مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامقراءة في كتاب

“أحكام المرأة بين الاجتهاد والتقليد…” للدكتورة شيماء الصراف. الجزء الثالث

مونية الطراز

 

… الكاتبة انتقدت في ذات السياق آراء بعض المحدَثين الذين صاروا على خطى تضييق المتأخرين، وذكرت من هؤلاء الإمام المودودي ومصطفى السباعي وغيرهم ممن اتهمتهم بالإخلال بدور الفقه والفقيه، واتهمت بعضهم بتضييع أمانة النقل من القرآن والسنة لاعتمادهم فتاوى فقهاء المتأخرين، كما اتهمت البعض الآخرين من الكتاب “الإسلاميين” بالجهل بتفاصيل أحكام الفقه على العموم وتفاصيل أحكام المرأة عند الفقهاء، واتهمتهم أيضا باعتماد الآراء الجاهزة كتلك التي صدرت عن السباعي ورشيد رضا والمودودي، زِد على ذلك اتسام مواقفهم بعدم الواقعية وقِصر النظر، وغير ذلك من العوائق التي حالت دون استصدار اجتهادات أصيلة.

وما عابته على هؤلاء الفقهاء في موقفهم من عمل المرأة عابته أيضا عليهم فيما يتعلق أيضا بموقفهم من مشاركتها السياسية، وهذا ما لا يوجد له مسوّغ يبرّره سواء في النصوص المؤسسة أو في الممارسات التاريخية الثابتة كما تقول.

ومن خلال عرضها للقوانين المتعلقة بعمل المرأة في مدونات الأحوال الشخصية العربية، بيّنت الكاتبة ما تتسم به التشريعات من ارتباك واضح، كشفت عنه جملة من منتخبات المواد التشريعية التي جعلتها تفصح بجلاء عن هذا الارتباك دون تعليق منها أو بيان.

وربطت الكاتبة عمل المرأة -في ختام هذا البحث- بموضوع النفقة والنشوز الوارد في قوانين الأحوال الشخصية، وبيّنت ارتباطها بالأقوال الفقهية التي ضيقت على المرأة وبخست حقها في الكرامة، وركّزت أساسا على القانون العراقي المجحف، في حين أشادت بالقانون المغربي مرة أخرى، كونه لم يجعل النشوز حالة واحدة؛ حيث ميّز بين النشوز المسقط للنفقة والنشوز الذي لا يسقطها.

وحق النفقة بحسب الكاتبة يجب أن يرتبط بالزوجية لا غير، ذلك أن هذا الحق مطلق في القرآن، وللمرأة الناشز الحق بالنفقة من زوجها -كما جاء في مذهب ابن حزم- ولا يرتفع هذا الحق إلا بعد سماع القاضي لدوافع المرأة للنشوز، وهذا رأي سديد من ابن حزم، نوهت به الكاتبة وبنت عليه استدراكها على القوانين الحديثة التي اعتبرتها متخلفة عن إدراك كنه التشريع المعلوم عند الفقهاء الأولين.

وتحت عنوان اختلاط المرأة بالرجل، مجتمع واحد أم مجتمعان، (المبحث الثالث عشر) تناولت الكاتبة ما جاء في القرآن والسنة في هذا الشأن، حيث أكّدت عدم وجود أية إشارة في الكتاب والسنة عن وجود مجتمعين واحد نسائي والآخر رجالي، أو أمرٍ بخلق هذين المجتمعين بالحد من اختلاط النساء بالرجال، وقدمت نماذج من الاختلاط في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، مؤكدة أن كل الأقوال التي وُضعت بغرض منع اختلاط النساء بالرجال أو للحد منه باءت بالفشل، ولم يُعمل بها على مرّ العصور، لأنها منافية لسنة الحياة على الإطلاق في الاجتماع، مما يتنافى مع واقعية الإسلام، وقدّمت نماذج عن تصدي العلماء قديما لدعوى منع الاختلاط، فبيّنت موقف الإمام ابن حزم وموقف الجاحظ في ذلك. وأكدت في ختام المبحث أن ما يبشّر به فقهاء وكتاب اليوم من أن الشريعة قد منعت الاختلاط سيظل حبرا على ورق، وأن ما هو موجود منه اليوم في بعض المجتمعات الإسلامية على قلة، يرجع سببه إلى طبيعة هذه المجتمعات أو الظروف التي تمر بها، أما انتشار هذا الوضع فمفروض فرضا بما يشبه القوة، وليس لأنه من سنن الحياة أو لأن الإسلام قد أمر به.

المبحث الرابع عشر خصصته الكاتبة للأحاديث الكاذبة ذات الصلة بالمرأة، واعتبرتها مسئولة عن أحوالها المتردية، وكانت الكاتبة في منتهى الذكاء والحنكة حين لجأت قبل الخوض في الموضوع إلى بيان نشأة وأسباب وضع الحديث، والمعايير المعتمدة لدى العلماء لفرز الحديث الكاذب وتشخيصه، وعلى رأسها مخالفة الحديث لما جاء به القرآن الكريم من أحكام وتعاليم وقواعد في كل المجالات وعلى كل الأصعدة. ولم تكن هذه الحقيقة (اتفاق مقاصد الشريعة في القرآن والسنة) فكرة جديدة استقل بها هذا المبحث، بل كان تحكيم هذين الأصلين منهج رسم خطى الكاتبة في بحثها منذ أول سطر من كتابها.

وبحنكتها التي لازمتها طوال البحث، فركت الكاتبة الأحاديث المكذوبة، وكشفت عن أقسام الأحاديث الكاذبة حول المرأة، سواء منها الأحاديث العدائية التي تحث على قمع المرأة واضطهادها باعتبارها أنثى أو زوجة، وهي أحاديث كثيرة ومنتشرة، تتعارض مع ما جاء في القرآن والسنة، أو الأحاديث الأخرى المكذوبة والتي جاءت رد فعل على هذه الأحاديث، فشكلت نوعا من الهجوم المضاد، دون أن تنصف المرأة في الحالتين معا، أو يوضع حالها على السكة الصحيحة، وما كان وضعها ليختل لو التُزم النص واقتُفيت مقاصده، ووقع الإعراض عما يُشهد له بالبطلان، وهذا الالتزام هو ما أثبتته الكاتبة لمن أسمتهم فقهاء الأمس في تذييل لكتابها بعنوان “المرأة بين فقهين وغفلتين” ضمن مقالات ثلاث ملحقة بالكتاب؛ ففقهاء الأمس أعمق نظرا في نظر الكاتبة، وأنفذ حكمة وأوفى اطلاعا وأقدر على فهم مراد النص، على خلاف فقهاء اليوم الذين حجموا قدر المرأة، وقوّضوا من أدوارها بما يناسب أفهاما لا ترقى إلى سمو الشريعة وفهم فقهاء الأمس.

ولقد كانت الكاتبة محقة لو ميّزت بين الفقهاء الأوائل ممن سمتهم فقهاء الأمس، فليس القرن الأول الهجري كالقرن العاشر، ولا فقهاؤه كفقهائه، فالأوائل كانوا ألصق بالنصوص وأكثر تصديا للاجتهاد، إلا أنها جمعت الأقدمين في ميزان واحد، فما سلم لها هذا الجمع، حيث جعلت من بين جميعهم الإمام الغزالي مثلا، ونسبت إليه الإصابة في إنصاف المرأة، في حين نقلت فتوى لفقيه معاصر أنكرت عليه شرط جواز خروج المرأة بأن تكون متخفية وفي هيئة رثة تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، واستنكرت قوله بقولها: “لماذا الهيئة الرثة وما سند هذا الفقيه في فتواه هذه” وما علمت أنها كانت نقلا عن الغزالي نفسه في الإحياء.

وفي المقال الثاني من التذييل، وتحت عنوان “موقف المشرع الحديث”، عرضت الكاتبة لبعض محاسن قوانين الأحوال الشخصية في العالمين العربي والإسلامي، من ذلك عدم التزام مشرعيها بالمذهب الواحد في وضع الأحكام المتعلقة بالمرأة، وحسن الاختيار من الآراء والأقوال الفقهية المختلفة، ومنها التوسع في اعتماد فكرة الضرر، وتقصد بذلك التزام المشرع الحديث بقاعدة رفع الضرر، ومن ذلك أيضا الحد من آفات الضرر التعسفي وربطه في كثير من الأحوال بالقاضي، ومن ذلك النص على فتوى واحدة من بين فتاوى متعددة في المذاهب المختلفة وفي المذهب الواحد، وهو ما حدّ من الضرر الواقع على المرأة بعد اختيار الرأي الأنسب من بين الآراء المختلفة، ومحاسن أخرى ذكرتها الكاتبة بتركيز. كما ذكرت مساوئ وقع فيها المشرع الحديث منها وضع بعض الأحكام بدون تمحيص، واستنساخ قواعد الفقه دون النظر في صلاحيتها والغموض في إيراد كثر من مفردات المشرع الفقهية التي تسهم في إرباك عمل القوانين في واقع الناس.

وفي المقال الثالث قارنت الدكتورة الصراف بين واقع المرأة في الأمس وواقعها اليوم، وذكّرت ببعض الأحكام التي كانت المرأة سببا في إقرارها، من ذلك أحكام الإرث والطلاق والظهار ونفقة المعتدة. وذكّرت ببعض مواقف النساء اللواتي ذدن عن حقوقهن، وكذا مواقف الصحابة الرجال الذين حرصوا على نقاء صورة المرأة كما أرادها الشرع الحكيم.

وفي ختام هذه المقالة اقترحت الكاتبة خطوات عملية تقود المرأة إلى إصلاح وضعها منها العلم والمعرفة، وعدم الخوض في الإشكالات الهامشية ذات الصلة بالمرأة، وعدم الالتفات إلى المقولات الجاهزة والنمطية كتداول عبارة اضطهاد الرجل للمرأة والعمل بذل ذلك بمنطق التعاون لا العداء.

هكذا ختمت الكاتبة مؤلَّفها، وجعلت في خاتمته بيانات/ملاحظات وضعت فيها وبيّنت بعض ما يمكن أن يوقع الالتباس في ذهن القارئ من المصطلحات التي أوردتها، وبذلك أحسنت التخلص وأوفت البيان.  

ختاما أقول إن هذا الكتاب إضافة جادة في طريق تصحيح وضع المرأة المسلمة، وُفّقت صاحبته في تلخيص مجمل القضايا التي يخوض فيها الباحثون المهتمون بموضوع المرأة في الإسلام. وقد كانت دقيقة في مجمل ما عالجته من مسائل رغم صعوبة ذلك ومناعته.

ويحسب لهذا الكتاب جمعه للمادة الشرعية في هذا الباب، واستقصاؤه لمختلف القوانين ذات الصلة به في الدساتير العربية الحديثة، إضافة إلى ما يتخلل ذلك من مناقشة أقل ما يستفاد منها أن يبني القارئ موقفا سليما وإن خالف فيه الكاتبة.

والكتاب من حيث المنهج دقيق أيضا، أجده قد حقق الغرض الذي أريد له، والمتن من حيث العبارة سهل ميسّر للقارئ قاصد في إبانته وتحليله، ولكنه لا يخلو من بعض الأخطاء المطبعية والإملائية التي ربما كان سببها استعجال صاحبة الكتاب بإخراجه ما دام استكمل البناء والفكرة وهي مشكورة في عملها تستحق كل ثناء.    

 

نشر بتاريخ:13 / 11 / 2013

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. نشكر مركز الدراسات النسائية على هذه الباقة المتميّزة من القراءات التي يتحفنا بها، أنا شخصيا سبق لي أن قرأت جزءا كبيرا من هذا الكتاب، ولم يتسن لي إتمامه، وقد سعدت بتقديم هذا التعريف .الوافي به الذي ذكرني ببحوثه وبالقضايا التي تناولها في ثناياه.فشكرا لكم مرة أخرى

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق