مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم

 

                                                                                          

 

         إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

هو الإمام، المفتي، المقرئ، المحدِّث، راوية الإسلام أنس بن مالك بن النَّضْر بن ضَمْضَم بن زيد بن حرام بن جُنْدُب بن عامر بن غَنْم بن عدي بن النَّجَّار، أبو حمزةَ الأنصاريُّ الخزرجيُّ النَّجَّارِيُّ المدنيُّ، خادمُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقرابتُه من النساء، وتلميذه وتبعُه، وآخر أصحابه موتاً([1]).

وأمُّه أمُّ سُلَيْم بنت مِلْحان «الرُّميصاء» الصحابية الجليلة.

يوم مبارك:

يحدِّثنا أنس بن مالك عن يوم مبارك حدث في حياته فيقول:

قَدِمَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وأنا ابن ثمان سنين، فَأَخَذَتْ أُمِّي بيدي، فانطلقتْ بي إليه فقالت: يا رسولَ الله لم يبق رجلٌ ولا امرأةٌ من الأنصار إلاَّ وقد أتحفَكَ بتُحفة، وإني لا أقْدِرُ على مَا أُتْحِفُكَ به إلاَّ ابني هذا، فَخُذْهُ، فَلْيَخْدُمْكَ ما بدا لك. قال: «فَخَدَمْتُهُ عشر سنين، فما ضربني، ولا سَبَّني، ولا عَبَسَ في وجهي». رواه الترمذي([2]).

وفي رواية لمسلم: «قالت: يا رسول الله ! هذا «أُنيْس»([3]) ابني أَتَيْتُكَ به يخدمك، فادع الله له. فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته»، فالله أكثر مالي حتى إن كَرْماً لي لتحمل في السنة «مرتين» !! وَوُلِدَ لِصُلْبِي مائة وستة([4]).

وفي رواية أنه قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا غلام فقالت: يارسول الله خُوَيْدِمُكَ([5]) أُنَيْس فادع الله له.

فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة»

قال: فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة([6]).

قال أبو العالية الرياحي: كان له– أي لأنس، رضي الله عنه- بستان، يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها رَيْحان، يجيءُ منه ريحُ المِسْك!!»([7]).

لاَزَمَ أنس بن مالك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسع سنوات أو عشر سنوات…فحمل علما كثيراً…ونقل إلينا أدباً وفيراً عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ففي «صحيح مسلم» عن أنس قال:

لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن أَنَساً غلامٌ، كيِّسٌ، فلْيَخْدُمْكَ.

قال: فَخَدَمْتُه في السفر والحَضَر، والله ما قال لي لشيءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟([8]).

الرسول، صلى الله عليه وسلم، يُداعبه!!.

قال أنس: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أحسن الناس خُلُقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله لا أذهب– وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أَمُرَّ على صبيان وهم يَلْعَبُونَ في السوق فإذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي قال: فنظرتُ إليه وهو يضحك فقال: «يا أُنيْس أَذَهَبْتَ حيثُ أمَرْتُك؟».

فقلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله([9]).

وفي رواية لأحمد عن أنس قال:

«خَدَمْتُ النبي، صلى الله عليه وسلم، عشر سنين فما أمرني بأمر فَتَوَانَيْتُ([10]) عنه أو ضَيَّعْتُه فَلَامَنِي، وَإِنْ لاَمَنِي أحدٌ مِنْ أهله إلاَّ قال: «دَعُوه فَلَوْ قُدِّرَ– أو قال قُضِيَ- أن يكون كان»([11]).

العبر المستخلصة من هذه القصة:

1- من طبع الإنسان أن يفرح بكل ما يُحِبُّه، ومن جملة ذلك: اليوم الذي فاز فيه بتحقيق مكسب مادي، أو معنوي، أو هما معاً؛ كما حصل ذلك للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه.

2- دخول أنس رضي الله عنه في هذا السِّن لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، يُعَدُّ دخولاً موفَّقاً في أعظم مدرسة نبوية لتلقي القرآن الكريم، والأخلاق العملية، وحفظ السُّنَّة النَّبوية القولية والفعلية، وباقي العلوم والمعارف الرَّبَّانية، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّين»([12]).

3- توجيه الوالدين للأطفال التوجيه الحسن، له أهمية كبرى في حداثة سِنِّهم، لِضَمَانِ مستقبلهم…

4- تفاني الصحابة وخصوصاً الأنصار، رضي الله عنهم، في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، عند قدومه إليهم، وتقديمهم الهدايا المختلفة؛ لأن الله عز وجل يقول في شأنهم: (وَيُوثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)([13]). والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدايا؛ كما ورد ذلك عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الهديَّة، ويُثيبُ عليها([14])»([15]).

5- الهدية من أعظم الأسباب التي تُحَبِّبُ المؤمنين بعضُهم إلى بعض، وهي سببٌ عظيم للتآلف بين القلوب، وَشُيُوعِ المودَّة والأُلفة والتَّرَابُطِ بين أفراد المجتمع المسلم.

6- أعظم حقوق الخَدَمِ تَضَمَّنَتْهَا التوجيهات النبوية، القولية والعملية. لقول أنس رضي الله عنه: «خدمته عشر سنين، فما ضربني، ولا سبَّني، ولا عبس في وجهي». وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بَرِيئاً مِمَّا قَالَ لَهُ، أَقَامَ اللهُ عَلَيْهِ الحَدَّ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال»([16]).

7- طلب الدُّعاء من الأخيار، ولا سيما إذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم، يُرجى قبوله، وتحقيق بركته. وهناك نماذج كثيرة في السيرة النبوية تحقَّقت بفضل الدُّعاء النبوي، ومنها ما تحقق للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه.

8- المؤمن يرجو المزيد من الخير والبركة، ويشكر نِعَمَ الله الكثيرة؛ لقوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد)([17]).

9- دعاؤه صلى الله عليه وسلم، لأنس بكثرة المال، وكثرة الذرية تَظْهَرُ فائدته في المال الصالح، والذُّرِّية الصالحة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِح»([18])، وقوله في حديث الثَّلاثة الذين لا تنقطع أعمالهم: «إِذَا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَه»([19]).

10- صُحْبَةُ الأخيار يَنْتُجُ عنها مظاهر العِزَّة، ورفع المِقْدَار، ولا سيما صحبة سَيِّد الأبرار صلى الله عليه وسلم.

11- نجابة الأطفال تُبَشِّر بنبوغهم في المستقبل، وتُؤَهِّلُهُم لتحمل الأمانات العظمى.

12- سموُّ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، في معاملاته كلِّها، ومنها مداعباته للصِّبيان، والضَّحك معهم، والتلطُّف بهم، والأمر بالتجاوز عن أخطائهم.


([1])  سير أعلام النبلاء: 3/ 395- 396.

([2])  هذا اللفظ ليس عند الترمذي، وإنما هو لأبي يعلى كما في: «مجمع الزوائد»: 1/ 271، 272. وله تتمة طويلة عنده، روى بعضها الترمذي في مواضع متفرقة من «سننه»، انظر: (589) و(2678) و(2698) وهو في: «تاريخ دمشق» عند ابن عساكر: 3/ 78 ب، من طريق أبي يعلى. والحديث مرفوع، مسند أبي يعلى: شريك/ أنس بن مالك، ص: 690.

([3]) تصغير «أنس»، والتصغير عند النحاة يكون لعدة أغراض، ومنها: تصغير حجم الشيء، وتقليله، سواء كان ماديا، أو معنويا.

([4])  أخرجه الترمذي في كتابه: الجامع، حديث رقم: (3829): 6/ 151. والبخاري في: «الأدب المفرد» بنحوه، باب من دعا بطول العمر، حديث رقم: (653). ص: 169- 170. حديث حسن صحيح.

([5])  تصغير «خادم» للتحبُّب، صُغِّر تلطُّفاً، وطلبا لمزيد من الشفقة عليه، وفيه إيثار الأم لولدها.

([6]) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه، حديث رقم: (2481): 2/ 1159.  

([7])  أخرجه الترمذي في كتابه: الجامع، حديث رقم: (3833)، وحسنه. رجاله ثقات. وأخرجه الطيالسي في مسنده، حديث رقم: (2100): 3/ 486- 487.

([8]) رواه مسلم في الصحيح. كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، حديث رقم: (2309): 2/ 1092.

([9]) رواه مسلم في الصحيح. كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، حديث رقم: (2310): 2/ 1092- 1093.

([10]) أي: فتأخرت.

([11]) مسند أحمد. مسند أنس بن مالك، حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، رقم: (13418)، ج: 21/ 102- 103.

([12]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يُفقِّهْه في الدِّين، حديث رقم: (71)، ص: 30. صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، حديث رقم: (1037): 1/ 458.

([13]) سورة: الحشر، من آية: 9.

([14]) يثيب عليها: أي يكافئ صاحبها، فيعطيه عوضا عنها ما هو خير منها، أو مثلها. صحيح البخاري، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، كتاب الهبة، باب المكافأة في الهبة، حديث رقم: (2445)، ص: 913.

([15]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب المُكَافَأَةِ في الهبة، حديث رقم: (2585)، ص: 627. سنن الترمذي، باب ما جاء في قبول الهدية، والمكافأة عليها، حديث رقم: (1953): 3/ 504.

([16]) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب قذف العبيد، حديث رقم: (6858)، ص: 1696.

([17]) سورة: إبراهيم، من آية: 7.

([18]) رواه أحمد في مسنده، حديث رقم: (17763). قال المحقق (شعيب الأرنؤوط): «إسناده صحيح على شرط مسلم»، وفي رواية: «نِعْمَ المال الصَّالح لِلْمَرْءِ الصَّالِح»: 29/ 299.  

([19]) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثَّواب بعد وفاته، حديث رقم: (1631): 2/ 770.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق