مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

أحصوا هلال شعبان لرمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

نحن نعد الأيام القليل المتبقية من شهر شعبان الفضيل، الذي ما فتئ أن ينقضي، وقد اغتنمه المسلمين بالصوم، استعدادا لرمضان الكريم، الذي يوشك أن يهل علينا، ويبلغ المسلمين صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا، لغفران ما تقدم من الذنوب، ولهذا فالشوق له يدفع المسلمين لإحصاء هلال شهر شعبان لرمضان، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحصوا هلال شعبان لرمضان».

هذا الحديث رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: الترمذي في سننه[1]: كتاب الصوم، باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان، رقم الحديث: 687، والدارقطني في سننه[2]، رقم الحديث: 2174، وزاد: «ولا تخلطوا برمضان، إلا أن يوافق ذلك صياما كان يصومه أحدكم، وصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فإنها ليست تغمى عليكم العدة»، والبيهقي في سننه الكبرى[3]: كتاب الصوم، باب الصوم لرؤية الهلال أو استكمال العدد ثلاثين، رقم الحديث: 8194، والحاكم في مستدركه[4]، والطبراني في معجمه الأوسط[5]، رقم الحديث: 8242، والبغوي في شرح السنة[6]: كتاب الصيام، باب لا يتقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، رقم الحديث: 1722.

ومن حديث الحسن رضي الله عنه: رواه عبد الرزاق في مصنفه[7]: كتاب الصيام، باب الصيام، رقم الحديث: 7303، ولفظه: «أحصوا هلال شعبان لرؤية شهر رمضان، فإذا رأيتموه، فصوموا، ثم إذا رأيتموه، فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة».

ومن حديث رافع بن خديج: رواه الدار قطني في سننه[8]، رقم الحديث: 2176، ولفظه: «أحصوا عدة شعبان لرمضان، ولا تقدموا الشهر بصوم، فإذا رأيتموه، فصوموا، وإذا رأيتموه، فأفطروا، فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين يوما، ثم أفطروا، فإن الشهر: هكذا وهكذا وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة».

الحكم على الحديث:

إن هذا الحديث رواه الترمذي بسنده إلى الإمام مسلم، وهو يرقى إلى درجة الصحة، كما ذكر ذلك الحاكم، وابن العربي، وغيرهما، ومنهم من تكلم فيه، وهذه بعض أقوال العلماء فيه:

قال أبو عيسى الترمذي (المتوفى عام: 279 هـ): “حديث أبي هريرة غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية”[9].

وقال ابن أبي حاتم الرازي (المتوفى: 327هـ): “قال أبي: ليس هذا الحديث بمحفوظ”[10].

وقال أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ): “لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عمرو إلا يحيى بن راشد، تفرد به: مروان بن محمد”[11]

وقال أبو عبد الله الحاكم (المتوفى عام: 405هـ): “صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”، وأقره الذهبي (المتوفى عام: 748هـ) [12].

ووصف أبو بكر ابن العربي (المتوفى عام: 543 هـ) هذا الحديث بالبديع، ثم قال: “هو صحيح مليح”[13].

وقال أبو الحجاج المزي (المتوفى عام: 742هـ) في ترجمة الإمام مسلم: “روى عنه: الترمذي حديثا واحدا”[14]، وهو الحديث المذكور، وزاد أبو الفضل ابن حجر العسقلاني (المتوفى عام: 852هـ): “ما له في جامع الترمذي غيره”[15].

وقال جلال الدين السيوطي (المتوفى عام: 911هـ) نقلا عن زين الدين العراقي: “لم يرو المصنف في كتابه شيئاً عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث، وهو من رواية الأقران؛ فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما”[16].

بعض معاني الحديث:

استبطن هذا الحديث فوائد أصولية، وأخرى فقهية، استخرجها أئمة الحديث من خلال فهمهم لمقاصده، فقد قال أبو بكر ابن العربي (المتوفى عام: 543 هـ): “قال بعض التابعين: إن غم الهلال عمل على تقديره بالحساب، فإذا قال الحاسب: هو الليلة على درجة من الشمس يمكن أن يظهر فيها عادة لو لم يكن غير، فإنه يعمل على قوله في الصوم والفطر لقوله: (فاقدروا له) يريد: فاحسبوا تقدير منازله التي عبر الله عنها بقوله: {والقمر قدرناه منازل}. وسقط بعض المتأخرين من الرحالين ها هنا سقطة كبيرة فنسب هذا القول لبعض الشافعية، وما قال هذا القول أحد قبل التابعي، ولا بعده غيره، ونحن لا ننكر أصل الحساب، ولا جري العادة، في تقديم المنازل ولكن لا يجوز أن يكون المراد بتأويل الحديث ما ذكر لوجهين:

أحدهما: فما تفطن له مالك وجعله أصلا في تأويل الحديث لمن بعده، وذلك أنه قال – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الأول: (فاقدروا له)؛ فجاء بلفظ محتمل، ثم فسر الاحتمال في الحديث الثاني فقال: (فأكملوا العدد ثلاثين)، فكان هذا تفسير التقدير.

وأما الثاني: فلا يجوز أن يعول في ذلك على قول الحساب، لا لأنه باطل، ولكن صيانة لعقائد الناس أن تناط بالعلويات، وأن تعلق عباداتها بتداور الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عجاج إن أدخلوا فيه، وأين هذا لمن عقل من التابعين وغيرهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) الحديث. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن نفسه تعريف الأنامل المعتادة عند أهل الحساب، فأولى وأحرى أن ينفي عن نفسه تعريف الكواكب وتعديلها”[17].

وقال شرف الدين الطيبي (المتوفى عام: 743هـ): “أي عدوا، والإحصاء أبلغ في الضبط كما مر؛ لما فيه من إفراغ الجهد في العد، ومن ثم كنى عنه بالطاقة في قوله: (استقيموا ولن تحصوا) “[18].

وقال زين الدين العراقي (المتوفى عام: 806هـ): ” يحتمل أنَّ المراد أحصوا؛ استهلاله حتى تكملوا العِدة إن غُمَّ عليكم، ويدل عليه الزيادة التي عند الدارقطني. والمراد تراءوا هلال شعبان، وأحصوه ليرتب رمضان عليه بالاستكمال، أو الرؤية”[19].

وقال ابن الملك الكرماني (المتوفى عام: 854 هـ): “بفتح الهمزة: أمرٌ من الإحصاء، وهو: العد؛ أي: عدوا أيامه لتعلموا دخول رمضان”[20].

وقال زين الدين المناوي (المتوفى عام: 1031هـ): “(قوله: (أحصوا) بضم الهمزة: هو خطأ، والصواب بفتح الهمزة لأنه من الاحصاء. ا.هـ؛ عدوا واضبطوا، والإحصاء أبلغ من العد في الضبط، لما فيه من إعمال الجهد في العد (هلال شعبان لرمضان) أي: لأجل صيامه، والهلال ما يرفع الصوت عند رؤيته، فغلب على الشهر الذي هو الهلال، ذكره الحراني، وفي القاموس: الهلال غرة القمر، أو لليلتين، أو لسبع، والمراد: أحصوا هلاله، حتى تكملوا العدة إن غم عليكم أو تراؤوا هلال شعبان، وأحصوه ليترتب عليه رمضان بالاستكمال أو الرؤية، فإن قيل حديث العدد لا يقع فيه اضطراب، فالأخذ به أولى، ورد بالمنع وإن سلم، فحديث الرؤية مثله بل أولى، وقد قال: (أحصوا) إلى آخره؛ لأن فيه إظهار الشعار دونه”[21].

وقال أبو إبراهيم الأمير الصنعاني (المتوفى عام: 1182هـ): “الهلال: غرة القمر، والإحصاء هنا: من الحفظ، من قولك: أحصيت الشيء إذا حفظته، أي: احفظوا ليلة رؤيته لتعرفوا أول رمضان بيقين، أو من الإحصاء: وهو التعداد، أي: أحصوا عدة شعبان، وذلك بعد معرفة ليلة هلاله”[22].

وأختم هذا المقال بكلام نفيس للقاضي أبي بكر ابن العربي في فقه الحديث المذكور أعلاه، إذ قال: “وإن كان الحكم منوطا بالرؤية، فليس يتفق لكل أحد أن يراه؛ لأن ظهوره لحظة عن غفلة فإنما يراه بعض دون بعض ويلزم الصوم لمن لم يره بمن رأى.

واختلف الناس فيمن يلزم به الصوم، فقيل يلزم باثنين؛ لأنهما أصل الحقوق الخفية، وقيل: يلزم بواحد، وممن قاله الشارح، وقد روى ابن عمر، قال: (رأيت الهلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلمته فأمر بالصوم)، أخرجه أبو داود، وكثرت في ذلك الآثار. قال علماؤنا: هذه حكايته حال، وقضية عين، ويحتمل أن يكون رآه قبل ابن عمر غيره، فسقط الاحتجاج به، وهذا بيِّن جدا، فأما الفطر فاتفق العلماء على ألا يكون إلا باثنين، إلا أبا ثور فإنه قال: يفطر بقول الواحد، وجعله من باب الإخبار، وخبر الواحد يلزم العمل به، ولقد تفطن لمشكل وتعرض لعظيم قد بيناه في مسائل الخلاف، وأقوى ما لكم على هذه الحالة في التمسك به أنه مسبوق بالإجماع، إذ استيفاء البيان معه، ولا يمكن في هذه العجالة”[23].

*****************

هواش المقال:

[1] ) السنن 3 /62.

[2] ) السنن 3/ 111-112.

[3] ) السنن الكبرى 4 /206.

[4] ) المستدرك على الصحيحين 1/ 425.

[5] ) المعجم الأوسط 8 /152.

[6] ) شرح السنة للبغوي 6 /239-240.

[7] ) المصنف 4/ 7.

[8] ) السنن 3/ 112.

[9] ) السنن 3 /62.

[10] ) العلل 3 /93.

[11] ) المعجم الأوسط 8/ 152.

[12] ) المستدرك على الصحيحين 1/ 425.

[13] ) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 3 /167.

[14] ) تهذيب الكمال في أسماء الرجال 27 /499.

[15] ) تهذيب التهذيب 4 /67.

[16] ) قوت المغتذي على جامع الترمذي ص: 258.

[17] ) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 1 /483-484.

[18] ) الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1582.

[19] ) نقله جلال الدين السيوطي في: قوت المغتذي على جامع الترمذي ص: 258.

[20] ) شرح مصابيح السنة للإمام البغوي 2 /511.

[21] ) فيض القدير شرح الجامع الصغير 1/ 193.

[22] ) التنوير شرح الجامع الصغير 1 /426.

[23] ) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس 1/ 484-485.

************

جريدة المراجع

التنوير شرح الجامع الصغير لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1432/ 2011.

تهذيب التهذيب لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، اعتناء: إبراهيم الزيبق، عادل مرشد، مؤسسة الرسالة، بدون تاريخ.

تهذيب الكمال في أسماء الرجال (ج27) لأبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزي القضاعي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1413/ 1992.

الجامع الصحيح (السنن) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج3: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1388/ 1968.

السنن الكبرى لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: جماعة من العلماء، دار النوادر،  الطبعة الأولى: 1424/2013، مصورة عن مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد- الهند، الطبعة  الأولى: 1344.

السنن لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، تحقيق: جماعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1424/ 2004.

شرح مصابيح السنة للإمام البغوي لمحمد بن عبد اللطيف ابن المَلَك الكرماني، تحقيق: لجنة مختصة من المحققين بإشراف: نور الدين طالب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إدارة الثقافة الإسلامية، الكويت، الطبعة الأولى: 1433 /2012.

عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لأبي بكر محمد عبد الله بن العربي المعافري، اعتناء: جمال المرعشلي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1418/ 1997.

العلل لأبي محمد عبد الرحمن بن محمد ابن أبي حاتم الرازي، تحقيق: جماعة من الباحثين، منشورات مكتبة الملك فهد، الرياض- السعودية، الطبعة: الأولى، 1427/ 2006.

فيض القدير شرح الجامع الصغير لمحمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الطبعة الأولى: 1356.

القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر محمد عبد الله بن العربي المعافري، تحقيق: محمد عبد الله ولد كريم، دار الغرب الإسلامي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1992.

قوت المغتذي على جامع الترمذي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، اعتناء: ناصر بن محمد بن حامد الغريبي، إشراف: سعدي الهاشمي، رسالة لنيل درجة الدكتوراه، جامعة أم القرى، مكة المكرمة- السعودية، 1424.

الكاشف عن حقائق السنن لشرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض- السعودية، الطبعة الأولى: 1417 /1997.

المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الحاكم النيسابوري، وفي ذيله تلخيص المستدرك لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد- الهند، الطبعة الأولى: 1340-1341-1342.

المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني، دار التأصيل، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1436 /2015.

المعجم الأوسط أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة- القاهرة.

*راجع المقال الباحث: عبد الفتاح مغفور

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق