مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

أصالة الاحتجاج بالقرآن المبين ومقارئه

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد، فهذه كلمة للإمام الحافظ الحجة أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (ت: 456هـ) من كتابه الفريد «الفصل في الملل والأهواء والنحل» يعنف في كثير من فقرها على كل من نصب للشعر والنثر العربيين سمي الحفاوة وأثيل الحظة تقعيدا وتأصيلا، استشهادا واحتجاجا، تفهما واستنباطا دون القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف.

ولئن كانت الكلمة في خصوص سياقها تتناول أولوية العناية بالكلمة القرآنية في المواهي والحجية والأحكام، وبخاصة في قضية مفهوم الإيمان بين المرجئة وأهل السنة والجماعة فهي صالحة لعموم غايتها للنكير بها على كل صنيع يهتبل الشعر والنثر في عموم ما سلف دون كبير حظوة بالمقرإ القرآني متواتره وآحاده وشاذه، وقد يوغل البعض إذ يجعل ما استد له من القاعدة النحوية وسواها؛ استقراء لها من كلم العرب استقراء ناقصا حكما لا معقب لحكمه على الحرف القرائي تعليلا وتوهينا، ادراء أو ازدراء، وإن قرأته العامة في أمصارها، وروته النبلاء الفصحاء عن أئمتها؛ وثبت بالنقل السليم الصحيح الذي لا مطعن في نظيره ثبوت الشعر والنثر، بل أشد وثاقة، وأسد حكما، وأقوم قيلا، وآصل من سماع كلمة ترمى عن أعرابي لا يعرف، وبيت يتناشد عن مجهول، واعتبر  بكتب اللغة والنحو تلف من ذلك الجم الغفير.

على أن المأرز في العربية أصولا وقواعد إلى وثاقة السماع، وما التعاليل والأقيسة إلا تبع، قال في الاقتراح  في شأن السماع:« وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته: فشمل كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قبل بعثته وفي زمنه وبعده، إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين، نظما ونثرا عن مسلم أو كافر، فهذه ثلاثة أنواع لابد في كل منها من الثبوت»([1]) وقد تمهد للمقارئ  ـ وإن زنت بالتشذيذ، ناهيك عن المشتهر المتواتر ـ صحيح السند عدالة وضبطا وتسلسلا، فما بال بعض القوم يستنكفون عن الحرف استشهادا واحتجاجا تارة، وطورا يوهنون، وأحيانا يدرؤون.

نعم قد يقال: إن ذلك من واجب الحياطة لكتاب الله المحفوظ، والصيانة لحياضه من أن يداخله دخيل من غلط أو جهالة أو سفاهة، قال شوقي ضيف:«فالفراء وأمثاله ممن يرد بعض القراءات التي لا تعدو حروفًا معدودة لم يكن دافعهم إلى ذلك الطعن والتنقص، وإنما كان دافعهم الرغبة الشديدة في التحري والتثبت»([2])؛  إذ المقرأ لما يستو على سوقه، وأصوله متناثرة ترنو إلى من يلم الشعث ويرأب الصدع، ويحكم الفصول، وميدان الاختيار فيه والمراجحة رحب فسيح، والإباحة في تناول حرفه ذائعة لا نكير لها..

بيد أنه قد يشكل عليه نظر البعض بعين الريب نقلا وحجية في المشتهر من المقارئ، والذائع من الأحرف كحرف نافع وابن عامر وأبي جعفر وسواهم من الأئمة الأقحاح اللسن العدول بحجة المخالفة للأفصح من كلام العرب، أو الأشهر من طرائقها في الإعراب، أو لقياس في بابة منها أصلوه، أو قواعد بنوا أسسها على استقراء ناقص؛ جمعا له من شوارد الأشعار، وأوابد الخطب عن شق وسطيح وسواهما.. على أن الأليق بالقاعدة، والأومق بالتأصيل، والجدير بالقياس ما ثبت صحيحا عن هؤلاء الفصحاء من أضراب نافع وابن كثير، والشامي وعاصم، وحمزة الزيات.. ممن أخذوا هذا الشأن عن تابعي جليل أو صحابي عريق قح كريم، وهو عين صنيع ابن مالك رحمه الله؛ إذ شنع على الطاعنين([3])، واختار من مذهبه النحوي جواز الفصل بين المتضايفين؛ اعتمادا على قراءة الشامي، والعطف على الضمير المجرور بلا إعادة لأداته؛ اعتبارا بقراءة حمزة، وسكون لام الأمر بعد «ثم»؛ استمدادا من المستفيض عن القراء في قراءتها. وكلها أحرف قد نالها من الزراية والطعن ما هو مبثوث في كتب المعاني والتفسير واللغة؛ إذ كانت على غير الأشهر من أقيستهم، ودون الأفصح من استقرائهم..، ولقد قالها الداني رحمه الله كلمة باقية في عقبه لعلهم يفقهون: «وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها» ([4]). وإنه لمهيع سليم أصيل؛ لما سلف عن شيخ العربية من القيل: «إلا أن القراءة لا تخالف؛ لأن القراءة السنة»([5])، قال في الاقتراح: «أما القرآن فكل ما ورد أنه قريء به جاز الاحتجاج به في العربية، سواء كان متواترا أو آحادا أم شاذا»([6]) وذاك البغية والمأم، وفي سبيله سيق كلام الإمام ابن حزم، قال رحمه الله:

«..فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها، ولم يبق لهم حجة أصلا، فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل، وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق

قال أبو محمد: أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معا بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة، إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة على العقد لكل شيء، وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها، وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط، فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به، وهو تعالى خالق اللغة وأهلها، فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء، ولا عجب أعجب ممن أوجد لامريء القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أوالطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظا في شعر أو نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاما لم يلتفت إليه ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه، وإذا وجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فعل به مثل ذلك.

وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة، وأيام كونه فتى بمكة، بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها، وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري، فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة، واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه، وأجرى على لسانه كلامه، وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به، فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول:

فعلت فروع الأيهقان وأطفلت **بالجلهتين ظباؤها ونعامها([7])

فجعله حجة، وأبو زياد الكلابي يقول: ما عرفت العرب قط «الأيهقان»، وإنما هو اللهق بيت معروف.

 ويسمع قول ابن أحمر :

كناه نقلق عن مأموسة الحجر([8])

وعلماء اللغة يقولون: إنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار «مأموسة» إلا ابن أحمر، فيجعله حجة.

ويجيز قول من قال من الأعراب: «هذا جحر ضب خرب»، وسائر الشواذ من معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره، ويحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر، ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة، ونعوذ بالله من الخذلان» اهـ

ن الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 107، 108


([1]) الاقتراح في أصول النحو للسيوطي: 67

([2]) المدارس النحوية: 223.

([3]) ومثله أبوحيان في البحر وسواهما، من ذلك رده على الزمخشري رحم الله الجميع، قال: «وأعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت، وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم» ن البحر المحيط: 4/ 658

([4]) جامع البيان:2/860.

([5]) الكتاب لسيبويه: 1/148.

([6]) الاقتراح في أصول النحو:67

([7]) ن ديوان لبيد: 107.

([8]) كذا، وفي الشعر والشعراء لابن قتيبة: 1/344، 345: «عمرو بن أحمر بن فرّاص الباهلي.. وقد أتى ابن أحمر فى شعره بأربعة ألفاظ لا تعرف في كلام العرب سمّى النار «ماموسة» ، ولا يعرف ذلك، قال :

تطايح الطّلّ عن أعطافها صعدا ** كما تطايح عن ماموسة الشرر اهـ

وابن أحمر في الشعراء عدة:  الباهلي هذا وابن أحمر الإيادي، ، وابن أحمر الكناني، وابن أحمر البجلي وكل جاهلي إلا البجلي فإسلامي، وأبو الولید إسماعيل بن یوسف «ابن أحمر»، أندلسي شاعر فقيه مؤرخ.

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق