ). وكتاب المختار من شعر بشار للخالديين ( أبو بكر محمد ( ت: 380 هـ ) وأبو عثمان سعيد ( ت: 390 ـ 391 هـ )) (16).

ثانيا: الاختيار الذي يضبطه نوع بلاغي واحد. وهذا قد يضبط بمكان وقد لا يضبط. فمثال النوع الأول كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس لابن الكتاني الطبيب، ومثال النوع الثاني  كتاب الهول المعجب في القول بالموجب  للصفدي ( ت: 764 هـ )، وكتاب الكشف والتنبيه على الوصف والتشبيه لـه، وكتاب بدائع البدائه لعلي بن ظافر الأزدي ( 567 ـ 613 هـ )، وكتاب الكناية والتعريض لأبي منصور الثعالبي ( ت: 429 هـ )، والأنيس في غرر التجنيس له.

ثالثا: الاختيار الذي يضبطه عصر معين. وبابه كتب التراجم ككتاب الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة لأبي الحسن علي بن موسى الأندلسي ( 610 ـ 685 هـ )، وكتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي ( ت: 429 هـ )، وكتاب خريدة القصر وجريدة العصر لعماد الدين الأصبهاني ( ت: 597 هـ ).

رابعا: الاختيار الذي يضبطه مكان بعينه. ومثاله: كتاب تحفة القادم لأبي عبد الله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي ( 595 ـ 658 )، وكتاب أنموذج الزمان في شعراء القيروان لابن رشيق القيرواني ( 390 ـ 456 هـ )، وكتاب الـمُـغرب في حُلى المغرب، وقد قُسم كتبا، كل كتاب في حُلى مملكة من ممالك الأندلس (17).

خامسا: الاختيار الذي يضبطه العصر والمكان معا. ومثاله: نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان. لأبي الوليد إسماعيل بن يوسف بن الأحمر الغرناطي الأندلسي ( ت: 807 هـ )، وهو اختيارات من شعر أندلسيي القرن الثامن الهجري.

سادسا: كتب المحاضرات. والذي نختاره منها أربعة كتب يستغني بها الطالب عن المطولات وهي:

أ ـ كتاب المنتحل للثعالبي ( ت: 429 هـ ).

ب ـ وكتاب الآداب لابن شمس الخلافة جعفر بن محمد بن مختار الأفضلي ( ت: 622 هـ ).

ج ـ وكتاب الفاضل في صفة الأدب الكامل لأبي الطيب محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء ( ت: 325 هـ ).

د ـ وكتاب لمح السحر من رُوح الشعر ورَوْح الشِّحْر لأبي عثمان سعيد بن لُـيُّـون التجيبي الأندلسي ( ت: 750 هـ ).

3 ـ في الكتب الموصلة إلى تذوق مختلف الطرق الأسلوبية وفهمها وامتلاك القدرة على التمييز بينها:

تبين لنا من خلال هذا العرض برنامج القراءة الذي نقترحه لكي يمتلك الطالب تلك القدرات المفقودة التي ذكرناها عند تحديد الإشكال، حيث جعلنا لكل نمط أسلوبي، ولكل قدرة بلاغية، برنامج قراءة يوصل إلى امتلاك تلك القدرة أو ذلك النمط وما تحته من طرائق أسلوبية، وبقي أن نرجع ما ذكرناه إلى أصوله الكبرى، وأن نشير إلى أمور لا تعود إلى بعض القضايا السابقة يــُـحتاج إليها في امتلاك القدرة على التمييز بين الطرائق والأنماط. فنقول:

قد بينا ابتداء أن رأس المشاكل التي تعترض الطالب هي عجزه عن فهم النص القديم، وأن ذلك من الصوارف التي تصرفه عن قراءته، وتجعله عاجزا عن تذوقه، ثم عاجزا بعد ذلك عن التمييز بين طرقه الأسلوبية وأنماطه، فكيف بتصور تطور هذه الطرق والأنماط أو الموازنة بينها ؟!.

وقد اجتهدنا في هذا البرنامج أن نقوم هذا الاعوجاج بالدلالة على ضروب القراءات التي يتوصل بها إلى سد كل ضرب ضرب من ضروب هذا الخلل.

1 ـ وأول ضروب الخلل هذه فقدان الطالب القدرة على الفهم والتذوق. والمدخل إلى امتلاك هذه القدرة أربعة أنواع من الكتب:

أ ـ كتب تساعد على تقريب ما تعسر على الطالب من فهم لغوي، وتلك هي كتب شروح الأشعار، وكتب شرح الشواهد النحوية، ومن أهمها في نظرنا كتابان هما: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي ( 1030 ـ 1093 هـ )، وهو كتاب شرح فيه صاحبه شواهد شرح الكافية للرضي الأستراباذي (18).     والمقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية لبدر الدين محمود بن أحمد بن موسى العيني ( ت: 855 هـ )، وهو كتاب شرح فيه صاحبه شواهد أشهر شروح ألفية ابن مالك، وهذه هي: شرح ابن الناظم، وشرح المرادي، وشرح ابن هشام، وشرح ابن عقيل.

ب ـ وكتب تساعده على تذوق النص الواحد وتقليب النظر فيه تقليبا فيه كثير من التفصيل، وتلك هي كتب شرح القصيدة الواحدة، ومثلها الكتب التي تساعد على فهم الرسالة الواحدة وتذوقها، ذكرنا منها كتاب سرح العيون.

ج ـ وكتب تساعد على امتلاك القدرة على التحليل البلاغي، وتلك هي كتب شروح البديعيات، وكتب شروح شواهد البلاغة. نقترح منها مما يمكن ضمه إلى ما ذكرناه كتاب: معاهد التنصيص على شواهد التلخيص. لعبد الرحيم بن أحمد العباسي ( ت: 963 هـ ).

د ـ وكتب تساعد على امتلاك القدرة على تذوق مختلف الأنماط لكونها كتبا جامعة لا تختص بنمط دون آخر. نقتصر منها على ذكر كتاب واحد هو كتاب الكامل في اللغة والأدب للمبرد ( 210 ـ 285 هـ )، وأفضل ما يقرأ به هذا الكتاب أن يقرأ بشرح سيد بن علي المرصفي ( ت: 1931 م ) الذي سماه: رغبة الآمل من كتاب الكامل.

2 ـ وثاني ضروب الخلل فقدان الطالب القدرة على التمييز بين الطرائق الأسلوبية والموازنة بينها. والذي نقترحه من الكتب التي ينبغي على الطالب العودة إليها لاكتساب هذه القدرة كتابان هما: كتاب الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي ( ت: 370 هـ )، وكتاب الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهلية والمخضرمين للخالديين ( أبي بكر محمد ( ت: 380 هـ) وأبي عثمان سعيد ( ت: 390 / 391 هـ ) ابني هاشم ).

3 ـ وثالث أنواع الخلل فقدان القدرة على تصور تطور الطرائق والأنماط، والمدخل إلى علاج هذا الأمر ما ذكرناه من أنواع كتب الاختيارات خاصة منها التي تقوم على الزمان أو المكان أو عليهما معا.

4 ـ ورابع أنواع الخلل فقدان القدرة  على الاحتذاء، والكتابة بأسلوب عربي فصيح. وهذا إنما يعالج بعلاج فقدان أنواع  القدرات الثلاث السابقة، وبإدمان النظر في ما عيناه من ضروب التآليف، فإذا وافق ذلك طبعا جيدا، وذكاء غالبا، ورغبة تعين على إدمان القراءة، فقد وقعت على سر التفاوت بين الناس في جودة الأسلوب، والقدرة على البيان. فإذا أضفت إلى ذلك حسن اختيار الكلام المقروء، فقد أضفت إلى ذلك سببا آخر إلى أسباب كثيرة جمعها أبو حيان في حديثه عن مذهب الجاحظ إذ قال: ” إن مذهب الجاحظ مُدَبَّرٌ بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد، بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ. وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها أحد “. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــ

الهوامش:

1   ـ مواد البيان. علي بن خلف الكاتب. 113.

2   ـ ن. تحرير التحبير لابن أبي الإصبع. 415.

3   ـ المصدر نفسه.

4   ـ ن. على سبيل المثال ما جاء في ” معجم الأدباء “، نقلا عن ابن النديم، في وصف طريقة الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، حيث قال: ” هو حسن التصنيف، مليح التأليف، يسلك طريقة الجاحظ.. “. معجم الأدباء لياقوت. 2 / 923.

5   ـ ن. على سبيل المثال: مواد البيان لعلي بن خلف الكاتب.

6   ـ تحت راية القرآن للرافعي. 26 ـ 33.

7   ـ ن. التحرير والتنوير لابن عاشور. 1 / 8.

8   ـ إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي. 338.

9   ـ المدهش لابن الجوزي. 103.

10   ـ أخلاق الوزيرين للتوحيدي. 42 ـ 43.

11   ـ قلت: فتأمل هذه الهمم العالية، وانظر في همم طلبة العلم اليوم، يرفض أحدهم قراءتها، وهو يزعم أنه مشتغل بالأدب، وقد يُسر له أمر قراءتها بالطبع الجيد، والتحقيق المفيد، والشرح الميسر، مع توفر النسخ في مكتبة الكلية، ووجود الأستاذ، وشدة الإلحاح، ومع أنه مضطر، في كثير من الأحيان، إلى أن يمتحن فيها، فنجاحه مرتبط بقراءتها. فإن ظل الأمر على هذا الحال فإن أمر العربية إلى زوال.

12   ـ الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب. 2 / 231.

13   ـ تحفة القادم لابن الأبار. 96.

14   ـ الإحاطة. 2 / 479.

15   ـ وهو من المجاهيل، وينسب هذا الشرح خطأ لأبي العلاء المعري.

16   ـ وقد شرحه أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن زيادة الله التُّجِيبي البَرقي ( ت: بعد 441 هـ ).

17   ـ ألف هذا الكتاب بالموارثة في مائة وخمسة عشر عاما ستة من أدباء الأندلس تداولوه بالتنقيح والتكميل واحدا بعد واحد، آخرهم علي بن سعيد ( ت: 685 هـ ).

18   ـ والكافية أحد كتابين لابن الحاجب ( ت: 646 هـ ) أحدهما في النحو، وهو: الكافية، والآخر في الصرف، وهو: الشافية.

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق