مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

أحكام من القرآن والسنة في رعاية صحّة الإنسان حفظا ووقاية وعلاجا (2)

ثانيا: أحكام شرعية للوقاية من الأمراض

إن الدين الإسلامي شرع  كثيرا من الأحكام الشرعية؛ بدافع تعبدي تقربا من الله تعالى، ومصلحي؛ بقصد وقاية الإنسان نفسه من الأمراض والأسقام حفاظا على الصحة التي تعد رعايتها من مقاصد الشريعة الإسلامية؛ لأن الوقاية خير من العلاج، وهو ما يؤكد أن نظرة الدين الإسلامي للإنسان نظرة شمولية، توازن بين متطلباته الروحية والجسدية، والمعنوية والمادية؛ ليكون قادرا على أداء وظائفه التي خلق من أجلها في هذا الوجود.

ومن جملة الأحكام التي شرعها الدين الإسلامي؛ لأجل هذا المقصد الكبير في ميزان الشرع الحكيم:

  1. أكل الطيبات واجتناب كل ما يَضرُّ ويؤذي، فلقد أباح الإسلام للإنسان أن يأكل مما في الأرض حلالاً طيباً؛ للحفاظ على حياته وقوة بدنه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالاً طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168]، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ، فَقَال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة : 172]» [1].
  2. تحريم تناول المحرمات من الأطعمة والأشربة، لما لها من ضرر على صحة الإنسان، وهي أشياء قليلة بالقياس إلى المباحات الطيبات، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، ويشمل التحريم جميع المسكرات والمفترات المخدرات بجميع أنواعها ومختلف أسمائها، وذلك حفاظا على الصحة العقلية والبدنية للإنسان.
  3. عدم الإسراف في الأكل والشرب حتى لا يلحق ضرراً بجسده، فكما نجد الإسلام قد نهى المسلم أن يأكل الخبائث، فهو يحثه في نفس الوقت على الاعتدال، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، والإسلام دين اعتدال في كل شيء.
  4. الدعوة إلى ترك المنكرات والفواحش، مثل الزنا واللواط؛ لما تؤدي إليه من الأضرار الصّحيّة، والأمراض المختلفة، والآفات الاجتماعية.
  5. الحِمْية من الأذى، ولذلك جاء النهي عن مجامعة الحائض، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: 222]، فالآية قد قرَّرت أن دمَ الحيض أذًى ضارٌّ، وكلّ تلك السلوكيّات التي يمكن أن تسبّب الأمراض والأوبئة، وقد أدرك النّاس حكمة تحريمها عندما رأوا وعاينوا أضرارها، وقررها البحث الطبي المعاصر.
  6. إباحة التَيَمَّم لمن خاف المرض، وتأخُّر البُرءِ باستعمال الماء في الوضوء أو الغسل، وهذا كله من قَبيل الحِمْيَة عما يُؤذي.
  7. النهي عن قضاء الحاجات من بول وبراز في الطرقات، وفي موارد المياه التي يستعملها الناس للشرب والاغتسال ومكان ظلالهم التي يجلسون فيه، قال رسول ﷺ ﴿اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ﴾[2]، ولاريب ما في القذورات والفضلات من الأمراض والأوبئة؛ لما يترتب عليها من الجراثيم، بالإضافة إلى تقزز النفوس منها.
  8. حث النبي أمته على اتباع سلوكات معينة، وأساليب وقائية، ضد أيّ أوبئة أو أمراض محتملة، والتحفُّظ من الأمراض وأسبابها؛ ومن بينها: تغطية أواني الطعام والشراب، وعدم تركها مكشوفة؛ لدرء الأمراض والأوبئة بسبب سقوط الحشرات المُؤذية التي تُولِّد جراثيم المرض. قال رسول الله: «غطُّوا الإناءَ، وأوكوا السِّقاءَ، فإنَّ في السَّنةِ ليلةً ينزلُ فيها وباءٌ، لا يمرُّ بإناءٍ ليسَ عليهِ غطاءٌ، أو سقاءٍ ليسَ عليهِ وِكاءٌ، إلَّا نزلَ فيهِ من ذلِكَ الوباء، وفي روايةٍ: فإنَّ في السَّنةِ يومًا ينزلُ فيهِ وباءٌ»[3].

ومن الأوامر المتعلقة بالوقاية من الأمراض والأوبئة عند حلولها ونزولها؛ لدرء انتشارها والعدوى:

  1. النهي عن مباشرة كل ما يسبب العدوى والأمراض؛ مثل النهي عن دخول أرض بها الطاعون. فقد روى البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نَادَى في النَّاسِ لما أراد الدخول إلى الشّام، وقد علِم أنّ بها طاعونًا: إنِّي مُصَبِّحٌ علَى ظَهْرٍ فأصْبِحُوا عليه. قَالَ أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أرَأَيْتَ لو كانَ لكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِيًا له عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُما خَصِبَةٌ، والأُخْرَى جَدْبَةٌ، أليسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ – وكانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ – فَقَالَ: إنَّ عِندِي في هذا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ[4].
  2. الاحتراز والعزل من الأوبئة، فقد أقر الإسلام سنة الله في العدوى وأمر بالاحتراز والوقاية في الأوبئة العامة، ويعرف هذا الأسلوب في هذا العصر بالحجر الصحيّ؛ وذلك بالأمر بعزْل المرضى عن الأصِحَّاء؛ تحذيرا من العدوى كما جاء في الحديث: «وفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كما تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ»[5] بغية حصر الوباء حتى لا ينتشر جغرافيًّا ولا ديمغرافيًّا. بل وأقرّ النبي صلى الله عليه وسلّم: احترام المسافة في العزل وتجنّب الاحتكاك بين البشر في حالات الوباء. روى أَبُو نعيم من حَدِيث ابْن أبي أوفى: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «كلم المجذوم وَبَيْنك وَبَينه قيد رمح أَو رُمْحَيْنِ«[6].
  3. التعامل مع المريض بلطف ولباقة دون إيذاء لمشاعره، فقد أخرج الإمام مسلم بسنده عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع»[7]، وقال رسول الله: «لا تُديموا النَّظرَ إلى المَجذومينَ»[8].

وهذه الأوامر وغيرها مما لا يسع المجال لذكرها تمثل السياسة الوقائية التي أقرها الإسلام درءا للعدوى وانتقال الأمراض وانتشارها.

فهذه ما هي إلا أمثلة للأحكام الشرعية القاصدة إلى الوقاية من الأمراض التي تنهك صحة الإنسان التي هي مناط التكليف، والوقاية كما هو معلوم خير من العلاج. فالوقاية من الأمراض بصفة عامة، ومن مرض فيروس كورونا (كوفيد-19( بصفة خاصة المنتشر في بقاع العالم في الوقت الحالي تستوجب على كل إنسان أن يحافظ على نفسه من أسباب العدوى، للمحافظة على صحته من الأمراض والأسقام.

الهوامش:

[1] رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، رقم الحديث: 1015.
[2] رواه أبو داود في سننه (1/7)، وابن ماجة في سننه (1/119).
[3] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، رقم الحديث: 2014
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب. باب ما يذكر في الطاعون، رقم الحديث: 5729
[5] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الجذام، رقم الحديث: 5707 .
[6] ذكره ابن حجر في الفتح (10/159)، وقال أخرجه أبو نعيم في الطب.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه، رقم الحديث: (2231).
[8] رواه البخاري في التاريخ الصغير (2/76)، وابن ماجه في سننه، رقم: 3543، وأحمد في مسنده، رقم الحديث: 2075.

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق