مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

أبو البقاء الرُّندي وكتابه الوافي في نظم القوافي

  عن صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد السادس، العدد 1-2،(1378-1958)

  بقلم: عبد الله كنون

  طارت شهرة أبي البقاء الرندي بقصيدته النونية المؤثرة في رثاء الأندلس، التي أجمع النقاد على أنها خير ما قيل في البكاء على ذلك الفردوس المفقود، على كثرة ما قيل في البكاء عليه. والعجيب هو أن تحتجب ترجمة أبي البقاء من كتب الأدب وتاريخه برغم هذه الشهرة الطائرة حتى لقد وقع الخلاف في تاريخه وعصره بل في اسمه وكنيته ولم يوجد من يحقق ذلك إلى الآن. وإنما يوجد من يذكره وقصيدته وينوه بهذه الدرة اليتيمة ثم يمر مر الكرام بكل ما عدا ذلك مما يقلى ضوءاً كاشفاً على حياة هذه الشخصية الأدبية الفريدة، ولعل السبب في ذلك هو أن صاحب نفح الطيب، المعلمة الأندلسية الكبرى، سكت عن ترجمته، فلم يتح للباحثين الوقوف عليها بعد ذلك في مصدر آخر فتضامنوا مع علامتنا المقري في هذا السكوت المزري.

  وإذا كان الكلام من فضة والسكوت من ذهب كما جاء في الحكمة، فقد تنعكس القضية في بعض الأحيان وذلك هو ما وقع في توهيم صديقنا الأستاذ البحاثة الكبير السيد محمد عبد الله عنان للعلامة المقري في شأن صاحبنا أبي البقاء وعصره.. والأستاذ عنان هو الوحيد من المؤرخين الذين تعرضوا لتحقيق تاريخ هذا الشاعر وخرجوا عن عهدة ذلك السكوت المزري. وقد أصاب في تحديد عصره وتاريخ حياته وإن لم يصب فيما نسبه للمقري من وهم في هذا الصدد.

  تحدث الأستاذ عنان في كتابه القيم «نهاية الأندلس» في الكتاب الأول منه عن ظروف قيام ممكلة غرناطة والأحداث المؤسفة التي لابست تلك الظروف ونتج عنها سقوط القواعد الأندلسية الكبرى، بلنسية وقرطبة وإشبيلية فما دونها، وتعرض لما أثارته هذه المحنة في النفوس من لوعة وأسى ثم قال: «ونظم شاعر العصر أبو البقاء صالح بن شريف الرندي مرثيته الشهيرة التي مازالت تعتبر حتى اليوم من أروع المراثي القومية وأبلغها تأثيراً في النفس، وفيها يبكي قواعد الأندلس الذاهبة، ويستنهض همم المسلمين أهل العدوة لإنجاد الأندلس وغوثها»، وساق نص القصيدة بعد ذلك.

  وبهذا حدد تاريخ هذا الشاعر والعصر الذي كان يعيش فيه، ثم زاد ذلك وضوحاً في التعليق الذي كتبه على القصيدة وقال فيه: «يبدو من سياق القصيدة، وذكر القواعد الأندلسية التي تبكيها وهي بلنسية ومرسية وشاطبة وجيان وقرطبة وإشبيلية، وهي التي سقطت كلها في يد النصارى بين سنتي 635هـ و650هـ أن الشاعر قد عاش في هذا العصر. ومن جهة أخرى فقد ذكر صاحب الذخيرة السنية صراحة أنها نظمت حينما نزل ابن الأحمر للنصارى سنة665هـ عن عدد كبير من القواعد الأندلسية، وقد كتب صاحب الذخيرة (وهو مؤلف مجهول) مؤلفه في عصر السلطان أبي سعيد المريني (710-733هـ) وأورد في كتابه قصيدة أبي البقاء بأكملها، وهو دليل قاطع على أن ناظمها عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجري»[انظر كتاب نهاية الأندلس ص48،37،36] وهو تحقيق نفيس جدير بالاعتبار، ولكن الأستاذ يقول معه: «وقد التبس الأمر على المقري في تعيين العصر الذي قيلت فيه هذه القصيدة والذي عاش فيه ناظمها صالح بن شريف فوصفه بأنه خاتمة أدباء الأندلس(أزهار الرياضجـ1ص47) وذكر في نفح الكيب أن أبياتاً أخرى أضيفت إليها تشتمل على ذكر بسطة وغرناطة وغيرهما ليست من نظم صاحبها لأنه توفي قبل سقوطها (أي غرناطة) مما يدل على اعتقاد المقري بأن أبا البقاء عاش في أواخر أيام مملكة غرناطة (أواخر القرن التاسع الهجري)».

   ويزيد هذا الكلام تأكيداً في الكتاب الرابع حين يعرض للحديث عن أعلام الأدب في مملكة غرناطة فيقول: «ومنهم أبو البقاء صالح بن شريف الرندي. وكان أديباً شاعراً جزلا. بيد أننا لا نعرف كثيراً عن حياته. ولا نعرف إلا أنه كان من أهل رندة كما يدل على ذلك لقبه. وقد عاش أبو البقاء حسبا رأينا في بداية هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن السابع الهجري. وعاصر الفتنة التي تمخضت عن قيام مملكة غرناطة وسقوط معظم القواعد الأندلسية في يد النصارى. وقال في المحنة مرثيته الشهيرة التي أتينا على ذكرها في موضعها، والتي خلدت ذكره إلى يومنا.. وقد وهم المقري فاعتقد أنه عاش في أواخر القرن التاسع الهجري، ووصفه بأنه خاتمة أدباء الأندلس حسبما أسلفنا».

  ويظهر أن الذي حمل الأستاذ عناناً على توهيم المقري هو وصف هذا الأخير لأبي البقاء بخاتمة أدباء الأندلس، وليس ضربة لازب أن يكون هذا الوصف دليلا على ما ذكره الأستاذ فإنهم يصفون به في كل عصر المبرزين من أهل العلم والأدب والفضل فيقولون خاتمة العلماء كما قالوا في أبي البقاء خاتمة أو آخرا بإطلاق.. وإنما يلزم هذا الوصف في شخص واحد هو خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.

  على أن المقري إنما تبع في ذلك غيره، وهو مجرد ناقل فقط. والذي وصف أبا البقاء بذلك الوصف أولا هو ابن عبد الملك المراكشي كما نقله عنه ابن الخطيب في الإحاطة، ويأتي نصه قريبا. فهذا دليل على ما قلناه من أن الوصف لا يستلزم معناه بإطلاق، وإنما المراد به العصر الذي قيل فيه.

  ثم إن الأستاذ يرجع الضمير في قول المقري عن أبي البقاء أنه توفي قبل سقوطها إلى غرناطة ليعتضد بذلك في توهيمه أنه كان يعتقد أن أبا البقاء عاش في أواخر أيام مملكة غرناطة أي في أواخر القرن التاسع الهجري، وهو تمحل ظاهر. والصواب أن الضمير يعود على بسطة وغرناطة وغيرهما من البلاد التي سقطت بعد وفاة أبي البقاء والتي تضمنتها تلك الأبيات المزيدة على قصيدته لا على خصوص غرناطة لتكون وفاته قبل سقوطها بل قُبَيْله حتى يكون ممن عاش في أواخر القرن التاسع. وهذا كله لو كانت تلك العبارة التي ساقها الأستاذ هي عبارة المقري، كيف وهو قد روي كلامه بالمعنى فتوهم منه ما لا يوهمه وألصقه بالمقري، وهو منه برئ.

  وهاك نص كلام المقري في النفح (جـ ني ص595) بعد إنشاده لقصيدة أبي البقاء: «انتهت القصيدة الفريدة، ويوجد بأيدي بعض الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف. وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته. ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة. وغالب ظني أن تبك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس، إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك بالمشرق والمغرب، فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات، وقد بينت ذلك في أزهار الرياض فليراجع».

  وأظن أن هذا كلام واضح لا يوهم شيئاً ما أشار له الأستاذ عنان، فالقََبْلية الضيقة في كلامه يقابلها بَعْدية واسعة في كلم المقري، وسبْقُ وفاة أبي البقاء لسقوط غرناطة فحسب، واقع موقع تأخر سقوطها وسقوط غيرها من البلاد عن موته. بل إن المقري يجعل أبيات الزيادة إنما قيلت بعد أخذ غرناطة وجميع بلاد الأندلس تتميما لتلك المناحة وإلحاقاً بتلك المرثية ما فاتها ذكره لتأخر زمنه من البلاد الأندلسية الواقعة في قبضة العدو استنهاضا لهمم الملوك في البلاد الإسلامية عساها تنبعث لاسترجاعها. وهذا إن أوحى بشيء فإنما يوحي بما اهتدى إليه الأستاذ من تحقيق تاريخ حياة الشاعر أبي البقاء الرندي وتعيين عصره الذي هو كما قال النصف الثاني من القرن السابع الهجري الذي شهد سقوط القواعد الأندلسية الكبرى من إشبيلية وقرطبة وغيرهما لا بسطة وغرناطة وغيرهما.

  هذا ويشير العلامة المقري في النفح إلى أنه بين تلك الزيادات في أزهار الرياض. والنسخة المطبوعة التي بأيدينا من هذا الكتاب لييس فيها شيء من ذلك.. وحيث أنه كثيرا ما يقع الكلام على هذه الزيادة فقد أحببت أن أثبتها هنا نقلا عن قطعة مخطوطة متداخلة من زهار الرياض ومن النفح معا توجد بخزانتنا ضمن مجموع قديم، وها هي ذي كما ثبتت فيه:

  وأين غرناطة دار الجهاد فكم

أسدى الشدى[كذا ولعلها أسد الشرى ويبقى المعنى مع ذلك غير تام] وهم في الحرب فرسان

وأين حمراؤها العليا وزخرفها كأنها من جنان الخلد عدنان[كذا]

والماء يجري بساحات القصور بها قد حف جدولها زهر وريحان

وأين جامعها المشهور كم تليت في كل وقت به آي وقرآن

وعالم كان يهدي للجهول هدى مدرس وله في العلم تبيان

وعابد خاشع لله مبتهل والدمع منه على الخدين طوفان

ووادي شلين يحكي في تحنشه سيوف هند له[كذا] في الجو لمعان

وأين بسطة دار الزعفران فهل رأى شبيها[في الأصل شبية بالرفع] لها في الحسن إنسان

كذا المرية دار الصالحين فكم قطب بها علم غوث له شأن

وأين مالقةٌ مرسى المراكب كم أرست بساحلها فلك وغربان

وكم بداخلها من شاعر فطن وذي فنون له حذق وتبيان

وكم بخارجها من منزه فرج وجنة حولها زهر وبستان

وأين جارتها الزهرا وقبتها وأين يا قوم أبطال وفرسان

وكم شجاع زعيم في الوغى بطل بدا له في العدا فتك وإمعان

كم جدلت يده من كافر فغدا تبكيه من أرضه أهل وولدان

ووادي آش غدت بالعز عامرة ورد توحيدها شرك وطغيان[كذا]

قواعدكُنَّ أركان البلاد….

  هكذا ترتيب هذه الأبيات في المخطوطة بين قوله: «وأين حمص وما تحويه من نزه»، وبين هذا البيت «قواعد الخ».

  ومما ثبت في هذه المخطوطة زيادة بيت أيضاً بين قوله «تلك المصيبة»، وقوله «ياراكبين»، وهو مما ألحق في الطرة كالأبيات قبله ونصه:

يا أيها الملك الحمراء رايته أدرك بسيفك أهل الكفر لا كانوا

وفي الختام ألحق بالقصيدة كذلك هذه الأبيات الثلاثة:

هل للجهاد بها من طالب فلقد تزخرفت جنة المأوى بها شان

والشوق للحور والولدان نحوكما[كذا] فازت لعمري بهذا الفضل شجعان

ثم الصلاة على المختار من مضر ما هب ريح الصبا واهتز أغصان

  وقد أوردنا هذه الأبيات على علاتها، ولا أكره إلينا من رواية شعر مكسور وأدب لا هو منظوم ولا منثور للعبرة –ولا أقول للفائدة – التاريخية، فإنه ما انحطت أدبيات قوم إلا وانحط قدرهم، وما ضعفت معنوياتهم إلا وضعفت مقاومتهم، وإذاً فلا غرابة أن يكون هذا شعر القوم بعد عجزهم عن الاحتفاظ بتلك الجزيرة الفيحاء…

  وبعد فقد ترجم لأبي البقاء لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الإحاطة ترجمة واسعة، وأثبت من أدبه جملة وافرة ما بين شعر ونثر. وإليك ما قاله في التعريف به نقلا عن مخطوط الأسكوريال من كتاب الإحاطة الذي يحمل رقم(1673) ص207:

  «صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف، من أهل رندة يكنى أبا الطيب. (حاله) قال بن الزبير شاعر مجيد في المدح والغزل وغير ذلك، وعنده مشاركة في الحساب والفرائض؛ ونظم في ذلك. وله تواليف أدبية وقصائد زهدية، وجزء على حديث جبريل عليه السلام، وغير ذلك مما روى عنه. وكان في الجملة معدوداً في أهل الخير وذوي الفضل والدين، تكرر لقائي إياه. وقد أقام بمالقة أشهرا، أيام إقرائي، فكان لا يفارق مجالس إقرائي وأنشدني كثيراً من شعره. وقال ابن عبد الملك: كان خاتمة الأدباء بالأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، قيهاً حافظاً مرضياً متفنناً في معارف شتىظن نبيل المقاصد متواضعاً مقتصداً في أقواله. وله مقامات بديعة في أغراض شتى، وكلامه نظماً ونثراً مدون. (مشيخته) روى عن آباء الحسن أبيه والدباج وابن الفخار الشريشي وابن قطرال وأبي الحسين ابن زرقون وأبي القاسم بن الجد. (تواليفه) ألف جزءاً على حديث جبريل، وتصنيفاً في الفرائض وأعمالها، وآخر في صنعة الشعر سماه الكافي[ثبت بالطرة في هذا الموضع من الإحاطة بنفس الخط المكتوبة به ما يلي:«عندي أنه الوافي وعلى ملكي منه نسخة عليها خط لمؤلف المترجم به»وبما أن مخطوط الأسكوريال إنما هو مختصر الإحاطة، وقد أثبتنا في غير هذا الموضع أن كاتبه هو أبو جعفر البقني أحد مختصري الإحاطة، فيكون كاتب هذه الطرة هو البقني وبالتالي صاحب المختصر المنقول منه] في علم القوافي. وله كتاب كبير سماء روض الأنس ونزهة النفس. (دخوله غرناطة) وكان كثير الوفادة على غرناطة والتردد إليها يسترفد ملوكها وينشد أمراءها، والقصيدة التي أولها: «أواصلتي يوما وهاجرتي ألفا» أخبرني شيخنا أبو عبد الله اللَّوشي أنه نظمها باقتراح السلطان رحمه الله، وقد أوعز إليه ألا يخرج عن بعض بساتين الملك حتى يكملها في معارضة محمد بن هانئ الإلبيري (شعره) وهو كثير سهل المأخذ عذب الفظ رائق المعنى، غير مؤثر للجزالة».

   هذه هي ترجمته عند ابن الخطيب. وهي تشهد أولا لما حققه الأستاذ عنان من أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع. وتفيد ثانياً أن وصفه بخاتمة الأدباء في الأندلس هو من قول المؤرخ ابن عبد الملك المراكشي فالمقري في ذلك تابع وناقل فقط، وقد نقله قبله ابن الخطيب ولم يفهم واحد منهما أن ذلك على الإطلاق وأن الأدب في الأندلس انتهى بانتهاء حياة أبي البقاء. ونلاحظ أن اسمه في الإحاطة صالح بن يزيد لا ابن شريف وأن شريفا اسم جده الخامس… وذكره في موضع آخر من ترجمته فسماه صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف بحذف أسماء ثلاثة من أجداده، وذلك يدل على أنه كان مشتهراً باسم جده شريف كما هو عندنا الآن… وقد ذكر هو في الباب الواحد والعشرين من الجزء الثاني من كتابه الوافي، وهو الذي ذكر فيه النوع المسمى بالاطراد من محاسن الشعر وبديعه فقال: «وكتب إلى صاحبنا الوزير الأديب أبو العباس بلال الحريري رحمه الله:

ألمم إذا شئت تحظى بصالـح وشريــــف

بصالح بن يزيـــد بـ ـن صالح بن شريف»

  فنظم هذا الوزير أسماءه كما ذكرها ابن الخطيب في الأخير ثم نلاحظ قول الإحاطة «ويكنى أبا الطيب» مع أن المعروف عندنا أنه يكنى بأبي البقاء. والواقع أنه في طالعة كتابه الوافي كنى بأبي الطيب بن أبي الحسن.. وكذلك ثبتت كنيته أيضاً في أزهار الرياض أما في النفح فكنى بأبي البقاء كما هو الشائع، وكذلك كنّي في القطعة المخطوطة التي نقلنا عنها الأبيات المزيدة على قصيدته. وكذلك كناه الأستاذ بالنسيا في كتابه تاريخ الأدب العربي في إسبانيا[ص97 وقد نوه بقصيدته النونية وترجم منها بعض الأبيات بالإسبانية ولكنه لم يذكر ترجمة لصاحبنا كأنه لم يقف على ترجمته بالإحاطة] ومؤرخ مدينة رندة السنيور ركاينة[ص103 حيث ذكره عرضاً مع بعض أدباء هذه المدينة] .. فيظهر أنه كان له كنيتان ولكن الثانية منهما أشهر وأسير. وكذا الأمر في والده فإن ابن الخطيب لما ذكره في جملة شيوخ ولده كناه بأبي الحسن كما كنى في طالعة كتاب الوافي، ولما ذكره ثانياً في تسمية ولده القصيرة كناه بأبي خالد.

  ولعل أهم ما يلاحظ في الترجمة التي له في الإحاطة أن لسان الدين لم يذكر فيما رواه له من الشعر، وهو شيء كثير في الجملة، قصيدته النونية الشهيرة، فإما أنه لم يقف عليها وإما أنها لم تثر انتباهه. ولا يقال إنها لم تشتهر إلا مؤخرا، فقد رأينا أن صاحب الذخيرة قد رواها في كتابه، وهو ممن مات قبل ابن الخطيب بنحو من نصف قرن. على أن الشعر الذي رواه له ابن الخطيب يتساوى والنونية نَفَساً وصنعةً، وبعضه مما ضمنه هو كتابه الوافي. ومنه في وصف الليل من قصيدة سلطانية:

وليل بته كالدهر طولا تنكر لي وعرَّفه التمام

كأن سماءه روض تحلى بزَهر الزُّهر والشوق الكمام

كأن البدر تحت الغيم وجه عليه من ملاحته لثام

كأن الكوكب الدرى كأس وقد رق الزجاجة والمدام

كأن سطور أفلاك الدراري قسى والرجوم لها سهام

كأن مدار قطب بنات نعش نديٌّ والنجوم ب هندام

كأن بناته الكبرى جوار جوار، والسها فيها غلام

كأن بناته الصغرى جمان على لبّاتها منها نظام

كواكب بت أرعاهن حتى كأني عاشق وهي الذمام

إلى أن مزقت كف الثريا جيوب الأفق وإنجاب الظلام

فما خلت انصداع الفجر إلا قرابا ينتضى منه حسام

وما شبهت وجه الشمس إلا بوجهك أيها الملك الهمام

ومنه وارتكب فيه النوع المسمى بالتوشيع من البديع:

كيف التخلص من عينيك لي ومتى؟ وفيهما القاتلان الغنج والحور

وكيف يسلو فؤادي عن صبابته؟ ولو نهى الناهيان الشيب والكبر

أنت المنى والمنايا فيك قد جمعت وعندك الحالتان النفع والضرر

ولي من الشوق ما إن[سقطت لفظة إن من الأصل وهي لازمة لإقامة الوزن] لا دواء له

وعندك الشافيان القرب والنظر

وفي وصالك ما أبقى به رمقى لو ساعد المسعدان الدهر والقدر

وكان طيف خيال منك يقنعني لو يذهب المانعان الدمع والسهر

وهي قصيدة طويلة، قال ابن الخطيب: ومن قصيدة مُغْرِبة في الإحسان له:

وليلة نبهت أجفانها والفجر قد فجَّر نهر النهار

والليل كالمهزوم يوم الوغى[بالأصل: في يوم الوغى، ولا يخفى أن في هنا زائدة]

والشهب مثل الشهب عند الفرار

كأنما استخفى السهى خيفة وطولب النجم بثار فثار

لذاك ما شابت نواصي الدجى وطارح النسر أخاه فطار

وفي الثريا قمر سافر عن غُرَّة غيَّر منها السِّفار

كان عنقوداً بها مائل إذ صار كالعرجون عند السرار

كأنها تسبك ديناره وكفها تدير منه سوار

كأنما الظلمة مظلومة تحكَّم الفجر عليها فجار

كأنما الصبح لمشتاقه إقبال دنيا بعد ذل افتقار

كأنما الشمس وقد أشرقت وجه أبي عبد الإله استنار

ومنه في وصف العلم:

وأصفر كالصب في رونق تظن به الحب مما نحل

بديع الصفات حديد الشَّباة يطول الرماح وإن لم يطل

يعبر عما وراء الضمير ويفعل فعل الظبا والذبل

ومنه في السيف والقلم:

تفاخر السيف فيما قيل والقلم والفضل بينهما لاشك منقسم

كلاهما شرف لله درهما وحبذا الخطتان الحُكْم والحِكَم

ومنه في الخيرى:

وأزرق كمثل للسما فيه لمن ينظر شيء عجيب

شح من الصبح بأنفاسه كأنما الصبح عليه رقيب

وباح لليل بأسراره لما رأى الليل نهار الأديب

قال ابن الخطيب: وقال من جملة قصائده المطولات التي تفنن فيها رحمه الله:

وغانية يغنى عن العود صوتها وساقية تسقي وساقية تجري

بحيث يجر النهر ذيل مجرة يرف على حافاتها الزهر كالزهر

وقد هزت الأرواح خضر كتائب بألوية بيض على قضب سمر

رمى قزح نبلا إليها فجردت سيوف سواقيها على دارع النهر

وهبت صبا نجد فجرت غلائلا تجفف دمع الطل عن وجنة الزهر

كأن بصفح الروض وشى صحيفة وكالألفات القضب والطرس كالنَّوْر[بالأصل كالتبر ونظن أن ما أثبتناه هو الصواب]

كأن به للأقحوان خواتما مفضَّضَة فيها فصوص من التبر

كأن به للنرجس الغض أعينا ترفرف في أجفانها أدمع القطر

كأن شذا الخيرى زورة عاشق يرى أن جنح الليل أكتم للسر

  وبعد قطع أخرى في معان مختلفة، وكلها مثل هذه التي روينا، عذوبة ألفاظ وسهولة معان، وصنعة وبديعا، أتى ابن الخطيب بنموذج من نثره نقلا عن كتابه روضة الأنس وهو رسالة أجاب بها بلديه أبا بكر البرذعي عن مكاتبة أنفذها إليه في وصف جارية رآها بسوق الرقيق. ثم ختم ترجمته ببيتين من شعره، مما يكتب على القبر، يطلب فيهما الدعاء ممن يمر به.

  وقد علم مما تقدم في ترجمته أن من جملة تآليفه كتابا في صنعة الشعر اسمه الوافي في نظم القوافي.. وقد وقفت على هذا الكتاب ضمن مجموع من كتب الخزانة العامة بتطوان يحمل رقم(491) ويقع في (83) ورقة من الحجم المتوسط، من مسطرة (26) سطراً، وخطه مغربي واضح، صحيح في الجملة، ولم يسم ناسخه نفسه ولا ذكر تاريخ النسخ في آخره. وجاء في طالعته بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

  «قال الشيخ الجليل الفقيه القاضي أبو الطيب بن الشيخ الأجل الفقيه المكرم المرحوم أبي الحسن الشريف الرندي رحمه الله تعالى بمنه ونفعنا به»

  فإن تصدق هذه التحلية يكن أبو البقاء قد تولى القضاء، وهو مما لم يذكره ابن الخطيب في ترجمته.. أما قوله: الشريف، فليس بصواب، والصواب ابن شريف. وقد علمت فيما مضى من ترجمته أنه نفزي، ونفزة قبيلة من البربر قد تنتسب في حمير ولكنها لا تدعي الشرف بمعناه الخاص. فلا شك أن هذا الوصف محرف عما ذكرنا من اسم جده شريف.

  وهاك قوله فيه بعد الخطبة: «وبعد فإن الأدب جليس ممتع، وأنيس مقنع، وخل لا يخل، وألف لا يمل… … وإلى هذا فإن الشعر ديوان العرب وإيوان الأدب وزهرة الكلم وروضة الحكم، وهو لا محالة محبوب بالطبع، شهي للسمع، فطرة الله التي فطر النفوس الفاضلة عليها، وهدي العقول الكاملة إليها… وقد أوردت في كتابي هذا جملة كافية في صنعة الشعر لمن أحب أن يأخذ بأزراره، ويطلع على أسراره، ويتفنن في بديعه، ويتبين سقطه من رفيعه. هذا وإن كان من سلف قد سبق في هذا المضمار، وكاد لا يبقى منه إلا كتقدير الإضمار، فأنت ترى كيف أتى السابق بما أدرك، ثم أتى اللاحق فنقض واستدرك، وفي كل شجرة نار، واستمجد المرْخ والعَفار….. وسميت كتابي هذا بالوافي، في نظم القوافي. وقسمته أربعة أجزاء، تتضمن ما فيه الإجزاء بحول الله تعالى».

  فاسمه محتويات هذه الأجزاء الأربعة على حسب التقسيم الذي قسمها إليه المؤلف. فالجزء الأول فيه أربعة أبواب، الباب الأول في فضل الشعر ومن تكلم به وأثاب عليه. وقد ذكر فيه مدح حسان وكعب بن زهير للنبي صلى الله عليه وسلم والفرزدق لعلي زين العابدين ووفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز، ثم من تكلم بالشعر من الخلفاء الراشدين وأئمة العلماء وخلفاء بني العباس وأمراء بني حمدان وملوك الأندلس وإفريقية.

  الباب الثاني في الشعراء وطبقاتهم. وقد جعلهم ثلاثة أصناف، جاهلي ومخضرم وإسلامي، ثم الإسلامي ثلاثة أصناف أيضاً محدث ومولد ثم بعد ذلك كل عصر ينسب إليه أهله.

  الباب الثالث في عمل الشعر وآدابه. وذكر فيه ما يستعان به على قول الشعر والأوقات المناسبة لعمله، وأخباراً طريفة مما يدخل في باب البديهة والإجازة والمماطلة ومن أطرفها خبر الهيثم الإشبيلي: «وكان في عصرنا أحد الأعاجيب في هذا الشأن» يعني البديهة.

  الباب الرابع في أغراض الشعر وآدابه، كذا ولعلها أبوابه. وحصرها في ثمانية أنواع، النسيب والمدح والتهنئة والرثاء والاعتذار والعتاب والذم، وأورد في كل نوع منها ما يناسبه من تعريف أو تقسيم ونماذج من أقوال الشعراء المتقدمين عنه والمعاصرين له، ومن شعره هو بالخصوص. وهاك ما قاله في تعريف النسيب على سبيل المثال: «النسيب، للروح نسيب، وهو ريحانة الأنس، وسلوانة النفس، لأنه يستفز ويروق، ويهز ويشوق، ولذلك جعلوه صدرا في المدائح، وسببا للمنائح كما قال أبو الطيب: إذا كان شعر فالنسيب المقدم». وبلغ ما أنشده لنفسه في هذا الباب (32) ما بين قطعة وقصيدة، مع رسالة تعزية وبعضه مما ورد في الإحاطة، وفيه كذلك أشعار طريفة لمعاصريه.

  والجزء الثاني، وهو في محاسن الشعر وبديعه، فيه أربعون بابا: الباب الأول في الابتداء، الباب الثاني في الانتهاء، الباب الثالث في الاستطراد، الاباب الرابع في المطاابقة، الباب الخامس في المقابلة، الباب السادس في المناسبة، الباب السابع في التشبيه، الباب الثامن في الاستعارة، الباب التاسع في التخييل، الباب العاشر في التفريع، الباب الحادي عشر في التوجيه، الباب الثاني عشر في التمثيل، الباب الثالث عشر في التمثيل، ويريد به هنا إرسال المثل، وفيما قبله نوعاً من التشبيه، الباب الرابع عشر في التجنيس، الباب الخامس عشر في المضارعة، الباب السادس عشر في الترديد، الباب السابع عشر في التصدير، الباب الثامن عشر في الاتباع، الباب التاسع عشر في التبديل، الباب العشرون في التضمين، الباب الحادي والعشرون في الاطراد، الباب الثاني والعشرون في التفسير، الباب الثالث والعشرون في المبالغة، الباب الرابع والعشرون في التتميم، الباب الخامس والعشرون في التسهيم، الباب السادس والعشرون في التحرز، الباب السابع والعشرون في الالتفات، الباب الثامن والعشرون في التحريف، الباب التاسع والعشرون في الاستثناء والاستدراك، الباب الموفى ثلاثين في القلب، الباب الحادي والثلاثون في التصحيف، الباب الثاني والثلاثون في الترصيع، الباب الثالث والثلاثون في التسجيع، الباب الرابع والثلاثون في التسميط، الباب الخامس والثلاثون في لزوم ما لا يلزم، الباب السادس والثلاثون في التفصيل، الباب السابع والثلاثون في التختيم، الباب الثامن والثلاثون في الإحالة، الباب الموفى أربعين في اللغز.

  ويطول بنا الكلام إذا تتبعنا ذكر محتويات هذه الأبواب، وكلها من أنواع البديع المعروفة، وإن سمي بعضها بغير ما اشتهر به وقد طرز أبواب هذا الجزء بما يبلغ (20) ما بين قطعة وبيت من شعره. وبأشعار نادرة لمعاصريه.

  والجزء الثالث في عيوب الشعر، وهي ثلاثة: الإخلال والسرقة والضرورة. وقد تكلم على هذه الأقسام ومثل لها من كلام الشعراء، قدماء ومحدثين بما لا مزيد عليه من الإحسان. ولم يحض الإخلال بفصل مستقل وإنما جعله تسعة أضرب ثم تكلم عليها واحداً فواحداً، وأما السرقة فعقد لها ثلاثة فصول الأول في ضروبها وألقابها، والثاني في مراتب الأخذ، والثالث فيما يشبه السرقة وليس منها، ثم أتى بفصل فريد فيما يجوز في الشعر لغير ضرورة، وهذا الفصل هو آخر هذا الجزء.

  والجزء الرابع في حد الشعر والعروض والقافية. وفيه فصل في ألقاب البيت الذي (كذا) تختلف باختلاف أحواله. وفصل في أنواع الشعر وألقابها، ويعني بها أوزانه قال: أنواع الشعر أربعة وعشرون خمسة عشر قديمة تكلمت بها العرب وتسعة محدثة ولدها المحدثون. وقد تكلم على الأوزان أو بالحري البحور القديمة المعروفة، أعاريضها وضروبها وما يعرض لها من زحاف وعلة، وختم ذلك بذكر الأجزاء التي يتركب منها كل بحر، منظومة مع شطر من عمله يبين فيه اسم الوزن المراد، وذلك مثل قوله في الطويل:

  ومثل طويل الشعر ما أنا قائل فعولى مفاعلين فعولي مفاعل

  إلى آخرها. وهذا النظم مشهور، وإنما ذكرناه لننبه على أنه من عمله. ثم عقب ذلك بذكر الأوزان المحدثة وهي الوسيط والوسيم والمعتمد والمتئد والمسرد والمطرد والخبب والفريد والعميد. ومضى في ذكر أجزاء تفاعيلها وأمثلتها على ما سبق له في البحور الشعرية القديمة. ويلاحظ أنه ذكر الخبب مع الأوزان المحدثة، وقد علم أن الأخفش استدركه على الخليل وذهب إلى أن العرب تكلمت به فهو إذن من البحور القديمة ويسمى لذلك المستدرك. وبعد هذا وذاك يأتي بفصل القافية ثم بآخر في عيوب الأعاريض والقوافي وبه يختم الكتاب.

  ومن هذا العرض السريع لمحتويات الكتاب يعلم أنه كتاب عامر على صغر حجمه، ويؤخذ منه أن مؤلفه كان على جانب كبير من الثقافة الأدبية، خصوصاً وأنه كثيراً ما يدلي بنظره في القضايا التي يعرضها مما يتصل بالذوق والصنعة والنقد بوجه عام، والميزة التي ينفرد بها هي ما يحتوي عليه من قطع شعرية وقصائد وأبيات للمؤلف ولبعض المعاصرين له من أهل الأدب، وحكايات عنهم وأخبار ومساجلات تتصل بالموضوع الذي يكون فيه.. فهو لذلك حري بالنشر إحياء لذكرى مؤلفه ولهذه الفائدة الجليلة.

  هذا ويوجد منه نسخة أخرى بقسم المخطوطات في المكتبة العامة بعاصمة الرباط تحت رقم 290 ولم نطلع عليها.

  انتقاء: ذة. نادية الصغير

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق