مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

آراء ابن خمير السبتي في: مشروعية علم الكلام وإيمان العوام

 

لم يكن الاهتمام بعلم الكلام أيام أبي الحسن ابن خمير(ت 614هـ) العالم السبتي صاحب كتاب: “مقدمات المراشد”، ديدن كل العلماء في عصر تميز بظهور الدولة الموحدية على أنقاض نظيرتها المرابطية وما أحدثه هذا التحول من تغييرات هامة في الشخصية والهوية المغربية. فقد كان سائدا آنئذ رفض هذا العلم ومعارَضا تدريسه للطلبة، تماشيا مع التوجه الإيديولوجي المرابطي الرافض له في تلك الفترة التاريخية، استنادا إلى ظروف نشأة دعوة المرابطين الأولى كما يبرز ذلك المراكشي في معجبه.
ومن خلال كتاب أبي الحسن المشار إليه “مقدمات المراشد”[1] نستطيع تجلية موقفه من مشروعية علم الكلام والرد على من عابه وطعن فيه من أهل التعصب بالجزاف كما يصفهم ويحدد أصنافهم ما بين الزنادقة وبعض المبتدعة ومقلدي الظاهرية [2]. 
وسأتتبع مواقفه تلك انطلاقا من هذا الكتاب وفق ما يلي:
1- وقف ابن خمير طويلا يناقش المعارضين لهذا العلم وقسمهم على ثلاثة أضرب، ثم فصل أقوال الضرب الأول؛ وهو يقصد بلا شك علماء الاتجاه السلفي- فقهاء ومحدثين- الذين منعوا الخوض في علم الكلام، فقال عنهم أنهم:  (قوم ينكرون أصله ويحتجون بأنه ما كان في زمن الرسول –عليه السلام- ولا في زمن الصحابة بعده، ويأتي مع ذلك بآي وأخبار تأولها على غير وجه تأويلها، وهم أضر على المقلدة من كل من تقدم ذكرهم، فإنهم ينتمون في إنكاره إلى الشرع، فيغالطون السواد الأعظم لتلك التأويلات المخطئة)[3]، ومن ثم لمزوا المتعاطين له بحجة عدم خوض السلف فيه وطعنهم في المشتغلين به، فأعلن ابن خمير أنه من غير المعقول أن يصدر ممن له مركز في الدين وحظوة- كالسلف والتابعين والأئمة الأربعة- طعن في علم يبحث في توحيد الله وإثبات صفاته وتنزيهه عما لا يليق به، ويبحث في النبوة والمعجزة وما يجب على المكلف وما يمتنع عليه، يقول في ذلك: (وحاشا لمن توسم بالحنيفية أن ينكر علما يثبت توحيد الباري تعالى ووصفه بإثبات صفات الكمال ونفي النقص عنه تعالى، وتنزيهه عما نسب إليه أصناف الكفرة وأهل الأهواء، وكذلك إثبات النبوة بالمعجزات والاستدلال على صحتها وصحة التفرقة بين الصادق والكاذب، وما يجب على المكلف ومتى يجب وكيف يجب..)[4]. وبهذا رد ابن خمير على الخصوم، وحاول في نفس الوقت أن يكسب علم الكلام الأشعري مصداقية دينية من خلال ربط وشائجه بالأئمة الكبار وبالسلف، معلنا يقينه بأنهم كانوا مؤيدين للبحث الكلامي، بل لقد اتجهت همة أئمتهم الكبار- ومنهم الأئمة الأربعة- إلى التأليف في الكلام والرد على خصوم العقيدة، مما يجعلهم مكرسين للعلم دراسة وبحثا وتأليفا.
ودحضا لما تشبث به الكثير من السلف من أن هذا العلم بدعة في الدين وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ما تكلموا فيه ولا بحثوا في مسائله، ذهب ابن خمير إلى أنه لم يكن من المعقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو يتلقى الوحي عن ربه غضا جديدا أن يخوض في بحوث علم الكلام، إذ لا حاجة لأحد في ذلك الوقت إلى هذا العلم ولا إلى سواه، وأما الصحابة فيقول عنهم: (فلا يخلو أن تقول: 
إنهم كانوا بعدما علمهم الله الكتاب والحكمة عالمين بدقائق علم التوحيد وحقائقه أم غير عالمين؟ 
فإن قلت إنهم كانوا غير عالمين فلقد تفوهت بعظيمة ما ارتكبها إلا غلاة الروافض وبعض الخوارج وأوباش رعاعهم.. 
وإن قلت إنهم يعلمون ذلك إلا أنهم لم يقعدوا لتدريسه ولا تكلموا في الجوهر والعرض ولا في العلل والأحوال والجزء والطفرة وما صنفه المتكلمون من دقيق الكلام.. فكذلك كان.. لأنهم كانوا يعلمون ذلك على أتم الوجوه- كما تقدم- فلم يكن لهم حاجة إلى ذلك، لأنهم تهمموا بجر الجيوش وسد الثغور وتعليم الأحكام الشرعية)[5]، حيث إنهم واجهوا بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – مشاكل كثيرة وحروبا طويلة شغلتهم عن الاهتمام بهذه التفاصيل العقدية.
2- ثم مضى أبو الحسن ابن خمير يتحدث عن الظروف والدوافع التي أدت إلى ظهور علم الكلام مبينا أنه وانطلاقا من زمن نزول الوحي أمر القرآن الكريم الكل بالنظر والاستدلال، ونوّه إلى الأدلة العقلية التوحيدية فيما ينيف على ستمائة وستين موضعا تصريحا وتضمينا. ولكن وبعد الفتنة الكبرى، وبعد ظهور الفرق الكلامية المتعددة، وظهور المعتزلة والقدرية والإسماعيلية، يقول ابن خمير: (- وبعد أن- دخل في الدين غلف الأعاجم، واشتدت الأيدي بالمحاربة وسفك الدماء على إظهار البدع كالخوارج والقرامطة والأزارقة والعجاردة والإمامية والإسماعيلية، وغيرهم من أهل الأهواء، وظهر قول الصادق المصدوق- صلوات الله عليه- في الاثنتين والسبعين- كما تقدم- وكان الأئمة –رضي الله عنهم- قبل انتشار البدع يدافعونهم تارة بالحجاج، وتارة بالطرد والتغريب والتعزير، وتارة بالسيف، فلما تمكن إظهار هذه الأهواء ودونت، ونصبت لها المدارس، وركنوا إلى ولاة جهلة فحموهم حتى ضرب الإمام أحمد بن حنبل بالسوط لأن يقول بخلق القرآن، وأصيب عين الدين برمد المضلين، وجب إذاك على أئمة السنة -بنظرهم السديد- أن يدونوا الحق ويدرسوه؛ إذ هم الخلف العدول الذين شهد لهم الرسول – عليه السلام – بالعدالة قبل وجودهم، ويحموا دين الله تعالى بالحجج القاطعة والبراهين الصادعة..)[6].فعلماء الكلام – إذن- هم الخلف العدول الذين عناهم الرسول- صلى الله عليه وسلم – في الحديث المعروف الذي وصفهم بأنهم: (ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، فتبين من هذا أن علم الكلام أولى بأن تكون له المؤلفات وأولى بأن يُخص بالدرس والبحث لا أن يحارب ويتشدد ويتعصب في تعلمه كما جرى لغيره من العلوم النظرية كالفلسفة وأصول الفقه.. لذلك يقول ابن خمير: (فكان أول من دون عقائد أهل السنة الأئمة الذين تقدم ذكرهم، وكان أول من تمكن في تأليفها ونشرها في عقب المائة الثالثة ودرسها الشيخ أبو الحسن الأشعري- رضي الله عنه- وهو من أولاد أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ولهذا سمى أصحابه “الأشعرية”، ثم تبعه السلف الذين تقدم ذكرهم..)[7]، وبذلك يتبين من خلال استقراء الأحداث التاريخية ما بين العصرين المرابطي والموحدي أن موقف هذه الفئة لم يكن موقفا علميا مبنيا على الاطلاع والدراية بالمذهب الأشعري، وإنما كان رفضا لاتجاه يخالف اتجاههم السلفي من جهة، ويهدد استقرارهم السياسي وسلطتهم العلمية، باعتباره مكونا أساسيا في دعوة خصمهم السياسي الجديد (الموحدي)، وبالتالي فمواقف فقهاء العصر المرابطي من المذهب الأشعري كانت إذا متباينة؛ حيث تفاوتت بين الرفض التام والمحاربة وهو موقف الفقهاء الفروعيين المتشددين، ثم قبول المذهب وتقدير أئمته مع انتقاد بعض مسائله ومنعه عن العامة وهو موقف ابن رشد الجد وغيره، وأخيرا موقف تبني المذهب والدفاع عنه دون إلزام العامة به وهو موقف  معظم أشاعرة عصر ابن خمير ومن بعده.
3- أما رأيه في التقليد وإيمان العوام فيذهب ابن خمير إلى أن التقليد مذموم في القرآن بدليل آيات كثيرة منها قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾[8] ، وذلك لأن التقليد قائم على الظن المذموم بدليل نصوص قرآنية كذلك، منها قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور)[9]، وقوله سبحانه: ﴿إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين﴾[10] وغيرهما من الآيات. 
ولما كان كتاب “مقدمات المراشد” موجها إلى فئة المتعلمين المسترشدين فقد اقتضى منهج ابن خمير أن يبسط المسألة ليوضح الفرق بين المقلد والمعتمد على الدليل، فضرب مثلا برجلين اشتريا سبيكتين ذهبيتين فقام أحدهما بشحرها قبل دفع الثمن، وامتنع الثاني عن التشحير، فلما أرادا بيعها أبى المشترون الزيادة في الثمن إلا بعد التشحير، فأما الشاحر الذي شحر سلسلته قبل اشترائها فقد سلم وقبل التشحر، وأما الثاني فرفض ذلك لأنه غير متيقن من أن السلسلة ذهبية ما دام أنه لم يشحرها من قبل، قال ابن خمير: (وهذا حال العالم بالدليل والمقلد بالسمع)[11] .
وجوابا على اعتراض متعلق بموضوع التقليد مضمنه أن التقليد المذموم هو الذي كان في الباطل، أما التقليد في الحق فلا يمكن أن يكون مذموما. يرد ابن خمير بأن التقليد مذموم سواء كان قائما على الحق أو على الباطل؛ لأن ترك الواجب حرام، والعلم بالله واجب، والتقليد ترك العلم، وترك الواجب حرام، فالتقليد حرام، والحرام مذموم شرعا، إذن فالتقليد كله مذموم. وأيضا فالمقلد إن في الحق أو في الباطل سواء في عدم العلم، والقول بغير حجة، وعدم القطع بإصابة الحق.
وبعد أن يؤكد على أن التقليد مذموم، وأنه لا أصل له في الدين، ينتقل ابن خمير إلى مسألة مشكلة تتعلق بإيمان العوام، والسؤال فيها هو: هل إيمان العامة صحيح؟ وإذا كان صحيحا أفلا يكون ذلك متناقضا مع القول بقبح التقليد وذمه؟ ثم إذا لم يكن صحيحا، فهل معنى هذا أن جملة العوام – وهم السواد الأعظم من المسلمين- كفار؟ 
يعترف ابن خمير بأن هناك مشكلا في الحكم على إيمان العوام، سببه الاختلاف الواقع بين المتكلمين- داخل المدرسة الأشعرية نفسها- في اعتبار هؤلاء مؤمنين أو لا؟ فهناك من نسبهم إلى الإيمان الجزم وحكم بخلوص ذمتهم وبراءتها، ومنهم من أبى ذلك ورأى أنه لا سبيل إلى صحة إيمانهم إلا إذا استدلوا على الحقيقة بتفاصيل الأدلة القاطعة ودفع الشبهات؛ يقول ابن خمير: 
(فإن قلتم إنهم مقلدون فقد عريتموهم عن الإيمان- على ما تقدم-.
وإن قلتم إنهم مستدلون فبالضرورة تعلم أنهم لا يستدلون ولا يعرفون الاستدلال.
قلنا: قد اضطربت آراء المتكلمين في هذه المسألة، فمنهم من نسبهم إلى التقليد والإيمان الجزم، وزعم أنهم يخلصون به وتبرأ ذمتهم.. 
ومنهم من أبى ذلك وقال لا سبيل إلى صحة إيمانهم حتى يستدلوا على الحقيقة بتفاصيل الأدلة القاطعة ودفع الشبهات المخيلة..)[12].
 وقد صنف –ابن خمير- هؤلاء أصنافا ثلاثة وعقب على ذلك بالقول: (فهؤلاء ثلاثة أصناف من العوام، صنفان محقان والثالث مبطل. فمن قال إن جملة عامة المسلمين كلهم مقلدة ظانون في توحيدهم ربهم فقد نقصهم وظلمهم وأخذ إيمانهم من قلوبهم من حيث لا يشعرون..)[13].
وإذا رجعنا إلى المدرسة الأشعرية تبين لنا اتفاق علمائها على القول بوجوب معرفة الله، وإنما وقع اختلافهم في هذا الوجوب هل هو على الكفاية أم هو فرض عين؟ فذهب الباقلاني  والجويني والإسفراييني إلى أن معرفة الله واجبة على الأعيان، ولا يكتفى في ذلك بالتقليد، بينما ذهب الإسفراييني – في قول آخر عنه- والغزالي إلى أن معرفة الله لا تجب على الأعيان بل هي من فروض الكفاية فقط، بحيث يُكتفى بالتقليد في أصول الدين.
4- نخلص إذن من خلال تتبعنا لآراء ابن خمير السبتي بخصوص مشروعية البحث في علم الكلام وإيمان المقلدين إلى:
أن ابن خمير قد استفرغ جهده في مناقشة المخالفين الذين منعوا الاشتغال بعلم الكلام من فقهاء ومحدثي الاتجاه السلفي من أهل بلده من بقية أتباع المدرسة السلفية بالمغرب والأندلس. ومعلوم أن الموحدين كانوا يشجعون الفكر الكلامي، ويدعون إلى التأصيل، ويحاربون الفروع، ومع أن الفكر الأشعري على عهد ابن خمير كان قد وصل إلى مرحلة اللارجوع بعد أن ظهر من رجاله العدد الجم، وأُلفت في شرحه وبسطه الكثير من المؤلفات، إلا أن ذلك لم يمنع من وقوف بعض الفقهاء والمحدثين ضد المشتغلين بهذا العلم، فلم يملك ابن خمير نفسه في مواجهة أتباع هذا التيار قبل أن يتولى بسط، والدفاع عن الطرح العقدي الجديد الذي كرس جهده لنشره [14].
ومن ثم فإن ابن خمير اعتمد على أن الأصل في علم الكلام الإباحة؛ إذ النظر فرض على جميع المكلفين القادرين على إعمال الفكر، ولذلك كان الاشتغال بالعلم من آكد الأمور على العلماء دفاعا عن أركان الإيمان، ودحضا لشبهات الخصوم. ولم يقتصر حكم وجوب النظر والبحث في تثبيت العقائد عنده على هذه الفئة من المكلفين، بل إنه تمادى وتجاوز دعوات المعتدلين من الأشاعرة إلى إلجام العوام عن الكلام، ليقول بلزوم النظر الكلامي حتى بالنسبة للعامة، موافقة وارتباطا بالمواقف المذهبية والاختيارات الرسمية للسلطة الحاكمة آنئذ، وفي هذا الإطار يأتي الموقف المرابطي من تداول كتب الكلام، وتفسر الخلفيات الحقيقية من وراء ترسم الأشعرية على عهد الموحدين[15].
===================
الهوامش: 
[1] مقدمات المراشد في علم العقائد-تحقيق وتقديم: د.جمال علال البختي- مطبعة الخليج العربي-تطوان/المغرب- الطبعة الأولى/2004
[2] نفسه-ص:79
[3] نفسه-ص:79
[4] نفسه-ص:80
[5] نفسه-ص:87-88-89
[6] نفسه-ص:90-91-92
[7] نفسه-ص:93
[8] الزخرف/22
[9] الحج/28
[10] الجاثية/31
[11] مقدمات المراشد في علم العقائد-تحقيق وتقديم: د.جمال علال البختي – ص:101
[12] نفسه-ص:104
[13] نفسه-ص:107
[14] انظر مقال د.جمال البختي بمجلة الإبانة – العدد المزدوج: 2-3 / يونيو2015- بعنوان: “الموقف من علم الكلام في المغرب والأندلس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين( موازنة علمية بين موقفي ابن عبد البر الأندلسي وابن خمير السبتي)”- صفحات:15-47
[15] نفسه
إعداد الباحث: منتصر الخطيب
  

لم يكن الاهتمام بعلم الكلام أيام أبي الحسن ابن خمير(ت 614هـ) العالم السبتي صاحب كتاب: “مقدمات المراشد”، ديدن كل العلماء في عصر تميز بظهور الدولة الموحدية على أنقاض نظيرتها المرابطية وما أحدثه هذا التحول من تغييرات هامة في الشخصية والهوية المغربية. فقد كان سائدا آنئذ رفض هذا العلم ومعارَضا تدريسه للطلبة، تماشيا مع التوجه الإيديولوجي المرابطي الرافض له في تلك الفترة التاريخية، استنادا إلى ظروف نشأة دعوة المرابطين الأولى كما يبرز ذلك المراكشي في معجبه.

ومن خلال كتاب أبي الحسن المشار إليه “مقدمات المراشد”[1] نستطيع تجلية موقفه من مشروعية علم الكلام والرد على من عابه وطعن فيه من أهل التعصب بالجزاف كما يصفهم ويحدد أصنافهم ما بين الزنادقة وبعض المبتدعة ومقلدي الظاهرية [2]. 

وسأتتبع مواقفه تلك انطلاقا من هذا الكتاب وفق ما يلي:

1- وقف ابن خمير طويلا يناقش المعارضين لهذا العلم وقسمهم على ثلاثة أضرب، ثم فصل أقوال الضرب الأول؛ وهو يقصد بلا شك علماء الاتجاه السلفي- فقهاء ومحدثين- الذين منعوا الخوض في علم الكلام، فقال عنهم أنهم:  (قوم ينكرون أصله ويحتجون بأنه ما كان في زمن الرسول –عليه السلام- ولا في زمن الصحابة بعده، ويأتي مع ذلك بآي وأخبار تأولها على غير وجه تأويلها، وهم أضر على المقلدة من كل من تقدم ذكرهم، فإنهم ينتمون في إنكاره إلى الشرع، فيغالطون السواد الأعظم لتلك التأويلات المخطئة)[3]، ومن ثم لمزوا المتعاطين له بحجة عدم خوض السلف فيه وطعنهم في المشتغلين به، فأعلن ابن خمير أنه من غير المعقول أن يصدر ممن له مركز في الدين وحظوة- كالسلف والتابعين والأئمة الأربعة- طعن في علم يبحث في توحيد الله وإثبات صفاته وتنزيهه عما لا يليق به، ويبحث في النبوة والمعجزة وما يجب على المكلف وما يمتنع عليه، يقول في ذلك: (وحاشا لمن توسم بالحنيفية أن ينكر علما يثبت توحيد الباري تعالى ووصفه بإثبات صفات الكمال ونفي النقص عنه تعالى، وتنزيهه عما نسب إليه أصناف الكفرة وأهل الأهواء، وكذلك إثبات النبوة بالمعجزات والاستدلال على صحتها وصحة التفرقة بين الصادق والكاذب، وما يجب على المكلف ومتى يجب وكيف يجب..)[4]. وبهذا رد ابن خمير على الخصوم، وحاول في نفس الوقت أن يكسب علم الكلام الأشعري مصداقية دينية من خلال ربط وشائجه بالأئمة الكبار وبالسلف، معلنا يقينه بأنهم كانوا مؤيدين للبحث الكلامي، بل لقد اتجهت همة أئمتهم الكبار- ومنهم الأئمة الأربعة- إلى التأليف في الكلام والرد على خصوم العقيدة، مما يجعلهم مكرسين للعلم دراسة وبحثا وتأليفا.

ودحضا لما تشبث به الكثير من السلف من أن هذا العلم بدعة في الدين وأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ما تكلموا فيه ولا بحثوا في مسائله، ذهب ابن خمير إلى أنه لم يكن من المعقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو يتلقى الوحي عن ربه غضا جديدا أن يخوض في بحوث علم الكلام، إذ لا حاجة لأحد في ذلك الوقت إلى هذا العلم ولا إلى سواه، وأما الصحابة فيقول عنهم: (فلا يخلو أن تقول: 

إنهم كانوا بعدما علمهم الله الكتاب والحكمة عالمين بدقائق علم التوحيد وحقائقه أم غير عالمين؟ 

فإن قلت إنهم كانوا غير عالمين فلقد تفوهت بعظيمة ما ارتكبها إلا غلاة الروافض وبعض الخوارج وأوباش رعاعهم.. 

وإن قلت إنهم يعلمون ذلك إلا أنهم لم يقعدوا لتدريسه ولا تكلموا في الجوهر والعرض ولا في العلل والأحوال والجزء والطفرة وما صنفه المتكلمون من دقيق الكلام.. فكذلك كان.. لأنهم كانوا يعلمون ذلك على أتم الوجوه- كما تقدم- فلم يكن لهم حاجة إلى ذلك، لأنهم تهمموا بجر الجيوش وسد الثغور وتعليم الأحكام الشرعية)[5]، حيث إنهم واجهوا بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – مشاكل كثيرة وحروبا طويلة شغلتهم عن الاهتمام بهذه التفاصيل العقدية.

2- ثم مضى أبو الحسن ابن خمير يتحدث عن الظروف والدوافع التي أدت إلى ظهور علم الكلام مبينا أنه وانطلاقا من زمن نزول الوحي أمر القرآن الكريم الكل بالنظر والاستدلال، ونوّه إلى الأدلة العقلية التوحيدية فيما ينيف على ستمائة وستين موضعا تصريحا وتضمينا. ولكن وبعد الفتنة الكبرى، وبعد ظهور الفرق الكلامية المتعددة، وظهور المعتزلة والقدرية والإسماعيلية، يقول ابن خمير: (- وبعد أن- دخل في الدين غلف الأعاجم، واشتدت الأيدي بالمحاربة وسفك الدماء على إظهار البدع كالخوارج والقرامطة والأزارقة والعجاردة والإمامية والإسماعيلية، وغيرهم من أهل الأهواء، وظهر قول الصادق المصدوق- صلوات الله عليه- في الاثنتين والسبعين- كما تقدم- وكان الأئمة –رضي الله عنهم- قبل انتشار البدع يدافعونهم تارة بالحجاج، وتارة بالطرد والتغريب والتعزير، وتارة بالسيف، فلما تمكن إظهار هذه الأهواء ودونت، ونصبت لها المدارس، وركنوا إلى ولاة جهلة فحموهم حتى ضرب الإمام أحمد بن حنبل بالسوط لأن يقول بخلق القرآن، وأصيب عين الدين برمد المضلين، وجب إذاك على أئمة السنة -بنظرهم السديد- أن يدونوا الحق ويدرسوه؛ إذ هم الخلف العدول الذين شهد لهم الرسول – عليه السلام – بالعدالة قبل وجودهم، ويحموا دين الله تعالى بالحجج القاطعة والبراهين الصادعة..)[6].فعلماء الكلام – إذن- هم الخلف العدول الذين عناهم الرسول- صلى الله عليه وسلم – في الحديث المعروف الذي وصفهم بأنهم: (ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، فتبين من هذا أن علم الكلام أولى بأن تكون له المؤلفات وأولى بأن يُخص بالدرس والبحث لا أن يحارب ويتشدد ويتعصب في تعلمه كما جرى لغيره من العلوم النظرية كالفلسفة وأصول الفقه.. لذلك يقول ابن خمير: (فكان أول من دون عقائد أهل السنة الأئمة الذين تقدم ذكرهم، وكان أول من تمكن في تأليفها ونشرها في عقب المائة الثالثة ودرسها الشيخ أبو الحسن الأشعري- رضي الله عنه- وهو من أولاد أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ولهذا سمى أصحابه “الأشعرية”، ثم تبعه السلف الذين تقدم ذكرهم..)[7]، وبذلك يتبين من خلال استقراء الأحداث التاريخية ما بين العصرين المرابطي والموحدي أن موقف هذه الفئة لم يكن موقفا علميا مبنيا على الاطلاع والدراية بالمذهب الأشعري، وإنما كان رفضا لاتجاه يخالف اتجاههم السلفي من جهة، ويهدد استقرارهم السياسي وسلطتهم العلمية، باعتباره مكونا أساسيا في دعوة خصمهم السياسي الجديد (الموحدي)، وبالتالي فمواقف فقهاء العصر المرابطي من المذهب الأشعري كانت إذا متباينة؛ حيث تفاوتت بين الرفض التام والمحاربة وهو موقف الفقهاء الفروعيين المتشددين، ثم قبول المذهب وتقدير أئمته مع انتقاد بعض مسائله ومنعه عن العامة وهو موقف ابن رشد الجد وغيره، وأخيرا موقف تبني المذهب والدفاع عنه دون إلزام العامة به وهو موقف  معظم أشاعرة عصر ابن خمير ومن بعده.

3- أما رأيه في التقليد وإيمان العوام فيذهب ابن خمير إلى أن التقليد مذموم في القرآن بدليل آيات كثيرة منها قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون﴾[8] ، وذلك لأن التقليد قائم على الظن المذموم بدليل نصوص قرآنية كذلك، منها قوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور)[9]، وقوله سبحانه: ﴿إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين﴾[10] وغيرهما من الآيات. 

ولما كان كتاب “مقدمات المراشد” موجها إلى فئة المتعلمين المسترشدين فقد اقتضى منهج ابن خمير أن يبسط المسألة ليوضح الفرق بين المقلد والمعتمد على الدليل، فضرب مثلا برجلين اشتريا سبيكتين ذهبيتين فقام أحدهما بشحرها قبل دفع الثمن، وامتنع الثاني عن التشحير، فلما أرادا بيعها أبى المشترون الزيادة في الثمن إلا بعد التشحير، فأما الشاحر الذي شحر سلسلته قبل اشترائها فقد سلم وقبل التشحر، وأما الثاني فرفض ذلك لأنه غير متيقن من أن السلسلة ذهبية ما دام أنه لم يشحرها من قبل، قال ابن خمير: (وهذا حال العالم بالدليل والمقلد بالسمع)[11] .

وجوابا على اعتراض متعلق بموضوع التقليد مضمنه أن التقليد المذموم هو الذي كان في الباطل، أما التقليد في الحق فلا يمكن أن يكون مذموما. يرد ابن خمير بأن التقليد مذموم سواء كان قائما على الحق أو على الباطل؛ لأن ترك الواجب حرام، والعلم بالله واجب، والتقليد ترك العلم، وترك الواجب حرام، فالتقليد حرام، والحرام مذموم شرعا، إذن فالتقليد كله مذموم. وأيضا فالمقلد إن في الحق أو في الباطل سواء في عدم العلم، والقول بغير حجة، وعدم القطع بإصابة الحق.

وبعد أن يؤكد على أن التقليد مذموم، وأنه لا أصل له في الدين، ينتقل ابن خمير إلى مسألة مشكلة تتعلق بإيمان العوام، والسؤال فيها هو: هل إيمان العامة صحيح؟ وإذا كان صحيحا أفلا يكون ذلك متناقضا مع القول بقبح التقليد وذمه؟ ثم إذا لم يكن صحيحا، فهل معنى هذا أن جملة العوام – وهم السواد الأعظم من المسلمين- كفار؟ 

يعترف ابن خمير بأن هناك مشكلا في الحكم على إيمان العوام، سببه الاختلاف الواقع بين المتكلمين- داخل المدرسة الأشعرية نفسها- في اعتبار هؤلاء مؤمنين أو لا؟ فهناك من نسبهم إلى الإيمان الجزم وحكم بخلوص ذمتهم وبراءتها، ومنهم من أبى ذلك ورأى أنه لا سبيل إلى صحة إيمانهم إلا إذا استدلوا على الحقيقة بتفاصيل الأدلة القاطعة ودفع الشبهات؛ يقول ابن خمير: 

(فإن قلتم إنهم مقلدون فقد عريتموهم عن الإيمان- على ما تقدم-.

وإن قلتم إنهم مستدلون فبالضرورة تعلم أنهم لا يستدلون ولا يعرفون الاستدلال.

قلنا: قد اضطربت آراء المتكلمين في هذه المسألة، فمنهم من نسبهم إلى التقليد والإيمان الجزم، وزعم أنهم يخلصون به وتبرأ ذمتهم.. 

ومنهم من أبى ذلك وقال لا سبيل إلى صحة إيمانهم حتى يستدلوا على الحقيقة بتفاصيل الأدلة القاطعة ودفع الشبهات المخيلة..)[12].

 وقد صنف –ابن خمير- هؤلاء أصنافا ثلاثة وعقب على ذلك بالقول: (فهؤلاء ثلاثة أصناف من العوام، صنفان محقان والثالث مبطل. فمن قال إن جملة عامة المسلمين كلهم مقلدة ظانون في توحيدهم ربهم فقد نقصهم وظلمهم وأخذ إيمانهم من قلوبهم من حيث لا يشعرون..)[13].

وإذا رجعنا إلى المدرسة الأشعرية تبين لنا اتفاق علمائها على القول بوجوب معرفة الله، وإنما وقع اختلافهم في هذا الوجوب هل هو على الكفاية أم هو فرض عين؟ فذهب الباقلاني  والجويني والإسفراييني إلى أن معرفة الله واجبة على الأعيان، ولا يكتفى في ذلك بالتقليد، بينما ذهب الإسفراييني – في قول آخر عنه- والغزالي إلى أن معرفة الله لا تجب على الأعيان بل هي من فروض الكفاية فقط، بحيث يُكتفى بالتقليد في أصول الدين.

4- نخلص إذن من خلال تتبعنا لآراء ابن خمير السبتي بخصوص مشروعية البحث في علم الكلام وإيمان المقلدين إلى:

أن ابن خمير قد استفرغ جهده في مناقشة المخالفين الذين منعوا الاشتغال بعلم الكلام من فقهاء ومحدثي الاتجاه السلفي من أهل بلده من بقية أتباع المدرسة السلفية بالمغرب والأندلس. ومعلوم أن الموحدين كانوا يشجعون الفكر الكلامي، ويدعون إلى التأصيل، ويحاربون الفروع، ومع أن الفكر الأشعري على عهد ابن خمير كان قد وصل إلى مرحلة اللارجوع بعد أن ظهر من رجاله العدد الجم، وأُلفت في شرحه وبسطه الكثير من المؤلفات، إلا أن ذلك لم يمنع من وقوف بعض الفقهاء والمحدثين ضد المشتغلين بهذا العلم، فلم يملك ابن خمير نفسه في مواجهة أتباع هذا التيار قبل أن يتولى بسط، والدفاع عن الطرح العقدي الجديد الذي كرس جهده لنشره [14].

ومن ثم فإن ابن خمير اعتمد على أن الأصل في علم الكلام الإباحة؛ إذ النظر فرض على جميع المكلفين القادرين على إعمال الفكر، ولذلك كان الاشتغال بالعلم من آكد الأمور على العلماء دفاعا عن أركان الإيمان، ودحضا لشبهات الخصوم. ولم يقتصر حكم وجوب النظر والبحث في تثبيت العقائد عنده على هذه الفئة من المكلفين، بل إنه تمادى وتجاوز دعوات المعتدلين من الأشاعرة إلى إلجام العوام عن الكلام، ليقول بلزوم النظر الكلامي حتى بالنسبة للعامة، موافقة وارتباطا بالمواقف المذهبية والاختيارات الرسمية للسلطة الحاكمة آنئذ، وفي هذا الإطار يأتي الموقف المرابطي من تداول كتب الكلام، وتفسر الخلفيات الحقيقية من وراء ترسم الأشعرية على عهد الموحدين[15].

===================

الهوامش: 

[1] مقدمات المراشد في علم العقائد-تحقيق وتقديم: د.جمال علال البختي- مطبعة الخليج العربي-تطوان/المغرب- الطبعة الأولى/2004

[2] نفسه-ص:79

[3] نفسه-ص:79

[4] نفسه-ص:80

[5] نفسه-ص:87-88-89

[6] نفسه-ص:90-91-92

[7] نفسه-ص:93

[8] الزخرف/22

[9] الحج/28

[10] الجاثية/31

[11] مقدمات المراشد في علم العقائد-تحقيق وتقديم: د.جمال علال البختي – ص:101

[12] نفسه-ص:104

[13] نفسه-ص:107

[14] انظر مقال د.جمال البختي بمجلة الإبانة – العدد المزدوج: 2-3 / يونيو2015- بعنوان: “الموقف من علم الكلام في المغرب والأندلس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين( موازنة علمية بين موقفي ابن عبد البر الأندلسي وابن خمير السبتي)”- صفحات:15-47

[15] نفسه

 

                                               إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق