مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

أصل عمـل أهـل المـدينـة:رسوخ في الاشتغال و تمكين في الاستدلال

لما كان التدين السليم منطويا في التخلق القويم، وكان التخلق القويم مبناه على التفقه المستقيم، فإن استقامة التفقه لا تتحقق عند المجتهد الناظر العامل إلا باستيفاء المقتضى الاشتغالي للاستدلال، والذي يستوجب وصل النظر بالعمل، إذ الاشتغال في معناه الإجمالي هو الاستدلال من أجل العمل، فالمتفقه على هذا القانون والعيار أبدا ينظر  بقوالب العمل ويعمل بمقولات النظر.

وإن في أخذ الإمام مالك رضي الله عنه بأصل عمل أهل المدينة في التفقه إلى جانب المدارك الأخرى التي لا تخلو بدورها من هذا التوجه العملي، ميزة أصلية لمذهبه يمتاز بها على سائر المذاهب امتياز العمل على النظر(1)، كما يعد اعتماده على هذا الأصل دليلا ساطعا على دور الممارسة العملية الحاسم في تحقيق سلامة التدين واستقامة التفقه.

1- مفهوم العمل ومراتبه:

والمراد بعمل أهل المدينة(2) “نقل متعلق بمكان خاص هو المدينة المنورة، ومبني على مشاهدة حسية، ورواية مستمرة من جيل إلى آخر إلى أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا النقل بهذه الطريقة يعد في حكم السنة المتواترة”(3).

والذي يظهر من تأصيلات العلماء أن العمل المدني ذو مراتب متفاوتة في التقسيم والحجية، قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: “إجماع أهل المدينة على ضربين: نقلي واستدلالي. فالأول على ثلاثة أضرب:

-منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إما من قول أو فعل، أو إقرار. فالأول كنقلهم الصاع والمد والآذان والإقامة والأوقات والأحباس والمنبر ونحوه.

-والثاني كنقلهم العمل المتصل في عهدة الرقيق وغير ذلك.

-والثالث كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع بالمدينة، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده منها زكاة.

وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه، وترك الأخبار والمقاييس له، لا اختلاف بين أصحابنا فيه.

والثاني وهو إجماعهم من طريق الاستدلال، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه ليس بحجة ولا مرجح، وهو قول ابن بكير، وأبي يعقوب الرازي، والقاضي أبي بكر، وابن السمعاني والطيالسي، وأبي الفرج والأبهري وأنكروا كونه مذهبا لمالك.

ثانيها: ليس بحجة ولكن يرجح به أحد الإجتهادين، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.

ثالثها: أنه حجة وإن لم يحرم خلافه، وعليه يدل كلام احمد بن المعذل وأبي مصعب وإليه ذهب أبو الحسن بن أبي عمر من البغداديين، وجماعة من المغاربة من أصحابنا، ورأوه مقدما على خبر الواحد والقياس، وأطبق المخالفون أنه مذهب مالك، ولا يصح عنه كذا مطلقا”(4).

ولابن تيمية بيان لمراتب العمل المدني استنادا إلى مقدار الوفاق والخلاف الحاصل فيه، فمن العمل ما هو محل اتفاق بين جميع المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما هو قول بعضهم(5).

أ- العمل المتفق عليه:

ومثاله عند ابن تيمية: نقل أهل المدينة لمقدار الصاع والمد وترك الزكاة في الخضراوات والأحباس وهو المقصود بقول مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم أثرى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا اهل العراق، فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت، وسأله عن صدقة الخضراوات فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت فيها الخضراوات، وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان، وهذا حبس فلان،  يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت”(6)، وهذا العمل يعتبر حجة باتفاق المسلمين.

ب-العمل المدني القديم قبل مقتل عثمان رضي الله عنه:

وهو حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي كما في قوله في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبا أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد وهو المحكي عن أبي حنيفة، لأن هذا العمل يعتبر من قبيل سنة الخلفاء الراشدين، ولا يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهدهم مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم(7).

ج- العمل المدني المختلف فيه:

وهذا النوع من العمل مبناه اجتهادي وتظهر فائدته عند تعارض الأدلة وتقريرها: “إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة، ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما، وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجح، والثاني وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به، قيل: هذا هو  المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق”، إلى أن قال: “فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة”(8). وزاد شيخ الإسلام مرتبة رابعة هي العمل المتأخر بالمدينة، وقرر أنه ليس بحجة شرعية عند أئمة الناس أبي حنيفة والشافعي وأحمد ولا يوجد في كلام  الإمام مالك ما يوجب جعل هذا النوع من العمل حجة وهو قول المحققين  من أصحابه(9).

وبعد بيان هذه المراتب خلص ابن تيمية إلى نتيجة حاصلها أنه ” إذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا، وانه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين “(10).

2- مقومات العمل المدني:

إن عمل أهل المدينة باعتباره أصلا استدلاليا قائم الذات يحتل مكانة بارزة في النسق الإجتهادي المالكي، ويستمد هذه الأهمية والمكانة من المقومات التي ينبني عليها، وهي إجمالا صنفان: صنف المقومات الأخلاقية، وصنف المقومات المنطقية.

أ- المقومات الأخلاقية:

لقد تبين أن صحيح التدين مبناه على تمام الملازمة بين قويم التخلق ومستقيم التفقه، فالفقه لا يستقيم دون توجيه الأخلاق، والأخلاق لا تقوم إلا على أساس الفقه، والمذهب المالكي في أخذه بأصل العمل ممثلا في الممارسة المدنية، يعد المذهب النموذج بين المذاهـب في الملازمـة بين هاتين الحقيقتين. ولقد كان الإمام مالك في اعتماد عمل أهل المدينة أصلا لتحقيق “التفقه المتخلق” موجها بالاعتبارات الأخلاقية التالية:

التعظيم:

كان الإمام مالك رضي الله عنه معظما لأهل المدينة، مرتضيا علمهم وعملهم، ملتزما سيرتهم، وقد اتخذ هذا التعظيم عنده صورا ثلاث:

التفضيل:

وذلك بتعداد مزايا المدينة، وبيان أفضالها دون سائر الامصار، وهذه الصورة هي المستفادة من قوله: “المدينة محفوفة بالشهداء، وعلى انقابها ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وهي دار الهجرة والسنة، وبها خيار الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واختارها الله له بعد وفاته، فجعل بها قبره، وبها روضة من رياض الجنة، ومنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لشيء من البلاد غيرها”(11).

التبرك:

وذلك أن الإمام رضي الله عنه اختار المقام بالمدينة تبركا بآثار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وآثار صحبه الكرام وفضلاء التابعين، وشاهد ذلك قوله لمن سأله عن سر هذا الإختيار : “وكيف لا أختاره، وما بالمدينة طريق إلا سلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة”(12). وذكر القاضي عياض أن ابن المنذر قال: “كانت دار مالك بن أنس التي كان ينزل فيها بالمدينة دار عبد الله بن مسعود، وكان مكانه من المسجد مكان عمر بن الخطاب، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذا اعتكف”، كما “كان مالك يجلس عند نافع مولى ابن عمر في الروضة حياة نافع وبعد موته”(13).

الولاء والمحبة:

فأهل المدينة لما آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم اختصوا بلين القلوب وشدة متابعة السنن، مما يوجب محبتهم ويقتضي نصرتهم والعطف عليهم. يقول الإمام مالك: “دخلت على المهدي فقال: أوصني، فقلت: أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المدينة مهاجري ، ومنها مبعثي، وبها قبري، وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظي في جيراني، فمن حفظهم في كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني، سقاه الله من طينة الخبال”(14).

  • ملازمة الإتباع ومفارقة الإبتداع:

كان الإمام مالك يرى في التزام أصل العمل الوسيلة الأكثر نجاعة لتحقيق الإتباع الاكمل للشارع صلوات الله عليه وسلامه، وبفضله انضبط له ما هو شرعي وما هو بدعي، بل إن الإمام لم يكن بدعا في أخذه بقاعدة العمل، وإنما نهج سبيل

السلف الأخيار في سلوك هذا المهيع، والتزام هذا المنهج، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: “لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر فيه إلى أهل المدينة، فإذا اجتمعوا على شيء يعني فعلوه، صلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق تبعه الناس”(15). وقال أيضا: “كتب إلي عبد الله  يعني ابن الزبير، وعبد الملك بن مروان، كلاهما يدعوني إلى المشورة، فكتبت إليهما: إن كنتما تريدان  المشورة، فعليكما بدار الهجرة والسنة”(16). وقال مالك: “كان ابن مسعود يسأل بالعراق عن شيء فيقول فيه، ثم يقدم المدينة فيسأل فيجد الأمر على غير ما قال، فإذا رجع لم يحط رحله ولم يدخل بيته حتى يرجع إلى ذلك الرجل فيخبره بذلك”(17). أما عمر بن عبد العزيز وهو من تابع التابعين فقـد كان “يجمع الفـقهاء ويسـألهم عن السنـن

 والأقضية التي يعمل بها فيثبتها، وما كان منها لا يعمل به الناس ألقاه وإن كان مخرجه من ثقة”(18)، كما نجد ربيعة وهو من شيوخ الإمام مالك البارزين يقول: “ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد لأنه واحدا ينتزع السنة من أيديكم”(19)، وقال ابن أبي حازم: “كان أبو الدرداء يسأل فيجيب، فيقال له: إن بلغنا كذا وكذا بخلاف ما قال، فيقول: وأنا قد سمعته، ولكنه أدركت العمل على غير ذلك”(20).

من هذه الشواهد إذن يظهر أن الإمام مالك كان متابعا للسلف في مناهجهم، مقتفيا طرائقهم في العلم والعمل، وارثا أحوالهم  أو باختصار كان أرسخ  اتصافا بأخلاقهم، ومنشأ هذا الرسوخ التزام كامل بمقتضيات الاتباع الأكمل(21)، ولذلك كان رحمه الله أبعد عن وصمة الابتداع التي لحقت أهل الأمصار الأخرى غير المدينة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة كما خرج من سائر الأمصار، فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحرمان، والعراقان، والشام منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام. وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والإعتزال والنسك الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والشام كان بها النصب والقدر ، وأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع.

وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية (…) وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك، فكان عندهم مهانا مذموما،  إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، ولكن كانوا مذمومين مقهورين، بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والإعتزال وبدع النساك بالبصرة، والنصب بالشام، فإنه كان ظاهرا”(22).

  • مراعاة الاتصال والإستمرار في العمل:

وهذا الجانب له صلة وثيقة بسابقه، فلا يتحقق الاتباع الأكمل إلا بمراعاة ما كان من الأعمال مستمرا ومتصلا بعمل السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين، وأهل المدينة إذ توارثوا عن السلف ما استقر عليه العمل، كانوا أعرف بالمقال وأقعد بالحال، ومن هنا كان اجتهاد الإمام مالك موفقا ومسددا لانضباطه بمعايير العمل وقوانينه، “ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث، إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث، وكان ممن أدرك التابعين وراقب أعمالهم، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قوة المستمر، وقد قيل لمالك إن قوما يقولون: إن التشهد فرض، فقال: أما كان أحد يعرف التشهد؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم”(23).

وللإمام الشاطبي تأصيل للمسألة سديد، حيث بين مراتب العمل استنادا إلى معيار الإستمرار والإتصال، فالعمل بالنسبة إلى السلف المتقدمين مراتب ثلاث:

-العمل الدائم أو الأكثري.

-العمل القليل أو المقيد.

-العمل غير الثابت أو الذي لا أصل له(24).

أما الأول “فلا إشكال في الإستدلال به ولا في العمل على وفقه، وهو السنة المتبعة والطريق المستقيم”(25).

وأما الثاني وهو العمل القليل أو المقيد بوقت من الأوقات أو حال من الأحوال فحكمه “التثبت فيه وفي العمل على وفقه والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى  شرعي أو لغير معنى شرعي، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي، فلابد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة”(26). وذلك لضعفه أمام العمل العام أو الأكثري، “فلابد من تحري ما تحروا وموافقة ما داوموا عليه”(27).

وهذه المرتبة ضربان:

– أن يكون في العمل القليل وجه موجب للقلة، وبانتفاء الموجب  ينتفي الموجب، كقوله عليه الصلاة والسلام للسائل عن وقت الصلاة “صل معنا هذين اليومين”(28)، ثم صلى عليه السلام في أواخر الأوقات بيانا لآخر الوقت الإختياري، “ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض، كالإبراد في شدة الحر، والجمع بين الصلاتين في السفر، وأشبه ذلك”(29)، فالصلاة في أوائل الأوقات هو العمل الدائم وعليه المعول بينما الصلاة في أواخر الوقت الإختياري قليل بالنسبة إلى الأول، لكونه وقع موقع البيان للسائل، وبانتفاء موجب البيان لزم المصير إلى العمل الدائم والغالب وهو الصلاة في أوائل الأوقات(30).

– أن يكون على خلاف ذلك وله وجوه منها:

*كون العمل القليل محتملا في نفسه كقيام الرجل للرجل، إذ يحتمل “أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم له، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود، أو للإعانة على معنى من المعاني أو لغير ذلك مما يحتمل، وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر، لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له. فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة وبراءة ذمة باتفاق، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر، وذلك لا يقوى قوة معارضة”(31).

*كون العمل القليل مختلفا في ثبوته، كتقبيل اليد وسجود الشكر(32).

*كون العمل القليل خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم زمنا أو حالا، كمسحه صلى الله عليه وسلم في الوضوء على ناصيته وعلى العمامة في حال المرض.

*كون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة مع عدم وجود المؤيد والمتابع، كعدم الإغتسال من الجماع بغير إنزال، فقد تركه عمر بن الخطاب ولم يعمل به ولم يتابع فيه زيدا بن ثابت لأنه لم يستمر من عمل الناس(33).

*كون العمل القليل منسوخا بعد العمل به فترة، فلابد من تركه والوقوف مع الأمر العام، ومثاله الصيام عن الميت(34).

قال الشاطبي ملخصا القول في هذه المرتبة: “ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل، إلا قليلا وعند الحاجة وسم الضرورة، إن اقتضى”  (العمل القليل) معنى التخيير ولم يخف ( العامل) نسخ العمل، أو عدم صحة في الدليل، أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك. أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور: أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها، والثاني استلزام ترك ما داوموا عليه، إذ الفرض انهم داوموا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يدواموا عليه مخالفة لما داوموا عليه، والثالث: أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ماداوموا عليه واشتهار ما خالفه، إذ الإقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد” (35).

وأما الثالث وهو العمل الذي لا شاهد له من عمل السلف المتقدمين يؤيده، فهو في غاية الفساد والبطلان، وعامة منتحليه من أهل البدع ممن تنكب عن عمل الأولين، وارتضى مسلكا غاية ما فيه الإستناد إلى الظواهر مجردة عن مبيناتها- والعمل أقوى هذه المبينات-، واتباع  ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها(36)، “ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الإستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة”(37)، مع العلم أن “ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها، مؤدية إلى التعارض والإختلاف”(38).

ب- المقومات المنطقية:

نقصد بالمقومات المنطقية جملة المعايير التي ينبني عليها العمل المدني بوصفه دليلا مستقلا إلى جانب الأدلة الداخلة في تشكيل النسق الإستدلالي المالكي، وهي معايير ذات طابع تداولي بامتياز، لأن التدليل أو قل إعمال الدليل لا يسقتيم دون استحضار المقتضيات الإستعمالية للدليل، والمتمثلة في القرائن السياقية والشواهد الحالية (حال المستدل وحال المستدل له والظروف الخارجية الملابسة لهما من وقائع وقيم ومعارف).

ومعلوم أن العمل يعتبر أهم المحددات التداولية للخطاب، وله الأثر الحاسم في “إعمال الدليل” وتوجيه هذا الإعمال…

وتكمن القيمة المنطقية لعمل أهل المدينة باعتباره دليلا في الوظائف التداولية المسندة إليه، وتتلخص هذه الوظائف فيما يلي:

1-التقريب:

 إن العمل المصاحب للأقوال يفيد في تقريب ما يقصر عنه القول المجرد من المضامين، كالهيئات والكيفيات مما له صلة بالعمل، فالقول يتشخص بالعمل.

2- التبيين:

وذلك بتعيين الدلالة المقصودة من القول، لأن غالب الأقوال يتصف بالإحتمال، ومعلوم أن “العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة، لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة، احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة، لا يستقيم إعمال الدليل دونها، والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما، ومعين لناسخها من منسوخها ومبين لمجملها”(39). ولقد كانت قضية النسخ تطرح إشكالات في طريق الإجتهاد، ” ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه، انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر”(40)، وهكذا فالقول يتبين بالعمل.

3-التضعيف:

 وذلك في حال مخالفة القول للعمل، إذ المخالفة دليل ضعف القول، وهذا ما عناه ابن مهدي بقوله: “إنه لا يكون عندي في الباب الأحاديث الكثيرة، فأجد أهل العرصة على خلاف فيضعف عندي”(41). وهكذا فالقول إما أن يقوى بالعمل أو يضعف به، يقوى في حال الموافقة ويضعف في حال المخالفة.

4- التنقيح:

حيث يعتبر العمل مسلكا إجرائيا فعالا لمقاربة النصوص والموازنة بين المتون، “فقاعدة العمل عند مالك محاولة أولى وسابقة هامة في نقد متون الأحاديث يمكن الرجوع إليها والإعتماد عليها، فمالك ناقد فاحص للسنن، وإنه كان يوازن بينها

 وبين الأصول العامة والمبادئ المقررة الثابتة التي تضافرت المصادر على إثباتها، فلعله كان بعد دراسة الأحاديث هذه الدراسة، وعلى ضوء ما يراه معمولا به منقولا عن التابعين ومن قبلهم عن الصحابة، يضعف بعض الأخبار، وإن كان الأساس من أول الأمر رأيا ويأخذ به، لأنه كان يكره الإغراب ويرى فيه شذوذوا، ويريد متابعة ما جرى به العمل”(42).

5- الترجيح:

وتتجلى الوظيفة الترجيحية للعمل في حالة وجود تعارض بينه وبين الأدلة الأخرى، وأقوى معارض لعمل أهل المدينة هو خبر الآحاد، والحالات الممكنة هنا أربع هي:

– مطابقة الخبر للعمل.

– مخالفة الخبر لخبر آخر موافق لعمل أهل المدينة.

– مخالفة الخبر للعمل النقلي.

– مخالفة الخبر للعمل الإجتهادي.

أما الحالة الأولى فلا إشكال فيها، حيث يقوم العمل بوظيفة تأييد الخبر، تصحيحا له إن كان نقليا او ترجيحا إن كان اجتهاديا.

وأما الحالة الثانية فيرجح فيها الخبر المؤيد بالعمل على الخبر الآخر.

وفي الحالة الثالثة يكون العمل مقدما على الخبر.

بينما في الحالة الرابعة يكون الخبر مقدما على العمل على خلاف في المسألة.

 قال القاضي عياض مبينا هذه الصور والحالات: “ولا يخلو عمل أهل المدينة مع أخبار الآحاد من ثلاثة أوجه:

إما أن يكون مطابقا لها، فهذا آكد في صحتها إن كان من طريق النقل، أو ترجيحها إن كان من طريق الإجتهاد بلا خلاف في هذا، إذ لا يعارضه هنا إلا اجتهاد آخرين وقياسهم عند من يقدم القياس على خبر الواحد.

وإن كان مطابقا لخبر يعارضه خبر آخر، كان عملهم مرجحا لخبرهم، وهو أقوى ما ترجح به الأخبار إذا تعارضت، وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ومن تابعه من المحققين من الأصوليين والفقهاء من المالكية وغيرهم.

وإن كان مخالفا للأخبار جملة، فإن كان إجماعهم من طريق النقل ترك له الخبر بغير خلاف عندنا في ذلك، وعند المحققين من غيرنا على ما تقدم، ولا يجب عند التحقيق تصور خلاف في هذا، ولا التفات إليه، إذ لا يترك القطع واليقين لغلبة الظنون، وما عليه الإتفاق لما فيه الخلاف، كما ظهر هذا للمخالف المنصف فرجع(43)، وهذه نكتة المسألة، كمسألة الصاع والمد، والوقوف، وزكاة الخضروات وغيرها.

وإن كان إجماعهم اجتهادا قدم الخبر عليه عند الجمهور، وفيه خلاف كما تقدم بين أصحابنا.

فأما إن لم يكن ثم عمل بخلاف ولا وفاق، فقد سقطت المسألة ، ووجب الرجوع إلى قبول خبر الواحد، كان من نقلهم او نقل غيرهم إذا صح ولم يعارض، فإن عارض هذا الخبر الذي نقلوه خبر آخر نقله غيرهم من أهل الآفاق، كان ما نقلوه مرجحا عند الأستاذ أبي إسحاق وغيره من المحققين، لزيادة مزية مشاهتدهم قرائن الأحوال، وتقعدهم لنقل آثار الرسول عليه السلام، وأنهم الجم الغفير عن الجم الغفير عنه”(44).

ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن القاضي عياض ينصر قول من قال بحجية العمل الاجتهادي، فاجتهاد أهل المدينة أرجح من اجتهاد غيرهم، وذلك لما انفردوا به ” من فضل الصحبة والمخالطة والملابسة والمساءلة، ومشاهدة الأسباب والقرائن، ولكل هذا فضل ومزية في قوة الإجتهاد، وقد قال أصحابنا ومخالفونا: إن تفسير الصحابي الراوي لأحد محتملي الخبر أولى من تفسير غيره، وحجة يترك لها تفسير من خالفه، لمشاهدته الرسول، وسماعه ذلك الحديث منه، وفهمه من حاله، ومخرج ألفاظه، وأسباب قضيته ما يكون له به من العلم بمراده مما ليس عند غيره، فرجح تفسيره لذلك، فكذلك إجماع أهل المدينة بهذا السبيل، واجتهادهم مقدم على غيرهم ممن نأت داره، ولم يبلغ إلا مجرد خبر معرى من قرائنه، سليب من أسباب مخارجه(45).

وخلاصة القول إن عمل أهل المدينة دليل راسخ ومكين، فالمقومات الاخلاقية التي ينبني عليها تورثه وصف الرسوخ

في الإشتغال، والمقومات المنطقية التي يستند إليها تكسبه وصف التمكين في الإستدلال.

الهوامش:


(1) كمذاهب أهل العراق المكثرة من الأخذ بأسباب النظر المجرد كالإفراط في القياس واللجوء إلى الفقه التقديري مما يبعد بها عن الواقع والعمل.

(2) تنوعت عبارات الإمام مالك عن هذا الأصل في الموطأ، منها قوله: الأمر المجتمع عليه عندنا والأمر المعمول به عندنا، وما مضى عليه أهل العلم المقتدى بهم وليس العمل على كذا، والأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا…

(3) الشريعة الإسلامية كمال في الدين وتمام للنعمة، للدكتور محمد رياض، ص 177.

(4) هذا النص مقتطف من كتاب الملخص في ملحق منشور مع كتاب المقدمة لابن القصار، ص 253 وما يليها.

(5) الفتاوى، 20/303.

(6) نفسه، 20/360-307.

(7) الفتاوى، 20/308-309.

(8) نفسه، 20/309-310.

(9) نفسه، 20/310.

(10) الفتاوى، 20/311.

(11) المدارك، 1/34-35.

(12) المدارك، 1/35.

(13) نفسه، 1/124.

(14) نفسه، 1/36.

(15) المدارك، 1/38.

(16) نفسه، 1/39.

(17) نفسه، 1/39.

(18) نفسه، 1/46.

(19) نفسه، 1/46.

(20) نفسه، 1/46.

(21) يقول القاضي عياض رحمه الله: “وأنت إذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة وتقرير مآخذهم في الفقه والإجتهاد في الشرع، وجدت مالكا –رحمه الله تعالى- ناهجا في هذه الأصول مناهجها، مرتبا لها مراتبها ومدارجها، مقدما كتاب الله، ومرتبا له على الآثار، ثم مقدما لها على القياس والإعتبار، تاركا منها لما لم يتحمله عنده الثقات العارفون بما تحملوه، او ما وجد الجمهور والجم الغفير من أهل المدينة قد عملوا بغيره وخالفوه، ولا يلتفت إلى من تأول عليه بظنه في هذا الوجه سوء التأويل، وقوله ما لا يقوله بل ما يصرح أنه من الأباطيل، ثم كان من وقوفه عن المشكلات وتحريه عن الكلام في المعوصات ما سلك به سبيل السلف الصالحين وكان يرجح الإتباع، ويكره الإبتداع والخروج عن سنن الماضين“، ترتيب المدارك، 1/89.

(22) الفتاوى، 20/300 وما يليها.

(23) الموافقات، 3/48.

(24) نفسه، 3/40.

(25) نفسه، 3/41.

(26) نفسه، 3/41.

(27) نفسه، 3/42.

(28) رواه مسلم والترمذي والنسائي.

(29) الموافقات، 3/42.

(30) أنظر الأمثلة الأخرى التي ساقها الشاطبي في بيان هذا الضرب ، 3/43 وما يليها

(31) الموافقات، 3/47.

(32) نفسه، 3/47-48.

(33) الموافقات، 3/50.

(34) نفسه، 3/50.

(35) نفسه، 3/51-52.

(36) نفسه، 3/53.

(37) الموافقات، 3/56.

(38) نفسه، 3/56.

(39) نفسه، 3/56.

(40) الموافقات، 3/51.

(41) ترتيب المدارك، 1/45.

(42) نظرية الاخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي، عبد السلام العسري، ص 96، 1392-1996، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب.

(43) المقصود بالمخالف المنصف هنا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وقد تقدمت قصته مع الإمام مالك.

(44) ترتيب المدارك، 1/51 وما يليها.

(45) نفسه، 1/57-58.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق