مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

أبو عمران الفاسي

 

اسمه ونشأته:

هو موسى بن عيسى بن أبي حاج. واسمه  -أي جده – يحجّ ابن وليهم بن الخير الغفجومي، وغفجوم فخذ من زناتة. وقال السمنطاري: من هوّارة. أصله من فاس، وبيته به مشهور، ويعرفون ببني أبي حاج. ولهم عقب، وفيهم نباهة. ولد سنة 368ﻫ، فيما نقله ابن عبد البر، وقال أبو عمر الداني ولد سنة 365ﻫ، واستوطن القيروان، وحصلت له بها رئاسة العلم. ورحل إلى قرطبة فتفقه بها. ودخل العراق، ، ثم رجع إلى القيروان فاستوطنها، فلم يزل إماماً بالمغرب، أخذ عنه الناس وتفقه عليه جماعة كثيرة، فطارت فتاويه في المشرق والمغرب، واعتنى الناس بقوله. وكان يجلس للمذاكرة، والسماع في داره، من غدوة إلى الظهر. فلا يتكلم بشيء إلا كتب عنه، إلى أن مات رحمه الله [2].

فضائله وأخباره:

قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أعلم الناس، وأحفظهم. جمع حفظ المذهب المالكي إلى حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة معانيه. وكان يُقرئ القرآن بالسبع، ويجوده. مع معرفته بالرجال وجرحهم، وتعديلهم. أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس، واستجازه من لم يلقه. وخرج من عوالي حديثه نحو مائة ورقة. قال حاتم: ولم ألقَ أحداً، أوسع منه علماً، ولا أكثر رواية. قال عمر الصقلي: أبو عمران الثقة الإمام الديّن، المعلم. وذكر أن الباقلاني كان يعجبه حفظه، ويقول: لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبد الوهاب بن نصر، وكان إذ ذاك بالموصل، لاجتمع فيها علم مالك. أنت تحفظه وهو ينصره. لو رآكما مالك لسرّ بكما. قال ابن عمار في رسالته، فذكره فقال: كان إماماً في كل علم، نافذاً في علم الأصول، مقطوعاً بفضله وإمامته. ولما دخل بغداد شاع أن فقيهاً من أهل المغرب مالكياً، قدم. فقال الناس: لسنا نراه إلا عند القاضي أبي بكر الباقلاني، وهو إذ ذاك شيخ المالكية بالعراق، وإمام الناس. فنهض من أهل بغداد من المالكية. فقال السائل: أصلحك الله، هذا شيخ من كبار شيوخنا، ومن الجفاء أن تكلفه المناظرة من أول وهلة. ولكن أنا أخدمه في نصرة هذه المسألة وأنوب عنه فيها، الدليل على صحة ما أجاب به الشيخ، حرسه الله تعالى، كذا وكذا، ما اعترضه الشافعي فيه. ثم انفصل المالكي من اعتراضه، حتى خلص الدليل. فلما أجمل الكلام على المسألة، قام إليه الشافعي، وقبّل رأسه، وقال: أحسنت يا سيدي، وحبيبي. أنت والله شيخ المذهب، حين نصرته. وجرت في ذلك المجلس مسائل غيرها. وذكره أبو عمر المغربي في كتابه، فقال: قرأ القرآن على أبي الحسن علي الحمامي، وقرأ القرآن بالقيروان مدة، ولما ورد القيروان وجلس مدة، بان علمه. قال كبار أصحاب أبي بكر بن عبد الرحمان: نسير إليه. وقالوا إنه يعزّ على شيخنا ذلك. وتروّضوا في الحضور عنده. ثم عزموا على ذلك. قالوا إنه لا يجمل بنا التخلف عن مثله، فأسخطوا شيخهم حتى يحكى أنه دعا عليهم، وهجرهم[3].

شيوخه:

تفقه أبو عمران الفاسي بالقيروان عند أبي الحسن القابسي. وسمع بها من أبي بكر الدويلي، وعلي بن أحمد اللواتي السوسي، ورحل إلى قرطبة فتفقه بها عند أبي محمد الأصيلي. وسمع بها من أبي عثمان سعيد بن نضرة. وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن قاسم وغيرهم. ودخل العراق، فسمع من أبي الفتح ابن أبي الفوارس، وأبي الحسن علي بن إبراهيم المستملي، وأبي الحسين ابن الحمامي المقري، وأبي الحسن ابن الرفاء، وأبي الحسن بن الخضر، وأبي أحمد الفرضي، وأبي الطيب المجد، وأبي العباس الكرخي ابن المحاملي، وأبي عبد الله بن بكران الرازي، وأبي القاسم الضريري، وأبي عبد الله الجعفي القاضي، وأبي أحمد بن جامع الدهان، وهلال الحفار، وأبي الحسن ابن الفضل العطار، وغيرهم. ودرس الأصول على القاضي أبي بكر الباقلاني، ولقي جماعة. وكان قد سمع بمكة من أبي ذر. ثم ترك أن يسميه لشيء جرى بينهما. فكان يقول: فيما سمعت عنه. وذكروا أن السبب في ذلك بعد صداقتهما ومودتهما، أن أبا عمران لما رجع من العراق، وجد أبا ذر بالسرات خارج مكة، وكتبه بمكة عند خازنه، فطلبها من خازنه، فلم يمكنه منها. وكان له غرض في بعضها. فبإدلاله على أبي ذر، ولما بينهما، تحكم في أخذها دون رأيه، وغلب خازنه عليها، فقامت على أبي ذر من ذلك القيامة، وأغلظ له في الكلام، حتى أدى ذلك إلى فساد ما بينهما. وسمع بالحجاز أيضاً، من أبي الحسن ابن فراش، وأبي القاسم السفطي، وبمصر من أبي الحسن ابن أبي الجدار، وأحمد بن نور القاضي، وعبد الوهاب بن منير الوشاء[4].

تلاميذه:

أخذ عنه وتفقه عليه جماعة كثيرة، كعتيق السوسي، وأبي محمد الفحصلي، ومحمد بن طاهر بن طاوس، وجماعة من الفاسيين، والسبتيين، والأندلسيين[5].

آراؤه العقدية:

ذكر القاضي عياض وغيرُه أنه جرت بالقيروان مسألة في الكفار، هل يعرفون الله أو لا؟ فوقع فيها تنازع عظيم بين العلماء. وتجاوز ذلك إلى العامة، وكثر التمادي بينهم، حتى كان يقوم بعضهم إلى بعض في الأسواق، ويخرجون عن حد الاعتدال إلى القتال. وكان المتهجم بذلك رجل مؤدب يركب حماره، ويذهب من واحد إلى آخر. فلا يترك متكلماً ولا فقيهاً إلا سأله فيها وناظره. فقال قائل: لو ذهبتم إلى الشيخ أبي عمران لشفانا من هذه المسألة. فقام إليه أهل السوق بجماعتهم، حتى أتوا باب داره واستأذنوا عليه، فأذن لهم. فقالوا له: أصلحك الله، أنت تعلم أن العامة إذا حدثت بها حادثة، إنما تفزع إلى علمائها. وهذه المسألة قد جرى فيها ما بلغك، وما لنا في الأسواق شغل إلا الكلام فيها. فقال لهم: إن أنصتّم وأحسنتم الاستماع أجبتكم إلا واحد، ويسمع الباقون. ثم التفت إلى واحد منهم فقال: أرأيت لو لقيت رجلاً فقلت له: تعرف أبا عمران الفاسي، فقال: نعم. فقلت: صفه لي، فقال: هو رجل يبيع البقل والحنطة والزيت في سوق ابن هشام ويسكن صبرة، أكان يعرفني؟ قال: لا، قال: فلو لقيت آخر فقلت هل تعرف أبا عمران؟ فقال: نعم. فقلت له: صفه لي، فقال: هو رجل يدرس العلم ويدرسه، يفتي الناس ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: والأول ما كان يعرفني؟ قال: لا. قال لهم الشيخ: كذلك الكافر، إذا قال لمعبوده صاحبة، وولداً، وأنه جسم، وقصد بعبادته مَن هذه صفته. فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفاته. ولم يقصد بالعبادة إلا مَن هذه صفته، وهو بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده: الله، الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد. فهذا قد عرف الله، ووصف بصفته. وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون، علواً كبيراً. فقامت الجماعة وقالوا له: جزاك الله خيراً من عالم. فقد شفيت ما بنفوسنا، ودعوا له، ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا[6].

أدبه:

 ذكر أبو الحسن ابن رشيق الأديب في كتابه، قال: كتب محمد بن علي الطبني حين عزم أبو عمران على السفر إلى الحج إليه:
أقول والنفس حزنى منك والهة … مما تحاذره من فقد محياها
ومن له رب ما تراه من عمل … برٍ وإن كان في بقياه بقياها
فإن تُقم لم يُرِعني نأيُ مرتحل … وإن ترد سفراً ودعتك الله
نفسي بما ترتضيه غير كارهة … وحسبك أن ما أرضاك أرضاها
فأجابه أبو عمران رحمه الله:
حياك ربك من خل أخي ثقة … وصان نفسك بالتكريم مولاها
من كل غم وشأن لا يوافقها … هو العليم بما يبديه مولاها
ولا أضاع لها الرحمن حرفتها … وقولها إن تسر ودعتك اللهَ
فالله يجمعنا من بعد أوبتنا … ويؤتنا من وجوه البر أسناها[7]

وفاته:

توفي أبو عمران سنة ثلاثين وأربعماية. فيما حكى الجياني، عن أبي عمر ابن عبد البر، وقال أبو عمر المقرئ: مات وسنه خمس وستون سنة[8].

 

 

 

الهوامش:

[1] ترجمته أيضا في: “طبقات الشهرازي 161، والصلة 2/577، و”غاية النهاية” 2/321، و”الديباج” 2/337، و”معالم الإيمان” 3/159، و”الحلل السندسية” 1/272، و”وشجرة النور الزكية” 1/106، والفكر السامي 4/41. انظر: ترتيب المدار وتقريب المسالك، 7/243، للقاضي عياض، تح: محمد بن تاويت الطنجي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، الطبعة 2/1983م.
[2] ترتيب المدار وتقريب المسالك، 7/243. و”الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، ابتدئ طبعه بإدارة المعارف بالرباط 1340، وكملت بمطبعة البلدية بفاس 1345.
[3] ترتيب المدارك: 7/247-248.
[4] م، س:7/ 248.
[5] نفسه 249.
[6] م، س: 7/249-250. والفكر السامي 4/41.
[7] م، س:7/251-252.
[8] م، س:7/ 252. والفكر السامي 4/42.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق