مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامأعلام

أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله الولد دون غيرها من النساء” رواه أحمد.

من النساء اللواتي خلّد التاريخ أسماءهن وتركن بصمة بارزة في مسار الدعوة الإسلامية، وأسهمن في إنجاحها نساء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ونذكر على رأسهن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ففي العصر الذي كانت المرأة توأد وتدفن حية، وتحتقر ويحط من شأنها، جاءت رسالة الإسلام لتنصر المرأة وترفع من شأنها، فكان أول من نصر وآمن بهذه الرسالة امرأة، فزادها الله تشريفا ورفعة.

كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأم أولاده زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة والقاسم وعبد الله[1]، وأولى أمهات المؤمنين، وأول من آمن به صلى الله عليه وسلم وصدَّقه، وأول الناس إسلاما برسالته صلى الله عليه وسلم.

ولدت ونشأت في بيت شرف ووجاهة، وجمعت بين الأخلاق العالية والمكارم النبيلة، فكانت من أهل الفضل والكرم، تزوجت مرتين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كانت من النساء البارزات في المجتمع المكي، تُنافس الرجال في التجارة وتشرف على قوافل بين مكة والمدينة، ويصف الأستاذ إبراهيم محمد حسن الجمل حياة السيدة خديجة التاجرة فيقول: “كانت تجارة السيدة خديجة رضي الله عنها مباركة، تعود عليها بالمال الكثير والخير العميم، وكان بيت ضيافتها مفتوح الأبواب للمعوز وللأقارب والأهل ومن يأوي إليها من الصديقات، تطعم الجائع وتكسو الفقير، وتساعد المحتاج، وكثيرا ما يأتي بيتها الكثيرات من بنات عمومتها فيجالسنها، وينلن من خيراتها، ويصاحبنها في الذهاب والعودة فيحطن بها، وكأنها ملكة غير متوجة تستشار في الملمات، ويؤخذ برأيها في الشدائد.”[2]

تمتعت السيدة خديجة رضي الله عنها في هذا المجتمع بمكانة عالية، وقد روى ابن سعد عن نفيسة بنت منية أنها قالت: “كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، جلدة، شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا”[3]، ولقبت بعدة ألقاب أشهرها “الطاهرة” و“سيدة نساء قريش”، كما نالت شرف لقب “سيدة نساء العالمين” على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وهو لقب لم تنله سيدة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء في  ذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرهن باستثناء السيدة فاطمة بنت الرسول، روي عن الإمام أحمد عن ابن عباس قال:” خط رسول الله في الأرض أربعة خطوط، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال رسول الله : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون”.

تزوجت السيدة خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد فضَّلته على باقي رجال قريش الذين تقدموا لخطبتها، لِما رأت منه من الصدق والأمانة وحسن الخلق رغم قلة سعة يده، وقد كان ذلك نِعم الاختيار، كيف لا وهي التاجرة الخبيرة بأمور المال والمعاملات، تمتلك من أمر نفسها وحريتها ما يمتلكه الرجال، فبالإضافة إلى تدبير مؤسساتها التجارية، وإشرافها على القوافل، فهي تنتقي الرجال الأكفاء لرعاية مصالحها، وتؤمنهم على مالها، فبالأحرى عند اختيار الزوج الصالح الذي سيرعى حقوقها وتؤمنه على نفسها وتشاركه حياتها.

ولما جاء الإسلام عزز مكانتها، ودعَّم مركزها، فصارت رضي الله عنها بالإضافة إلى وضعها السابق أما للمؤمنين، وأضحت الدعامة الأولى التي رسخت الدعوة وقوَّت أركانها، ومنذ اليوم الأول للبعثة فتحت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قلبها وعقلها وبيتها للإسلام، كما فتحته قبل ذلك لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكان لأم المؤمنين خديجة بنت خويلد دور مهم في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم عند البعثة، ما يؤكد كمال عقلها وقوة يقينها في الله تعالى، ووقفت بجواره صلى الله عليه وسلم بكل ما تستطيع من قوة، حتى مرت الشدة بسلام، فها هي تُطمئِن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل أول مرة فتقول: “كلا والله لا يخزيك الله أبدا، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”[4]، فأجملت في قولها له صلى الله عليه وسلم كمال العقل وقوة الإيمان والفهم العميق للحياة، وبيَّنت له رضي الله عنها أن ذلك كله خير، فمادام صلى الله عليه وسلم رجلا صالحا لا يؤذي لا القريب ولا البعيد ولا يأتي من ورائه إلا الخير وكل الخير، فمعنى هذا أن هذه الأمور التي تحدث له بشارة خير قريبة، ولذلك قالت له: “أبشر يا ابن عم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة”، ثم اصطحبته بعد ذلك إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، الذي كان على دين أهل الكتاب، تريد أن تسأله عن هذا الأمر الغريب، ربما يعرف شيئا عن جبريل عليه السلام، ” فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم استمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جدعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم، قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي”[5].

كانت امرأة مواقف، فإلى جانب مساندتها للنبي صلى الله عليه وسلم وتهوين الصعاب عليه، فقد كانت أم المؤمنين خديجة خير نصير وأهم داعم لبيت النبوة وللدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى بكل ما استطاعت ماديا ومعنويا، تقف إلى جانب المستضعفين وهي سيدة القوم وصاحبة الثروة، وترد الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: “وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاء به من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها رضي الله عنها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدق وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى”[6]، وحتى في أحلك الظروف كما حدث في عام المقاطعة (أي في حصار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شعب أبي طالب الذي دام ثلاث سنين)، لم تتردد في الخروج مع رسول الله -على كبر سنها- لتشاركه أعباء ما يحمل من أمر الرسالة الإلهية وتآزره وتواسيه بنفسها وبمالها، في الوقت الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم في أشد الاحتياج للمواساة والمؤازرة والنصرة، فأقامت في الشعاب ثلاث سنين وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى.

خصها الله عز وجل بالبشرى في حياتها على لسان جبريل عليه السلام، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:” أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بغار حراء فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب”[7].

ذكرها العلماء وأثنوا عليها كثيرا، قال عنها الحافظ الذهبي: “خديجة أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد، وثبت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة.

ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها.

ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاء منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنها كانت نعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها ويتجر هو صلى الله عليه وسلم لها”[8].

ولمكانتها العالية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد حفظ لها صلى الله عليه وسلم ذلك الفضل في حياتها ولم يتزوج عليها إلى أن قضت نحبها، وحزن لفقدها حزنا شديدا، وسمى ذلك العام بعام الحزن، قال ابن إسحاق واصفا حال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها:” ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يشكو إليها، ويهلك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه”[9].

كان يصل صديقاتها بعد وفاتها ويحسن إليهن، فعندما جاءت جثامة المزنية لتزور النبي صلى الله عليه وسلم أحسن استقبالها، وبالغ في الترحيب بها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: “يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان[10]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول:”أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة [11]

هذه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أول من آمن برسالة الإسلام، “وستدخل في الإسلام ملايين النساء، لكنها ستظل منفردة دونهن بلقب المسلمة الأولى التي آثرها الله بالدور الأجل في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم”[12]


[1] طبقات ابن سعد 1/133، والكامل في التاريخ 2/40.

[2] “أبناء النبي صلى الله عليه وسلم “، إبراهيم محمد حسن الجمل، دار الفضيلة، دون تاريخ الطبع، الصفحة: 38

[3] طبقات ابن سعد 1/131.

[4] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

[5] رواه البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، في كتاب بدء الوحي، رقم: 4.

[6] السيرة النبوية لابن هشام، دار الحديث القاهرة، طبعة:1428هـ/ 2006م، الجزء الأول، الصفحة:174.

[7] رواه البخاري في مناقب الأنصار وفي التوحيد ورواه مسلم برقم (2432 و2433)

[8] “سير أعلم النبلاء” شمس الدين الذهبي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشرة: 1466 هـ/ 2001م، الجزء الثاني، الصفحة: 109-110.

[9] “السيرة النبوية” لابن هشام، الجزء الثاني، الصفحة:301.

[10] رواه الحاكم.

[11] رواه مسلم (2435- 4464).

[12] “تراجم سيدات بيت النبوة رضي الله عنهن” عائشة بنت الشاطئ، دار الحديث القاهرة، طبعة 2007م، الصفحة 176.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. موضوع متميز خاصة أنه يتكلم عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها
    أقدر لك هذا المجهود وتمنياتي لكي التوفيق والسداد

  2. السلام عليكم
    أشكرك أخت نادية على هذا الموضوع الراقي والمستوى السلس الذي يليق بتعريف الطاهرة زوج الرسول عليه الصلاة والسلام خديجة رضي الله عنها، وندعو الله عز وجل أن يهدي نساء المسلمين إلى الطريق السليم ويقتدن بأمهن خديجة رضي الله عنها
    بالتوفيق إن شاء الله
    تحياتي الخالصة

  3. موقع متميز
    نشكر الأخت الباحثة على تقديم كل ما يفيد ويحيي القيم السامية باختيار نماذج انسانية راقية

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق