وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

أحمد بابا التنبوكتي

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

      من أجل العلماء الذين وفدوا على المغرب من بلاد السودان خلال العصر السعدي العلامة الشهير أحمد بابا التنبوكتي؛ وقد خلف هذا العالم الفاضل مؤلفات تعتبر من أمهات التأليف الموسوعي الهادف في تاريخ المغرب الثقافي.
سنتعرف في هذه المقالة على جوانب من حياة وفكر هذا العالم المربي المثقف الذي عاش محنا وتغرب عن بلاده، لكنه أصر على أن يخلد ذكره ضمن مشاهير العلماء الذين تركوا آثارهم ببلادنا.
هو أبو العباس أحمد بن الحاج أحمد المسك بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت المسوفي، الصنهاجي، التنبوكتي، يعرف باسم بابا، وهو صاحب كتاب “نيل الابتهاج بتطريز الديباج” الذي قال فيه عن نفسه: “مولدي كما وجدته بخط والدي ليلة الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة ختام عام ثلاث وستين وتسعمائة، ونشأت في طلب العلم فحفظت بعض الأمهات وقرأت النحو على عمي أبي بكر الشيخ الصالح، والتفسير والحديث والفقه والأصول والعربية والبيان والتصوف وغيرها على شيخنا العلامة محمد بغيغ، ولازمته سنين وقرأت عليه جميع ما تقدم عني في ترجمتي، وأخذت عن والدي الحديث سماعا والمنطق، وقرأت الرسالة ومقامات الحريري تفقها على غيرهم، واشتهرت بين الطلبة بالمهارة على كلال وملل في الطلب”.
ينتمي أحمد بابا إلى أسرة شهيرة تعرف بـ “آل أقيت”، أصلها من مدينة ولاتة في بلاد الحوض من شرقي موريتانيا، وكان يُعرف أيضا بأحمد بابا التكروري نسبة لبلاد التكرور (غرب الصحراء وبلاد السودان). نشأ أحمد بابا التنبوكتي تحت حكم الأمير أسكيا (1549-1582م)، وكانت تنبكتو إذ ذاك من أهم مدن مملكة سونغاي. درس على شيوخ أسرته وعلى العالم الكبير محمد بغيغ الونكري كما مر ذكره في حديث أحمد بابا عن نفسه، وحصل علما واسعا بفضل مطالعاته وعلاقاته مع معاصريه حتى نال مكانة علمية متميزة.
لازم شيخه بغيغ أكثر من عشرين سنة، وقال بشأنه في “نيل الابتهاج”: “فختمت عليه مختصر خليل بقراءتي وقراءة غيري عليه نحو ثلاث مرات، وختمت عليه الموطأ قراءة  تفهم، وتسهيل ابن مالك قراءة تدقيق وبحث مدة ثلاث سنوات، وأصول السبكي بشرح المحلى ثلاث مرات قراءة تحقيق، وألفية العراقي بشرح مؤلفها، وتلخيص المفتاح بشرح السعد مرتين، وصغرى السنوسي بشرح الجزائري لها، وحكم ابن عطاء الله مع شرح زروق لها، ونظم أبي مقرع، والهاشمية في التنجيم مع شرحها، ومقدمة التاجوري فيه، ورجز المغيلي في المنطق، والخزرجية في العروض بشرح السبتي، وكثيرا من تحفة الحكام لابن عاصم بشرحها لابنه، كلها بقراءتي. وقرأت عليه فرعي ابن حاجب قراءة بحث، جميعه، وحضرته في التوضيح كذلك لم يفتني منه إلا من الوديعة إلى الأقضية وكثيرا من المنتقى للباجي، والمدونة بشرح أبي الحسن الزرويلي، وشفاء عياض، وقرأت عليه صحيح البخاري نحو النصف، وسمعته بقراءتي، وكذلك صحيح مسلم كله، ودولا من مدخل ابن الحاج، ودروسا من الرسالة والألفية وغيرها، وفسرت عليه القرءان العزيز إلى أثناء سورة الأعراف، وسمعت بلفظه جامع المعيار للونشريسي كاملا، وهو في سفر كبير، ومواضع أخرى منه، وباحثته كثيرا في المشكلات، وراجعته في المهمات، وأجازني بخطه جميع ما يجوز له وعنه، وأوقفته على بعض تواليفي فسره به وقرظ عليه بخطه، بل كتب عني أشياء من أبحاثي، وسمعته يقول بعضها في درسه لإنصافه وتواضعه وقبوله بالحق حيث تعين”. فأنت ترى أيها القارئ الكريم كيف بسط أحمد بابا في ترجمة شيخه الفقيه بغيغ الأحوال الثقافية السائدة والبرامج الدراسية والأجواء العلمية التي كانت سائدة في عصره بما يعني تأريخا للحياة الفكرية في تنبكتو خلال القرن السادس عشر، ثم إننا نلاحظ التداخل بين الثقافة المغربية والإفريقية على مستوى مناهج التدريس والمادة العلمية المحصلة، وهذا دليل موضوعي على الانسجام الثقافي والفكري الذي كان بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء؛ وقد نجم عن هذا التلاقح الثقافي تواصل روحي سيأخذ في كثير من الفترات طابعا سياسيا، أقصد الجانب المضيء من الاجتماع السياسي..
قال الزركلي في الإعلام: “أحمد بابا بن أحمد بن أحمد بن عمر التكروري التنبوكتي السوداني، أبو العباس: مؤرخ، من أهل تنبكتو Tombouctou في إفريقية الغربية. أصله من صنهاجة، من بيت علم وصلاح. وكان عالما بالحديث والفقه. وعارض في احتلال المراكشيين لبلدته (تنبكتو) فقبض عليه وعلى أفراد أسرته واقتيد إلى مراكش سنة 1002 هـ، وضاع منه في هذا الحادث 1600 مجلد، وسقط عن ظهر جمل في أثناء رحلته فكسرت ساقه، وظل معتقلا إلى سنة 1004 وأطلق فأقام بمراكش إلى سنة 1014 وأذن له بالعودة إلى وطنه. وتوفي في تنبكتو، وكان شديدا في الحق لا يراعي أحدا. له تصانيف منها (نيل الابتهاج بتطريز الديباج) في تراجم المالكية، و (كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج) تراجم، وله حواش ومختصرات تقارب عدتها الأربعين أكثرها في الفقه والحديث والعربية، ما زال معظمها مخطوطا.
وعلى إثر حملة أحمد المنصور الذهبي الشهيرة إلى بلاد السودان (الغربي)، ومنها حاضرة تنبكتو (بمالي الحالي) حيث بلاد صاحبنا أحمد بابا، امتحن في طائفة من أهل بيته بثقافهم في بلدهم في شهر محرم سنة 1002هـ على يد محمود بن زرقون، لما استولى السعديون على بلادهم تمبكتو، وجاء بهم أسارى في القيود، فوصلوا مراكش أول رمضان من العام نفسه واستقروا مع عيالهم في حكم الثّقاف إلى أن أحجم أمر المحنة فسرحوا يوم الأحد الحادي والعشرين لرمضان سنة 1004هـ.
قال الناصري في “الاستقصا” عن نكبة الفقيه أبي العباس أحمد بابا السوداني وعشيرته من آل آقيت والسبب في ذلك: “كان بنو آقيت التكروريون من أهل مدينة تنبكتو وممن لهم الوجاهة الكبيرة والرياسة الشهيرة ببلاد السودان دينا ودنيا بحيث تعددت فيهم العلماء والأئمة والقضاة وتوارثوا رياسة العلم مدة طويلة تقرب من مائتي سنة وكانوا من أهل اليسار والسؤدد والدين لا يبالون بالسلطان فمن دونه ولما فتح جيش المنصور بلاد السودان أبقاهم الباشا محمود على حالهم إلى أن كانت سنة اثنتين وألف فكان أهل السودان قد سئموا ملكة المغاربة وآنسوا منهم خلاف ما كانوا يعهدونه من سلطانهم الأول، وكانت أذنهم مع ذلك صاغية لآل آقيت فتخوف المنصور منهم وربما وشي إليه بهم، فكتب إلى عامله محمود بالقبض عليهم وتغريبهم إلى مراكش فقبض على جماعة كبيرة منهم كان فيها الفقيه العلامة أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد ثلاثة أحامد ابن عمر بن محمد آقيت المدعو بابا صاحب تكميل الديباج وغيره من التآليف، وكان فيها أيضا الفقيه القاضي أبو حفص عمر بن محمود بن عمر ابن محمد آقيت وغيرهما، وحملوا مصفدين في الحديد إلى مراكش ومعهم حريمهم وانتهبت ذخائرهم وكتبهم”.
يوم السبت 25 جمادى الثانية 1002هـ/18 مارس 1593م نُفي أحمد بابا من تنبكتو باتجاه مراكش بأمر من قائد من جيش المنصور هو الباشا محمود بن زرقون الذي احتل تنبوكتو، وأجبر على الإقامة في مراكش 14 عاما بعيدا عن الأهل والوطن، ثم رجع إلى تنبكتو فوصلها في 10 ذي الحجة 1016هـ/ 27 مارس 1607م، وكان ذلك بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي.
أما عن ظروف أسره، فقد تمت إثر سقوط إمبراطورية سنغاي الإسلامية التي كانت عاصمتها تمبكتو على أيدي الجيوش المغربية في أواخر القرن السادس عشر 1591م، حيث اقتيد أسيرا في الأغلال إلى مراكش، وأُودع السجن لمدة سنتين، وبعدها تم إطلاق سراحه ليبقي قيد الإقامة الجبرية لمدة اثنتي عشرة سنة.
قال أحمد بابا في “نيل الابتهاج”: لما خرجنا من المحنة طلبوا من الإقراء فجلست بعد الإباية بجامع الشرفاء بمراكش من أنوه جوامعها، أقريْ مختصر خليل قراءة بحث وتدقيق، ونقل وتوجيه وكذا تسهيل ابن مالك، وألفية الحديث للعراقي فختمت علي نحو عشر مرات، وتحفة الحكام لابن عاصم، وجمع الجوامع للسبكي، وحكم ابن عطاء الله، والجامع الصغير للجلال السيوطي قراءة تفهم مرارا، والصحيحين سماعا علي وإسماعا مرارا، ومختصرهما، وكذا الشفا والموطأ والمعجزات الكبرى للسيوطي، وشمائل الترمذي، والاكتفاء لأبي الربيع الكلاعي، وغيرها. وازدحم علي الخلق وأعيان طلبتها، ولازموني، بل قرأ عليّ قضاتها كقاضي الجماعة بفاس العلامة أبي القاسم بن أبي النعيم الغساني وهو كبير ينيف على الستين، وكذا قاضي مكناسة الرحالة المؤلف صاحبنا أبو العباس ابن القاضي له رحلة للمشرق، ولقي فيها الناس وهو أسن مني، ومفتي مراكش الرجراجي وغيرهم، وأفتيت فيها لفظا وكتبا بحيث لا توجه فيها الفتوى غالبا إلا إليّ، وعينت لها مرارا فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني، واشتهر اسمي في البلاد من سوس الأقصى إلى بجاية والجزائر وغيرها. وقد قال لي أحد طلبة الجزائر وقد قدم علينا مراكش: لا نسمع في بلادنا إلا باسم فقط، وإنما ذلك كله مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: لا ينزع العمل الحديث.. وقد ناهزت الآن خمسين سنة بتاريخ يوم الجمعة مستهل صفر عام اثني عشر بعد الألف (1012هـ)”.
من تلاميذ الإمام أحمد بابا المشاهير نذكر، غير ابن القاضي (صاحب جذوة الاقتباس) والغساني، أبو عبد الله محمد بن يعقوب الآيسي المراكشي الذي لازمه كثيرا وأخذ منه الإجازة؛ والحاج أحمد بن الحاج محمد فهدي بن أبي فهدي التواتي الذي كان شديد القرب منه إذ لازم -كما يقول “بابه المبارك ليالي وأياما، وشهورا وأعواما”، وقد أجازه إجازة مطلقة من غير تقييد.
وفي سند الفقيه الجزولي، أحمد بن محمد بن داود الجزولي التملي الشهير بأحوزي وبالهستوكي من أبرز رجال العلم بسوس في عصره، المسمى “قرى العجلان في إجازة الأحبة والإخوان” ذكر أن من شيوخ شيخه عبد القادر الفاسي أحمد بن محمد بابا السوداني، والجزولي هذا المعروف بأحوزي ولد سنة1057هـ 1657م.
أما عن مؤلفات أحمد بابا فقد قال عنها: “وألفت عدة كتب تزيد على أربعين تأليفا: كشرحي على مختصر خليل من أول الزكاة إلى أثناء النكاح ممزوجا محرراً، وحواشي على مواضع منه، والحاشية المسماة منن الرب الجليل في مهمات تحرير خليل يكون في سفرين، وفوائد النكاح على مختصر كتاب الوشاح للسيوطي، وغيرها قال الثقة أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأديب المراكشي في “فهرسته” في ترجمتي كان أخونا أحمد بابا من أهل العلم والفهم والإدراك التام الحسن حسن التصنيف كامل الحظ من العلوم فقها وحديثا وعربية وأصلين وتاريخا مليح الاهتداء لمقاصد الناس مثابرا على التقييد والمطالعة مطبوعا على التأليف ألف تآليف مفيدة جامعة فيها أبحاث عقليات ونقليات وهي كثيرة كوضعه على مختصر خليل من الزكاة إلى أثناء النكاح في سفرين سماه “المقصد الكفيل بحل مقفل خليل”، وحاشية عليه سماها منن الجليل في فتح مهمات خليل، ينقل منهما الأجهوري في شرحه لخليل، وفتح الرزاق في مسألة الشك في الطلاق، والزند الوري في مسألة تخيير المشتري، وتنبيه الواقف على تحرير نية الحالف في كراس، وتعليق على أوائل الألفية سماه النكت الوفية بشرح الألفية، ونيل الأمل في تفضيل النية على العمل، وغاية الإجادة في مساواة الفاعل للمبتدأ في شرط الإفادة في كراسين، وآخر سماه “النكت المستجادة في مساواتهما في شرط الإفادة، وما رواه الرواة في مجانبة الولاة، وشرح الصغرى للسنوسي، ومختصر ترجمة السنوسي، ونيل الابتهاج بتطريز الديباج، و “كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج” اختصر فيه “النيل”، وخمائل الزهر فيما ورد من كيفيات الصلاة على سيد البشر، والدرر النضير في ألفاظ الصلاة على البشير، وسؤال وجواب في جواز الدعاء بالّلهم ، وشرح الصدر وتنوير القلب ببيان مغفرة ما نسب للجانب النبوي من ذنب، والكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان، المناقب الفاخرة في أسماء سيد الدنيا والآخرة، والمنهج المبين في شرح حديث أولياء الله الصالحين، والبدور المسفرة في شرح حديث الفطرة، وفتح الصمد الفرد في معنى محبة الله تعالى للعبد، نزول الرحمة في التحديث بالنعمة، ودرر الوشاح في فوائد النكاح وهو مختصر لكتاب الوشاح للسيوطي، ونيل المرام ببيان حكم الأقدام على الدعاء لما فيه من إيهام وهو مأخوذ من مسودة تأليفه فتح القدير للعاجز الفقير في الكلام على دعاء محمد بن حمير، وتحفة الفضلاء ببعض فضائل العلماء ومختصره مرآة التعريف في فضل العلم الشريف، ودرر السلوك بذكر أفاضل الخلفاء  الملوك، وأجوبة الأسئلة المصرية، وله أسئلة في المشكلات.
وقد وردت معظم هذه المؤلفات  في “فهرسة المراكشي” وبعضها الآخر ذكر في  كتاب “فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور” للعلامة الولاتي (منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، ط 1، 1981، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي).
من أشهر الاجتهادات العلمية لأحمد بابا التنبوكتي فتواه في شأن استرقاق المسلمين من بلاد السودان. فقد وجه بعض المستفتين من بلاد توات رسالة إلى الشيخ أحمد بابا التنبكتي يستفتون فيها عن جواز تملك العبيد المجلوبين من البلاد الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، التي تقرر إسلام أهلها كبلاد برنو وعفنو وكانو وكاغو ونحوها؛ وقد أفرد أحمد بابا الجواب برسالة خالف فيها رأي الإمام الونشريسي (توفي 914هـ) ختمها بقوله، هذا آخر ما تيسر من “معراج الصعود إلى نيل مجلب السود”، وإن شئت فسمه “الكشف والبيان لأصناف مجلوب السودان”.
وقد بين أحمد بابا أن أهل هذه البلاد مسلمون، أسلموا بلا استيلاء أحد عليهم. كأهل كانو وبرنو ما سمعنا أن أحداً استولى عليهم قبل إسلامهم، ومنهم قدماء في الإسلام كأهل مالي أسلموا في القرن الخامس أو قربه، وقد تصدى الشيخ أحمد بابا لتوضيح المسألة وملابساتها الشرعية والتاريخية، إذ ورد في متن الرسالة التي بعثت إلى الشيخ أحمد بابا: “وقولكم وقد أخبر بعض قضاة السودان أن الإمام الذي استفتحهم وهم كفار اختار إبقاءهم.. ولا يخفى أنه يترتب على التسليم بهذه الرواية التاريخية جواز استرقاق أهل هذه البلاد، وإن حصل إسلامهم بعد ذلك. لقد خالف أحمد بابا هذه الرواية، فهي -في نظره- دعوى بلا دليل، ومما قاله أحمد بابا في رد هذه الشبهة: “واسألوا هذا القاضي السوداني من هذا الإمام؟ وفي أي وقت فتح بلادهم؟ وأية بلاد فتح؟ يعين لكم ذلك كله، وما أقرب كلامه لعدم الصحة، فلو بحثتم الآن لا تجدون أحداً يخبركم بحقيقة ما قال. فما انبنى على كلامه لا يعتبر والله تعالى أعلم.
ويرتب الفقيه أحمد بابا على هذه المعطيات التاريخية والاستنباطات الشرعية والمقاصدية حكماً في غاية الأهمية، وهو أن كل من عرف أنه من بلاد السودان التي أسلم أهلها، وذكر أنه من تلك البلاد، فيخلى سبيله، ويحكم له بالحرية المطلقة، ولا ننسى أن صاحبنا أحمد بابا أطلق هذه الفتوى الجريئة في أوج عظمة الدولة السعدية..
لقد وقف المؤرخ أحمد بن خالد الناصري تـ 1315هـ.. ملياً عند هذه الآفة في “الاستقصا”. فقال -بكلام إنساني نبيل- عقب حديثه عن فتح المنصور لبلاد السودان، ونكبة الشيخ أحمد بابا السوداني صاحب الفتوى: “قد تبين كل مما قصصناه عليك من أخبار السودان ما كان عليه أهل تلك البلاد من أخذ بدين الإسلام من لدن قديم. وأنهم من أحسن الأمم إسلاماً وأقومهم ديناً وأكثرهم للعلم وأهله تحصيلاً ومحبة، وهذا الأمر شائع في جل ممالكهم الموالية للمغرب كما علمت، وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى ببلاد المغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودان مطلقاً، وجلب القطائع الكثيرة منهم في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية، يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل أفحش، قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون أن موجب الاسترقاق شرعاً هو اسوداد اللون وكونه مجلوباً من تلك الناحية، وهذا لعمر الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين، إذ أهل السودان قوم مسلمون فلهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
وبعد، فقد نال أحمد بابا شرف التدريس بمسجد الكتبية بمدينة مراكش بين علماء مغاربة وأجانب، وساهم في ازدهار الثقافة الإسلامية بالمغرب؛ ولم يسمح المخزن المغربي للشيخ أحمد بابا بالعودة إلى بلاده إلا بعد وفاة السلطان السعدي أحمد المنصور، الذي كان يستحي من رؤية الشيخ السوداني ولا يحدثه أو يخاطبه إلا من وراء حجاب. عاد الشيخ أحمد بابا إلى تمبكتو في بدايات القرن السابع عشر 1608، حيث توفى فيها بتاريخ إبريل 1627م. رحمه الله وجازاه عن تنبكتو والمغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق