مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة ” فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ”

بسم الله الرحمن الرحيم

الغمرة مصطلح قرآني، وأصل استعمالها “الماء الذي يغمر القامة” ، فنقل الشارع استعمالها عن الحقيقة اللغوية إلى المعنى المجازي، تشبيها لحال من تسربل بدثار الشهوات، كيف تنفذ العظة إلى قلبه؟ وأداة الاستجابة محجوبة بغطاء سميك من العوائد والموروثات، كما يفقد المغمور بالماء الإحساس بطبيعة الهواء الخارجي، قال الزمخشري، “فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم فيه من الباطل” ، وفي الآية وعيد لمن ترك الغمرة تتملكه و تتحكم من طبعه، تحول بينه وبين مراشده، تصم سمعه وتحجب عنه يفاع الاستبصار، فتقوده أنى شاءت، مزينة له سوء عمله، وفي أحسن أحواله تعده وتمنيه، وقد تكرر ذكر هذا المصطلح بعد سرد نعوت من تغلبوا على الغمرة، واسطاعوا أن يكبحوا جماح نزواتهم، فقال تعالى: ” بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ” [المومنون:63] ومساق هذه الآية من سورة المؤمنون بعد تعداد أوصاف المسارعين في الخيرات، استهلت أوصافهم بمنزلة الخشية، وذلك قوله: ” إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ” [المومنون:57]وثنَّت بمنزلة الإيمان بآيات الله؛ وآياته تشمل آياته الكونية و آياته التنزيلية، وذاك مترجم قوله سبحانه: ” وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ”، [المومنون:58]وثلثت بنفي الشرك عنهم، فقال تعالى: “وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ”بالمومنون:59] ، وجاءت خاتمة الأوصاف منوهةً بما يلامس قلوبهم من وجل وإشفاق حال التلبس بالقُرَب، وذلك بما استقر في قلوبهم من استيقان المئاب إليه، والمثول بين يديه، وذلك قوله: ” وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ” [المومنون:60]، لتأتي الإشادة بفعلهم والشهادة على صحة مسلكهم، ” أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ” [المومنون:61]، وللتنبيه على أن المسار محفوف بالتيسير، مكتنف بالوسع والتخفيف، ذيلت الآيات بالتنصيص على أن المشقة مرفوعة عن هذه الأمة، فقال تعالى: ” وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” [المومنون:62]، قال ابن كثير: “أي: إلا ما تطيق حمله والقيام به، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء؛ ولهذا قال: “وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ ” يعني: كتاب الأعمال، ” وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ” أي: لا يبخسون من الخير شيئا، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين” . ثم كشفت الآيات بعد ذلك سبب الصرف عن الانخراط في مسلك الموفقين، والابتعاد عن سرب العابدين، وجاء التعبير عن ذلك بالغمرة، وهي عين الغمرة الأولى؛ غمرة الشبهات والشهوات، التي تمنع عن الاستجابة،و تحجب عن القلب وضوح الرؤية، وتعكر عليه صفو المزاج فلا ينتفع بالذكرى، وذلك قوله: “بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا” [المومنون:63] فجاءت هذا الأوصاف مكتنفة بدءا وختما بما يحول بين المرء وصلاحه، بين العبد وجلو قلبه، و تعبير القرآن في تشبيه حال المتمرد عن شرعه لا يحيط به الوصف، فكأن الشارد عن تعاليم ربه قد علته الشبهات والشهوات، فلا سبيل إلى نفاذ الذكرى إلى قلبه، ولا مرتجى من استيفاقه من سباته، يعاني في صمت، ويتخبط على غير هدى، ولا خلاص له إلا بالتخلص من الغمرة، وذلك شرط الانتشال من غياهب الغمرات، أن يصح العزم، وتستجمع الأنفاس، وبعدها تتداركك الألطاف، وقد قال ربنا ” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” [الروم:69].

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق