وحدة الإحياءدراسات محكمة

أسس النظرية الأخلاقية ومعاييرها من منظور القرآن الكريم

“عالمنا اليوم في محنة وكرب بلغا من الإلحاح مبلغا عظيما يدفعنا إلى سبر غورهما وعوارضهما بسبب عمق هذا الألم المستشري.

السلام يفوتنا… والكوكب يتعرض للدمار… الجيران يعيشون في خوف… هناك غربة بين النساء والرجال والأطفال يموتون.

إنه أمر بغيض[1].”

كانت هذه خلاصة عامين من التشاور بين مائتي أستاذ ورجل دين ينتمون إلى عدد كبير من التجمعات الإيمانية في العالم، اجتمعوا ضمن فعاليات البرلمان العالمي للديانات المنعقد بشيكاغو عام 1993.

هي حصيلة لا يختلف حولها اثنان بالنظر إلى المعضلات المتفاقمة والإخفاقات المتلاحقة والانهيارات المفاجئة التي تعج بها الساحة الإنسانية. ومن اللافت للنظر أن أكثر المؤلفات الفكرية والفلسفية التي صدرت في فرنسا عام 2005 قد جرى إدراجها تحت عنوان “العالم في أزمة”.

وفي إدانتهم للآفات التي يعيشها عالمنا المعاصر يعلن المشاركون في البرلمان العالمي للديانات، السابق الذكر، في بيانهم الختامي.

“أن العنصر الأخلاقي الكائن في صميم التعاليم الدينية العالمية جدير بأن يخلص العالم من محنته[2][3].

ونحن نعتقد أن الأخلاق القرآنية كفيلة بإنقاذ البشرية من هوة التوحش و التسلط الماديين… وإخراجها من مأزقها الوجودي الذي تعيشه… وذلك بفضل أصالة النظام الأخلاقي القرآني، وتتمثل هذه الأصالة في جوانب ثلاثة:

  1. أن القرآن من حيث كونه حافظا لما سبقه واستمرارا له قد تميز عنه بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقا في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض زمانا ومكانا، وربما لم يترك بعضهم أثرا من بعده يحفظ تعاليمه. ولعل هذا الجانب هو السمة البارزة من سمات القرآن وإن لم تكن أثمن سماته..
  2. وتبدو أصالة هذا النظام ثانيا في طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضيين وتقريبها بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام، وذلك لأنه بدأ بأن نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطا أو تفريطا، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها… دفعها جميعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة بحيث صار حقا أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق.
  3. وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي في الواقع لكي نصف أخلاق القرآن أن نقول، إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وأنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلاقهم، بل ينبغي أن نضيف: أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجملته، حين ضمت إليه فصولا كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي[4].

الأمر الذي يصبح معه توضيح فلسفة القرآن الأخلاقية ضرورة شرعية، بل ضرورة وجود وحياة لأمتنا التي ما تزال موضع هجوم وابتزاز يستهدف استئصال ثقافتها والقضاء على نظامها المعرفي..

غرضنا، إذن، من هذا البحث هو أن نبين أسس النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الكريم، والتدليل على اتصاف هذه النظرية بالخصائص القادرة على إقناع المغرم بالحقيقة… وتنزهها عن كل النقائص التي تعيب كل نظرية أخلاقية باطلة. ونأتي بهذا البيان من خلال تناولنا بالدراسة والتوضيح العناصر والأسس التي تقوم عليها الأخلاق في القرآن، وذلك بعد تناولنا بالبحث المعايير التي يمكن أن نبرر بها السلوك الأخلاقي للإنسان انطلاقا من اعتبارات قيمية تم تكريسها في القرآن الكريم.

معايير العمل الأخلاقي من منظور القرآن الكريم

نقصد بمعايير العمل الأخلاقي تلك المباحث النظرية التي يمكن من خلالها تقييم الأحكام الخلقية، وتحديد الموقف الأخلاقي، باختيار ما يجب أو ما ينبغي أن يعتمد من بين البدائل المتعددة المتاحة لنا، وبتعبير آخر، الأخلاق المعيارية تزودنا بغاية أو غايات أخيرة نستطيع بها أن نبرر اختيار عمل أو اعتماد موقف دون آخر.

ونشير إلى أن معايير العمل الأخلاقي تتعدد لكونها تخضع لرؤية الإنسان للعالم والحقيقة وغاياته في الوجود/الحياة.

وتبعا لذلك يمكن التمييز في معايير العمل الأخلاقي بين ثلاثة:

المعيار الأول: المصالح والغايات الدنيوية كما هو معمول به في الغرب، وهو ما يسمى بمذهب “المنفعة” الذي ينص على أنه “مبرر أخلاقيا أن يتصرف الفرد في ضوء مصالحه، وأنه كلما فعل الفرد هذا أكثر عاش حياة أفضل” ويمكن أن تأخذ المصالح شكل إشباع الرغبات أو التفضيلات على مر الوقت[5].” ويزكي مذهب المنفعة “أن الطبيعة البشرية تؤكد أن الناس يتصرفون على وجه الحصر بدوافع المصلحة الذاتية[6].”

ويتميز هذا المذهب بالنقاط الثلاث التالية:

“1. الفعل لا يعتبر صحيحا أو غير صحيح بذاته بل بناء على نتائجه.

  1. تقاس نتيجة الخير أو الشر بالسعادة أو التعاسة التي وصلت إليها الأفعال ولذلك تبدو صحيحة تلك الأفعال التي تقود إلى السيادة العظمى.
  2. إن مصلحة الإنسان هامة بنفس حجم أهمية مصلحة الناس الآخرين[7].”

وعليه لا يمكن إلزام الإنسان بالأخلاق إذا لم يكن يرى فيها منفعة أو مصلحة ذاتية ليصح إطلاق المذهب الأناني الذي روج له هوبز على مذهب المنفعة[8].

فالفعل الذي لا يجلب لصاحبه لذة أو خيرا أو سعادة يرفض ولو كان أخلاقيا، فالأخلاق تتأسس على المنفعة ومتى تعارضتا تم إلغاء الأخلاق والصد عن اعتبارها.

 ففي الكتابات الأخلاقية لجون استيوارت ميل ومن قبله جرمي بنتام تفقد القيم قدسيتها وتتحول إلى قيم شبه اقتصادية. وقد اعتبرت الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم إحياء واضحا للاهتمام بمذهب المنفعة، واعتبرت النفعية من طرف فلاسفة الغرب “نظرية أخلاقية جذابة جدا ليس فقط من وجهة النظر العقلية بل والعملية[9].”

ليمتد تأثيرها ويشمل كل جوانب الحياة في الغرب (السياسية والاقتصادية والمعرفية) فأصبح كل فعل إنساني ينظر إليه بناء على نتائجه النفعية. فتم فصل الأخلاق عن السياسة والاقتصاد والعلم[10].

إجمالا، فإن مذهب المنفعة يعتمد معيار الغايات والمصالح الدنيوية في تقييمه للعمل الأخلاقي.

المعيار الثاني: يأتي كنقيض للأول؛ إذ يعتمد الغايات الأخروية كمعيار لتقييم الأعمال، بحيث يكون الأساس الأخلاقي في الفعل هو ما يحققه الإنسان في عالم الآخرة، فلا حسن للفعل بالنسبة لعالم الدنيا، وإنما حسنه بمقايسته بالآخرة فقط. وهو المعيار المعمول به عند الطرق التعبدية وأهل التصوف، ورجال الكنائس.

المعيار الثالث: المعيار القرآني فما طبيعة المعيار الأخلاقي الذي يدعو إليه القرآن الكريم؟ لتتفرع عن هذا السؤال أسئلة من قبيل: هل المعيار المطروح قرآنيا هو معيار نهائي أم معيار واسطة؟ وهل المعيار من منظور قرآني واحد أم معايير متعددة ولو كانت متعددة، فهل يكتفي بمعيار واحد أم المطلوب معايير مركبة؟

 لتحديد النظرة القرآنية للمعايير الأخلاقية لابد من معالجة دقيقة للتساؤلات المطروحة. وإذا استقرأنا آيات القرآن المجيد محاولين الإجابة عن تلك الأسئلة نجد:

أن القرآن يطرح معايير عدة:

أ. قد يطرح القرآن الكريم “الاستقامة” أساسا للتقييم: “قل اِنّما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنّما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه” (فصلت: 5). “فاستقم كما أمرت ومن تاب معك” (هود: 112)، “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (الأحقاف: 12).

ب. وقد يدعو القرآن الكريم إلى “العمل الصالح” “تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” (الملك: 1-2)؛ “والعصر إن الاِنسان لفي خسر، اِلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات” (العصر: 1-2)؛ “لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات” (التين/الآيات: 4-6).

ج. وقد يطرح القرآن الكريم “المنفعة” “فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الاَرض كذلك يضرب الله الاَمثال” (الرعد: 19)؛ “ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله” (الحج: 26)؛ “إن في خلق السموات والاَرض واختلاف اليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس” (البقرة: 163).

والمنفعة التي يعتبرها القرآن الكريم كأساس للفعل الأخلاقي ليس المصلحة الخاصة، وإنما المنفعة العامة الشاملة لكل الناس، كما تدل الآيات أعلاه، المقدمة على المنفعة الفردية متى تعارضتا، ومما يدل على صحة القول تنديد القرآن بإيمان المنفعة وتشنيعه بأصحابه: “ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن اَصابه خير اطمأن به وإن اَصابته فتنة اِنقلب على وجهه خسر الدنيا والاَخرة، ذلك هو الخسران المبين” (الحج: 11)؛ فهنا القرآن عمد إلى طريقته الفذة في تصوير العقيدة التي يبتغي بها أصحابها جذب المنافع إليهم… واجتناء الثمرات من ورائها دون أن يكلفهم ذلك عناء ولا مشقة، معتبرين العقيدة صفقة في سوق التجارة يزينونها بميزان الربح والخسارة، منتهزين الفرص التي تجلب وتجر إليهم المنفعة، فهؤلاء فريق قلق في روحه ومضطرب في ضميره خاسر للدنيا والآخرة[11].”

 د. وقد يطرح القرآن “التقوى” كقيمة أساسية في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية كما يطرح قيما أخرى تصلح أن تكون معيارا للعمل الأخلاقي، من قبيل: العدل والإحسان والكرامة…

الأمر الذي يصعب معه القول بأن القرآن الكريم يدعو إلى معيار واحد وحصري في مجال القضايا الأخلاقية، إلا أنه يمكن أن تجتمع جميع المعايير والقيم الأخلاقية التي أشرنا إليها -والتي لم نشر إليها- تحت مظلة قيمة واحدة ومعيار واحد، هو معيار: التوحيد، وبالتالي القول أن المعايير الأخلاقية التي يعلنها القرآن هي معايير واسطة وليست نهائية؛ لأنها تنتهي جميعها عند المعيار الجامع والنهائي والغاية من الخلق والحياة “وما خلقت الجن والاٍنس إلا ليعبدون” (الذاريات: 56).

فعندما يستشعر الإنسان وجود الله في كل كيانه، يدرك أن وجوده لا استقلالية له بعيدا عن ارتباطه بالله سبحانه، عندها يسعى الإنسان إلى تحقيق الهدف الوجودي الذي من أجله خلق، والتي تتكاثف فيه كل الوصايا “وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون”.

ومن تم فـ”إن الهدف الذي ينبغي لنشاط المؤمن الطائع أن يتوخاه وهو يؤدي واجبه لا يمكن في طيبات هذه الدنيا، ولا في السرور والمجد في الآخرة، ولا في إشباع شعوره الخير، بل ولا في إكمال وجوده الباطن… إنه الله، الله الذي يجب أن يكون نصب أعيننا، وأية غاية أخرى تدفع الإنسان للعمل هي في ذاتها انتفاء للقيمة وعدم[12].”

فهذا هو المبدأ والمنتهى والهدف في كل الحالات، الذي تتوافق فيه كل العناصر الفردية والاجتماعية، والإنسانية والإلهية والدنيوية والأخروية والروحية والمعنوية… “وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الاَخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الاَرض، إن الله لا يحب المفسدين” (القصص: 77).

أسس النظرية الأخلاقية من منظور القرآن الكريم

إن الاعتراف بوجود معايير أخلاقية من منظور القرآن الكريم الذي منتهاها وجماعها التوحيد بما هو إقرار تام بوجود الله سبحانه، وإيمان مطلق به، جل شأنه، الخالق الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء. لا يعني “أن الأخلاق القرآنية أخلاق دينية بمعنى أن رقابتها توجد فقط في السماء، وأن جزاءها فيما وراء الموت؛ إذ أنها تخول هذه الصلاحيات في نفس الوقت لقوتين مؤثرتين أيضا هما: الضمير الأخلاقي، والسلطة الشرعية، وليس ذلك فحسب، بل إنها تكلف كل فرد في الأمة أن يحول بكل الوسائل المشروعة دون انتصار الرذيلة والظلم.

وهي أيضا ليست دينية، بمعنى أنها لا تجد دافعا إليها إلا في الخوف والرجاء، ولا تجد تسويغها إلا في إرادة عليا تملي على وجه الاستعلاء أوامرها مستقلة عن كل ما يقتضيه العقل، والشعور الإنساني، وهي إرادة يجب على الإنسان أن يطيعها دون مناقشة أو فهم.

إنها ليست دينية بهذا المعنى؛ لأن القرآن لم يزل يدعو إلى هذه المفاهيم الإنسانية على وجه التحديد، لتسويغ أوامره، ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول إنه قد زود تعليمه الأخلاقي بنظام تربوي غاية في الكمال، بحيث يصلح لجميع مراتب الأخلاقية[13].”

هذا النظام التربوي الأخلاقي القرآني يتأسس على خمسة عناصر “الإلزام، والمسؤولية، والجزاء، والنية، والجهد، [و) تلكم هي العمد الرئيسة لكل نظرية أخلاقية واعية بمراميها[14].”

فما رؤية القرآن الكريم لهذه العناصر؟

الواجب/الإلزام

“يستند أي مذهب أخلاقي جدير بهذا الاسم،في نهاية الأمر، على فكرة الإلزام (L’obligation)، فهو القاعدة الأساسية، والمدار، والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية ذاته، وفناء ماهيتها، ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسؤولية، وإذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تعود العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام، وتعم الهمجية، لا في مجال الواقع فحسب، بل في مجال القانون أيضا، وطبقا لما يسمى بالمبدأ الأخلاقي[15].”

والقرآن الكريم كتاب إلزام وتكليف بالنظر إلى كثرة أوامره وتعدد نواهيه “فاعبد الله مخلصا له الدين” (الزمر: 2)؛ “إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري” (طه: 13)، “يأيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون” (البقرة: 21)؛ “يأيها الذين ءامنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل” (النساء: 29).

إن الأخلاق القرآنية تتأسس على فكرة الواجب: “ففي نظر هذه الأخلاق ليست اللذة، ولا المنفعة، ولا السعادة، ولا الكمال، ليست هذه كلها بقادرة في ذاتها أن تنشئ هذا المبدأ (التوحيد)، وكل ذلك يجب أن يكون خاضعا لسلطان الواجب بأقدس معاني الكلمة وأكثرها واقعية، وأسماها درجة[16].”

“والواجب الذي يدعو إليه القرآن الكريم يختلف عن الواجب بمفهومه الكانطي، وذلك في السمات الرئيسة الثلاث التي يرى كانط للواجب، حين يقرر أولا: أن الواجب صوري محض، لا صلة له بتغيرات الواقع والتجربة، وثانيا: إنه منزه عن كل غرض: أي لا يطلب من أجل تحقيق منفعة أو لبلوغ السعادة، وثالثا: قاعدة لا مشروطة للفعل لا يؤسس الواجب على شيء آخر.

فالقرآن الكريم لا يعتبر الواجب صوريا بحثا ليس له صلة بتغيرات الواقع ومفاعيل التجربة؛ لأنه قد يتغير الواجب، يتأكد أو يتحقق بالنظر إليهما، كأن يتحول: “الواجب الكفائي” مثلا إلى “الواجب العيني” والعكس صحيح أيضا.

كما أن الواجب والتكليف القرآنيين ممزوجان بالغاية، وليس منزهين عنها، فتنشأ التكاليف الأخلاقية لأجل غايات كبرى، وإن كان الواجب والتكليف ثابتين في كل الأحوال، فقد تكون التزكية، مثلا، الغاية القصوى “خذ من اَموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” (التوبة: 104) أو التقوى “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” كما أن الواجبات القرآنية ليست واجبات قاعدية محضة، كما هو الحال مع كانط، بل واجبات معللة بأمور أخرى ومؤسسة على غيرها “اعدلوا هو أقرب للتقوى” (المائدة: 9).

وأهم ميزات الواجب القرآني أنه يقوم على أساس حرية الاختيار، فهو يكلفنا، ولكنه لا يقهرنا ماديا، وإنه يدع لنا أولا إمكان مراعاته أو مخالفته. وتلك هي القاعدة الأصلية التي لا يفتأ القرآن يعلنها، سواء فيما يتعلق بواجب الإيمان، أو بواجب الفضيلة العملية، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمات: “ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا” (النساء: 79). “لا إكراه في الدين” (البقرة: 255). وهكذا يتمثل سلطان الواجب بطابعه الخاص الأصيل، فهو لا يقهر الجوارح، ولا يكره المدارك[17].”

إن الواجب القرآني لا يمكن أن يصبح إلينا تكليفا إلا برضانا، لذا فالواجب الذي يدعو إليه القرآن ليس واجبا قاهرا، بل هو واجب مرن يستحضر ظروف المكلفين وطاقاتهم “لا يكلف الله نفسا اِلا وسعها” (البقرة: 286)؛ “لا يكلف الله نفسا اِلا ما أتاها” (الطلاق: 7) كما يستحضر الغايات الحميدة التي تعود بالنفع على الفرد والجماعة.

النية

عنصر النية، هو جوهر الأخلاق القرآنية، ويحتل كل الضمير الأخلاقي القرآني؛ إذ يرتبط بجانب القصد ودافع الإنسان للعمل. ومن ثم جاء التأكيد عليه في العديد من الآيات القرآنية: “ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من اَتى الله بقلب سليم” (الشعراء: 87-89). “هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ، من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب” (ق: 32-33).

وقد أكد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الأعمال لا تقوم ولا توجد إلا بالنيات: “إنما الأعمال بالنيات[18]“، وقال عليه الصلاة والسلام: “ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب[19].”

ومما يزيد من أهمية النية كعنصر أساسي من عناصر النظرية القرآنية كون الله، عز وجل، لا ينظر إلى الشكل والمظهر والصور، وإنما ينظر إلى الباطن والجوهر قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم[20].”

فالنية تؤثر بشكل عميق على طبيعة العمل الأخلاقي.

إلا أن ذلك لا يعني “أن النية الحسنة هي في ذاتها الحيز الأخلاقي “الخير المطلق بلا قيود” الخير الوحيد في العالم، بل وفيما وراء العالم (كما هو الحال عند كانط) فيلسوف يقودنا ذلك منطقيا لا إلى تسويغ جميع الأخطاء، والضلالات، التي تحدث للضمير فحسب، بل إلى أن تتخذ منها قيما مطلقة، ونماذج كاملة من نماذج الفضيلة[21].”

فالنية لا تحول الشر إلى الخير، كما أن الفعل الخير لا يكسب السمة الأخلاقية، إلا بالنية الحسنة، فالنية الحسنة تجلب لصاحبها الأجر على العمل وإن لم يفعله لمانع كالسفر أو المرض، قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة[22].”

ولأنها شرط أساسي في قبول الأعمال، فالعمل قد يكون في ظاهره صالحا عائدا بالنفع على الفرد والجماعة، ومع ذلك فإن صاحبه لا يؤجر عليه، وإنما يبطل كمن تصدق بصدقة فأتبعها بالمن رياء: “يأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والاَذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس” (البقرة: 34).

بل أكثر من ذلك يعتبره الإسلام على الرغم من ظاهره ونفعه رذيلة يأثم صاحبها ويعاقب عليها، قال صلى الله عليه وسلم: “إن أول الناس، يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فـما عملت بها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرفه نعمـه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تجب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار[23]“، وروى النسائي عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلا عزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “لا شيء له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغى به وجهه[24].”

إن جزاء العامل، إذن، بحسب نيته، وليس للعامل من عمله إلا ما يعود عليه بحسب نيته نفعا أو ضررا، ويجزى عليه ثوابا أو عقابا، فإن كانت نيته صالحة فعمله صالح وله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره. فمدار الأمر على هذا يتمثل في مدى صدق النية الموجبة للمثوبة. فالعمل قد يؤدي بصاحبه إلى نتيجة خاطئة، ورغم ذلك يؤجر عليه متى كانت نيته حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد[25].”

فالعمل، بناء على كل ما سبق، يوزن بميزان النية، والعمل يكسب أو يعدم قيمته الأخلاقية تبعا للدافع الذاتي (النية)، ومن تم على كل امرئ أن ينظر إلى عمله، ولا يتعب نفسه بفعل أو ترك إلا متى أحسنت نيته، وإلا فإنه فاشل في محاولته، وخائب في سعيه، وجزاؤه ضياع مجهوده، ويوم القيامة يظهر ويهتك سره “من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نوته منها، وما له في الاَخرة من نصيب” (الشورى: 18). وهكذا نجد أن الشرط الأولي للفعل الأخلاقي في القرآن هو وجود إرادة تشرع في العمل ابتغاء وجه الله وامتثالا لأمره “ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجرا عظيما” (النساء: 113)”[26].

الجزاء

هذا عنصر ثالث من عناصر النظرية الأخلاقية القرآنية، لا يقل أهمية عن سابقيه، وله الدور الكبير في دفع الإنسان نحو الالتزام بالأخلاق الحسنة؛ إذ أن القانون الأخلاقي لابد له من محرك ينظم العلاقات الأخلاقية ويضمن تحقيق هذا القانون فكان الجزاء هو ذلك المحرك؛ حيث إنه رد فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون، والجزاء في القرآن ثلاثة أنواع:

أ. الجزاء الأخلاقي: يغلب عليه الشعور النفسي، ودليله السعادة الروحية التي تغمر النفس حين أدائها واجبا أخلاقيا أو الشعور بالنكد حين اقتراف عملا لا أخلاقيا. فقد روى أحمد في مسنده أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن[27].” وقال أيضا: “المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره[28].” وقوله أيضا: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس[29].”

فالجزاء الأخلاقي في القرآن يرتبط بضمير الإنسان: أي أن ما يؤلم الضمير فهو قبيح وما يرتاح له فهو حسن.

هل نورد بعض الأمثلة، مما ساقه القرآن وأثبت به أن ممارسة الخير والشر في مختلف صورهما تحدث أثرها في النفس الإنسانية؟

 ها هي ذي عينة:

ـ محاسن الفضيلة

ـ الصلاة: وهي بالنسبة إلى أولئك الذين يؤدونها بروحها ذات وظيفتين أخلاقيتين: فهي لا تقتصر على كونها: “تنهى عن الفحشاء والمنكر” ولكن “ولذكر الله أكبر” (العنكبوت: 45)؛ فهي تجعلنا روحيا على اتصال بالمنبع الشامل لجميع الكمالات.

ـ الصدقة: ولها أيضا أثر مزدوج الفائدة، فهي “تطهر” النفس حين تصرفها عن حرصها الزائد على الكسب، وهي “تزكي” نضارتها: “خذ من اَموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” (التوبة: 103).

ـ وكذلك سائر الشعائر التعبدية (كالصوم والحج) والأفعال الفاضلة (الكرم، الصدق، العدل…).

ـ قبح الرذيلة

السكر والقمار: يقدم لنا القرآن الخمر، والميسر بقبح مزدوج: أعني أنهما يزرعان البغضاء والعداوة بين الناس، ويمنعان من ذكر الله: “إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل اَنتم منتهون” (المائدة: 93).

والواقع أنه إذا ذهب العقل فأية سيطرة تكون لنا على أنفسنا؟ وإجمالا نقول: إن الجزاء الأخلاقي الثوابي يتمثل في الحسنة والسيئة أي في كسب القيمة أو خسارتها: “كلا إن كتاب الفجار لفي سجين… كلا إن كتاب الاَبرار لفي عليين” (المطففين: 7-18).

ب. الجزاء القانوني/التشريعي: حين ننتقل من الناحية الأخلاقية إلى الناحية القانونية، يكون الجزاء الثوابي قد فقد نصف معناه، فهو لا يحتفظ من طابعه المزدوج، الثوابي والعقابي، سوى بالطابع الثاني، والجزاء هنا يعني أساسا (العقوبة) بالمعنى الواسع للكلمة التي يضم الإجراءات التأديبية، والإجراءات العقابية بالمعنى الصحيح على السواء.

ويمكن أن نميز في هذا النوع من الجزاء بين مرتبتين مختلفتين، فهناك الجزاءات (العقوبات) التي حددها الشرع بدقة وصرامة وهي التي تسمى بالحدود، وهناك جزاءات (عقوبات) أخرى، تسمى التعزيرات، وهي متروكة لتقدير القاضي.

فالمرتبة الأولى: تتكفل بمجازاة عدد قليل من الجرائم، هي الحرابة، السرقة، الزنا، القذف، شرب الخمر، القتل العمد البشع… أما الجرائم الأخرى فتتبع المرتبة الثانية، وما ميز الطائفة الأولى أن العقوبة فيها محددة تحديدا دقيقا كيفا وكما وذات صبغة مطلقة، والواجب تطبيقها بلا هوادة أو رأفة، فالصرامة في هذا الصدد لا تجعل مجالا أمام أي تنازل أو حل وسط، سعيا لمساواة الجميع أمام القانون قال صلى الله عليه سلم: “أيها الناس إنما ضل من قلبكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله وأن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها[30].”

فالهدف من هذا النوع من الجزاء هو تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي[31]. “ومن هنا تأتي أهميته ومركزيته في النظام الأخلاقي القرآني.

ج. الجزاء الإلهي: لقد آن لنا أن نتساءل –الآن- عن طبيعة الجزاء الإلهي، ومجاله، على ما وصفه القرآن.

إن الجزاء الإلهي في القرآن يجمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي، على عكس التوراة التي تجعل السعادة الموعودة في طيبات هذا العالم، ويحصرها الإنجيل تقريبا في السماء، وبيان ذلك كالآتي:

ـ الجزاء الإلهي في العاجلة

هذا الوعد بالجزاء الإلهي هو في جانب كبير منه ذو طابع أخلاقي، عقلي أو روحي، فالطابع المادي الخالص يمثل هنا، على نقيض المنهج العبراني نسبة تافهة، إن لم يكن كمية سلبية.

فالآيات القرآنية التي تقرر وعدا ببعض الخير العاجل قليلة جدا منها: “ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب” (الطلاق: 2-3)؛ “ومن يتّق الله يجعل له من اَمره يسرا” (الطلاق: 4)؛ “ولو اَن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والاَرض” (الأعراف: 95)؛ “وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا. لنفتنهم فيه” (الجن: 16-17). وهذا النص الأخير، فضلا على ما ذكر، لا يقدم هذا الإحسان الموعود على أنه مكافأة، بل هو اختبار وفتنة.

وهناك عنصر يمكن إدراجه في الجانب المادي من الجزاء الإلهي في العاجلة يتصل بتأييد جماعة المؤمنين: “إن الله يدافع عن الذين ءامنوا” (الحج: 36)؛ “أن الله مع المتقين” (البقرة: 193)؛ “وأن الله مع المومنين” (الانفال: 19)؛ “ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا” (محمد: 12)؛ “ولله العزة ولرسوله وللمومنين” (المنافقون: 8)؛ “ومن يتول الله ورسوله والذين ءامنوا فإن حزب الله هم الغالبون” (المائدة: 58). وأما خصومهم فعلى العكس من ذلك مسوقون إلى الهزيمة وإلى العذاب: “قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم، وبيس المهاد” (آل عمران: 12)؛ “وأن الكافرين لا مولى لهم” (محمد: 12).

وما يمكن ملاحظته من خلال تتبع آيات القرآن الكريم الدالة على الجزاء الإلهي في العاجلة، أن هذا الجزاء قاصرا وليس شاملا وكاملا، وهو ليس في ذلك أكثر من الجزاءات الطبيعية، والجزاءات الإنسانية، فأما أنها ليست شاملة فالله يقول: “ويعفُ عن كثير” (الشورى: 31)، وأما أنها ليست كاملة، فالله يقول: “وإنما توفون أجوركم يوم القيامة” (آل عمران: 185).

ليتوق الإنسان إلى جزاء كامل وشامل ذلك هو:

الجزاء الإلهي في الحياة الآخرة

ـ فالسعادة الروحية والحسية لمن أحسن في الدنيا وعمل صالحا ينالهما بدخوله الجنة “والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون” (البقرة: 81)؛ “مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير ءاس وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم“ (محمد: 16). والواقع أن ما من إنسان يعلم ما أعد للمتواضعين والمحسنين والذاكرين الله في غالب أحوالهم من مفاجآت جميلة، وإنعام يفوق خيالهم وقد حدث القرآن عن ذلك: “فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين” (السجدة: 17).

ـ وعلى النقيض من ذلك تماما، قد أعد الله للعاصين أوامره في الدنيا، عذابا عظيما في الآخرة بدخولهم النار، وهو عذاب يمكن التمييز فيه بين عقوبات معنوية “فأولئك حبطت اَعمالهم في الدنيا والاَخرة” (البقرة: 215)؛ “ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم” (البقرة: 173)؛ “اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا” (الجاثية: 33). وعقوبات بدنية: “لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. اِلا حميما وغساقا” (النبإ: 24- 25)، “ليس لهم طعام اِلا من ضريع. لا يسمن ولا يغني من جوع” (الغاشية: 6-7)؛ “وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاَصفاد. سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار” (إبراهيم: 51-52).

هذه هي طبيعة الجزاء في القرآن وهذا هو مجاله وأنواعه، والملاحظ أن القرآن الكريم يغلب الجزاء الأخروي: “الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة: 273)؛ “إن الذين قالوا ربنا الله ثم اَستقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها، جزاء بما كانوا يعملون” (الأحقاف: 12-13).

وحين يغلب القرآن الكريم الجزاء الأخروي، فإنه لا يقر ذلك على حساب إرادة واختيار الإنسان للفعل الأخلاقي، بحيث أن أخطر الاعتراضات التي تثار غالبا ضد الأخلاق الدينية بعامة ينحصر في القول بأنها تضرب صفحا عن الضمير، فرديا كان أو جماعيا، وأنها تستمد كل قوتها وكل سلطانها من إرادة علوية خارجة عن طبيعة الأشياء، وأنها تفرض نفسها بخاصة عن طريق الترغيب في التواب، والخوف من العقاب الذي قررته تلك الإرادة العليا[32].

إلا أن هذا النقص في أية حالة من حالاته، لا يمس الأخلاق القرآنية، فالقرآن ما يلبث يعلن أن النفس الإنسانية مستودع قانون أخلاقي فطري، نفخ فيها منذ الخلق: “ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد اَفلح من زكّاها. وقد خاب من دسّاها” (الشمس: 7-10). والنبي، صلى الله عليه وسلم، يأمر كلا منا أن يستفتي قلبه، كيما يعرف ما يأخذ وما يدع: “استفت قلبك، البر ما اطمأنت النفس إليه، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر[33].”

كما أنه حين يغلب القرآن الجزاء الأخروي لا يكون بدعا من الرسالات السابقة، فمفهوم الجزاء الأخروي في القرآن، يعتبر عنصرا مشتركا بين جميع الأخلاق الدينية، التي تعترف للناس بحياة أخرى، سوف يجتمع فيها البدن والروح من جديد، بعد أن يكونا قد انفصلا مؤقتا بالموت، يجتمعان ليتلقيا معا ثوابا خالدا، أو عقابا أبديا.

ولا ريب أن هذه هي حال الأخلاق المسيحية، فلقد أجمع الآباء وفقهاء الكنيسة على أن يعلموا عقيدة بعث الجسد، وعقيدة اشتراكه مع الروح في الجزاء، وهما عقيدتان قائمتان على أساس متين من تعليم السيد المسيح، والدعاة، فقد قال يسوغ لحوارييه: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم[34].” وقال أيضا: “يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان[35].” وكثيرا ما صورت نصوص الإنجيل جهنم على أنها: “النار التي لا تطفأ، حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ[36].”

والجنة كانت أقل ترددا في العهد الجديد من النار، وجاءت صفاتها تحمل السعادة الحسية لأصحابها بجانب السعادة الروحية “من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله[37] أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا[38] لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس، ولا شيء من الحر[39].”

وهكذا نرى الآن رحابة الفكرة القرآنية عن الجزاء، إنها ليست نزعات خاصة لإنسان، ولا آراء شخصية لفيلسوف، ولا رأيا شائعا في عصر، أي عصر، سواء أكان معاصرا للإسلام، أم سابقا عليه، أم لاحقا به، ليس ذلك كله هو ما تعبر عنه هذه النظرية؛ إذ أنها لما كانت شاملة بفضل غايتها أرادت أن تكون كذلك شاملة بفضل منهجها، ومن تم فإن ما تركه الحكماء الأقدمون منذ سقراط وإيبكتيت (Epictete) وما كتبه فلاسفة العصر الحديث حتى كانط “وجون اسيوارت ميل” وما جاء به القديسون، والأنبياء منذ بدء الزمن، حتى موسى وعيسى، كل مذهب من هذه المذاهب لابد أن يجد في النظرية القرآنية إحدى الصيغ التي يوافق عليها. وما ذلك إلا لأنها تستهدف النفس بكل قواها وفي كل أعماقها، ولأنها تدعو جميع الناس، في جميع الطبقات، ومن جميع درجات العقل[40]، وتضع الإنسان أمام مسؤولياته في إدراك الفرق الكائن بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين الخير والشر.

المسؤولية  

وهذا يقودنا للحديث عن عنصر جد مهم في النظرية الأخلاقية القرآنية، يتعلق الأمر بالمسؤولية، ذات الارتباط الوثيق بفكرتي الواجب والجزاء “والواقع أن هذه الأفكار الثلاثة (الواجب، الجزاء، المسؤولية) يأخذ بعضها بحجر بعض، ولا تقبل الانفصال، فإذا ما وجدت الأولى تتابعت الأخريات على إثرها، وإذا اختفت ذهبتا على الفور في أعقابها، فالإلزام بلا مسؤولية يعني القول بوجود إلزام بلا فرد ملزم، وليس بأقل استحالة من ذلك أن نفترض كائنا ملزما ومسؤولا بدون أن نجد هذه الصفات ترجمتها وتحققها في “جزاء” مناسب، فإن معنى ذلك تعرية الكلمات من معانيها[41].”

إن “الالتزام الأخلاقي مستحيل من دون مسؤولية أو حساب، فما لم يكن الإنسان مسؤولا، وما لم يكن محاسبا على أفعاله، يغدو التشكيك لا مهرب منه، فالحساب أو تحقق المسؤولية، شرط لازم للالتزام الأخلاقي والإلزام الأخلاقي”[42].

والقرآن في حديثه عن المسؤولية يحصرها في ثلاثة أنواع: “المسؤولية الدينية، والمسؤولية الاجتماعية، والمسؤولية الأخلاقية المحضة.

وإن القرآن ليذكر هذه الثلاثة مجتمعة في هذا النظام في قوله تعالى “يأيها الذين ءامنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون” (الأنفال: 27).

وهاهنا بعض الآيات القرآنية التي خصت المسؤولية بالذكر “اِن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا” (الإسراء: 36)؛ “فوربّك لنسئلنّهم أجمعين. عما كانوا يعملون” (الحجر: 92-93)؛ “فلنسئلنّ الذين أرسل إليهم ولنسئلنّ المرسلين” (الأعراف: 5).

“ولو أردنا أن نصوغ قولة تلخص عنصر المسؤولية في شموليته، فلن نجد خيرا من تلك الكلمة المعروفة التي شبه فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كل فرد من بعض وجوهه بالحارس أو المدير المسؤول عن خير العاملين معه: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته[43]“، فكل فرد في مجاله مسؤول عن حسن سير الأمور العامة والخاصة التي وكلت إليه[44].

ومما يؤكد عليه القرآن الكريم أن المسؤولية ذات طابع شخصي، لا تحمل مواريث الأصول وعادات الآباء والأجداد: “ولا تكسب كل نفس اِلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى” (الأنعام: 166).

 ومما يشترطه القرآن لتحقيق مسؤوليتنا، شرط الحرية في العمل، ومن تم فمن أكره عن شيء، فإن الله لا يعاقبه عن فعله المكره عليه، حتى وإن تعلق الأمر بعمل الكفر أو النطق به، مع اطمئنان القلب وإيمانه بالله “من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالاِيمان” (النحل: 106). ولهذا جاءت القاعدة العقلية “الضرورات تبيح المحظورات”.

وعليه “يبقى العمل الإرادي للفرد الإنساني المزود بالعقل، الموضوع الدائم، والوحيد للمسؤولية، وتبقى أيضا نية فعل الشر شرطا ضروريا للعقاب[45].”

ومن ثم فالشروط الضرورية والكافية لمسؤوليتنا أمام الله، وأمام أنفسنا هي: أن يكون العمل شخصيا، إراديا، ثم أداؤه بحرية (أقصد دون إكراه) وأن نكون على وعي كامل، وعلى معرفة بالشرع أو القانون[46].”

إجمالا “فإن المبدأ القرآني للمسؤولية هو مبدأ فردي، يستبعد كل مسؤولية موروثة، أو جماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة[47].”

الجهد والاستطاعة

أخيرا نشير إلى عنصر، وهو العنصر الخامس والأخير من النظرية الأخلاقية القرآنية، شديد الارتباط بعنصر المسؤولية الأخلاقية، ذلك هو عنصر الاستطاعة: أي القدرة على الفعل أو الترك، فلا مسؤولية عن العمل مع عدم القدرة على فعله أو تركه، فكما أن الحرية شرط في المسؤولية، فالاستطاعة شرط لترتيب المسؤولية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأمر في آيات عديدة منها “لا يكلف الله نفسا اِلا وسعها” (البقرة: 285)؛ “لا نكلف نفسا اِلا وسعها” (الأنعام: 153)؛ “لا يكلف الله نفسا اِلا ما ءاتاها” (الطلاق: 7).

فبقدر –إذا- استطاعة الإنسان بقدر مسؤوليته، ومتى استفرغ وسعه في فعل الشيء أو تركه ولم يستطع إنجازه، كان الجزاء الإلهي كأنه فعله، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة[48].”

بهذا نكون قد آتينا على بيان أسس النظرية الأخلاقية القرآنية، كما قدمتها “لنا” آيات القرآن الكريم، كاملة على خير وجه، مستوفية كل العناصر الضرورية كيما تتكون لدينا فكرة دقيقة عن الطريقة التي ينبغي أن تتصور بها معنى الأخلاق: من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي الشروط تفرض نفسها؟ وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأية وسيلة تنال الفضيلة؟[49].

كل ذلك “مقدم” في منهج فريد مستوعب لكل الجزئيات والتفاصيل، مما يتأكد معه وجود فلسفة أخلاقية إسلامية واعية بمراميها متفوقة على ما عداها من فلسفات الأرض جميعها.

شبهة… ورد

لاحظ بعض المستشرقين أن القرآن لا يعرف شيئا اسمه الضمير، في نظامه الخلقي، ومن تم حكموا بضعف الجانب الأخلاقي في القرآن الكريم، واعتبروا الأخلاق القرآنية ليست ذات قيمة، ومن تم فهي لا تصلح، عندهم، لتكون نظاما أخلاقيا يحتكم إليه.

والعجيب أن واحدا من أكبر المستشرقين عداء للقرآن هو جولد زيهر، قد رد على هذا الادعاء الباطل، بقوله: “وقد حاول بعض الباحثين التدليل على قلة القيم الدينية والأخلاقية للإسلام بالاستناد إلى حجج ترجع إلى اللغة التي ظهرت بها تعاليمه، فقد قالوا، مثلا إن الإسلام خال من الفكرة الأخلاقية التي نسميها الضمير، محاولين أن يسندوا هذا الزعم بأن اللغة العربية نفسها وسائر اللغات الإسلامية خالية من كلمة خاصة للتعبير تعبيرا دقيقا عما نقصده من كلمة “ضمير”. ويعترض جولد زيهر على ذلك مستشهدا بقول القائل: “إن النقص أو الثغرة في اللغة لا يفترض حتما نفس النقص في القلب” ملاحظا أن هناك لغات ليس فيها كلمة “شكرا” –مثلا- ويتساءل: فهل هذا دليل على أنه لا مكان فيها للعرفان بالجميل، كما يشير إلى رفض الجاحظ لما تردد على لسان بعض معاصريه من أن خلو لغة الروم من كلمة “الجود” دليل على بخلهم. وأن خلو اللغة الفارسية من كلمة “نصيحة” دليل على “الغش الغريزي الذي فيهم!” ثم يشير جولد زيهر إلى أن المعنى الأخلاقي الذي تفيده كلمة ضمير في اللغات الأوربية يعبر عنه في اللغة العربية بكلمات أخرى في مقدمتها: القلب[50].”

والحق أن ما ذهب إليه جولد زيهير صحيح تماما، فإذا كانوا يطلقون الضمير “ويقصدون به الملكة التي نصدر بها أحكام القيمة التي من طبيعة أخلاقية[51]“؛ فإن هذه الوظيفة هي أساس الأخلاق القرآنية، وهي من عمل “القلب[52]“، فالقلب في القرآن والضمير في الفكر الغربي، وتشهد على ذلك آيات قرآنية عديدة منها: “ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من اَتى الله بقلب سليم” (الشعراء: 87-89)؛ “اِن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب اَو اَلقى السمع وهو شهيد” (ق: 37)؛ “فإنها لا تعمى الاَبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور” (الحج: 44)؛ “وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة” (الحديد: 27).

فالقلب، بحسب هذه الآيات القرآنية، موقع الحس الأخلاقي، فهو ينفعل ويحس بفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك، كما يحس برذائل الأخلاق ومساوئ السلوك، فيميز بينهما، فيكون بهذا مساويا للفظ “الضمير” في الفكر الأخلاقي الغربي قائما بدوره. كما يستعمل القرآن كلمة “النفس” بمعنى الضمير، ويميز فيها بين ثلاثة أنواع من النفوس “النفس المطمئنة” مصدر فعل الخير، و”النفس الأمارة بالسوء” وهي مصدر الشر وبينهما النفس اللوامة، التي تلوم صاحبها على تقصيره في فعل الخير، وتؤنبه على فعل الشر، ولا تزال كذلك حتى ترده إلى جادة الطريق وهذا هو المقصود، بعينه، بكلمة “الضمير” في الفكر الأخلاقي الغربي “لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة” (القيامة: 1-2).

وهناك أحاديث نبوية كثيرة تعتبر “القلب”/”النفس” مستودع الحس الأخلاقي بنفس معنى “الضمير” في الفكر الغربي منها ما رواه مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس[53]“، وكذا حديث أحمد والدارمي بإسناد حسن عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: “جئت تسأل عن البر؟” قلت: نعم فقال: “استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك[54]“، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي: القلب[55].”

إن هذا كله يفيد أن القلب/النفس تقوم في النسق الأخلاقي القرآني بدور الضمير الفردي، كما هو متعارف عليه في أدبيات الفكر الأخلاقي الغربي، ومن ثم فادعاء ضعف الجانب الأخلاقي في القرآن لغياب لفظ “الضمير” ادعاء باطل لا أساس له من الصحة.

تلكم هي الأسس التي تنبني عليها كل نظرية أخلاقية واعية بمراميها. وقد حاولنا توضيح رؤية القرآن لتلك الأسس. وفي محاولتنا هاته، لاحظنا كيف أن القرآن وهو يعرض نظريته، يحرص أن يثبت لها الصفات والخصائص القادرة على إقناع الآخر المغرم بالحقيقة، وأن ينفي عنها النقائص التي تعيب كل نظرية باطلة أو ذات هدف.

إن القرآن يعلن أن أخلاقه أخلاق:

أ. شاملة: لكل مناحي حياة الإنسان، في علاقته بنفسه أو مع خالقه، أو مع غيره من بني جنسه أو مع الكون.

فالقانون الأخلاقي القرآني لم يدع للنشاط الإنساني في ناحيته الفردية والاجتماعية مجالا إلا رسم له منهجا للسلوك وفق قاعدة معينة، فمن أخلاق القرآن الكريم ما يتعلق بالفرد نفسا وجسما وعقلا: “ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد اَفلح من زكاها. وقد خاب من دساها” (الشمس: 7-10)؛ ومنها ما يتعلق بالمجتمع في آدابه واقتصاده وفي سياسته وحكمه، ومنها ما يتعلق بغير العقلاء من الحيوان والطير، ومنها ما يتعلق بالكون والحياة: “ولا تبغ الفساد في الاَرض”؛ ومنها قبل كل هذا ما يتعلق بحق الخالق الله عز وجل: “وأحسن كما أحسن الله إليك” (القصص: 77).

لتكون أخلاق القرآن الكريم مستوعبة لكل مجالات واحتياجات الإنسانية سواء منها المادية أو الروحية، وسواء على صعيد أفراد المجتمع الإسلامي، أو غيره إن اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا…

ب. عالمية ومتعدية: فأخلاق القرآن “لا تخص صلاح الفرد الواحد، ولا صلاح الأمة الواحدة، وإنما تبتغي صلاح البشرية قاطبة، بل تبتغي صلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان، ذلك أنها ترفع همة الإنسان إلى أن يأتي أفعاله على الوجه الذي يجعل نفعها يتعدى نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسره بحيث تكون كل بقعة من العالم وطنا له ويكون كل إنسان فيها أخا له ويكون كل كائن سوى الإنسان نظيرا له في الخلق[56].” لذا “لا تبيح لجنس ما تحرمه على آخر، العرب والعجم فيها سواء، بل المسلمون وغيرهم أمام أخلاقها سواسية، الربا حرام مع المسلم والكافر، والسرقة حرام لمال المسلم والكافر، والزنا حرام بالمسلمة وغير المسلمة، والعدل واجب مع المسلم وغير المسلم، والعدوان حرام على المسلم وغير المسلم… “ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” (المائدة: 9)[57].”

“وبهذا تنزهت الأخلاق الإسلامية عن النزعة العنصرية التي اتسمت بها الأخلاق اليهودية والأخلاق القبلية والبدائية على وجه العموم”[58]. فقيم القرآن وأخلاقه، بحكم تصديقه وهيمنته على ميراث الأنبياء والمرسلين ليست خاصة بالمسلم لوحده، وإنما هي منفتحة على سائر الأمم والشعوب.

ج. واقعية: ومن واقعية الأخلاق القرآنية “أنها لم تفترض في المؤمنين المتقين أن يكونوا ملائكة أولوا أجنحة لا تسول لهم أنفسهم سوءا يوما، ولا يتورطون في أوحال الرذيلة أبدا، كلا إن الإنسان خلق على طبيعة مزدوجة جمعت بين طين وحمإ مسنون وبين نفخة من روح الله، فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يثوب، إنما المنكر أن يتمادى في الذنوب ويستمر في الرذيلة والعصيان، لقد أذنب آدم، أبو البشر، وثاب فثاب الله عليه،فلا غرابة أن يكون بنوه مثله ولهذا جعل القرآن من أصناف المتقين “والذين إذا فعلوا فاحشة اَو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون” (آل عمران: 135)”[59].

ومن واقعيتها، أيضا، “أن الله، سبحانه وتعالى، لا يفرض علينا أي تكليف فوق وسائلنا، ولكن ذلك لا يمنع أنه يحثنا على طاعته، “بكل” ما نملك من “قوانا”: “فاتقوا الله ما اَستطعتم” (التغابن: 16). والقرآن يدعو إلى أن نبذل هذا النشاط ونمده على طريق التقدم الأخلاقي الصاعد، وهي دعوة يصوغها في تشبيه مجازي جميل وهو يقول: “فلا اقتحم العقبة” ثم يبين حقيقتها: “وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. اَو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. اَو مسكينا ذا متربة. ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة” (البلد: 12-18).

فالله، عز وجل، لم يطلب من الإنسان مطلق الكمال، في تمثل أخلاق القرآن، ولكنه طلب منه الصعود في سلمه قدر جهده واستطاعته “يأيها الاِنسان إنك كادح اِلى ربك كدحا فملاقيه” (الانشقاق: 6).

ومن المسائل التي تميز الأخلاق القرآنية عن غيرها، وتدل دلالة صريحة على واقعيتها: وجود القدوة الصالحة: “لقد كان لكم في رسول إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاَخر وذكر الله كثيرا” (الأحزاب: 21). فحياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، الواقعية العملية التي عاشها في تماه تام مع تعاليم القرآن الأخلاقية: “وإنك لعلى خلق عظيم” (القلم: 4)؛ تمثل الوحدة القياسية الواجب على كل إنسان الأخذ بها في سعيه إلى تحقيق الهدف الأخلاقي الذي من أجله خلق “وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون” (الذاريات: 56)؛ كل حسب جهده واستطاعته.

إن حث المؤمنين على اتباع الرسول والتأسي به باعتباره قدوتهم، دلالة على واقعية الأخلاق القرآنية، فبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم: “اِنما أنا بشر مثلكم” (فصلت: 6)؛ حافز قوي وعامل محرك لكل إنسان نحو الهدف الأخلاقي، لتتفوق الأخلاق القرآنية، مرة أخرى، عن نظيرتها اليهودية، فالتوراة دعت إلى التمسك بالأخلاق الحسنة، فحرمت الكذب[60] والرشوة[61] والربا[62] والغش[63] والقتل[64] والسرقة[65] والزنا[66]… ودعت إلى الصدق[67] والعفة[68] والتعاون على الخير[69] والحث على تقديم يد المساعدة للمحتاج[70] ومساعدة الفقير والأرملة واليتيم[71] والدعوة إلى الإحسان[72]

ولكن في مقابل ذلك نجد في العهد القديم نصوصا أخرى أخلت بإطلاقية تلك النصوص وأكدت أن هذه التعاليم ليست للتطبيق والتنفيذ أبدا، وذلك حين نعتت الأنبياء والرسل بأقدح النعوت التجريحية، منقصة من قدرهم متهمة إياهم بالفاحشة، لينمحي المثل الأعلى وتزول القدوة الصالحة ويحكم على كل الأخلاق الفاضلة بالمثالية والتجريدية؛ لأن خير البشر عجزوا عن تطبيقها؛ إذ وصف سفر التكوين نوحا بأنه سكر حتى تعرى[73] وأن إبراهيم باع عرضه مرتين[74] وأن لوطا زنا بابنتيه[75] وأن يعقوب كذاب ومخادع[76] وأن يهودا بن يعقوب زنا بزوجة ابنه[77] وأن داود زان وقاتل[78]….

هكذا حكمت التوراة بعدم واقعية أخلاقها، عكس القرآن الذي يعلي من شأن الأنبياء والمرسلين ويعتبرهم خيرة البشرية مما يدل على واقعية أخلاقه.

لقد استفضنا في الحديث عن هذه الخصيصة (الواقعية)؛ لأن من أهم الانتقادات التي توجه إلى الأخلاق القرآنية هي المثالية والتجريدية، ومن تم صعوبة تطبيقها، وصعوبة تمثلها مهما كان الإنسان فاضلا. ولقد اتضح لنا بما قدمنا من حجج وبراهين عكس هذا الادعاء.

“ومجمل القول في [القرآن الكريم) أنه يورث الإنسان أخلاقا مؤسسة (بفتح السين المشددة) ومتعدية وشاملة، مما يجعلها أنسب أخلاق للعالم المنتظر، وبيان ذلك أنها، بفضل أساسها الإلهي، تجلب الثقة في هذا العالم، وبفضل تعديها من بعض أفراده إلى الباقي، فإنها تسوي بين حقوقهم وواجباتهم، وبفضل شمولها لجميع الأفعال، فإنها تحفظهم من ظلمهم لأنفسهم أو ظلم بعضهم لبعضهم، وبهذا تكون أخلاق [القرآن) هي الأخلاق الكونية بحق وليس سواها[79].”

خاتمة

في هذه الظروف نستطيع أن نختم محاولتنا هذه قائلين:

بالنظر إلى تطلع البشرية لنظام أخلاقي جديد، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن أنى توجهت قاعدة لتنظيم حياتها أخلاقيا… لأن أدنى ما يقال في الأخلاق القرآنية:إنها تكفي نفسها بنفسها فهي أخلاق متكاملة.

الهوامش

  1. هانز كينغ، “نحو أخلاق عالمية”، إعلان عالمي صادر عام1993م. م.التسامح.ع7، س الثانية (1425ﻫ/2004م)، ص58.
  2. ذلك أن الأخلاق لم تعد مجرد مواعظ وتوصيات وآداب، بل غذت نظاما معرفيا يمتد إلى الفلسفة والعلم ونظام القيم. فقد اقتحم البحث الأخلاقي معظم الميادين،وبات مشروعا بسائل ويخضع للسؤال من قبل المفكر والفيلسوف.

والملاحظ في السنوات الأخيرة العودة القوية للأخلاق؛ إذ تلا الأزمة العالمية َبالفعل وعي أخلاقي خاص، تجلى هذا الوعي في مظاهر شتى منها: تقوية تدريس مواد الأخلاق وإحداث كراسي لها في المعاهد والجامعات وعقد المؤتمرات حول الإشكاليات الأخلاقية المستجدة، ومنها أيضا: إنشاء لجان الحكماء ووضع دساتير ومواثيق أخلاقية.. وكذلك فتح أبواب في علم الأخلاق غير مسبوقة ووضع نظريات فيه غير معهودة، فجرى الخوض في َأخلاقيات الحياةَ، وَأخلاقيات البيئةََ، وَأخلاقيات الشغلَ.. كما اتسعت الدعوة إلى ضرورة أن يتحمل الإنسان المسؤولية إزاء كل مجالات الحياة، وأن يسارع لتحصين نفسه بالأخلاق اللازمة لمواجهة التلوث في الطبيعة والتسيب في التقنية والتفكك في المجتمع والفساد في السياسة والتضليل في الخبر َِ راجع طه عبد الرحمان.روح الحداثة:المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط1، 2006 ص85.

  1. هانز كينغ، م، س، ص61.
  2. محمد عبد الله دراز، “دستور الأخلاق في القرآن”، ترجمة عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، ط10، (1418ﻫ/1998م)، ص8-9.ودستور الأخلاق في القرآن، هو في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة السوربون، قدمها الشيخ دراز بالفرنسية وناقشها في الخامس عشر من دجنبر 1947م، ونشرها الأزهر بلغتها الأصلية عام1950م. ثم ترجمها وحققها الدكتور عبد الصبور شاهين، ونشرت طبعتها الأولى بالعربية سنة 1973م. وللإشارة فبحثنا هذا قد اعتمدنا فيه بشكل كبير على كتاب دستور الأخلاق في القرآن؛ لأنه بحق يعد من المصادر الأساسية في موضوع النظرية الأخلاقية القرآنية، فهو في أصله دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن الكريم.
  3. بيتر إدواردز، “مستقبل الأخلاق”، ضمن كتاب: “مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين”. تحرير أوليفرليمان، ترجمة: مصطفى محمود محمد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مارس 2004، ع 301، ص100.
  4. المرجع نفسه، ص98.
  5. شفا رتزمان، “الأخلاق البرجوازية في العصر الحالي”، ترجمة محمد شعبان، دار دمشق للطباعة والنشر، ط1، 1986، ص131.
  6. بيتر ادواردز، م، س، ص98.
  7. شفا رتزمان، م، س، ص174.
  8. راجع: فرانسوا سليه، “الأخلاق والحياة الاقتصادية”، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط1، 1980.

ـ فرانسوا غريغور، “المذاهب الأخلاقية الكبرى”، ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات: عويدات بيروت، باريس، ط1، 1970.

ـ شفا رتزمان، م، س.

  1. راجع سيد قطب، “في ظلال القرآن”، دار الشروق.ط.الثلاثون، القاهرة، (1422ﻫ/2001م)..، ج4، ص2412.
  2. محمد عبد الله دراز، دستور الاخلاق في القرآن م.س، ص 680.
  3. المرجع السابق، ص676-677.
  4. المرجع السابق، ص685.
  5. المرجع السابق، ص21.
  6. المرجع السابق، ص 681.
  7. المرجع السابق، ص21 وما بعدها.
  8. صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله، رقم الحديث1.
  9. صحيح البخاري، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم الحديث 1599.
  10. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ظلم المسلم وخذله واحتقاره، رقم الحديث 2564.
  11. عبد الله دراز، “دستور الأخلاق في القرآن”، م، س، ص437-438.
  12. صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو سيئة، رقم الحديث 6126.
  13. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، رقم الحديث 1905.
  14. سنن النسائي، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر، رقم الحديث 3140.
  15. صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم الحديث 1716.
  16. راجع محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، م، س، ص432 وما بعدها.
  17. مستدرك الحاكم، كتاب الإيمان، رقم الحديث 33.
  18. مسند أحمد، مسند عبد الله بن مسعود، رقم الحديث 3620.
  19. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، رقم الحديث 2553.
  20. صحيح البحاري، كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحدود، رقم الحديث 6406.
  21. راجع، عبد الحميد أبو سليمان، الأمن والسلام الاجتماعي هدف نظام العقوبات الإسلامي، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الرابعة، ع 14، ص 167 وما بعدها.
  22. محمد عبد الله دراز، “دستور الأخلاق في القرآن”، م، س، ص243 وما بعدها.
  23. سنن الدارمي، كتاب البيوع، باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، رقم الحديث 2438.
  24. إنجيل متى، الإصحاح 10، الفقرة 28.
  25. المرجع نفسه، الإصحاح 13، الفقرة 43.
  26. المرجع نفسه، الإصحاح 4، الفقرة 43.
  27. رؤيا يوحنا، الإصحاح 2، الفقرة 7.
  28. المرجع نفسه، الإصحاح21، الفقرة 6.
  29. المرجع نفسه، الإصحاح 7، الفقرة 17.
  30. محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، م، س، ص 243 وما بعدها.
  31. المرجع نفسه، ص136.
  32. إسماعيل راجي الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ط1، (1414ﻫ/1998م)..، ص134.
  33. صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب قوا أنفسكم وأهليكم نارا، رقم الحديث 4892.
  34. دراز، دستور الأخلاق في القرآن، م، س، ص 148 بتصرف يسير.
  35. محمد عابد الجابري، “العقل الأخلاقي العربي”، المركز الثقافي العربي ط2002م.. ص78.
  36. دراز، دستور الأخلاق في القرآن، م، س، ص222.
  37. المرجع نفسه، ص 242.
  38. صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو سيئة، رقم الحديث 6126.
  39. راجع دراز، دستور الأخلاق في القرآن، م، س، ص675.
  40. جولد زيهير، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرون، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى بغداد، ط2، د. ت، ص38، نقلا عن: الجابري، العقل الأخلاقي العربي، م، س، ص120-121.
  41. الجابري، العقل الأخلاقي العربي، م، س، ص120.
  42. راجع حديثنا عن النية كأساس من أسس النظرية الأخلاقية القرآنية فبما سبق.
  43. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، رقم الحديث 2553.
  44. سنن الدارمي، كتاب البيوع، باب دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، رقم الحديث 2438.
  45. صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم الحديث 1599.
  46. طه عبد الرحمان، “سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية”، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص158.
  47. يوسف القرضاوي، “مدخل لمعرفة الإسلام”، مؤسسة الرسالة ط5، 1422ﻫ ص99.
  48. المرجع نفسه، ص99.
  49. القرضاوي، مدخل لمعرفة الاسلام، م، س، ص100.
  50. سفر التثنية، الإصحاح، 5، الفقرة 11.
  51. المرجع نفسه، الإصحاح 16، الفقرة، 19.
  52. المرجع نفسه، الإصحاح 23، الفقرة 20.
  53. المرجع نفسه، الإصحاح 25، الفقرة 13.
  54. المرجع نفسه، الإصحاح 5.
  55. المرجع نفسه.
  56. المرجع نفسه.
  57. المرجع نفسه، الفقرة 11.
  58. المرجع نفسه، الفقرة 21.
  59. المرجع نفسه، الإصحاح 24، الفقرة 29.
  60. المرجع نفسه، الإصحاح 15، الفقرة 7.
  61. المرجع نفسه، الإصحاح 24، الفقرة 19.
  62. سفر العدد، الإصحاح 10، الفقرة 29.
  63. سفر التكوين، الإصحاح 2، الفقرة 2-42.
  64. المرجع نفسه، الإصحاح12، الفقرة 10-20.
  65. المرجع نفسه، الإصحاح 19، الفقرة30-39.
  66. المرجع نفسه، الإصحاح 27، الفقرة12.
  67. المرجع نفسه، الإصحاح 28، الفقرة12-30.
  68. صموئيل الثاني، الإصحاح 11، الفقرة 1-15.
  69. طه عبد الرحمان، “روح الحداثة”، م، س، ص159، بتصرف.
Science
الوسوم

د. محمد الناصري

باحث في الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق