وحدة الإحياءدراسات عامة

أزمة التقليد في علم التفسير التشخيص وسبل العلاج

أولا: تشخيص الأزمة

1. الإطار العام للأزمة  

الحديث عن أزمة ما في علم من العلوم الإسلامية، هو كلام في التركيبة المنهجية والمعرفية لهذا العلم، وإذا كانت العلوم، عموما، تمر بكل المراحل الدالة على الحياة: من ولادة ونشأة وتطور وتقهقر وضمور وموت، فإنه من الطبيعي أن نتحدث عن أزمة، بل وأزمات أيضا، وليس التفسير بدعا من هذا القانون العام الذي يحكم العلوم، ولم يكن يوما في منأى عن الأزمات المنهجية والمعرفية التي عرفها غيره من العلوم.

ولم تحل خصوصيته؛ باعتباره العلم الوحيد، ضمن العلوم الإسلامية، الذي يحتك فيه العالم مباشرة مع كلام الله، عز وجل، المنزه عن كل خلل أو فساد أو اضطراب؛ من وجود ثغرات عند المشتغلين به، تعود إلى تصورهم العام لطبيعة علم التفسير ولمقاصده وغاياته، وإلى تصورهم لمنهج التفسير وخصائصه، وإلى تعاملهم مع جهود السابقين في هذا المجال.

لذلك فإن الكثير من وجوه هذه الأزمة تتشابه مع ما نجده في علوم أخرى تعاملت مع الوحي بشكل من الأشكال.

 إلا أن تشخيص هذه الأزمات أو على الأقل مقاربتها يقتضي أن تكون لدينا، ليس الجرأة العلمية فحسب، بل وقبل ذلك الأداة العلمية المساعدة على التشخيص أو مقاربة التشخيص، وعلى رأس هذه الأداة: المعرفة بالتاريخ؛ أقصد المعرفة بتاريخ العلم.

وحين نتحدث عن تاريخ العلم فنحن أمام نوعين أو مستويين من التأريخ:

التأريخ الأفقي الذي نرصد فيه ظهور العلم وإرهاصاته ونشأته وتطوره عبر مدارس واتجاهات ومذاهب ومصادر ومؤلفات وأعلام وشخوص.

 والمستوى الثاني: هو التاريخ العمودي الذي يحفر في عمق هذا العلم ليستنبط منه تاريخا للأفكار التي تداولها أهله على مر العصور، والقضايا التي وقفوا عندها، والمسائل التي استوقفتهم في التخصص أو في التخصصات المجاورة، ومدى التجاذب بينه وبين غيره من العلوم أخذا وعطاء، استنادا واستمدادا، نقلا ونقدا، هدما وبناء…

وبهذا المستوى من النظر التاريخي المعرفي، وبذلك فحسب نستطيع قياس درجة التطور أو التراجع، ودرجة التجديد أو التقليد في هذا العلم أو ذاك.

فهل اشتغل أهل العلوم الشرعية بهذا النحو من الاشتغال؟ هل أرخنا لعلومنا الإسلامية بهذا النوع من التأريخ؟

إن اهتمام الباحثين والدارسين بعلم التفسير انصب، في الغالب، على المستوى الأفقي من التأريخ له دون ما سواه، لذلك فلا غرابة أن نجد من ينفي عن التفسير أصلا تهمة “الأزمة”، بله أن يتحدث عن أزمة تقليد.

إن هذا يعني، من جهة أخرى، أنه لا حديث عن تقليد أو تجديد في التفسير ما لم تكن لدينا رؤية واضحة عن التاريخ العلمي للتفسير بهذا المعنى الذي وضحته من قبل. وهو أمر يقتضي مجموعة من المعطيات التاريخية والمعرفية تحول دونها عوائق ومشاكل لعل أهمها معضلة النص التفسيري نفسه وغياب جزء كبير منه إما لضياعه، قديما، ضمن ما ضاع من تراث حضارتنا، أو لإهماله، حاضرا، من قبل المهتمين والمتخصصين، فبعضه مطبوع وأغلب المطبوع غير مدقق، وبعضه مخطوط وأغلب المخطوط غير محقق، وبعضه مفقود، وأغلب المفقود غير معلوم.

كل هذه المقتضيات والعوائق لن تحول دون تلمس بعض مظاهر أزمة التقليد في التفسير، وإن حالت دون نظر علمي دقيق للأسباب والعلل… وحسبنا ما وجدناه من مصادر للتفسير وما نتداوله منها وهو كثير ولعله يفي بالمقصود، الذي نكتفي منه في هذا المقام بوضع نقطة في سطر مما نرجو أن تبيضه أيادي المهتمين المأخوذين بهموم هذا التخصص.

2. مفهوم التقليد في علم التفسير 

أ. التقليد في اللغة والاصطلاح

يؤول لفظ التقليد في اللغة إلى أصلين دلاليين أحدهما[1]: “تعليق شيء على شيء وليه به[2]“، ويفهم من مشتقات واستعمالات كثيرة له في لغة العرب أن التقليد فيها يدل على قوة وصلابة وتبوء للمكانة العليا، وكل هذه المعاني ترجع إلى معنى تعليق شيء على شيء وليه به، ومنه يقال: قلدت الحبل أقلده قَلدا، إذا فتلته، وقد يفهم من هذه الاستعمالات البعد الإيجابي لمفهوم التقليد في اللغة، على خلاف المعنى الاصطلاحي له في مجال العلوم الشرعية.

إلا أننا لا نستطيع استبعاد دلالة فرعية للفظ نتجت عن استعمالات أخر قريبة من دلالته الاصطلاحية، ومن ذلك معنى “الحفظ والاحتواء، ومن استعمالات هذا المعنى لفظ “المقاليد” الوارد في القرآن الكريم وفسر بالخزائن، وسميت خزائن؛ لأنها تحصن الأشياء وتحوزها وتحفظها، والعرب تقول: أقْلَدَ البحر على خَلْقٍ كثير، إذا أحْصَنَهُم في جَوفه[3]. فهل معنى هذا أن التقليد منه المذموم ومنه المحمود؟ وأي معنى من معنييه هو الذي يرتبط بالدلالة الاصطلاحية في مجال العلوم الإسلامية؟

أما مسألة المحمود والمذموم من التقليد، فإن المقام هنا لا يسمح بالوقوف عندها نظرا لارتباط هذا الموضوع بقضية الاجتهاد والتقليد وما صاحبها من جدل، وذلك لبعد هذه المسائل عما نتحدث عنه الآن.

 وأما ارتباط الدلالة اللغوية بالدلالة الاصطلاحية، فالظاهر أن وجه العلاقة بين التقليد في اصطلاح العلوم الإسلامية وبين الدلالة اللغوية له في كل هذه الاستعمالات واضحة، ذلك أن المقلِّد يحيط نفسه بآراء غيره وأقواله ويطوق نفسه بها (كالقلادة) بحيث لا يستطيع منها فكاكا، وهذا مقتضى مفهوم التقليد في اصطلاح الأصوليين: حيث دل على معنى “الاتباع بغير حجة ولا برهان[4]” أو “العمل بقول الغير من غير حجة[5]” وهو في نفس الوقت يؤدي إلى تقوية رأي المقلَّد وكأن المقلدين يفتلون رأيه بحيث يصير صلبا قويا يصعب رده.

وإذا نظرنا في القرآن الكريم لا نجده يستعمل لفظ التقليد، ولكننا نجد عبارات تدل على ذم التقليد في مجال “الاعتقاد ويستعمل القرآن الكريم في هذا السياق لفظ “الاتباع أحيانا، مع العلم أنه يقابله بمعنى محمود له يتعلق باتباع دين الله ودعوة رسله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا، أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 169) ويستعمل أحيانا لفظ “الوجدان” من وجد: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ اِلَى مَا أَنزلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا، أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (المائدة: 106)، وقد بلغ تقليد هؤلاء لآبائهم حدا جعلهم يعتقدون أن اتباعهم لفعل الآباء هو عينه اتباع لما أمر الله به: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا، قُلِ اِنَّ اللّهَ لاَ يَامُرُ بِالْفَحْشَاء، أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الاعراف: 27). ومن الألفاظ التي استعملها القرآن في نفس السياق لفظ الاقتداء: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ اِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22). وقد حكى القرآن الكثير عن مثل هذا الصنيع وذمه وشنع عليه، حتى صار سمة على ذم التقليد.

ورغم أن المجال الدلالي الذي استعمل فيه مفهوم التقليد هنا يتعلق بالعقيدة والإيمان لا بالمعرفة والعلم، لكننا نستأنس بهذا التأصيل القرآني لمفهوم التقليد والاتباع والاقتداء غير المحمود، خاصة ونحن نعلم أن القرآن الكريم دعا إلى استعمال كل آليات التفكير النظري والاستدلالي للوصول إلى الحقائق الإيمانية وفي مقدمتها الإيمان بالله، عز وجل، وبالبعث، وذلك عبر دعوته إلى النظر والتفكر والتعقل والتدبر…

ب.  مظاهر التقليد في التفسير

قد يكون من الصعب تحديد مفهوم التقليد في مجال علم التفسير، وبيان السمات الدلالية التي تميزه، باعتباره مظهرا من مظاهر الأزمة في هذا العلم، عن “الانقياد” المطلوب لقواعد التفسير، والأخذ بأقوال السلف في التفسير، وخاصة أولئك الذين عاصروا النص القرآني إبان نزوله، وكانت لغة تخاطبهم وتواصلهم المعرفي من جنس لغته…

إن وجه الإشكال في هذه القضية، هو أن المفسر للقرآن الكريم تحكمه قاعدتان:

 أولهما: ضرورة احتكامه إلى أصول منهجية قعدها العلماء، انطلاقا من طبيعة النص القرآني، تبين له حدود التفسير والتأويل.

وثانيهما: ضرورة استجابته لحاجات الوقت، بحيث يصير لهذا التفسير الفائدة المرجوة منه، ليست الفائدة العلمية والمعرفية الصرفة، بل وأيضا الفائدة الحضارية، وذلك لأنه لا يفسّر نصا جامدا معزولا في زاوية التاريخ، بل يفسر نصا حيا متجددا مستمرا في التاريخ.

لذلك فإن تحديد مفهوم التقليد في التفسير إنما يتأتى بعرض ما نراه مظهرا لهذا التقليد، وعائقا أمام تطوير هذا العلم وتجديده. ويمكن حصر بعض المظاهر في:

ترديد أقوال المتقدمين من المفسرين دون تمحيص أو ترجيح أو نقد: وهذا من أكبر المظاهر دلالة على أزمة التقليد، ويمكن بالنظر إلى عدد كبير من كتب التفسير المتداولة أن الغالب الأعم منها يكرر نفس الأقوال في تفسير الآية أو المفردة وذلك دون:

ـ تمحيص لصحة الرواية المنقولة باستعمال آليات النقد الروائي المعروفة عند العلماء، وخاصة بعض الروايات الكثيرة التداول عن ابن عباس ومجاهد مثلا، أو تلك المروية عن بعض رواة الإسرائيليات..

ـ ودون ترجيح بين الروايات المختلفة، اختلاف تضاد أو اختلاف تنوع، حتى إن بعض كتب التفسير اختصت بعرض الأقوال والاكتفاء بذلك كتفسير الماوردي مثلا. وفي المقابل قليلة هي كتب التفسير التي نجد فيها دراسة للأقوال برد الضعيف وترجيح الصحيح أو غير ذلك من أساليب الترجيح، كتفسير الطبري مثلا.

ـ ودون نقد، والنقد مرتبة فوق مرتبة الترجيح، تشمل التعقيب بالرد والنقض والتصحيح، وهي آليات قلما تستعمل في كتب التفسير. وما حفظته بعض المصادر من نقد للتفسيرات السابقة عليها لم يعدُ ما جاء في سياق الجدل المذهبي فقهيا كان أو كلاميا أو نحويا.

ومن الأمثلة الدالة على هذا المظهر من مظاهر التقليد أننا نجد مفسرين جعلوا من إعادة إنتاج أقوال مفسرين سابقين، مشروعهم المميز، وجعلوا عنوانهم في ذلك: تهذيبا أو نخلا أو اختصارا، ومن هؤلاء:

ـ ابن أبي زمنين (399): جعل تفسيره اختصارا لتفسير يحيى بن سلام (200).

ـ والخازن (741) الذي جعل تفسيره انتخابا من غرر فوائد تفسير البغوي (516).

ـ والثعالبي (875) الذي جعل تفسيره متضمنا لما في تفسيري ابن عطية (542) وأبي حيان(745) من فوائد.

ـ وابن عادل (880) الذي جعل تفسيره جامعا لأقوال العلماء في علوم القرآن قبله، وبرع في نقل هذه الأقوال وبخاصة ما جاء عند السمين الحلبي (756) في عمدة الحفاظ الذي انتخب معظم فوائده من مفردات الراغب الأصفهاني (425/502).

ـ والبقاعي (885) الذي صرح بأنه ضّمن تفسيره تفسير أبي الحسن الحرالي المراكشي (638).

ـ وأبو السعود (982) الذي لم يُخف إعجابه بتفسيري الزمخشري (538) والبيضاوي (668)، وقرر أن ينظم درر فوائدهما في تفسيره..

وقد بلغ تقليد المفسرين لبعضهم حدا لا يمكن إيجاد مبرر له، ولو بأي صورة من الصور، وذلك حين نقلوا ورددوا نفس الشواهد الشعرية التي ذكرها المتقدمون، وشواهد هذا الفعل كثيرة…

تبني القضايا العلمية المثارة في الكتب السابقة رغم انعدام الحاجة إليها: وذلك مثل بعض القضايا الكلامية التي أثيرت في فترات زمنية معينة، لظروف أملتها، ثم وجدنا المفسرين يتناقلونها في تفسيرهم رغم تباعد الزمن وضمور تلك القضايا وتراجعها في المجال الفكري والتداولي، وذلك مثل مسألة الكلام الإلهي وخلق القرآن، التي كانت مثار نقاش خلال القرون المتقدمة، ووجدنا بعض مفسري القرن الثالث عشر الهجري يعيدون إثارتها[6]. أو كمسألة الإيمان والعمل التي كانت مثار جدل بين المعتزلة والأشاعرة، لارتباطها بمسألة مرتكب الكبيرة، والتي أثيرت في عدد كبير من كتب التفسير، بتفصيل أو إجمال كما في تفاسير: الزمخشري (538) والرازي (606) والقرطبي (671) وأبي حيان (745) والسمين الحلبي (756) وابن عادل (808) وأبي السعود (982) والألوسي (1270) وصديق حسن خان (1307) والقاسمي (1332)، ولم نجد من انتقد تناول المفسرين لهذه المسألة العقدية؛ التي ارتبطت بظروف فكرية ومذهبية وسياسية تؤول إلى القرن الثالث أو الرابع الهجري؛ إلا في القرن الرابع عشر على يد كل من رشيد رضا والطاهر بن عاشور في تفسيريهما، حيث جاء في تفسير المنار: “وللأشعرية والمعتزلة وأمثالهما من أهل الكلام جدال في هذه الآية[7] : يستدل المعتزلة بها على أن الإيمان لا ينفع بدون عمل الخير ويمنع ذلك الآخرون. ولا مجال في الآية للجدل عند مستقلي الفكر الذين يجعلون القرآن فوق المذاهب، فإن معناها لا يعدو ما تقدم بيانه، وهو أن مشاهدة بعض آيات الرب قبل قيام الساعة هي بالنسبة إلى جميع البشر كمشهادة الآخرة قبيل خروج الروح بالنسبة إلى الأفراد منهم لا ينفع الكافر حينئذ الرجوع عن الكفر إلى الإيمان. ولا ينفع العاصي التوبة من المعصية والرجوع إلى الطاعة[8].” وجاء في التحرير والتنوير: “والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحدّ الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جُزْءاً من الإيمان[9].”

لقد صدق صاحب تفسير المنار حين قال في مقدمته واصفا حال التفسير: “كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفتها عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات [10].”

ج. نتائج التقليد وآثاره في علم التفسير

لقد كان من آثار هذا التقليد أن تضخمت كتب التفسير بما حوته من نقول وأقوال، لو محصت لوجد أن أغلبها يأتي خارج السياق العلمي والتداولي للتفسير:

ـ فهي خارج السياق العلمي؛ لأنها تحاكي مسائل علمية: فقهية أو لغوية أو كلامية لا تمت بصلة إلى سياق الآيات المفسرة في كثير من الأحيان…

ـ وهي خارج السياق التداولي؛ لأنها بعيدة عن القضايا والوقائع المزامنة للمفسر، والتي كان من المفروض أن يكون لها صدى في تفسيره.

فأين تفسير الرازي (606) مثلا مما شهده نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع من تحولات فكرية ومجتمعية؟

وأين تفسير أبي السعود (982) وهو الذي عاش خلال القرن العاشر الهجري من أحداث ذلك العصر، وأين هو من مشكلاته ومعاقد القضايا العلمية المثارة فيه؟

وأين تفسير ابن كثير(774) من آثار الغزو الصليبي والتتري، وتشرذم دولة الخلافة العباسية، خلال القرن الثامن؟

إننا لا نكاد نظفر بشيء ذي بال يمكن اعتباره مظهرا من مظاهر مواكبة التفسير لعصره اللهم إلا بعض الإشارات التي يتم التنقيب عليها كالمعادن الثمينة…

إننا لا نريد من كتب التفسير أن تتحول إلى كتب تاريخ سياسي، ولكن المفسر مطالب، وهو يفسر القرآن الكريم، أن يقارن بين النموذج القياسي الذي يضعه القرآن للإنسان للفرد والمجتمع والدولة، وبين تنزيل هذا النموذج في الواقع، إن المفسر مطالب، بحكم وظيفته العلمية، بأن يحمل الناس على فهم القرآن الكريم وتمثله في واقعهم الخاص والعام لتستقيم به أحوالهم، وإلا فما معنى أن نردد أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وأن تشريعاته تواكب كل تطور وتقدم؟

خلاصة القول إنه إذا كان بيان المعنى متوقف على مراعاة شرط السياق الدلالي للألفاظ والتراكيب، فإن شرط تمثل المعنى متوقف على الشرط التداولي بإبراز ما يفيد المتلقي المعاصر للتفسير في حياته العملية. وذاك شرط قلما تقيد المفسرون به، إلا إذا كانوا من حملة مشاريع التجديد والإصلاح المجتمعي…

ثانيا: سبل علاج الأزمة

1. حدود التقليد والتجديد في التفسير

قد يقول قائل، ونحن نتحدث عن أزمة التقليد في التفسير، قد بلغ بكم الشطط في اعتبار كل هذه المظاهر تقليدا، كل مبلغ، وإنما هي طرق في التأليف درج عليها الأولون، وتداول طبيعي للمعارف، وأنى يستطيع أحد أن يأتي في العلم، أي علم، بالجديد الفريد، ويقطع مع كل قديم تليد؟ وهل يؤسس العلم إلا على قواعد الأوائل؟ وفي التفسير الأمر أدعى إلى هذا التقليد وما في ذلك من أزمة تقليد؛ لأن أصول القول في التفسير، إنما وجدت عند أوائل المفسرين من الصحابة والتابعين…

كل هذا يقتضي منا بيان؛ أين يبدأ حد التجديد وأين ينتهي حد التقليد؟ وذلك لخصوصية التفسير التي بيناها آنفا.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول: إن التقليد ينبغى أن يقف في حدود ما يستحسن أخذه من أقوال المتقدمين مما يتوقف فهم الآيات عليه، كبيان دلالة لفظ عند من لهم علم بأسرار اللسان العربي، أو بيان سبب نزول، أو نسخ أو قصة أو غير ذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالرواية عمن شهدوا أحوال التنزيل وملابساته، مع الالتفات إلى ما يتطلبه ذلك من تمحيص ونقد، وأما ما سوى ذلك فكله مناط للتجديد، ومن شأن المفسر الذي أخذ بحظ وافر من الأدوات العلمية والمنهجية اللازمة لعملية الفهم والاستنباط، أن يضيف ما يراه دلالة أو حكما تنطق بها الآيات تصريحا أو تلميحا، ثم يضاف إلى ذلك ربط تلك الآيات بحال الناس في عصره، وبيان كيفية تمثلها في واقعهم مع مراعاة ما يلزم لهذا الربط من معرفة بأحوال الأمة، وقدرة على تحقيق للمناط، وفهم لقواعد التنزيل.

2. المخرج من أزمة التقليد

أ. على مستوى التصور العام لطبيعة علم التفسير

إن أي تصور للخروج من أزمة التقليد في علم التفسير يجب أن ينطلق من مراعاة كل المكونات المؤسسة لعلم التفسير، وهي: الأصول، والقواعد، والمنهج، والمقاصد والغايات. والذين يتحدثون عن ضرورة تجديد منهج التفسير مثلا، ويرون أن الخلل إنما يكمن في المنهج، واهمون، وذلك لأن المنهج التفسيري، إنما ينشأ عن تصور معين لأصول هذا العلم ومبادئه الأساسية، فمناهج التفسير ليست سوى مظاهر عملية لتلك الأصول والمبادئ، أو هي صورة تطبيقية تعكس وعي المفسر بتلك الأصول، ومدى احتكامه إليها، وكيفية تطبيقها على التفسير، والعملية التفسيرية هي مناط تنزيل المنهج على النص لتحقيق مقاصد هذا العلم، وهي بيان القرآن للناس وجعلهم متمثلين له.

من هنا يمكن القول إن تقويم أي عمل تفسيري ينطلق من معرفة مدى مراعاة المفسر لأصول علم التفسير في منهجه التفسيري من جهة؛ أي من ملاحظة الصلة بين أصول التفسير والمسلك المنهجي الذي يتبناه المفسر ومدى خدمته لمقاصد التفسير، من جهة ثانية، دون أن نغفل عنصر المفسر نفسه المتفاعل مع الزمان والمكان والمناخ العلمي والثقافي الذي يعيش فيه.

هذه المكونات الثلاثة هي التربة الحاضنة لأي عمل تفسيري، وأي خلل في العلاقة بينها، يؤدي حتما إلى خلل في العمل التفسيري قد تتباين مظاهره بحسب نوع الخلل ومداه.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن المخرج من أزمة هذا العلم إنما يكون بفهم العلاقة بين كل هذه العناصر وتصورها. وإذا كان عنصرا الأصول والمنهج قد تراكم فيهما جهد لا بأس به من قبل العلماء قديما وحديثا، فإن عنصر المقاصد لا يزال في حاجة إلى دراسة وضبط، إننا في حاجة إلى وضع تصور واضح لمقاصد علم التفسير، وجعلها حاكمة على عمل المفسر، وموجهة لعمله.

إن هذا التصور لطبيعة علم التفسير وطبيعة المقاصد التي يجب أن يحققها المفسر من وراء عمله؛ لم يكن غائبا عن أذهان المفسرين بصورة مطلقة، فقد وجدنا أعلاما منهم ينبهون على خطورة انفلات التفسير عن مقصده الأساس، من خلال بعض الإشارات إلى حدود ما يجب أن يقف عنده التفسير.

ومن الإشارات التي نقتنصها من بعض كتب التفسير قول ابن عطية (542) في معرض تفسيره للآية الأولى من سورة الطلاق: “وطلاق النساء: حل عصمتهن، وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير[11]“، وقد وجدنا مفسرين يذكرون هذا التنويع الذي يرى ابن عطية أنه لا يختص بالتفسير ولا يخدم مقاصده.

وقد ألمح أبو حيان (745) إلى شيء من هذا النقد للتفسير خلال تفسيره للآية 105 من سورة البقرة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ ـايَةٍ اَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمَ اَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ حيث قال:

“وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطوّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير[12].”

ووقف أبو حيان في مقدمة تفسيره عند هذه الظاهرة منتقدا لها بقوله: “وكثيراً ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب، بعلل النحو، ودلائل أصول الفقه، ودلائل أصول الدين، وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلماً في علم التفسير دون استدلال عليه، وكذلك أيضاً ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول، وأحاديث في الفضائل، وحكايات لا تناسب، وتواريخ إسرائيلية، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير[13].”

ولقد أجمل أصحاب مدرسة المنار المقصود من التفسير الذي من شأنه أن يحقق التجديد المنشود، في مقدمة التفسير بالقول: “التفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع له وداء أو وسيلة لتحصيله[14].” وذلك راجع إلى طبيعة النص المفسر وهو كتاب الله الذي أنزله الله علينا هدى ونورا يعلمنا به الكتاب والحكمة ويزكينا ويعدنا لسعادة الدنيا والآخرة، ولم ينزله “قانونا دنيويا جافا… ولا كتابا طبيا.. .ولا سفرا فنيا…[15]“.

إن المطلوب من المفسر، حسب تقدير هذه المدرسة، هو الذهاب “إلى فهم مراد القائل من القول، وحكمة التشريع في العقائد، والأخلاق، والأحكام على الوجه الذي يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل…[16].” لا مجرد “الاطلاع على ما قاله بعض العلماء في كتب التفسير؛ على ما في كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن[17].”

ب. على مستوى المنهج وأصوله

لقد تعمّدنا ربط المنهج بالأصول هنا لإعطاء المنهج التفسيري بعدا آخر يضاف إلى ما هو متداول في الكتب المدرسية التي تعرف مناهج التفسير فتحصرها في الطريقة التي يتبعها المفسر في تفسيره: بماذا يبدأ؟ وما هي المراحل أو الخطوات التي يمر بها… إلخ؛ أي في الجانب الشكلي من المنهج المتمثل في طريقة عرض المادة التفسيرية. في حين أن منهج المفسر أبعد من ذلك من حيث إنه لا ينفك عن الأصول العامة التي يصدر عنها المفسر في تفسيره؛ إنه يختزل رؤية المفسر الخاصة للتفسير ولمقاصده.

ومن ذلك مثلا أن اعتقاد المفسر بأن السنة بيان للقرآن مثلا وأن هذا أصل من أصول التفسير، يجعله ملتزما بهذا الأصل في منهج تفسيره للآيات، حيث يتعين عليه البحث عما يفسر الآية من سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن يجعله مقدما على غيره عند التعارض…

إن المطلوب تجديده في المنهج التفسيري يتمثل في هذا الربط بينه وبين الأصول والقواعد، والذي حدث في تاريخ التفسير وأنتج الأزمة التي تحدثنا عنها هو الفصل بين المنهج والأصول، حيث ردد المفسرون جميعا تلك الأصول وأقروها وسطروها في مقدمات تفسيرهم، لكنهم لم يلتزموا بمقتضياتها المنهجية، وآية ذلك أنك لا تجد مفسرا يجادل في أن “تفسير القرآن بالقرآن” من أصول التفسير المعتبرة، ولكنك تجد كثيرا منهم لا يراعي هذا الأصل في منهجه التفسيري، وفي طريقة عرضه للمعاني واستنباطه للدلالات…

لكن، ألا يقتضي تجديد المنهج بربطه بأصول التفسير، تجديدا في أصول التفسير ذاتها؟ وأين هي هذه الأصول المطلوب تمثلها في المنهج؟

ما يمكن قوله في هذا الموضوع الشائك، الذي يمثل قضية أخرى وتحد آخر أمام دعاة التجديد في هذا العلم، والذي لا يسعنا في هذا المقام أن نفيه حقه، أن أصول التفسير لا تحتاج إلى تجديد في مضمونها؛ أي في مكوناتها، بإضافة أصول جديدة أو حذف أصول قديمة كما قد يتصور البعض، بل هي تحتاج إلى جهود لجمع ما تفرق منها في علوم مختلفة، واستكمال ما نقص منها بسبب ذلك التفرق، ونظمها في سلك واحد، وربما بعد ذلك جعلها نظرية تأصيلية للعلوم الشرعية كلها لكونها جميعها ترتبط بالقرآن الكريم.

لقد لخص الإمام المجدد عبد الحميد الفراهي الهندي معضلة علم أصول التفسير، وما يحتاج إليه من تجديد في ثلاثة أمور:

ـ أنه يحتاج إلى أن يكون علما مستقلا، في حين هو الآن مشترك بين علوم (الحديث وأصول الفقه والبلاغة)، فصار مغمورا فيها.

ـ أنه يحتاج إلى تنقيح وتوسيع، حتى يصير بمثابة المعيار والميزان لعلم التفسير.

ـ أنه يجب أن يربط بالأصول لا بالفروع فقط، فالقرآن معظمه يتعلق بالعقائد والأخلاق، فأين الأصول التي توجه تفسير هذه المبادئ العامة؟[18].

 إن التجديد الحقيقي في مجال أصول التفسير يتمثل في إعادة صياغة هذه الأصول صياغة نظرية محكمة تربط كل أصل منها بخصائص القرآن الكريم ومميزاته؛ لأن تلك الأصول إنما أخذت من القرآن الكريم نفسه، من خصوصية المتكلم به، ومن أسلوبه وطريقته في التعبير، ومن طبيعة المخاطبين به. ذلك ما نحتاجه أساسا، ثم إذا ما استقام حال هذه الأمر استقام ما يبنى عليه ويتفرع عنه من قواعد تمثل المنهج التفسيري المطلوب اتباعه في التفسير.

وخلاصة القول: إن أي تجديد في التفسير مرتبط لا محالة بثلاثة مكونات أساسية: المفسِّر والنص المفسَّر والمتلقي للتفسير، وهو لذلك يقتضي شروطا تتعلق بهذه الثلاثة:

ـ في المفسِّر: مراعاة أصول التفسير وقواعده.

 ـ في النص المفسَّر: مراعاة خصوصياته اللغوية والدلالية والتداولية.

 ـ في المتلقي للتفسير: مراعاة الحاجات العلمية والحضارية للمتلقين للتفسير.

الهوامش


1. والآخر: الحظ والنصيب، وهو بعيد عن المجال الدلالي للتقليد في هذا السياق، ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، / (ق ل د)، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت: دار الجيل، ط1، 1991.

2. معجم مقاييس اللغة/ (ق ل د)، م، س.

3. المرجع السابق.

4. ابن فورك، الحدود في الأصول، دار الغرب الإسلامي، 1999، ص160.

5. التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، دار الكتب العلمية، ط1، 1998، 3/508.

6. كما فعل القاسمي (1332) في “محاسن التأويل”، مثلا.

7. الآية المقصودة هي قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تاتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَاْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ ءايَاتِ رَبِّكَ، يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ ءايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً اِيمَانُهَا لَمْ تَكُنَ ـامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً، قُلِ انتَظِرُواْ، إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ (الأنعام : 159).

8. الشيخ رشيد رضا، تفسير المنار، مطبعة المنار 1338ﻫ، 8/212.

9. الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية، 8/188.

10. المنار، 1/7.

11. ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام الشافي محمد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2001، 5/322.

12. أبو حيان، البحر المحيط، دراسة وتحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض وزكريا عبد المجيد وأحمد النجولي، دار الكتب العلمية، ط1، 1993، 1/511.

13. المرجع نفسه، 1/104.

14. تفسير المنار، م، س، 1/17.

15. المرجع نفسه، 1/4.

16. المرجع نفسه، 1/24-25.

17. المرجع نفسه، 1/24.

18. عبد الحميد الفراهي، التكميل في أصول التأويل، ص7.

دة. فريدة زمرد

  •  عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء، ورئيسة لجنة الدراسات والأبحاث بها.
  • رئيسة مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق