مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

أسباب الاختلاف في تفسير القرآن الكريم: رؤية منهجية

المحور الثاني: أسباب الاختلاف في التفسير العائدة إلى المفسر:

وقد أجملتها في ثلاثة عناصر:

1-   الآليات العلمية المتوفرة لدى المفسر:

المعول عليه في قوة التفسير ومصداقيته ليس المصدر المعتمد فقط، بل إن الذات المفسرة عامل محوري في حجية التفسير؛ فإذا توفرت في المفسر الشروط والضوابط المطلوبة اكتسى تفسيره الحجية والمصداقية، كما تسقط هذه الأخيرة في حال وقع في التعسف المنهجي وإن استند إلى القرآن نفسه.

 تكلم العلماء عن شروط المفسر في مباحث علوم القرآن 26، وبينوا بعض أهم الآليات العلمية الضرورية لممارسة العملية التفسيرية، بما في ذلك العلم بالآثار واللغة وغيرها، لأن تفسير الآية يختلف من مفسر لآخر بحسب اطلاع كل واحد على الأداة العلمية المطلوبة لفهم الآية، وقد كان غياب هذه الآليات العلمية عند بعض المتصدين للتفسير سببا في وجود كم هائل من الخلاف غير المعتبر في أمهات كتب التفسير، يتجلى ذلك في الأقوال التي لا تستند إلى أي دليل، ولهذا لا يصح القول: اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على خمسة أقوال أو ستة؛  فذهب بعضهم إلى أن معناها كذا وذهب آخرون إلى أن معناها كذا…إلا إذا كانت هذه الأقوال مستندة إلى دليل، وإلا فهي خواطر لا يمكن عدها ضمن الأقوال التي تعتبر خلافا، كما قال الناظم:

وليس كل خلاف جاء معتبرا ***إلا خلاف له حظ من النظر

والخلاف غير المعتبر في التفسير هو من الخلاف المذموم، لأنه إن لم يكن له من مساوئ سوى أنه يثقل كاهل التفسير، ويحول بين طالب العلم وبين الوصول إلى الراجح من الأقوال التفسيرية لكفى ذلك داعيا لتخليص كتب التفسير منها27.

ولهذا تكتسي الجهود العلمية لبعض المفسرين المتأخرين أهمية قصوى في تخليص التفسير من الحشو ، كما صنع الشيخ عبد الله كنون في: “تفسير سور المفصل من القرآن الكريم”.

2-  أخلاق المفسر:

 يشمل مدى استصحابه لانتمائه المذهبي في عملية التفسير من عدمه، ومدى توظيفه الآلية المذهبية في التفسير، لأن المفسر قد يكون عالما بالدليل، لكنه يقدم مذهبه العقدي أو الفقهي وهي مسألة أخلاقية فتحت بابا واسعا من أبواب الاختلاف في التفسير28.

3-   درجة اطلاع المفسر على الواقع:

 معلوم أن الاختلاف في التفسير إذا نظرنا إليه من الناحية الزمنية يشمل اختلاف المفسرين من السلف فيما بينهم، واختلاف المفسرين المتأخرين مع مفسري السلف، واختلاف المتأخرين فيما بينهم، فالاختلاف ليس محددا بعصر معين.

وقد حضر السياق المقامي في كتب التفسير بوضوح29 ويجب أن يحضر فيها في كل حين، وذلك كأثر لإنصات المفسر لأسئلة زمانه  وتحدياته، بحسب الأفق المعرفي الذي وصل إليه مجتمع المفسر والذي حدد طبيعة وعمق السؤال المطروح، فيكون حينها دور المفسر هو خلق التوازن بين عبارة: “القرآن يفسره الزمان” وعبارة: “القرآن يفسر الزمان”.

 لكن المفسر أحيانا قد لا يراعي مقتضيات الواقع إما جهلا، وقد لا يراعيها قهرا بسبب اختلاف العصور، وعندما لا نجد مراعاة للواقع في التفسير بسبب اختلاف العصر  تكون هناك مشروعية اختلاف المتأخرين من المفسرين مع المتقدمين في تفسير الآيات التي لها علاقة بالواقع المستجد، إما تنزيلا للآيات على الواقع، أو رفعا لإشكاليات هذا الواقع إلى القرآن ليجيب عنها ويؤطرها بكلياته ومقاصده العليا الحاكمة وأدلته الجزئية أحيانا، وهو ما حاولت توضيحه في الرسم أسفله:

جدلية العلاقة بين النص30 والواقع31 كسبب في اختلاف المفسرين:

 لذلك فطبيعة العلاقة بين النص والواقع تقتضي التفسير المستمر من أجل انضباط المتحول بالثابت، ومن أجل الإجابة عن إشكالات الواقع الحادثة من خلال الدلالات الممتدة، فوجب إعادة النظر في مقولة: تناهي النصوص وعدم تناهي الوقائع، لأن النصوص وإن كانت متناهية صورا فهي غير متناهية دلالة، ولهذا فهذه القاعدة تحصر الممتد، وتُحكم الزائل والمتحول  في الثابت.

اختلاف الأقوال التفسيرية يستدعي الترجيح

عندما تكون الأقوال التفسيرية متعارضة فيما بينها ويتعذر حمل الآية عليها جميعا، يلزم الترجيح بينها بقواعده وقد أفردها  بعض الباحثين بالتصنيف32، وقواعد الترجيح هي :”ضوابط وأمور أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى بقصد معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في كتاب الله تعالى ومن تمة العمل بها إما اعتقادا أو عبادة أو سلوكا، وبقصد تنقية كتب التفسير مما علق يبعضها من أقوال شاذه أو ضعيفة.

ومن هذه القواعد الترجيحية: القول الذي تؤيده قرائن السياق مقدم على ما خالفه، حمل نصوص الوحي على الحقيقة أولى من حملها على المجاز، القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار، تحمل نصوص الوحي على العموم ما لم يرد نص بالتخصيص، إذا دار الكلام بين أن يكون مقيدا أو مطلقا فإنه يحمل على إطلاقه…وغيرها كثير من القواعد.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الترجيح في التفسير لا يستدعيه دائما التعارض بمعناه الأصولي بحيث يتعذر الجمع بين قولين في نفس الرتبة والقوة، بل يشمل إظهار أبرز الأقوال وأولاها بالأخذ، فتجد المفسر يقول مرجحا: الظاهر كذا ، وأولى الأقوال كذا…

خلاصة منهجية:

قصدت بهذه الدراسة بيان الضرورة المعرفية والمنهجية التي أدت إلى الاختلاف في تفسير القرآن الكريم حينا، والضرورة المنهجية التي تدعو إلى رفعه حينا آخر، ولهذا أود في هذه الخلاصة الإشارة إلى وسيلتين كفيلتين بتفادي بعض الاختلاف في التفسير كالآتي:

أولا: إذا علمنا أن من دواعي الاختلاف في التفاسير الراهنة كون بعض المفسرين المعاصرين33 يغردون خارج سرب الأسئلة الحارقة للأمة، ويفسرون الآيات بتحديات القرن الثاني أو الثالث، مما وسع هوة الاختلاف بينهم وبين من يسعى لتفسير الحياة بالآيات؛ بحيث يفسر القرآن بقدر ما يفسر بالقرآن، لزم تفادي هذا الاختلاف من أصله، لما له من آثار معرفية على سائر حقول العلوم الشرعية، ومن تمة لابد من إضافة شروط للمفسر تتعلق بالمعارف الراهنة لضخ الروح السياقية في التفاسير.

ثانيا: أن التمييز بين ما ينكر فيه الاختلاف وما لا ينكر من التفسير بالمأثور قضية منهجية حاسمة، إذ رغم  الجدار الوهمي القائم بين المعقول والمنقول في مجال التفسير، هناك صعوبة منهجية حقيقية في التفريق بين المأثور حقيقة وما دخله الاجتهاد من التفسير بالمأثور، حيث يتعلق الأمر أحيانا بتفسير أثري حقيقة؛ كتفسير القرآن للقرآن، وتفسير النبي للقرآن، وقد يتعلق باجتهادات مأثورة؛ كتفسير القرآن بالقرآن، والتفسير بالحديث النبوي، والتفسير باجتهادات مفسري الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا لا غضاضة في محاولة دفع الاختلاف، وكشف وهميته وعدم اعتباره  عندما يتعلق الأمر بالرأي، وإن استند إلى آراء مأثورة.

 الهوامش:

1- كما صنع الشيخ عبد الله كنون  في  “تفسير سور المفصل من القرآن الكريم”، ومن الجهود التي تستحق التنويه كذلك تفسير جزء عم للدكتور سليمان الطيار  في تفسير لجزء عم وغيرها كثير .

2- مناهل العرفان، ج2، ص3.

3-ينظر “الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم”، ابن السيد البطليوسي، ص26، تحقيق محمد رضوان الداية، دار الفكر دمشق ط3، سنة 1987 .

4-من ذلك: “اختلاف القراءات وأثرها في عمل المفسرين- القرطبي نموذجاـ”، لأحمد ولد ولد نافع، رسالة دبلوم دراسات عليا معمقة، من كلية الآداب بتطوان سنة2005. و”مكانة القراءات في التفسير من خلال منهج القراء”، الميلودي بوكرمة، دبلوم دراسات عليا، كلية الآداب بالرباط، 1995. بعضها لا يشير في العنوان لموضوع الاختلاف لكنه متضمن مثل: “القراءات وأثرها في التفسير والأحكام” محمد بن عمر بازامول، أصلها رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.

5-من ذلك:”الوقف الموجه للخطاب في القرآن الكريم ـ دراسة دلالية “، لبلعيد بنسعيد: أطروحة دكتوراه، من  كلية الآداب بالمحمدية، سنة 2005. ومنها:”وقوف القرآن وأثرها في التفسير دراسة نظرية مع تطبيق على الوقف اللازم والمتعانق والممنوع”، لمساعد بن سليمان الطيار نشر بمجمع الملك فهد، ط1، سنة: 1431 هـ.  وكذلك:”الوقف والابتداء في القرآن الكريم وأثرهما في الأحكام والتفسير”، لعبدالله علي المطيري، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى سنة: 1417هـ

6- من التفاسير التي التزمت بمنهج تفسير القرآن بالقرآن: “تفسير الكتاب بالكتاب” لعبد الرحيم عنبر الطهطاوي ت1365هـ، و”نظام القرآن: تأويل الفرقان بالفرقان” للمعلم عبد الحميد الفراهي1349، و”التفسير القرآني للقرآن” لعبد الكريم محمود الخطيب 1406هـ، و”أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” لمحمد الأمين الشنقيطي، وقد تفرق كذلك تفسير القرآن بالقرآن في كتب الوجوه والنظائر، وكتب المبهمات، وكتب المتشابه، وتأويل المشكل، وكتب علم المناسبة، وكتب توجيه القراءات، ومن تجلياته كذلك الدراسات المصطلحية، ومصنفات التفسير الموضوعي…

7- وقد فصل ذلك الباحث محسن المطيري في كتابه: “تفسير القرآن بالقرآن تأصيل وتقويم” بين فيه أن هذا اللون من التفسير هو مرتع خصب لأهل الإلحاد والمروق قديما وحديثا.

8- من ذلك مثلا قوله: “خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا”والآيات المشيرة للمراد بذلك السماع على كلا التفسيرين.

9- سورة يوسف، آية28

10- سورة النساء، من الآية 76.

11- أضواء البيان، ج2، ص41

12- سورة الأعراف، من الآية 183

13- سورة يوسف، الآية5

14- ينظر للتفصيل في هذه المسألة: “مفاهيم نبذ العنف ضد النساء في القرآن والسنة المطهر” للدكتورة فريدة زمرد، ص68

15- ومن الأمثلة على هذا أيضا ما جاء في سورة النمل على لسان ملكة سبأ: “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أدلة وكذلك يفعلون “( سورة النمل/34)، فهذا ليس حكما قرآنيا، لأن الله تعالى يقول في سورة سبأ: “ولقد آتينا داوود منا فضلا”، وقال أيضا :”وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب” (سورة ص/ 20)، يعني أن الملك من الفضل الذي آتاه الله تعالى لداود، فكيف يكون ما هو فضل مدعاة للإفساد بحسب ما حكاه القرآن من كلام ملكة سبأ، الذي يعد خلاصة لتجربتها هي لا حكما عاما أو تقريرا قرآنيا، والأمثلة كثيرة من هذا القبيل.

16- أضواء البيان، ج1، ص34

17- سورة النساء، من الآية34.

18- المحرر الوجيز، ج2، 540، ط2، وزارة الأوقاف القطرية، سنة1428هـ/ 2007م

19- ينظر “التسهيل لعلوم التنزيل” ، ج1، ص190

20- انظر تفسير: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”، وتفسير آية: “للذكر مثل حظ الأنثيين”

21- وموضوع الكم الذي فسره الرسول من القرآن موضوع آخر أنجزت فيه دراسات متعددة، وليس هذا مجالا لتفصيله.

22- المقصود بعلم المبهم العلم الذي يعني ببيان ما ورد مبهما في القرآن الكريم من الأعلام والأماكن والأحداث وتفاصيل الأمور ،  من أشهر المؤلفات فيه “التعريف والإعلام لما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام” لعبد الرحمن السهيلي، و”التبيان في مبهمات القرآن”، لابن جماعة، لأن القرآن صرح وفصل في مواضع واستغنى عن ذلك في مواضع أخر ، لذلك يعتمد على آية أخرى أو أكثر أو دلالة السياق لبيان المبهم.

23- المرفوع: هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو صفة، وقد يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً بحسب حال سنده ومتنه.

24- ينظر  فتح البيان في مقاصد القرآن، ج1، ص18/19.

25- ينظر  فتح البيان في مقاصد القرآن، ج1، ص18/19.

26- ينظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، في النوع الثامن والسبعون بعنوان: معرفة شروط المفسر وآدابه، ج4، 174، وينظر كذلك البرهان، ج2، ص292. 

27- وقد جمعت كما لا بأس به من الأمثلة على هذا النوع من الاختلاف -غير المعتبر- والذي تضج به كتب التفسير، وهو ما سنوسع القول فيه في بحث لاحق بعون الله تعالى.

28- وقد بحث في موضوع أثر المذهبية في التفسير العديد في العديد من الأبحاث مثل: أطروحة:”أثر المذهبية في التفسير” لعبد الرحمن حسي، أنجزت سنة 1990 كلية الآداب بمكناس، ورسالة بعنوان: “أثر المذهبية الفقهية في تفسير آيات الأحكام” لبهاء الدين أحمد الجاسم، من جامعة قهرمان مرعش التركية ،  سنة2015، وهناك مقالات منشورة  حول أثر المذهبية في التفسير، للدكتور عبد الرزاق الهرماس وغيره.

29- مثل ما نجده مثلا في تفاسير الاتجاه الإصلاحي كتفسير “المنار” و”الظلال”  و”التحرير والتنوير “وخواطر الشيخ الشعراوي

  30- النص هو صيغة الكلام الأصلية كما وردت من صاحبها، وفي اللغة الظهور والبروز والارتفاع،  وهذا هو المعنى المستصحب عندما يطلق على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لظهورها وبروزها وارتفاعها، وليس النص بمفهومه الأصولي أي ما لا يحتمل إلا معنى واحدا.

31- الواقع هو: الزمان والمكان والأحداث الراهنة، والفرق بينه وبين التاريخ هو: أن التاريخ واقع قديم.

32- ينظر: “القول المبين في قواعد الترجيح عند المفسرين” لعبد الله الحزمي، وكذلك: “قواعد الترجيح عند المفسرين” لحسين بن علي الحربي.

33- سواء تعلق الأمر بتفاسير كاملة أم بتفسير آيات بعينها، لأننا في جميع الأحوال بصدد نشاط تفسيري إما شامل أو جزئي.

الصفحة السابقة 1 2

دة. فاطمة الزهراء الناصري

أستاذة باحثة بمركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق