مركز الدراسات والبحوث في الفقه المالكيدراسات محكمة

أحكام الوباء في الفقه الحنبلي

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن حفظ النفس البشرية من الكليات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها، والمتفق عليها بين الشرائع السماوية()، والمكلف مأمور بحفظ نفسه، مسؤول عنها، محاسب على التقصير فيها، قال الله تعالى: ﴿ثم لتسألُن يومئذ عن النعيم﴾()، قال المفسرون: تسألون عن العافية وصحة البدن()، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد، حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»()، ومن أجَلِّ طرق حفظ النفس وقايتها عما يضرها من الأمراض، والأسقام، والآفات، سواء كان ذلك في الحال أو المآل.
إن الوقاية من الوباء يحقق للإنسان مصلحة كبرى حيث يعيش سليما من الأمراض والمشاغل والمشكلات، ويعد الأصل التشريعي المعروف بـ: «سد الذرائع»، قمة المنهج الوقائي في الإسلام الذي يمنع كل الأفعال المباحة، إذا كان فعلها سيؤدي إلى مضرة أو مفسدة، قال ابن عبد السلام: «والطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام»().
عناصر البحث:
المبحث الأول: مفهوم الوباء وعلاقته بالطاعون.
المبحث الثاني: الأحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها.
المبحث الثالث: حكم الدخول والخروج لبلد الوباء.
المبحث الرابع: الحجر الصحي في زمن الوباء.
المبحث الخامس: جملة من الأحكام الفقهية المتعلقة بالوباء.

المبحث الأول: مفهوم الوباء وعلاقته بالطاعون
أولا: الوباء لغة:
قال الجوهري: «الوبأ، يمد ويقصر: مرض عام، وجمع المقصور أوباء وجمع الممدود أوبئة»()، وجاء في القاموس: «الوبأ: الطاعون، أو كل مرض عام، جمع: أوباء، ويمد، جمع: أوبية»()، وقال الفيومي: «الوباء بالهمز مرض عام يمد ويقصر، ويجمع الممدود على أوبئة، مثل: متاع وأمتعة»().
فالوباء في المعاجم اللغوية يدور حول معنى: كل مرض عام، أو الطاعون، وهذا المعنى اللغوي قريب جدا من المعنى الاصطلاحي الذي سيأتي بيانه، جاء في معجم اللغة العربية: «الوباء: كل مرضٍ شديد العدوى، سريع الانتشار من مكان إلى مكان، يصيب الإنسان، والحيوان، والنبات، وعادة ما يكون قاتلا كالطاعون»().
ثانيا: الوباء اصطلاحا:
قال ابن النفيس: «الوباء: ينشأ عن فساد يعرض لجوهر الهواء، بأسباب خبيثة سماوية، أو أرضية»(). وقال ابن سينا: «الوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده، ولذلك لا يمكن حياة شيء من الحيوان بدون استنشاقه»().
وعرفته الموسوعة الطبية المعاصرة: «هو: كل مرض يصيب عددا كبيرا من الناس في منطقة واحدة في مدة قصيرة من الزمن، فإن أصاب المرض عددا عظيما من الناس في منطقة جغرافية شاسعة سمي وباء عالميا»(). وهذا التعريف أكثر دقة وشمولية من التعريفات السابقة؛ لأنه عمم مفهوم الوباء.
ثالثا: علاقة الوباء بالطاعون:
تقدم تعريف الوباء لغة واصطلاحا، أما الطاعون فقد عرف في اللغة بـ: «الموت، والجمع: الطواعين، وطعن الإنسان بالبناء للمفعول، أصابه الطاعون فهو مطعون»()، وجاء في اللسان: «الطاعون لغة: المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد له الأمزجة والأبدان»().
وفي الاصطلاح قال النووي: «الطاعون قروح تخرج في الجسد فتكون في الآباط، أو المرافق، أو الأيدي، أو الأصابع، وسائر البدن، ويكون معه ورم وألم شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسود ما حواليه، أو يخضر، أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء»(). قال ابن حجر: «تسمية الطاعون وباء لا يلزم منه أنَّ كل وباء طاعون، بل يدل على عكسه، وهو أن كل طاعون وباء، لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة الموت، وكان الطاعون أيضا كذلك، أطلق عليه اسمه»().
والناظر في تعريف الوباء والطاعون يلاحظ أن هناك اتجاهان في تعريفهما: أحدهما: يرى أن الطاعون هو الوباء، وأنهما متطابقان، وهو ظاهر قول ابن سينا: «الطواعين تكثر عند الوباء، وفي البلاد الوبية»().
والثاني: أنهما متغايران، وبينهما عموم وخصوص، وهو الذي عليه المحققون من الفقهاء، قال النووي: «وأما الوباء: فقال الخليل وغيره: هو الطاعون. وقال آخرون: هو كل مرض عام، والصحيح الذي قاله المحققون: أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض، دون سائر الجهات، ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض في الكثرة، وغيرها، ويكون مرضهم نوعا واحدا، بخلاف سائر الأوقات؛ فإن أمراضهم فيها مختلفة، قالوا: وكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا»().
إذن كل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون، فإنه واحد منها، وإليه ذهب عياض، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم()، وهذا هو الموافق لما توصل إليه الأطباء من أن الوباء أعم من الطاعون، فالوباء هو المرض المعدي يهاجم عددا من الناس في منطقة معينة وفي زمن واحد، فإذا انتشر في أكثر من منطقة أو مجتمع سمي: جائحة، فيقال وباء الكوليرا ، وباء أنفلونزا الطيور، وهلم جرا().
ومن جعل الوباء هو الطاعون يحمل قوله على أنه فرد من أفراد الوباء، لا أن كل وباء طاعونا()، أو أنه أطلق ذلك من باب المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض أو كثرة الموت()، أو أن الطاعون يطلق بمعنى عام على جميع الأوبئة، وبمعنى خاص على الداء المعروف.

المبحث الثاني: الأحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها.
أولا: الأحاديث الواردة في الوباء والطاعون:
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز أو عذاب أرسل على بنى إسرائيل، أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه)().
2ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناسا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه)().
3ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صَفَر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)().
4ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)().
5ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب اللَّه له، إلا كان له مثل أجر شهيد)().
6ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم، كفرارك من الأسد»().
7ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد الممرض على المصح»().
8ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما قد كتبه الله له إلا كان له مثل أجر شهيد)().
ثانيا: توجيهات الحنابلة لهذه الأحاديث
ذهب جمهور الحنابلة إلى إمكان الجمع بين هذه الأحاديث، ولكنهم اختلفوا في طريقة الجمع بينها على ضربين:
أولا: إثبات العدوى، والمراد بأن العدوى التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ودعواهم بأكله مع المجذوم، ليبيّن أنه لو فرض أنه حصل له عدوى، فإن هذه العدوى حصلت بإذن الله، وليست كما يعتقدونه، من أنها تعدي بنفسها().
ثانيا: إن الأحاديث الواردة لحالتين مختلفتين، فحديث: (لا عدوى) مخاطب به قوي الإيمان واليقين، صحيح التوكل الذي يستطيع دفع اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه، وعليه يحمل أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم، وحديث : (فر من المجذوم)، وسائر ما ورد من جنسه مخاطب به ضعيف الإيمان والتوكل؛ لسدِّ باب اعتقاد العدوى عنه؛ لأنه لا يتمكن من دفع اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه، قال ابن مفلح: «وهذا اختيار بعض أصحابنا»().
ولعل القول الأول هو صحيح لما فيه من التوفيق بين الأحاديث الواردة، قال النووي: قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان، وطريق الجمع أن حديث: لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: لا يورد ممرض على مصح فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره»().

المبحث الثالث: حكم الدخول والخروج لبلد الوباء.
إذا كان الوباء ينتقل عن طريق التنفس والمجاورة كالطاعون؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول إليه أو من كان في البلد المصاب من الخروج منه، وكذا كل وباء معد يشق التحرز منه بمنع المريض من مجالسة الصحيح حتى لا ينتقل المرض إليه، والأدلة وإن كانت مخصوصة بمرضي الجذام والطاعون إلا أن غيرهما من الأمراض التي تشبهها في طريقة الانتقال والانتشار، وصعوبة التحرز منها تأخذ الحكم نفسه من وجوب منع دخول بلد الوباء أو الخروج منها().
قال ابن القيم: «يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة، وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروج … والسفر إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا، هذا كلام أفضل الأطباء»()، وهذا هو قول الجمهور لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه)() ولما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فتوقفت عمر في دخول البلد، فأخبره عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه»().
جاء في التراتيب الإدارية: «في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول للأرض التي حلها الطاعون، فائدتان: أحداهما: لئلا يستنشقوا الهواء الذي قد عفا وفسد فيمرضون.
والثانية: لئلا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فتتضاعف عليهم البلية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من القرف التلف)(). وفسر بأنه ملابسة الداء ومداناة المرضى»().
وقد ذكر الحنابلة مجموعة من الأسباب للنهي عن الدخول إلى البلد المصاب بالطاعون أو الخروج منه، من ذلك: عدم إلقاء النفس في التهلكة، وقد نهى الله عن ذلك فقال:﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾()، وفي القدوم تعريض النفس لأسباب التلف؛ ذلك أن مجاورة المرضى سبب من أسباب انتقال المرض، والأخذ بالعافية مادة المعاش والمعاد().
ويجب حمل النفس على الثقة بالله والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر عليه()، فإذا خرج إلى بلد آخر فقد ينقل المرض إلى غيره ممن لم تحصل له مناعة فينتشر المرض في البلد الذي قدم إليه().

المبحث الرابع: الحجر الصحي في زمن الوباء.
إن الحجر الصحي يعتبر من أهم وسائل مقاومة انتشار الأمراض الوبائية، ويظهر بجلاء أن الأحاديث النبوية الشريفة قد حددت مبادئ الحجر الصحي كأوضح ما يكون التحديد، فهي تمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، كما أنها تمنع أهل تلك البلدة من الخروج منها().
جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (الطاعون رجس… فإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)()، فدل الحديث على النهي عن القدوم إلى البلد المصاب بالوباء المعدي، أو خروج من كان فيها وقت العدوى منها، والنهي في الحديث عند أكثر أهل العلم للتحريم.
لقد أثبت العلم بوجود أمراض خطيرة تنتقل من شخص إلى آخر، وتُعدي بقدرة الله ومشيئته بسبب أحد طرق العدوى العديدة، وهي: إما بواسطة التنفس كما في أمراض الجهاز التنفسي كالكورونا والسل الرئوي، أو عن طريق الملامسة كالجدري والجذام، أو عن طريق المعاشرة الجنسية كما الأمراض التناسلية كالإيدز والزهري والسيلان، غيرها من الأمراض التي قد تنتقل عير وسائل الانتقال المختلفة، مما يستدعي منع اختلاط المرضى أو حاملي المرض بالأصحاء؛ حيث يمنع كل مريض عما كان وسيلة لانتقال مرضه()، وهو ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.
أولا: الحجر لغة:
قال ابن فارس: «الحاء والجيم والراء أصل واحد، وهو المنع، والإحاطة على الشيء»().
ثانيا: الحجر اصطلاحا
اختلف الحنابلة في تعريف الحجر فيما بينهم، إلا أنهم متفقون على أنه المنع من التصرف سواء كان التصرف فعلا أو قولا، في المال أو غيره، وكلامهم متجه إلى الحجر في المعاملات المالية، قال ابن قدامة: «وهو في الشريعة منع الإنسان من التصرف في ماله»().
وقد شرع الحجر حماية للفرد والمجتمع من تصرفات تصدر من المحجور عليه ، قد تضره، أو تضر غيره، وقد يكون الحجر لحماية المحجور عليه، وحماية غيره في الوقت نفسه، كالحجر الصحي، يكون على المحجور عليه سواءً كان مريضا، فيحجر عليه حتى يشفى من مرضه، أو صحيحا حتى لا يصاب بالمرض، وفي الوقت ذاته فيه حماية للمجتمع من انتشار المرض المعدي فيه().ولهذا فالمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي.
ثالثا: تعريف الحجر الصحي:
هو: «تدبير احترازي يقتضي منع اختلاط مرضى الأمراض المعدية بجمهور الأصحاء»()،
ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يحل لمجذوم مخالطة صحيح إلا بإذنه()، قال البهوتي: «وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم ونحو ذلك، وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو المجذوم أثم، وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق»().
والحجر الصحي يتناول بمفهومه جانبين أساسيين هما:
الجانب الأول: الحجر على الأصحاء الذين اختلطوا بمن أصيب بالمرض الساري المعدي خلال فترة قابلية المرض للإعداء، كمن كان في بلد انتشر فيها الطاعون أو الحمى القلاعية لكن لم تظهر عليه آثار المرض؛ لأن بعض الأمراض تكون في فترة من فترات المرض شديدة العدوى بعكس فترات أخرى ، فكل مرض له فترة عدوى خاصة به، قد يكون معديا في الأسابيع الثلاثة الأولى من بدء المرض، ثم تقل نسبة الإعداء ؛ لقلة إفرازته للجراثيم المعدية بعد تلك المدة().
الجانب الثاني: الحجر على المريض المصاب بالمرض المعدي()، وذلك لمنع تفشي المرض وانتشاره في المجتمع، وعلاج المصاب بالمرض إذا أمكن، وتوفير العناية الطبية له، وهذا النوع من الحجر يختلف باختلاف المرض المعدي ذاته، ولذلك أقر أهل الطب طريقة الحجر على المصابين بالأمراض المعدية، وتحديد تحركاتهم، أو عزلهم في أماكن مستقلة، أو في المستشفيات، ووضعوا قوانين صارمة تجبر المصاب بالمرض بالعزل في المستشفى، أو في أماكن مستقلة تسمى دور النقاهة، وتسمى هذه الفئة من الأمراض بالأمراض المِحْجَرِيَّة التي يجب فيها حجر المصاب أو المشتبه بإصابته بالمرض().
والحجر الصحي ليس مقصورا على الأشخاص فقط بل إنه يطبق أيضا على الحيوانات، ووسائل النقل المختلفة لمنع انتقال مرض، أو مستودعه، أو نواقل المرض، ويجب توفير العناصر الطبية المتخصصة، كما أن الطبيب ملتزم بمعالجة المصابين بأمراض معدية، و يحرم عليه الفرار من المنطقة الموبوءة من باب أولى، أو حتى مجرد الامتناع عن علاج المصابين، ذلك أنه بفراره أو امتناعه يسهم بصورة كبيرة في انتشار المرض وتفشيه، وهو الأعرف بوسائل الوقاية منه، وطرق مكافحته، والحد من انتشاره، وفي الوقت نفسه فهو قادرٌ بإذن الله أن يحمي نفسه من الإصابة، ويساعد غيره أيضا().
وهذا ما قرره الطب الحديث بعد أن عرف الكثير من طبائع الأمراض المعدية، وتوصل إلى أن الحجر الصحي من أهم أسباب مكافحة الأمراض المعدية والقضاء عليها().

المبحث الخامس: جملة من الأحكام الفقهية المتعلقة بالوباء
أولا: حضور المريض بمرض معدٍ الجمعة والجماعات:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يمنع المريض بمرض مُعْدٍ من المسجد وحضور الجمعة والجماعات، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الشافعية()، والحنابلة()، وبعض المالكية()، وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أدلة منها: حديث: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد)().
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مخالطة المريض بمرض معد للأصحاء، لئلا يكون قدر الله على المختلط به مثل دائه، وحضور المريض لأداء صلوات الجماعة مظنة لهذا الاختلاط، قال المرداوي: «ويُعذَر في ترك الجمعة والجماعة المريض بلا نزاع، ويُعذَر أيضا في تركهما لخوف حدوث المرض»().
القول الثاني: لا يمنع المريض بمرض معد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات كصلاة العيد، وأداء الحج والعمرة، وهو قول عند المالكية()، واستدلوا: بالأثر الذي رواه مالك في الموطأ: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله، لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست، فمر بها رجل بعد ذلك قال لها: إن الذي كان نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا»(). بمعنى أن عمر رضي الله عنه لم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت، وإنما خاطبها على سبيل الرفق، قال ابن رشد: «دليل على أنه أراد بقوله لها: لو جلست في بيتك، الأمر لها بذلك والقضاء عليها به، لكنه رفق بها في الأمر رحمة بها وحنانا عليها، وتوسم فيها أنها تكتفي بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها وأطاعته حيا وميتا»().
ثانيا: القنوت لصرف الطاعون
ذهب الحنابلة إلى عدم مشروعية القنوت لرفع الطاعون؛ قال البهوتي: «لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا في غيره ولأنه شهادة للأخيار فلا يسأل رفعه»()، فإن نزل بالمسلمين نازلة سوى الطاعون فيسن أن يقنت إمام الوقت خاصة، وهو الإمام الأعظم، واختار المرداوي أو نائبه في جميع الصلوات سوى الجمعة، فيكفي الدعاء في آخر الخطبة، ويجهر بالقنوت في صلاة جهرية()، وأما الطاعون فلا يقنت لنزوله، لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس ولا غيره، ولأنه شهادة فلا يسأل رفعه()، لقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم)().
القول الثاني: أن القنوت إذا نزل الطاعون بين المسلمين مشروع، واستدلوا بأن الطاعون من جملة النوازل التي تنزل بالمسلمين فيشرع له الدعاء والقنوت والابتهال إلى الله بأن يرفعه كما يشرع في باقي النوازل والشدائد التي تنزل بالمسلمين، هو قول الجمهور قال النووي: «والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف، أو قحط، أو وباء، أو جراد، ونحو ذلك، قنتوا في جميعها، وإلا فلا)().
ثالثا: غسل الموتى في الوباء
لقد كرم الإسلام المؤمن وحفظ له كرامته بعد مماته، كما حفظها له في حياته؛ إذ جاءت الشريعة بجملة من الأحكام والتفصيلات الخاصة بالميت مما يدل على عنايتها به عناية تكريم واحترام، ومن تلك الأحكام: تجهيز الميت وتغسيله وتكفينه، ثم الدعاء له والترحم عليه، قال المرداوي: «غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية ، بلا نزاع ، فلو دُفن قبل الغسل من أمكن غسله لزم نبشه على الصحيح من المذهب»().
وكما جاءت الشريعة بتلك الأحكام تكريما للأموات فإنها جاءت بوجوب حفظ النفس، ونفي الضرر عن الأحياء، حينما يكون الميت مصابا بممرض معد يُخشى من تعدي ضرره إلى من يقوم بتجهيزه وتغسيله ودفنه، فإن للشريعة حينئذ تدابير وقائية تمع انتقال العدوى من جسد الميت للأحياء، قال البهوتي: «ومن تعذر غسله لعدم ماء أو عذر غيره كالحرق والجذام والتبضيع يمم؛ لأن غسل الميت طهارة على البدن فقام التيمم عند العجز عنه مقامه كالجنابة»().
وكذلك إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله، كما هو الحال في الأمراض المعدية إذا لم يمكن تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه الأحوال كلها استثنى العلماء هؤلاء من الأصل وقالوا: إنهم لا يُغسلون، وإنما يُيَمَّمون().
رابعا: احتكار السلع وقت الوباء
اتفق الحنابلة على حرمة الاحتكار؛ لما فيه من تضييق على الناس() مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «(لا يحتكر إلا خاطئ)()، و بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ)()، وقوله صلى الله عليه: (من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد بريء من الله تعالى، وبرىء الله تعالى منه)().
والمحتكر: هو الذي يتلقى القافلة، فيشتري الطعام منهم يريد إغلاءه على الناس، وهو ظالم لعموم الناس، خاطئ، والخاطئ: المذنب العاصي، والحكمة في تحريم الاحتكار: دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام، واضطر الناس إليه، أجبر على بيعه، ولهذا كان لولي الأمر أن يُكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند الضرورة إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة().

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق