مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

أحسن الحديث (5): وقفات مع حديث: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً. وبعد:

 فإن الله تعالى الذي خلق الأمراض والآفات، خلق معها أسباب مقاومتها وعلاجها، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:  “ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء”.([1])

هذا الحديث الصحيح يعد قاعدة عظيمة في الأخذ بالأسباب النافعة،  ومن خلاله نستمد معان ودلالات غزيرة، وأحكام وفوائد عظيمة منها:

1-أن المرض والصحة، والداء والدواء، كل بقدر الله تعالى، وهذا من سنة الله في خلقه مصداقا لقوله تعالى: ﴿قل كل من عند الله﴾([2])

2- الترغيب في طلب العلوم النافعة التي تنفع الناس في دينهم ودنياهم، ومنها علم الطب بنوعيه “طب الأبدان، وطب القلوب”.

3- أن كل داء قدَّره الله تعالى في هذه الأرض إلا وأنزل له شفاء، وعدم معرفة الإنسان لدواء بعض الأمراض المستعصي علاجها دلالة على محدودية علمه، وأنه مهما بلغ من العلم، فإنه يجهل أشياء كثيرة تحقيقا لقوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)([3])، ولكن لا يجوز له مع ذلك أن يجزم بعدم وجود الدواء لها. قال الشيخ حمزة قاسم في منار القاري:  “الحديث صريح في أنه ليس هناك أمراض مستعصية لا دواء لها، حتى هذه الأمراض المستعصية لها أدوية تؤثر فيها، وتقضي عليها، ولكن الأطباء لم يكتشفوها حتى الآن … وبعض الأمراض لم تكتشف أدويتها حتى الآن، وقد دلت التجارب على صدق هذه القضية، فإن السل وبعض الأمراض الصدرية كانت تعد من الأمراض المستعصية، فلما اكتشف البنسلين أصبح من الأمراض العادية التي يسهل علاجها بإذن الله، سيما إذا كان في الدرجة الأولى أو الثانية.” ([4]) اهـ.

4- لُطف الله تعالى ورحمته بعباده؛ إذ ابتلاهم بالأدواء، وأعانهم عليها بالأدوية، كما ابتلاهم بالذنوب والمعاصي وأعانهم عليها بالتوبة والأعمال الماحية للسيئات.

5-  التطمين لنفس المريض والطبيب معا؛ قال ملا علي القاري في المرقاة: “واعلم أن في هذه الأحاديث تقوية لنفس المريض والطبيب، وحثا على طلب الدواء وتخفيفا للمريض، فإن النفس إذا استوثقت أن لدائها دواء يزيد قوى رجائها، وانبعث حارها الغريزي، فتقوى الروح النفسانية والطبيعية والحيوانية بقوة هذه الأرواح، تقوى القوى الحاملة لها فتدفع المرض وتقهره … على أن الأدوية المعنوية كصدق الاعتماد على الله تعالى، والتوكل عليه، والخضوع بين يديه، وتفويض الأمر إليه، مع الصدقة والإحسان، والتفريج عن الكرب، أصدق فعلا وأسرع نفعا من الأدوية الحسية، لكن بشرط تصحيح النية، ومن ثم ربما يتخلف الشفاء عمن استعمل طب النبوة لمانع قام به من ضعف اعتقاد الشفاء به، وتلقيه بالقبول، وهذا هو السبب أيضا في عدم نفع القرآن الكثيرين، مع أنه شفاء لما في الصدور”([5]) اهـ.

6- مشروعية الأخذ بالأسباب؛ وهو التداوي، وأنه لا ينافي التوكل على الله،بل هو من جملته، لأن تعطيلها يقدح في التوكل نفسه، وهذا صريح في قوله صلى الله عليه وسلم: “تداووا عباد الله، فإن الله عز وجل لم ينزل داءً إلا أنزل معه شفاءً، إلا الموت والهرم”([6]).

هذا ما تيسر لي ذكره في هذا الموضوع ، فأسأل الله تعالى أن يتقبل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجزي كاتبه، ومصححه، وناشره، وقارئه.

والحمد لله رب العالمين.

******************

هوامش المقال:

([1]) أخرجه البخاري في صحيحه (4 /32)، كتاب: الطب، باب: ما أنزل الله داء، برقم: (5678).

([2]) سورة النساء من الآية: (78).

([3]) سورة الإسراء من الآية: (85).

([4]) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري (5 /212).

([5]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8 /344).

([6]) أخرجه أحمد في مسنده (30 /398) برقم: (18455).

***************

ثبت المصادر والمراجع:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح. عبد الله الخطيب التبريزي. تحقيق: جمال عيتاني. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط1 /1422-2001.

المسند. أحمد بن حنبل. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون. مؤسسة الرسالة بيروت. ط2/ 1420-1999.

 منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري. حمزة محمد قاسم. راجعه: عبد القادر الأرناؤوط- عني بتصحيحه ونشره: بشير محمد عيون. مكتبة دار البيان دمشق- مكتبة المؤيد السعودية. 1410-1990.

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق