وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

أبو عبيد البكري الأندلسي وكتابه المسالك والممالك

شهدت بلاد الأندلس تطوراً كبيراً ونهضة شاملة في شتى العلوم والفنون، بما في ذلك دراسات في علوم أخرى كالفيزياء، والجغرافيا  وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) ، وكانت الحركة العلمية في الأندلس تقوم على يد مجموعة من أشهر علماء الأندلس المسلمين، فكانوا يرحلون نحو المشرق وغيرها طلبا للعلم والتزود به من مصادره، وأنشأوا المدارس والمكتبات، ودرسوا العلوم المختلفة، وترجموا المصنفات، وشجعوا العلم والعلماء… وكان من بين هؤلاء العلماء الأفذاذ:

أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي، مؤرخ جغرافي، ثقة علامة بالأدب، له معرفة بالنبات[1]، وهو من مرسيه من أعيان أهل الأندلس وأكابرهم[2].

مولده ونسبه:

ولد البكري حوالي سنة 1021م، في قصر والده في مدينة ولبه في غرب الأندلس، وكان والده عبد العزيز يلقب بمعز الدولة، إذ كان من أمراء الطوائف.

وهو عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب بن عمرو البكري المشهور خاصة بكنيته أبو عبيد، ولد بلبلة  من عائلة عربية، يرجع أصلها إلى قبيلة بكر وائل، تولى الكثير من أفرادها مناصب رسمية بالأندلس، ولكن لا نعرف شيئا يذكر عن أوائل هذه العائلة، ولا عن الفترة التي استقرت فيها بالأندلس[3].

نشأته ورحلاته:

نشأ أبو عبيد البكري في بيت إمارة وسيادة…  وتتلمذ على يد أبي حيان وأبي العباس أحمد بن عمر العذري وأبي بكر المصحفي وأبي بن عبد البر الحافظ الذي تسلم منه إجازة رواية…  ويبدو أنه انتقل مع أبيه إلى قرطبة في سنة 443 هـ، وبقي فيها بما فيه الكفاية كي يواصل ثقافته الأدبية والعلمية حتى لقب بالقرطبي إلا أن أكثر شهرته هي الأندلسي[4]..

ولا نعلم كم بقي أبو عبيد بقرطبة، وهل تركها في حياة والده أم بعد وفاته …، فابن بشكوال يعلمنا أنه تابع دروس أبي مروان ودروس المؤرخ الكبير أبي حيان والمؤكد انه اتبع أيضا بقرطبة دروس أبي بكر المشعفي وابن عبد البرّ ، ولا يمكن أن نعرف أي تآليفه ألّف إن كان قد ألف مدة هذا المقام الأول بقرطبة لأن تواريخ تآليفه غير معروفة، ولكن الكثير من القرائن تبين انه لم يكن عديم الشغل، وأن الكثير من تآليفه قد تكون ظهرت في تلك الفترة، ويبدو حسب خبر لابن حيان نقله الفتح بن خاقان وحكاه أيضا ابن الأبار في شيء من الاحتراز  أن البكري قد انتقل من بعد إلى المرية بدعوة من أميرها محمد ابن معن، ولا شك أن سبب هذه الدعوة كانت شهرة الرجل بصفته أديبا، واستقبله حاكم المرية بترحاب وجعله من خلانه وانقسمت حياة أبي عبيد بين حياة البلاط، والدراسة وتابع في المرية دروسه…[5]

وذهب البكري سنة 478/1085- 1086 إلى اشبيلية موفدا من قبل محمد بن معن لدى المعتمد بن عباد عندما ذهب الى المغرب الأقصى يستنجد بعون المرابطين ضدّ التهديد النصراني … ونجده من جديد سنة 483/1090- 1091 بقرطبة التي أصبحت عاصمة الأندلس بعد احتلال المرابطين لها والراجح انه قضى بها بقية حياته بين الدراسة والحياة اللاهية مع أصدقائه وبها توفي أيضا[6].

أقوال العلماء فيه:

وقال عنه الذهبي: “العلامة، المتفنن، أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري، نزيل قرطبة، حدث عن: أبي مروان بن حيان، وأبي بكر المصحفي، وأجاز له أبو عمر بن عبد البر، وكان رأسا في اللغة وأيام الناس …حدث عنه:  محمد بن معمر المالقي، ومحمد بن عبد العزيز بن اللخمي، وطائفة” [7].

حياته العلمية والأدبية:

ولقد كان تكوين الرجل المثقف في تلك الفترة يشتمل دائما على دعامة متينة من العلوم الدينية، فقه، علوم قرآنية، علم كلام، ثم يأتي الأدب واللغة والفلسفة ومواد أخرى حسب الإمكانيات والأذواق الشخصية فلا غرابة إذن أن نجد ضمن تآليف البكري مصنفات تبحث في مواضيع مختلفة[8].

وكان من أهل اللغة والآداب الواسعة والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار متقنا لما قيده، ضابطا لما كتبه، جميل الكتب متهيماً بها، كان يمسكها في سبابي الشرب وغيرها إكراما لها وصيانة، وجمع كتابا في أعلام نبوة نبينا عليه السلام أخذه الناس عنه إلى غير ذلك من تواليفه[9].

فالبكري لغوي وأديب قبل كلّ شيء، رغم أنه اشتهر بصفته جغرافيا في المشرق والمغرب ويكفي للتفطن الى ذلك أن يستعرض القارئ عناوين الكتب التي تنسب إليه فالأدب له دور كبير في أكبر آثاره الجغرافية أما معجمه الجغرافي فهو كتاب لغة قبل كلّ شيء[10]. وفَاضل فِي معرفة الْأدوية المفردة وقواها ومنافعها وأسمائها ونعوتها وما يتعلق بها [11].

ورقتان من مخطوط مسالك وممالك  للبكري

كتابه المسالك والممالك:

ويعد كتاب المسالك والممالك من أهم مؤلفات المؤرخ والجغرافي أبو عبيد البكري، حيث تناول فيه سيرته و حياته وشيوخه وتلاميذته، وكذا منهجه، وهو كتاب جمع بين التاريخ والجغرافيا،  كما ذكر فيه العديدة من المؤلفات التاريخية والجغرافية وغيرها… وتحدث عن الممالك وعرض العديد من  شعوب العالم، ووصف الإمبراطوريات والقصص التاريخية…

ويشتمل كتاب المسالك على قسمين متقاربي الحجم، والراجح أن القسم الأول كان يحتوي مقدمة عامة أو تمهيدا يعتبر اليوم ضائعا، ويستهل هذا القسم بمقدمة تاريخية طويلة تبدأ بمبدأ الخلق، وتتعرض لتاريخ الأنبياء من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم[12].

ويتعلق الفصل الموالي بالمعتقدات الدينية وأوهام قدماء العرب…

             ويبدأ القسم الجغرافي الحقيقي بفصول عديدة في الجغرافية العامة:

              الأراضي- البحار- الأنهار- الأقاليم السبعة.

ويستعرض المؤلف بعد ذلك البحار السبعة وأهم الأنهار، وبعنوان: ابتداء الممالك نبدأ في القسم الذي تسمى به كل الكتاب ويتمثل في وصف العالم بلدا بلدا وجهة جهة ومدينة مدينة. ونجد دائما نفس التخطيط: مقدمة تاريخية- وصف عام للبلاد والسكان والمنتوجات وصف للمسالك (وهذا القسم ضائع في الكثير من الأحيان مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الأندلس) ووصف للبلدان مع قسم تاريخي في الغالب، ويتخلل كل ذلك بعض الحكايات الغريبة تتصل بأدب العجائب. [13]

والتدرج العام ينطلق من المشرق الى المغرب ويبدأ بالهند فالصين فالترك ثم ينتقل الى الشام والتبت والسند … وملوك السودان ثم البربر وبلاد واحات افريقيا ثم أوروبا فيتحدث البكري عن الصقالبة والافرنج والجلالقة والنورمان ويختم بفصل عن الأكراد[14]..

ويبدأ القسم الخاص بهؤلاء بتاريخ ممالك العرب القدامى في اليمن والحيرة. ويلي ذلك وصف الجزيرة العربية بصفة إجمالية ثم جهة جهة بداية باليمن، وفي هذا القسم يخصص المؤلف فصلا طويلا لمكة، المدينة المقدسة، تاريخها وأماكنها المقدسة والجبال التي تحيط بها، ونجد تحاليل متشابهة بالنسبة الى يثرب أو المدينة وينتهي هذا القسم: بالطريق من مدينة النبي إلى مصر[15]..

ويبدأ في العراق أيضا بوصف العراق وأهم مدنه، ونجد في آخر الجزء الأول بعض المقالات عن بعض الشعوب التركية.

ويبدأ القسم الثاني بوصف حائط ياجوج وماجوج ورحلة سلام الترجمان ثم يرجع المؤلف الى الشرق الأوسط ويقدم لنا معلومات عن العواصم وعن الشام نفسه بمدنه الرئيسية…[16]

وتتواصل بعد هذا الانقطاع الرحلة نحو المغرب بفصل طويل عن مصر ينتقل فيه المؤلف من وصف البلاد عامة مع ذكر بعض الخصائص، الى استعراض تاريخها حتى الفتح الاسلامي. ويعير القسم المخصص للتاريخ القديم قيمة كبرى للعجائب ويلي وصف مصر قائمة كور البلاد…[17]

ويقودنا طريق الاسكندرية- افريقية إلى شمال افريقيا، وتتوالى المعلومات عن المسالك ووصف المدن بشيء من التطويل أو التقصير ونجد تحليلات تاريخية طويلة عن الأدارسة وبرغواطة والمرابطين، إنها نفس الطريقة المتبعة بالنسبة الى المشرق.

وعند وصولنا الى أقصى الجنوب المغربي سجلماسة- أغمات نتجه الى الجنوب ونخترق الصحراء ونزور بلاد السودان: غانة ومالي الخ… [18] 

ويهتم القسم الأخير من الكتاب بأوروبا الغربية ويبدأ بوصف عام للأندلس ثم تقسيماته فجباله فخصائصه ثم تستعرض بعض المدن بداية من قرطبة واشبيلية وتتبع ذلك مقالات عن جليقة وبلاد الافرنج البوتونيين ومن المؤسف انه لم تحفظ إلا أجزاء[19].

مؤلفاته وكتبه:

وله مؤلفات أخرى في علوم مختلفة منها:

– كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع.

– كتاب أعلام نبوّة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.

– كتاب أعيان النبات والشجيرات الأندلسية.

–  كتاب فصل المقال في شرح كتاب الأمثال.

–  كتاب سمط اللآلي في شرح أمالي القالي.

–  كتاب الإحصاء لطبقات الشعراء.

 – كتاب اشتقاق الأسماء.

 – كتاب التنبيه على أغلاط أبي علي في أماليه[20].

 وجل مؤلفات البكري تتسم بطابع الموضوعية والإنسيابية، واستطاع تقديم مصادر جغرافية وتاريخية مهمة، كما ألف من الكتب الغنية في مختلف المجالات والعلوم.

وفاته:

و صار  البكري إلى المرية، فاصطفاه صاحبها محمد بن معن لصحبته ووسع راتبه، وهذا ما حمل بعض المؤرخين على نعته بالوزير، ورجع إلى قرطبة بعد غزوة المرابطين، فتوفي بها عن سن عالية [21]، وكان ذلك في شوال سنة سبع وثمانين وأربع مئة، ودفن بمقبرة أم سلمة[22].

[1] – الإعلام للزركلي (4/98)   الطبعة الخامسة عشر ماي 2006  دار العلم للملايين.

[2] –  عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 600  دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.

[3] –  المسالك والممالك للبكري (1/2) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[4] –  المسالك والممالك للبكري (1/1) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[5] –  المسالك والممالك للبكري (1/2) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[6] –  المسالك والممالك للبكري (1/2) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[7] –  سير أعلام النبلاء (19/36) الطبعة الثالثة 1985م، مؤسسة الرسالة.

[8] –  المسالك والممالك للبكري (1/2) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[9] – كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس لابن بشكوال ص 278  الطبعة الثانية 1955م، مكتبة الخانجي.

[10] –  المسالك والممالك للبكري (1/2) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[11] –  عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص 600  دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.

[12] –  المسالك والممالك للبكري (1/13) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي.

[13] –  المسالك والممالك للبكري (1/13) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي.

[14] –  المسالك والممالك للبكري (1/14) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[15] –  المسالك والممالك للبكري (1/14) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[16] –  المسالك والممالك للبكري (1/15) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[17] –  المسالك والممالك للبكري (1/16) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[18] –  المسالك والممالك للبكري (1/15) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[19] –  المسالك والممالك للبكري (1/16) طبعة 1992م دار الغرب الإسلامي

[20] – الإعلام للزركلي (4/98)   الطبعة الخامسة عشر ماي 2006  دار العلم للملايين.

[21] – الإعلام للزركلي (4/98)   الطبعة الخامسة عشر ماي 2006  دار العلم للملايين.

[22] – كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس لابن بشكوال ص 278  الطبعة الثانية 1955م، مكتبة الخانجي.

ذة. رشيدة برياط

باحثة بمركز علم وعمران

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق