مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

أبو عمران الفاسي: منظومة علم وأخلاق

في المداخلة التي شارك بها في أعمال الندوة العلمية التي نظمها مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء، بمناسبة مرور ألف عام على وفاة أبي عمران الفاسي(ت:430هـ)، حاول أستاذنا الفاضل الدكتور حسن الوراكلي-أبو أيمن- استعراض بعض أبعاد شخصية هذا العالم الجليل من حيث رصد البعد العلمي والبعد الأخلاقي القيمي من شخصيته، استلهمها من آرائه المبثوثة في أقواله أولا، ثم من شهادات أقرانه ومن جاء بعده من العلماء والمؤرخين.
وقد قسم أستاذنا هذه المداخلة إلى تمهيد وفقرتين، يقول في تقديمها: « تألق تاريخ الغرب الإسلامي العلمي في قرونه الأولى بأسماء شخصيات رائدة وقفت حياتها على خدمة العلوم الشرعية، وكرست جهودها لنشر المعارف الدينية من أمثال أبي علي القابسي، وعبد الرحيم بن العجوز الكتامي، وأبي عمرو الداني، وابن عبد البر، وعتيق بن عمران النفزاوي، وعبد الرحمن بن سليمان البلوي، وابن مرانة الفرضي، وأبي عمران الفاسي. ولم يكن ليتأتى لهذه الشخصيات ما حققت من ريادة في رفع القواعد من البيت العلمي بالغرب الإسلامي لولا ما استفرغت من جهود في الطلب والتحصيل استثمرت حصيلته في مجال الإقراء حين جلست تبثه طلابه، وفي مجال التأليف حين أجرت به قلمها. وكذلك كان دأب أبي عمران الفاسي، فلم يكن له أن يتبوأ منزلته المتميزة بين علماء عصره وعلماء العصور التالية لولا ما استفرغ- كما استفرغوا- من جهد في طلبه وتحصيله حين جلس إلى شيوخ بلدته فاس من تلامذة أبي ميمونة دراس بن إسماعيل، ثم حين توجه إلى القيروان حيث لازم أبا الحسن القابسي، وأبا بكر الزويلي، وعلي بن أحمد اللواتي السوسي، ثم حين اجتاز البحر إلى عدوة الأندلس حيث جلس صحبة ابن عبد البر إلى أبي محمد الأصيلي، وأبي عثمان سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأبي الفضل أحمد بن قاسم البزاز، ثم حين ترك الأندلس في رحلته العلمية المشرقية التي قادته إلى مكة المكرمة حيث لقي رفقة أبي عمرو الداني طائفة من شيوخها وسمع منهم أمثال أبي ذر الهروي، وأبي الحسن بن أبي فراس، وأبي القاسم السقطي، ثم إلى بغداد حيث جلس إلى جماعة من أشهرهم القاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو عبد الله بن أبي بكر الرازي وغيرهما، ثم إلى مصر حيث لقي من شيوخ العلم جماعة كان منهم أبو الحسن بن أبي جدار، وعبد الوهاب بن نصر… وستعنى هذه المداخلة..باستخلاص ما يسعف الباحث على استبيان هذه المنزلة من خلال بعدين اثنين: بعد علم، وبعد أخلاق، تشكلت منهما منظومة نظر مسدد، وسلوك ممهد، اسمها: أبو عمران الفاسي».
– وقد ذكر الدكتور حسن الوراكلي في البعد العلمي بعضا من أقوال وأخبار أبي عمران الفاسي المتناثرة في المصادر المختلفة، يقول في ذلك: «أما بعد العلم؛ فقد توزعته أقوال وأخبار مما نقل عن أبي عمران أو عن شيوخه أو أقرانه تناثرت في هذا المصدر وذاك، ومنها استخلصنا عناصر شكلت بنية البعد المذكور مما نعرضه، مخللا أو مذيلا، بما ينم عنه من دلالات وإيحاءات»، ثم ذكرها على النحو التالي:
أ- سعة في التحصيل وبسطة في الاطلاع: دلت عليهما شواهد عدة تستقى من أخباره في مجالي التدريس والتصنيف، كما تستقى من أقوال عصرييه..
ب- مشاركة في عدة علوم: أبان بها عن تضلع وطول باع فيها جميعها، حتى اعتبر عند عصرييه: “إماما في كل علم” وذكر منها: علوم القرآن وخاصة علم القراءات التي أتقن السبع منها وأجاد بها قراءة القرآن. وعلوم الحديث التي كانت له بروايته ودرايته عناية فائقة على أيام الطلب، بالإضافة إلى حفظ لمتنه ومعرفة بمعانيه وقيام على سنده وبصر بالرجال. وعلوم الفقه والأصول حيث وصف بكونه: “رأسا في الفقه” و “نافذا في علم الأصول”.
ج- هذا مع مقدرة متميزة على الحفظ والاستظهار مما تعلمه من شيوخه من أقوال في الفقه والأصول شكلت رصيده في دروسه وفتاواه ومناظراته.
د- وثقة من شيوخه بمقدرته العلمية وترشيحهم إياه للجلوس في مجلس الدرس والإقراء.
هـ- ثم حلقاته العلمية التي تعددت من حيث أماكنها التي تنقلت ما بين فاس وبغداد والقيروان، كما تعددت من حيث معارفها شملت علوم القرآن والحديث والفقه والأصول.
و- مناظراته التي دلت على وفرة علمه مع جلده على مقتضيات المناظرة وصبره على لأوائها.
ز- ثم فتاواه الفقهية: المستوعبة لأقضية شرعية متنوعة أودعها علمه ونظره، ومكنت من واسع انتشارها وبالغ ذيوعها.
ح- وأخيرا أجوبته في القضايا العامة العقدية والدعوية.. وقد ساق مجموعة من الأمثلة الشواهد على هذه الأجوبة، نختار منها نص الإجابة التي عالج بها أبو عمران “إشكالا عقديا” أثار قلق عامة القيروان، فلجأوا إليه يلتمسون قوله الفصل، يقول الدكتور حسن الوراكلي: «وقد أورد الدباغ في “معالم الإيمان” عن أبي العباس الجعفري الأندلسي من أهل بياسة نص الإجابة: قال رجل من أهل القيروان: أنا خير البرية، فهمَّت به العامة، ثم لبث فحمل إلى دار أبي عمران، فقيل له ذلك ، فقال له: أنت مؤمن؟ قال: نعم. قال: تصلي، وتصوم، وتفعل الخير؟ قال: نعم. قال: اذهب بسلام، قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة)[البينة/7]، فانتفض الناس عنه».
– أما في البعد الأخلاقي، فقد ذكر الدكتور حسن الوراكلي أن هذا البعد يتجلى في شخصية أبي عمران الفاسي من خلال شقين اثنين: أحدهما نظري يتشكل من منظومة قيم، وثانيهما عملي يبلور محتوى الأول في جملة سلوكيات. تمثل الأول من خلال اكتساب المفهوم الإسلامي للقيم المرتكز على أساس من العلم النافع والعمل الصالح، وقد أبان أبو عمران الفاسي عن وعي معمق بمقتضيات هذا المفهوم ناشدا الصلاح لمجتمعه في الدين والدنيا.. وتمثل الثاني من خلال:
أ- تحلياته: وهي المتمثلة فيما لحظه عصريوه من صفات كريمة كان يتحلى بها من الورع والأمانة والثقة والصدق والتواضع والحلم والنصح والود والفضل وحسن المعشر وكمال المروءة..
ب- أخباره التي قيَّد بعضها عصريوه تنم عن أخلاق سَنيَّة، ترفدها متانة دين وقوة يقين.
ج- فتاواه وأجوبته التي تدل إلى جانب كونها دالة على سعة العلم، دالة في الآن نفسه على متانة دين وكريم خلق وحسن مروءة.
د- الشعر وذلك من خلال بعض ما ألهم به أخلاؤه وطلابه من شعر في شخص أبي عمران الفاسي.
هـ- وأخيرا تعاليقه التي نوه فيها بمكارم أخلاق من عرف من شيوخ العلم من مثل ابن التبان، يقول عياض: «قرأت في تعليق أبي عمران الفقيه ذكر أنه –أي ابن التبان- كان فصيح اللسان، حافظا للقرآن، بعيدا من الرياء والتصنع».
وقد ختم الدكتور حسن الوراكلي هذه المداخلة بالقول: «فلعلنا أن نكون وفَّينا بمحتوى عنوان المداخلة بما استجليناه في الفقرتين السابقتين من شخصية أبي عمران الفاسي من خلال منظومة العلم والأخلاق التي شكلت، بمُثلها العليا وقيمها المثلى، سيرته المتميزة بعطائها النظري والسلوكي..».

[أبو عمران الفاسي (ت450هـ) حافظ المذهب المالكي-

بحوث الندوة العلمية التي نظمها مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث

بالرابطة المحمدية للعلماء بمناسبة مرور ألف عام على وفاة أبي عمران الفاسي-

يوم الخميس:04جمادى الأولى1430هـ، الموافق:30أبريل 2009م-الرباط- (ص:79-103)]

 

                                                                  إعداد: منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق