مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامأعلام

أم كلثوم، رضي الله عنها، الصابرة التوابة الطاهرة

 فضيلة العزيزي

“ولدت رضي الله عنها بمكة، وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلّف عثمان بن عفان على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة… فلم تزل عنده إلى أن ماتت ولم تلد شيئا”[1].

إذا كان المجتمع القرشي قبل أن يشرق عليه نور الإسلام يكره البنات، ويرى أن وأدهن خير من حياتهن، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم، رُزِقَ بأربع شعاعات: زينب ورقية وأم كلثوم والزهراء، وكان بيته يفيض بالحنان والحب والرعاية لهن.

ولادة أم كلثوم رضي الله عنها وطفولتها:

“وترقرقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا لسلامة زوجته الطاهرة خديجة رضي الله عنها، فقد وضعت له الأنثى الثالثة من صلب طاهر مشع بالنور والإيمان”[2].

 وتكبر أم كلثوم بصحبة أختها رقية التي كانت ملازمة إليها وكأنهما توأم واحد، ولم تكن تعتمد على أمها في اختيار لباسها، “بل كانت تختار ألوان ثيابها، وألوان زينتها ونوعها بنفسها… وكانت أم كلثوم منذ صغرها مغرمة بارتداء نوع معين من القماش، يدخل فيه الخيط الحريري في صناعته… وارتضت خديجة لابنتها هذا النوع على الرغم من ارتفاع ثمنه”[3]، وعندما قاربت العاشرة من سنها أصبحت فتاة مطواعة ناضجة حريصة على تلبية طلبات أبويها، حتى أنها أصبحت تحرص على أن تذهب بالماء والأكل إلى أبيها وهو في غراء حراء، قاطعة مسافات وعرة وشائكة تكاد تقطع الأنفاس.

زواجها قبل النبوة:

وتسير الأمور على أحسن حال، ولا شيء يُسجّل غير النبوغ والنضوج المبكرين -للفتاة الطاهرة- اللذان لفتا نظر “أم جميل” –زوجة عمّ  الرسول صلى الله عليه وسلم- التي أسرعت لخطبتها لابنها الأصغر “عتيبة”، وخطبت رقية لابنها الأكبر “عتبة”، ورغم التخوف الذي انتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة –خوفا من معاملة أم جميل القاسية لابنتيهما، ولسانها السليط الذي لا يوقر أحدا- إلا أنهما قبلا تزويج بنتيهما لابني أبي لهب، وما هي إلا فترة حتى زفت الفتاتان إلى ابني عم أبيهما وتمت الفرحة.

إسلام أم كلثوم رضي الله عنها:

“وبزغ فجر الإسلام على دنيا العرب، وحمل الرسالة محمد الأمين صلى الله عليه وسلم،  فراح يدعو أقرب الناس إليه صحبة وقربى، فأرسلت السيدة خديجة إلى ابنتيها رقية وأم كلثوم (رضي الله عنهن) للحضور إليها وهناك وجدا زينب والصغيرة فاطمة، فبدأت الأم العظيمة خديجة رضي الله عنها بالحديث معهن، فقالت :”إن والدكن قد أرسله الله إلى الناس جميعا بالتوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت منهن النطق بالشهادتين فنطقن بها… ثم طلبت منهن إخفاء هذا الأمر عن الناس جميعا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا”[4]. عادت أم كلثوم وأختها رقية إلى البيت الذي يعيشان فيه وبدأت الأمور تنكشف يوما بعد يوم، فعرفتا أن بيت عبد العزّى لم ولن يؤمن بما جاء به والدهما، وأنهما يعاديان محمدا صلى الله عليه وسلم وخديجة رضي الله عنها، ثم سمعا أم جميل تصف النبي صلى الله عليه وسلم بصفات سيئة. وكان أبو لهب أكثر من تصدّى للدعوة الإسلامية، حيث أخذ يسخر ويتهكم من محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان لا يطيق أن يَمَسَّ الأذى ابن أخيه محمدا فكيف يهتاج ويهدد قائلا: -يا معشر قريش: إن محمدا يسفه أحلامنا ويفتنكم عن دين آبائكم-“[5]. تأزمت الأمور بين ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم وعائلة زوجيهما، “فقد صارا لا يطيقهما أبو لهب وحمالة الحطب ولا عتبة ولا عتيبة، ثم ناداهما زوجاهما وطلبا منهما أن يذهبا إلى بيت أبيهما صلى الله عليه وسلم”[6].

 ونزلت على محمد صلى الله عليه وسلم آيات بيّنات في شأن عمه عبد العزّى وزجته أم جميل: قال تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)، سورة المسد، الآية 1-5. ولشدة العداوة التي أظهرها أبو لهب وزوجته للإسلام فقد وصل الكفر بأم جميل إلى حدّ أنها ترمي الأوساخ والقاذورات في طريقه عليه السلام حتى يتعثر فيها. واتفقت قريش على أن يردوا أصهار النبي بناته إليه، لعل هذا يشغله عن الدعوة وعن نشر الدين الإسلامي، وتم طلاق رقية وأم كلثوم التي كانت ما تزال طفلة لم تبلغ بعد، وجرى حوار ساخن بين عتيبة والرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تلفظ عتيبة بكلام قبيح في وجهه عليه السلام، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على سفاهة عتيبة أن قال: (أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبا من كلابه)[7]، والذي تحقق بقدرة العلي القدير حيث افترسه أسد وفدغ رأسه وهو نائم في وسط القوم.

وهكذا نجت أم كلثوم من نكد العيش مع حمالة الحطب وابنها، وقد كانت مسرورة بالعودة إلى عائلتها والعيش معهم من جديد، وبعدها بقليل تزوجت رقية بعثمان بن عفان وهاجرا إلى الحبشة. وبقيت أم كلثوم مع أختها الصغرى في بيت أبيها تساعدان أمهما وتخففان عن أبيهما ما كان يتلقاه من أذى الكفار، وقد حضرت أم كلثوم المقاطعة التي أقامها المشركون على المسلمين لمدة ثلاث سنوات، حيث لم يكن يصل إليهم الطعام إلا سرا. وذات يوم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم –وقد نثر أحد من المشركين التراب على رأسه- فقامت أم كلثوم تغسل التراب عن رأس أبيها وهي تبكي، ويقول لها أبوها صلى الله عليه وسلم: (لا تبكي يا بنية، إن الله مانع أباك)[8]، وتمادت قريش في تصديها للرسول صلى الله عليه وسلم حتّى كادوا يخنقونه ذات يوم وهو قائم يصلي، “فما أن سمعت أم كلثوم هذه الضجة حتى جاءت مسرعة إلى الكعبة، وأسرعت إلى أبيها وأزالت عنه القادورات التي رماها عليه المشركون، وبعد ذلك أخذت تعيب على الكافرين ما يفعلون بحق النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثائرة هائجة متوعدة الكفار بالعقاب إن عاودوا الكرة أو آذوا النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى”[9].

 مرضت خديجة وخارت كل قواها ولم تعد تستطيع قضاء حوائجها بنفسها وكانت أم كلثوم هي من تساعدها على قضاء حوائجها، وبعدما أسلمت الروح إلى بارئها حزنت كل الحزن على أمها. وبعدها اشتد إيذاء الكفار للمسلمين ثم “أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، فودع أم كلثوم وفاطمة (رضي الله عنهما)[10]،-ورعاية الله سبحانه وتعالى تحرسهما-، وبعد وصوله صلى الله عليه وسلم سالما إلى يثرب أرسل زيدا بن حارثة لاصطحاب ابنتيه وزوجته سودة بنت زمعة، هنالك بدأت أم كلثوم حياة جديدة، فقد شهدت غزوة بدر… إلا أن الفرحة لم تكتمل فقد شهدت مرض أختها رقية، وظلت بجانبها لتقضي لها بعض حوائجها حتى توفيت.

زواجها من عثمان رضي الله عنهما:

ولما ماتت أختها رقية تزوجها عثمان رضي الله عنهما لتحُلّ أم كلثوم زوجة كريمة معززة عند عثمان بن عفان بعد] موت[ أختها رقية… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوّجك أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها)[11]، ويحظى عثمان رضي الله عنه بلقب (ذي النورين) لأنه حظي بالتزوج من بنتي رسول الله عليه السلام… “وقد عاشت أم كلثوم عند عثمان بن عفان ست سنوات… ولم تلد له”[12]، ومضى عامان بعد صلح الحديبية، وأدركت أم كلثوم رضي الله عنها هذا الفتح العظيم.

وفاة أم كلثوم رضي الله عنها:

“بعدها ذبلت هذه الوردة الغضة، وفاضت روح أم كلثوم راضية مرضية”[13] في شعبان سنة تسع من الهجرة عليها رضوان الله تعالى، وودّع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلذة كبده دامع العين مثقل القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كن عشرا لزوّجتهن عثمان)[14]

نشر بتاريخ 28/05/2012

——————————————————————————–

[1] نساء حول الرسول، لعمر أحمد الراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الثالثة، 2006م، الصفحة 150.

[2] – نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم، الدكتور بسام حمامي، الطبعة الأولى، 1413هـ/1993م، دار دانية، بيروت، الصفحة 255.

[3] – بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، زينب- رقية- أم كلثوم- فاطمة، أحمد إبراهيم الدسوقي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1432هـ، 2010م، الصفحة 157،158.

[4]  أبناء النبي البنون والبنات وأمهاتهم رضي الله عنهم أجمعين، إبراهيم محمد حسن الجمل، دار الفضيلة، بدون طبعة، القاهرة، مصر، الصفحة 120.

[5]  أمهات المؤمنين وبنات الرسول صلى الله عليه وسلم، وداد سكاكيني، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة 2، 1992م.الصفحة128.

[6] أبناء النبي البنون والبنات وأمهاتهم رضي الله عنهم أجمعين، إبراهيم محمد حسن الجمل، دار الفضيلة، بدون طبعة، القاهرة، مصر، الصفحة 122.

[7] خلاصة سير سيد البشر، أحمد محب الدين الطبري أبو العباس محب الدين، الطبعة الأولى 1426هـ/5/2005م، دار المعارف العثمانية، الصفحة 185.

[8]  تاريخ الطبري تاريخ الأمم والملوك، للإمام ابن جرير الطبري، دار صادر، الجزء الأول، الطبعة الثالثة 1429هـ/2008م، بيروت، الصفحة 341.

[9] بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، زينب- رقية- أم كلثوم- فاطمة، أحمد إبراهيم الدسوقي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1432هـ، 2010م، الصفحة 171.

[10] أبناء النبي البنون والبنات وأمهاتهم رضي الله عنهم أجمعين، إبراهيم محمد حسن الجمل، دار الفضيلة، بدون طبعة، القاهرة، مصر، الصفحة 126.

[11] سنن ابن ماجه، كِتَاب الْمُقَدِّمَةِ، أَبْوَابُ فِي فَضَائِلِ أَصَحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية.

[12] نساء حول الرسول صلى الله عليه وسلم، الدكتور بسام حمامي، الطبعة الأولى، 1413هـ/1993م، دار دانية، بيروت، الصفحة 262.

[13] نساء في حياة خاتم الأنبياء، الدكتور ياسين غضبان، دار الوفاء، الطبعة الأولى،1426 هـ/2005م، الصفحة118.

[14] الطبقات الكبرى، محمد ابن سعد، الجزء الثامن، الصفحة 38.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق